منذ تأسيسه عام ،1939 لم يمنح مهرجان “كان” السينمائي قدرا كبيرا من الجوائز للممثلين كما فعل خلال دورته الأخيرة، فقد كافأت لجنة التحكيم برئاسة “وونج كار وي” مجاميع وليس أفرادا فقط، إذ حصلت على جائزة التمثيل النسائي ست فنانات شاركن في فيلم “فولفر”، أمّا جائزة التمثيل الرجالي، وهي ما تهمنا هنا، فكانت من نصيب خمسة فنانين ظهروا في فيلم “سكان أصليون” الذي أخرجه رشيد بوشارب وسيبدأ عرضه في 27 سبتمبر/أيلول المقبل. ونال هذا الفيلم الفرنسي اهتماما واسع النطاق من جانب وسائل الاعلام المحلية والعالمية نظرا لأنه يسلط الضوء على دور الاجانب في تحرير فرنسا من الاحتلال النازي خلال الحرب العالمية الثانية، وكذلك لأنّ عددا من الممثلين المُكرّمين فرنسيون من أصول مغاربية. وفي إطار هذا الاهتمام أجرت مجلة “باري ماتش” الفرنسية حواراً قصيراً مع هذه المجموعة من الممثلين الذين اشتهر بعضهم بأدوار كوميدية خصوصا على شاشة التلفزيزن الفرنسي، كما هي الحال مع “جمال دبوز” الذي تعرض أعماله الساخرة منذ التسعينات ولا سيما على قناة canal+، وفي ما يلي نص الحوار الذي بدأ مع دبوز: · كان تمثيل فيلم حربي تجربة جديدة بالنسبة لك، كيف عشت هذه التجربة؟ دبوز: شكل لي هذا الفيلم إحدى كبرى تجاربي في حقل التمثيل. كان المخرج “رشيد بوشارب” يقطع عليّ ضحكتي كلما رآني أفعل ذلك، وكان يطالبني بأن أظهر مزيدا من التركيز. وفي الواقع لم أكن أعلم أن باستطاعة الممثل أن يركز. لذلك تعلمت هنا الكثير. الدافع الذي يحركني في الحياة عموما هو الشك، لست شخصا كثير الوسوسة، لكن لو رأيت أن كل شيء يسير على مايرام، أحب أن أطرح بعض التساؤلات. البارحة مثلا، أحسست بنوع من القلق، فالفيلم موجود ومعترف به وهذا ما يسعدني، والعديد من الناس الذين أحبهم يحيطون بي، لكني مع ذلك فكرت في ما سأفعل لو توفيت والدتي. لماذا خطر هذا الموضوع ببالي؟ لا أدري، ما أعرفه أن تحقيقي التقدم بمفردي يضاعف من قوتي. أعتقد أنّ على الانسان أن يناضل طيلة حياته من أجل بلوغ ما يصبو إليه. والدليل الحي على ذلك الحادثة التي وقعت للمخرج رشيد بوشارب، فقبل سبعة أعوام، أوقف في مركز شرطة بمدينة “كان” بزعم أنه كان اختلس أموال اعتمادات خلال المهرجان. لكن ما لبثت براءته أن ظهرت بعد أن بقي محتجزا يومين. واليوم أرى أنه ينتقم لنفسه بطريقة مناسبة. · تمثلون عادة شخصيات تعاني من الظلم، ومن المعاناة البدنية، فهل كانت عملية التصوير صعبة؟ رشدي زيم: بالنسبة لي، كانت العملية صعبة جدا معنويا وبدنيا. كان ينبغي عليّ القفز بالمظلة طبعا، لكن الاصعب من ذلك تجسد في تمثيل مشاهد الحركة التي لا تحوي أي حوار. أمضينا نحو ستة اسابيع من دون أن نتبادل كلمة واحدة. لكن حينما بلغنا الأدوار البسيطة، كنا قد وصلنا جميعا الى درجة عالية من الانهاك. دبوز: عانيت كثيرا من الجعبة الكبيرة التي اضطرتني لحملها فوق ظهري. ولأني صغير الحجم، كان صعبا عليّ القيام بكثير من الحركات، وبدوت كقوقعة صغيرة تحمل فوق ظهرها شاحنة عملاقة، وهكذا كدت أموت تعبا في نهاية الدقائق الست التي استغرقتها اللّقطة. والأنكى من ذلك أن “الجنرال” رشيد لم يكن يكف عن متابعتنا ثانية واحدة، إنه شعلة من النشاط وعاشق للسينما وللعدالة، وأنا سعيد للعمل معه. برنارد بلانكون: بالنسبة لي، شعرت أني أعود القهقرى، فأنا أحس بانزعاج شديد حينما أمثل ادواراً سلطوية. ولكن بما أني بدأت مهنة التمثيل في سن الثامنة والأربعين، فلم أكن أتصور أبدا أني سأحصل على جائزة. سامي بو عجيلة: خضت تجربة الجيش سنتين باعتباري معترضا على الخدمة لأسباب تتعلق بالضمير وهذا ما عزز قناعاتي. · تمثيل مشاهد حركة باستخدام الاسلحة يعد تجربة جديدة بالنسبة لكم، فهل أحسستم انكم تمثلون أدوار رعاة بقر؟ زيم: نعم، حينما قبلت التمثيل في الفيلم كان شعور من هذا النوع تقريبا يراودني. لكن في لحظة ما، أدركت أنّ هؤلاء الجنود كانوا يعانون من الخوف، ذلك الاحساس الذي لا وجود له في المواجهات التي كانت تدور في أفلام رعاة البقر والهنود الحمر. بوعجيلة: مثّلتُ أدوارا في بعض أفلام الحركة كما حصل في “منع تجول” بمشاركة “دنزل واشنطن” و”بروس ويليس” أو “خلية الدبابير”. حينما أمثل، أحس كأني أداة بين يدي المخرج. · كيف يعبر الممثلون عن الخوف؟ زيم: الأمر بسيط بالنسبة لي، فأنا أخاف بصورة طبيعية من لقطات الإنفجارات التي كانت تصور! دبوز: تعلمت الكثير من خلال احتكاكي ب “سامي بوعجيلة” و”رشدي” و”سامي ناصري” و”برنارد”. كنت أحس وكأني “صوص دجاج” في خضم هذه القصة الكبيرة. كنت على غرار “سعيد”، الشخصية التي أديتها، كان شعور بالخوف ينتابني. وهذا الخوف لازمني طول الوقت. · هل تعتقدون ان فيلم “سكان أصليون” سيؤدي الى تغيير بعض العقليات؟ زيم: مثلتُ في هذا الفيلم لأني وجدته يحمل قصة جيدة. وإيصال رسائل معينة من خلال عمل فني أمر جيد، ولكن ينبغي أن يكون السيناريو بالمستوى المطلوب. ربما سيؤدي هذا الفيلم إلى خلق مشاعر صادقة، وهذا شيء مفيد، ولكن إلى أي مدى؟ بوعجيلة: أجد أن من الامور الطيبة أن تحرك أقلية آتية من الخارج منظومة داخلية كاملة. دبوز: العنصرية متجذرة في الغرب، من المؤكد أنه تحقق تقدم على طريق التغيير لكن بقي الكثير مما ينبغي عمله. منح الجوائز شيء مهم جدا، لكن يتعين عدم نسيان الدّين الخاص بهؤلاء المقاتلين. وهذه الجائزة الممنوحة لي مقابل دوري هي بمثابة ضخ دماء جديدة في عروقي، ففي الوقت الذي كنت أحس بأني لم أعد استطيع المقاومة، جاء هؤلاء الأصدقاء ليشحذوا عزيمتي كممثل ومنتج ويدعموا فكرة أني كنت على حق. شكرا إذن، وسأستمر في عطائي! الخليج الإماراتية في 19 يونيو 2006
ضوء ... الدعم الأوروبي للسينما العربية عدنان مدانات منذ بضعة أسابيع نشر السينمائيون الفلسطينيون بكافة اتجاهاتهم ومناطق عيشهم عبر الانترنت والبريد الإلكتروني نص رسائل احتجاج موقعة من قبلهم وموجهة ضد مؤسسات سينمائية تابعة للاتحاد الأوروبي بسبب دعمها لهيئة سينمائية أسسها داخل رام الله المحتلة شخص غير معروف في الأوساط السينمائية الفلسطينية، وهذه الهيئة تتعاون، بل هي شريك لهيئة “إسرائيلية” شبيهة. غير أن المسؤولين الأوروبيين تجاهلوا احتجاج السينمائيين الفلسطينيين، ومن بينهم المخرجان إيليا سليمان وهاني أبو أسعد الحائزان على جوائز عالمية رئيسية. هذا الشخص ذاته كان حاضراً ضمن نشاط سينمائي دولي دوري معني بالدول النامية وخاصة من منطقة الشرق الأوسط أقيم في دولة أوروبية في العام 2006 ممثلا عن السينمائيين الفلسطينيين الذين يرفضون الاعتراف به أصلا، وهو نشاط دعي إليه عدد كبير من السينمائيين العرب الشباب المستقلين، تضمن النشاط عروض أفلام وندوات وورش عمل. وقد ذكر لي سينمائي عربي شاب حضر هذا النشاط الأوروبي، أن ذاك الشخص بذل جهودا مضنية، ولكن فاشلة، لإقناع السينمائيين العرب الشباب بفضائل التعاون مع السينمائيين “الإسرائيليين”. وفي ربيع العام ذاته وزعت السفارات الفرنسية، مندوبة عن الاتحاد الأوروبي، نشرة صغيرة، أو مطوية إعلانية، تتضمن موعد ولائحة وشروط المشاركة في برنامج تدريبي لسينمائيي “دول جنوب البحر الأبيض المتوسط” (سبع دول عربية والسلطة الفلسطينية إضافة إلى “إسرائيل” وتركيا) يموله الاتحاد الأوروبي بمبادرة من “الاتحاد الدولي لفن السينما”. يقام هذا البرنامج التدريبي تحت شعار لافت هو “جيل الشاشة الكبيرة” وهذا الشعار مكتوب على الغلاف بخمس لغات أولها في الترتيب اللغة العربية وآخرها العبرية وفي الوسط الإنجليزية والفرنسية والتركية. ويتحمل البرنامج نفقات المبيت والطعام والدروس وعروض الأفلام، مع وعد بتأمين أكبر خصم ممكن على تذاكر السفر. في الفترة نفسها شرعت مؤسسة سينمائية تابعة للاتحاد الأوروبي يرمز لها بالأحرف اللاتينية (MFCB) وتفصيلها بالعربية “أفلام دول البحر الأبيض المتوسط تعبر الحدود”، بدعوة السينمائيين العرب و”الإسرائيليين” للمشاركة في دورتها الثانية المقامة في دولة أوروبية يقام فيها مهرجان سينمائي دولي، والتي تهدف بشكل أساسي إلى تعليم السينمائيين مهارات إنتاج وتسويق الأفلام، على أن تتحمل هذه المؤسسة نفقات مشاركة السينمائيين الذين تطلب منهم أن يغتنموا الفرصة قبل فوات الأوان. كما شهد العام 2006 الإعلان عن ولادة “المعهد العربي للفيلم” الذي يشرف على التدريس فيه سينمائيون عرب يقيمون ويعملون في الغرب ومشهود لهم بالخبرة والسمعة الحسنة والحس الوطني. وهذا المعهد، حسب نشرته الإعلامية، سوف يقوم “بتأهيل صناع السينما العرب على فن صناعة الفيلم” ويهدف إلى “جعل السينما العربية تعكس بشكل إبداعي وحيوي واقع الأفراد والمجتمعات في العالم العربي عبر إعادة النظر في العوامل والأسباب العميقة والمعوقة لتطور هذه المجتمعات تاريخيا وسياسيا واجتماعيا وفنيا” وسيقوم المعهد بتحمل النفقات كافة وبدعم وإنتاج مشاريع أفلام تسجيلية في دورته الأولى التي ستعقد في بلد عربي لمدة ستة أشهر، تنتقل إلى غيره في الدورة التالية. ومشروع معهد الفيلم العربي هو توطئة لتأسيس أكاديمية عربية للسينما في وقت لاحق. ولكن، من ناحية ثانية فإن هذا المعهد مدعوم، كما جاء في موقعه على الانترنت، من جمعية أهلية دنماركية مدعومة بدورها من الحكومة الدنماركية، وهي تعنى “بمجال تطوير وسائل الاتصال الجماهيرية في الدول النامية، عبر مساندة المبادرات المحلية الساعية لتوسيع مساحات التعبير الحر في هذه الدول”. ولهذه الجمعية نشاطات متعددة في دول العالم النامي، ومن بينها “توأمة” مشاريع مشتركة بين الصحافيين من “إسرائيل” و”المناطق الفلسطينية”(حسب تعبير نشرة الجمعية) وأوروبا، ممثلة بالدنمارك. وفي الحقيقة، لا يقتصر الاهتمام بدعم السينمائيين العرب وتطوير حرية التعبير في السينما العربية الجديدة على المؤسسات السينمائية الأوروبية، بل امتد هذا الاهتمام إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كانت مؤسسة أمريكية “خيرية” أسست قبل نحو خمسين عاما شبيهة الأهداف ومنتشرة عالميا، تعلن عن نفسها تحت اسم “بيت الحرية”، بعض أعضاء مجلس إدارتها مسؤولون سابقون في الإدارة والمخابرات الأمريكية وأسماؤهم ومواصفاتهم منشورة على موقع المؤسسة عبر الانترنت، قد تنبهت أخيرا، وبعد كل تلك السنوات وأعلنت عبر وسائل الإعلام العربية في العام 2005 عن استعدادها لتمويل مشاريع سينمائية لمخرجين عرب. هذا الاهتمام الأوروبي تحديدا وبالسينمائيين العرب ليس ظاهرة جديدة، ولم ينشأ من فراغ، فقد سبقته ظاهرة التمويل الأجنبي لسينمائيين عرب المعلن عنه بصفته إنتاجا مشتركا. وهي ظاهرة لم تنج من اتهامات، مشفوعة ببراهين تعتمد في أحيان كثيرة على بعض القواسم المشتركة المتكررة في عدد كبير من أفلام الإنتاج المشترك ومنها التقديم الإيجابي لشخصيات يهودية، واتهامات بكونها غير بريئة النية، حيث إنها تشترط، مباشرة أو بصورة غير مباشرة، تناول السينمائيين العرب لمواضيع معينة وإثارة قضايا معينة تهم الجانب الممول بالدرجة الأولى. ما هو جديد في هذه الظاهرة هو تطورها من مجرد عملية تمويل إلى عملية تأهيل لجيل السينمائيين العرب الناشئين. الخليج الإماراتية في 19 يونيو 2006 |
كـارل زيـرو وميـشـال روايـه يـسـخـران مـن الرئـيـس الـفـرنـسـي "أنــا دائــمـاً وأبــداً" لـجـــاك شـــيـراك مـــمـــثــلاً ومـخــرجـــاً باريس - من هوفيك حبشيان: حبذا لو تمتد هذه الموجة الضاغطة على قلوب الساسة، من الغرب المنفتح على النقد لتكسح الشاطىء العربي الذي يتمايل مع المد والجزر السياسيين، علماً ان ناسه اعتادوا الثبات وجلد الذات والمشي خلف الحكام. فبعد الرئيس الاميركي جورج بوش الذي وقع في مصيدة مايكل مور الكاريكاتورية، وايضاً بعدما صار رئيس الوزراء الايطالي السابق سيرجيو برلوسكوني مادة هزلية انتقادية طريفة في فيلم الممثلة سابينا غوزانتي، "يحيا ثاباتيرو"، حان دور فخامته، الفرنسي جاك شيراك، كي يُهان. كي تدمَّر سمعته وتوسَّخ صورته. كي يقع بين ليلة وضحاها في وضع لا يحسد عليه. كي ينتقل من قصر الاليزيه المحصن بألف خطة وقائية الى منصة الشاشة الفضّاحة. كي يصير محكوماً بعدما كان حاكماً. هكذا تقاصص السينما اليوم في الغرب من يعتقد نفسه بعيداً عن المحاسبة والمساءلة. هي هنا لتذكّر كل لبيب بأن كل محصن مصيره ان يمشي عارياً وسط الحشود، وبأن كل من يستخدم الجبروت، لا بد ان يستخدم الجبروت نفسه لاطاحته. أما نحن فلا نملك الا مراقبة هذا التيار، احياناً عن كثب واحياناً من بعد. فالحاكم أب مطلق، نرفع له القبعة ونهيّص من اجله مهما فعل بنا، أصادر قرارنا أم امسك بمصيرنا. هذه حرب مفاهيم. تتوسع الهوة بين عالمين، عالم يسجل المرافعة ورسالة الهجاء على مادة لاصقة تظل ماثلة في التاريخ السينمائي طبعاً، ولا يخرج شعبه الى الشوارع لحرق الدواليب لان رئيسه تعرض لـ"اهانة"، وعالم ثان يرفض اطلاق نكتة (بغض النظر عن سماجتها او طرافتها)، على مسؤول في حزب. قد يعتقد قارىء هذه السطور ان الفن السينمائي غائب عن هذه الهموم كافة، وقد يخال ان اللغة، المعالجة الدرامية، الاخراج، كلها عناصر لا شأن لها بالصنف الوثائقي، هذا الذي ينطوي على صور ارشيفية بغية النيل من شخصية سياسية او ادانتها او تحريف رسالتها. اي اننا في خضم سينما الخصوم والمناصرين، أو سينما البروباغاندا الهتلرية او الستالينية. بيد ان فيلم "في جسد جاك شيراك" ليس اكثر نزوعاً الى البروباغاندا من اي فيلم يمجد الحب او الموت من اجل الوطن. الاثنان في خندق واحد: يذهبان الى الاقصى في ايمانهما الاعمى، وكأن لا حقيقة اخرى خلف الستار. لكن الاهم في هذا الفيلم انه يرتكز على لعبة مونتاجية لا مثيل لها. كارل زيرو، ومعه ميشال روايه في عملية الاخراج، هو "رولز رويس" فن الهزء بالسياسيين الفرنسيين، في حين يوازي مايكل مور ما توازيه الـ"مرسيدس" في مجال السيارات. الرجل ذو الصلعة الانيقة والنظارتين السميكتين اللتين تخفيان الحصة الكبرى من وجهه، معروف لدى مشاهدي الشاشة الصغيرة، بفضل برنامجه "النشرة الحقيقية" الذي يبث على مجموعة "قنال +" المشفرة. هنا، امتداد لتجربة زيرو اللامعقولة. اذ ما من قضية ارتبط بها شيراك، إلا ويضع المخرجان صدقيتها على المحك، منذ بداية حياته السياسية في أواخر الستينات حتى اليوم، عشية انتهاء ولايته الثانية. وما يصنعانه انطلاقاً من صور الارشيف، تحريفاً وقدحاً وذماً وادانة وهزءاً ومحاكاة، لا يتمناه المرء حتى لاسوأ اعدائه. الهدف: اثبات ان ما يقوله شيراك في مشهد الافتتاحية ("السياسة مهنة")، هو الامر الوحيد الذي لا يفعل نقيضه. قد يكون الرئيس الفرنسي الانيق، الذي يشبّه نفسه بغاري غرانت، هو أول من سيُضحكه هذا الفيلم الذي "اخرجه" ومثّل فيه دور "الأنا دائماً والأنا ابداً". فالفكرة التي انطلق منها العمل لسرد الحوادث جد مبتكرة: جعل الفيلم كأنه اعترافات حاكم ملّ اكاذيب السياسة واراد قول كل شيء من الالف الى الياء. كما لو انه تعرّض فجأة لصحوة ضمير. فالراوي هنا هو شيراك، وليس المخرج، مدبلجاً بصوت المونولوجيست ديدييه غوستان، وبقلم كاتب الزاوية في "لو فيغارو" اريك زيمور. نسمعه يقول ما لا يجرؤ على قوله الى طبيبه النفسي. أشياء تخيلها المخرجان من وحي تاريخه السياسي الحافل بالعظمة والانحطاط. بالخسارة والربح. بالحلو والمر. بالنجاح والفشل. يطرق المخرجان باب الوثائقي الكاذب الذي برع فيه وليم كاريل، لكن لبلوغ حقيقة لم تكن ممكنة الا عبر الاساليب الملتوية والتحريف والمونتاج المستدرج على اساس التناقضات: هنا قال الرئيس شيئاً، وهناك قال نقيضه، فهذه مناسبة لترتيب المشهدين في سياق درامي يجعل المشاهد هو القاضي والحكم حيال ما يراه، ويبرّىء صاحبي العمل من كل دعوة الى التحريض على شخص الرئيس. هنا، الوثائقي كاذب نعم، لكنه كاذب في الشكل فقط، اما في المضمون... فتتحمل الصورة المسؤولية. يكمن سحر الفيلم في كونه يطلعنا على تفاصيل كنا نعرف جزءاً منها لكننا لم نسمع هذا الجزء في اطار اعتراف (لو زائف) ولم نره بالعين المجردة. نحو اربعين عاماً من اللقاءات مع قادة وحكام عالميين وآلاف الحوارات التلفزيونية وحملات انتخابية، يستعرضها هذا الفيلم الذي اراده صاحباه عن النظام والسياسة الفرنسيين، وليس فيلماً سياسياً يدعم عقيدة ضد عقيدة اخرى. نرى كيف تربع شيراك على رأس الهرم وكيف استطاع ان يخدع مناصريه بكاريزميته. رغم الصور "الشريرة" التي يعرضانها، يكنّ المخرجان احتراماً واعجاباً كبيرين لشخصية يعتبرانها "وحشاً" من "وحوش" الحياة السياسية الفرنسية، وتكاد تكون حجة لتناول خفايا الحياة السياسية في تلك البلاد. عبر ما التقتطه كاميرات التلفزيون طوال اربعة عقود، يسعى المخرجان الى تحليل لغز اسمه شيراك. لا تغيب الرومنسية عن العمل، لا سيما عندما يشمل الجانب العاطفي والعائلي من حياة الرئيس لتشكيل بورتريه حميمي عنه. بورتريه يرد فيه الكثير من الشخصيات الثانوية، وفي مقدمها زوجته برناديت التي لم تسلم من شظايا المخرجين ومحاولتهما المستمرة الكشف عن سماجتها البورجوازية التي لا تطاق. ما يفعله المخرجان هو الاتيان بصور الشاشة الصغيرة الى الكبيرة، ويعيدان انعاش الملفات النائمة على حرير. بالنسبة الى زيرو، لا احد يمثل "الكوميديا الرئاسية" (كلمة جديدة من قاموسه) مثل شيراك. ولا عجب تالياً في ان يجري التعاطي مع الكاراكتير الذي يجسده كأنه حيناً ذلك البطل الاخرق، نوع من مفتش كلوزو او واحد من الاخوين ماركس، وحيناً آخر ذلك البطل الذي لا يقهر، نوع من ستالون او بلموندو الذي يشار اليه في الفيلم. في المحصلة، يتبدى ان رأسمال هذا البطل الخارق هو عضلاته، لا البرامج السياسية. ويتبين انه أبرع ما يكون في "تكرار الكلام نفسه لكل الناس" والتسليم باليد على كل من يصادفه، وان التاريخ يكرر نفسه ولا يقلع عن عادته في اختيار الحاكم الاسوأ. ولن نخالفه الرأي عندما يهمس في اذننا قائلاً ان السياسة تقتضي ان تقول الشيء وتفعل نقيضه. واحياناً ان تفعل الشيء ونقيضه. واحياناً ايضاً ان تقول الشيء ونقيضه. ولا شك ان الفيلم يستمد صلابته من واقع ان هناك شخصاً يقبل ان يقول امام الشاشة الـ"مع" والـ"ضد" في آن واحد، وبالاقتناع نفسه. وهذه ذهنية أكثر وقاحة من تلك التي يتسلح بها ابطال البورنو لممارسة الحب امام اعين الجميع. ... وجان هنري مونييه يؤكد: "انه كذاب بارع" لا يخفي المخرج الفرنسي جان هنري مونييه، الذي صدر له منذ ايام في الصالات "هنا ناجاك، اليكم الكرة الارضية" (عُرض في "مهرجان كان" ضمن الاختيار الرسمي)، عدم اعجابه بشيراك إذ اعتبره من السياسيين الذين افسدتهم السلطة، وتحديداً السلطة المطلقة التي هي اساس الفساد المطلق، بحسب رؤية الفيلسوف الفرنسي باسكال. في لقاء مع "النهار"، قال مونييه: "ليس على فرنسا ان تعطي الدروس للاخرين. عندما اقرأ اننا خلال حرب الخليج الاولى، بعنا اسلحة للدولتين الكويتية والعراقية، فهذا يجعل منا ثالث او رابع تاجر اسلحة في العالم. ربما نظرة الاخرين الينا جيدة، لكن علينا ان نجري تقدماً كيفياً في هذا الاتجاه. اعلم انكم [اللبنانيون] تحبون الرئيس شيراك، وقد يكون حبكم له زاد في الفترة الاخيرة، وهذا جيد، لكن يجب ألاّ ننسى ان شيراك كان صديقاً مقرباً من صدام حسين وديكتاتوريين آخرين. فضلاً عن ان معاداته لحرب العراق الاخيرة لم تكن لاسباب عاطفية بل اقتصادية". سألناه: "هل تعتقد انه كذاب؟". قال: "بالتأكيد. (ضحك). اذا شاهدت "دمى النشرة الاخبارية" على "قنال +" فسترى انفه الذي يطول يوماً بعد يوم. لكنه كذاب بارع، لأنه يعرف كيف يُمرّ اكاذيبه. لو لم يكن شيراك رئيساً للجمهورية الفرنسية لكان خضع للمحاسبة. هناك فضائح مالية كبيرة تلوح في الافق. أؤمن بالمقولة الآتية: السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة على الاطلاق". النهار اللبنانية في 19 يونيو 2006
|
احتجزته شرطتها يومين قبل 7 أعوام مخرج "سكان أصليون" انتقم من "كان" بانتزاع الجائزة ترجمة: د. محمد زهير |