"لقد حمل عرض الفيلم في "كان" معاني كثيرة ليس اقلها ذلك الجانب الرمزي المتشكل من حقيقة ان هؤلاء الذين يروي الفيلم تجربتهم حاربوا قبل ستين سنة على هذه الشواطئ الفرنسية وجلبوا النصر ضد النازية.. هذا بالنسبة الي هو فوز بالسعفة الذهب." هكذا عبر المخرج الجزائري رشيد بوشارب عمّا يعني له عرض فيلمه الاخير "بلديون" َّمَمهىلَة (ٌٌُّْا نُ ٌَّّف بالانكليزية) في مسابقة مهرجان كان السينمائي. كان هذا الحديث قبل اعلان الجوائز التي نال الفيلم منها جائزة التمثيل الجماعي لجميل ديبوز وسامي ناصري ورشزي زم وسامي بوعجيلة وبرنارد بلانكان. كثيرون وجدوا الفيلم سرداً لوقائع تاريخية ووجدوا في اختيار المهرجان له وعرضه في المسابقة مبرراً لاثبات ان كل شيء مسموح الكلام عنه في فرنسا. انه باختصار "اللعنة" التي تلاحق الافلام ذات الطابع السياسي والتاريخي دع جانباً الخطاب الاضافي الذي سيتشكل من معرفة مصادر التمويل. فهذا شريط يروي تجربة الجنود الشمال افريقيين في الجيش الفرنسي ابان الحرب العالمية الثانية وما تعرضوا له من تمييز ولاحقاً نكران للجميل. وهو فيلم فرنسي التمويل والانتاج. بهذا المعنى، لم يكن هناك مفر من خضوع الفيلم لمساءلات حول كيفية تبلور فكرته وتنفيذها.

بالنسبة الى بوشارب، يقدم فيلمه جانباً من التاريخ الفرنسي لم يحكَ عنه الكثير. ولكنه بالدرجة الاولى يعيد الاعتبار الى نحو 130 الف جندي شاركوا في صنع النصر لفرنسا والحلفاء. هنا نص الحوار.

·         كيف بدأ مشروع "بلديون" من الفكرة وحتى التنفيذ؟

ـ هذا مشروع عمره عشر سنوات من التحضير والتفكير واستعادة مرحلة الطفولة التي تشكلت بتأثير من موضوعة الحرب. فهناك أجيال مختلفة من عائلتي شاركت في الحروب. الفكرة خطرت لي قبل عشر سنوات ولكن الملامح السينمائية الاولى تشكلت قبل أربع سنوات عندما بدا لي ان الوقت مناسب. بدأت وشريكي في كتابة السيناريو اوليفييه لوريل بالبحث في ارشيف الجيش ووزارة الدفاع والمكتبات. وقابلنا رجالاً شاركوا في الحرب. وقتها اكتشفنا ان الفيلم لن يكون قصة رجل واحد بل مجموعة لتغطي الحكاية القارة الافريقية برمتها. بعدها كان علينا الشغل على الحقائق بين يدينا. فخياري الاول كان فيلماً روائياً وليس عملاً وثائقياً لأنني أؤمن بأهمية السينما كمسبار أبعد من الحقائق التاريخية والوثائق. بعد انساني يصل الى الجميع ويتخطى كل الفوارق. السينما بالنسبة الي هي عربة التلاقي والاحاسيس. اشتغلنا على السيناريو لمدة سنتين ونصف السنة. وكتبنا 25 نسخة قبل الوصول الى السيناريو النهائي ولنتمكن من هضم التاريخ والتركيز على الاحاسيس والتجربة الانسانية. انها التفاصيل اليومية والصغرى هي القادرة على اعادة توليد الحياة. حكاية الفيلم وجدناها في مقالة تعود الى خمس سنوات عن مجموعة جنود حاربوا وسقطوا دفاعاً عن قرية لا يعرفونها.

·     يأتي شريطك هذا بعد الفيلم الفرنسي "الخيانة" لفيليب فوكون الذي تناول موضوعاً مشابهاً عن مجموعة جنود جزائريين في الجيش الفرنسي. هل هي صدفة؟ وما الذي تعنيه عندما تقول "الوقت المناسب"؟

ـ ان مشروع الفيلم هذا بانطلاقه المبكر كما ذكرت لا يرتبط بأي حدث محدد كالتي وقعت في ضواحي فرنسا مؤخراً او اي حدث سياسي آخر. التوقيت بالنسبة الي عنى انه حان الوقت لنقول نحن كجزائريين وليعترف الفرنسيون بأن هذا الجزء انما هو فصل من التاريخ الفرنسي واننا نحن ايضاً فصل من هذا التاريخ. بمعنى آخر، هذا التاريخ العظيم والمشرف لا يخص فقط الجنود الفرنسيين وانما كل الذين حاربوا جاعلين النصر ممكناً. هذا الجزء من تاريخنا كجزائريين يقدم صورة كاملة للتاريخ الفرنسي. وان يظهر هذا الفيلم وقبله بقليل الشريط الفرنسي الذي ذكرت انما يؤكد على ان هناك أحياناً موضوعات تتفجر ووجهات نظر تتلاقى وقوى تتضافر كأنها تقتات من الهواء المحيط. وأعتقد ان عرض الفيلم في مهرجان كان وحصده ذلك الدعم والتشجيع ليس فقط حافزاً للسينمائيين لصنع افلام من هذا النوع بل هو ايضاً دعوة الى التخفيف من حدة الرقابة الذاتية التي نمارسها على انفسنا وكتاباتنا وافلامنا. بهذا المعنى هناك "ممنوعات" كثيرة بسبب خوفنا الداخلى من الاصطدام بسقف واطئ. أقول هذا لأنفي أي كلام يعتبر ان ظهور هذا الفيلم له علاقة بتبدل الممنوعات او رفع اليد عن المحظور. ان ظهور هذا الفيلم وغيره هو تعبير عن تفجير الرقابة الذاتية بالدرجة.

·     ماذا عن الرقابة الفرنسية على المشروع؟ أعني ان هذا فيلم يتناول جزءاً من التاريخ الفرنسي ليس مشرفاً برمته، مخرجه عربي ومموله فرنسي وهناك كاتب سيناريو فرنسي شاركك الكتابة.

أنا فرنسي. ولدت هنا ولا أعتبر أنني عندما أكتب فيلماً من هذا النوع أضع نفسي في مواجهة او في حرب مع الطرف الآخر. بالنسبة الي، هذه الحقبة التي يرويها الفيلم عن مشاركة جنود افريقيين في الحرب مع فرنسا انما هي مكملة للتاريخ الفرنسي وليست مناقضة او ما شابه. التاريخ الفرنسي لا يكتمل من دون معرفة هذه التفاصيل والدور الذي لعبه اولئك في الحرب ضد النازية. في وقت الكتابة،لم ننقسم انا وشريكي الفرنسي بين صوت عربي وآخر فرنسي. كنا نكتب بروحية واحدة واضعين نصب أعيننا أمرين رئيسيين: الاول هو الوفاء للتاريخ والثاني هو الوفاء لشهادات الأحياء الذين شاركوا في الحرب والتقيناهم للفيلم. احترمنا اولاً صوت المحاربين وصوت التاريخ. وحاولنا الاقتراب من المادة الانسانية في الحالتين ولم يكن هناك أبداً أي اعتبار لفكرة ان اوليفييه أكثر فرنسية أو أنني أكثر عربية.

بالنسبة الى التمويل، كان سهلاً وصعباً في الوقت عينه بما هو جزء من العملية الانتاجية لأي فيلم. الشق الصعب يتكون من ضرورة استجماع قوى المشاركين في المشروع وصهرها لتشكل قوة واحدة دافعة في اتجاه تحقيق المشروع وتغذية ايمانهم بالمشروع. كذلك تتمثل الصعوبة في اقناع الآخرين ليس بأهمية المشروع فقط وانما بضرورة انجازه. اذا توفرت تلك التفاصيل، تصبح العملية أشبه بكرة ثلج تكبر وتكبر. في المحصلة، بلغت الوازنة 14.6 مليون يورو من بينها 12 مليون من جهة فرنسية. لقد كنا نشعر بحاجة ملحة الى صنع هذا الفيلم لدرجة ان اي خيار آخر لم يكن مطروحاً.

·         اذا كان هذا الفصل جزءاً من التاريخ الفرنسي بحسب قولك، فكيف ينظر الجزائريون اليه؟

أخيراً شعر الجزائريون بالفخر تجاه هؤلاء الجنود واسترجعوا شيئاً من كبرياء ذلك التاريخ وشرفه لأن هؤلاء الجنود كانوا محرومين ذلك الشرف حتى وقت قصير بسبب عدم الاعتراف الرسمي واللائق بجهودهم وبسبب تدهور أحوالهم وحرمانهم من تقاعدهم المادي في فرنسا. من الغريب بمكان ان موضوع مشاركة الجنود الافارقة ظل طي الكتمان لفترة طويلة وتحول عنصراً غامضاً أقرب الى الاسطورة بسبب غياب الحقائق. في حين ان افلاماً أميركية كثيرة مثل "انقاذ العريف راين" مثلاً كانت تؤرخ لمشاركة الجنود الاميركيين وتؤكد عليها. اليوم جاء دور الافارقة ليقولوا نحن حاربنا في بروفانس.

·     بصرف النظر عن الشق التاريخي في الفيلم، اي أهمية تراه يحمل بالنسبة الى الحاضر وتحديداً كيف يعكس علاقات العرب بأوروبا وأميركا؟

في الواقع إن عظمة الحكاية تكمن في ان التاريخ يبدو أقدر على فهم الحاضر والمستقبل. في الماضي، لم يكن هناك خوف من المسلمين ولم يكن مستغرباً ان يهتف الجنود المسلمون "لا اله الا الله" او "باسم الله العظيم" قبل بدء الهجوم. اذاً فكرة محاربة النازيين او الفاشيين باسم الله والدين كانت موجودة ولكنها لم تكن مسيسة. اليوم بعد ستين سنة، تغيرت الامور وبرزت صراعات جديدة بين العرب واوروبا واميركا. في الماضي، كان ايمان المسلمين معينهم على النصر كما كان ايمان المسيحيين ربما. انها فقط صورة توحي بحجم التغيرات والمتناقضات كيف ان الهتاف باسم الله اليوم أصبح مرتبطاً بالارهاب!

·         هذا شريط لا يستطيع تفادي التأويلات السياسية والرموز. هل ينتقص ذلك برأيك من الجانب الفني فيه؟

لقد تقصدت ان يكون للفيلم بعد سياسي وان يكون فيلماً سياسياً. لا يهمني كثيراً النظر اليه من خلال عناصره الفنية وان كانت حاضرة لأنه فيلم يقوم بالدرجة الاولى على الموقف السياسي الذي يعلنه.

·     ثمة شبه بين فيلمك الحالي وفيلمك السابق "غبار الحياة". ما هي علاقتك بالتاريخ والحروب؟ لمذا تبدو الحرب موضوعاً دائم الحضور في افلامك؟

لقد كنت دائماً أسير موضوع الحرب والهجرة والاستعمار والتحرر. هذا إرث عائلتي. أحد أعمامي شارك في الحرب بالهند الصينية. وانا عشت وعائلتي حرب الجزائر حتى ان احد اجدادي شارك في الحرب العالمية الاولى. انا انتمي الى هؤلاء الرجال الذين كانوا بشكل او بآخر جزءاً من التاريخ الفرنسي.

·     هناك جانب مشترك بين فيلمك وفيلم فوكون الذي ذكرته هو التركيز على الوفاء الاعمى للجنود العرب والافارقة لفرنسا. ولكن أياً من الفيلمين لم يتخذ المبادرة لتوضيح خلفيات تلك العلاقة المثيرة للاهتمام بالنسبة الي.

في ذلك الوقت، كانت الجزائر جزءاً من الاستعمار الفرنسي. وعلينا ان نتذكر انها قبل بدء الثورة الجزائرية عام 1954، كانت جزءاً من فرنسا لمدة 130 سنة. فرنسا كانت الارض الام التي تطعم وتعلم وتالياً فإن الوفاء لها واحترامها كانا امراً غير مشكوك به وجزءاً من الواجب والمنهج الدراسي. وعلينا الاعتراف بأن علاقة هؤلاء الرجال بفرنسا كانت حتى العام 1960 عميقة وانسانية. لذلك آلمهم كثيراً ما حدث لاحقاً. شعروا بالخيانة وبالمهانة عندما تحولت صورتهم في اوروبا وبدأ اولادهم يعانون بسبب جنسيتهم وحرموا هم من حقوقهم كمواطنين.

·         أعتقد ان الفيلم حقق ضربة من خلال نهايته لأنه وجه نقداً ليس الى التاريخ وانما الى الحاضر. كيف ارتسمت لك تلك النهاية؟

­السوداوية التي تعكسها نهاية الفيلم ليست اختيارية بل واقعية. هؤلاء الرجال عاشوا حياتهم على أمل واحد هو اعتراف فرنسا بهم. ولكن برغم كل ما حدث من نكران للجميل لم ينسَ هؤلاء الرجال انهم جزء من ذلك التاريخ وانهم صنعوا النصر. وتلك الهتافات التي استقبلوا بها في القرى تركت اثراً عميقاً فيهم واسهمت في عدم تحولهم حاقدين بدليل كل اولئك الذين زاروا موقع التصوير مسترجعين ذكريات المرحلة بفرح.

·         كيف اختلف احساسك تجاه المشروع خلال التصوير وبعده؟

ـ عندما أصنع فيلماً، أتحول الى مشاهد. أنسى مهنتي والتفاصيل التقنية وأركز على الاحساس فقط. اذا لم أشعر بشيء عند تصوير المشهد فهذا يعني ان المشاهد لن يشعر بشيء.

لقد حدث شيء غريب خلال تصوير مشاهد الفيلم في استديوات ورززات المغربية حيث كان هناك متطوعون من الجيش المغربي في مشاهد المعارك والمجاميع. لقد أثر في كثيراً ذلك التفاني الذي عملوا به وإحساسهم العميق تجاهي وتجاه الفيلم لدرجة انني كنت اتردد في اعادة مشهد صعب لأخفف التعب عنهم. ولكن بالنسبة اليهم، كما فهمت لاحقاً، هم يشاركون في عمل عن تاريخهم وأجدادهم وعن مرحلة شكلت تاريخهم. وكان هناك دائماً من يأتينا بصور ابيه او جده الذي شارك في الحرب العالمية الثانية كأنه يقول لنا ان هذا الفيلم له. والامر عينه حدث في فرنسا. كان الناس يأتون من اماكن بعيدة ليشاركونا تجاربهم. عندها شعرت ان كل ذلك التاريخ كان مسكوتاً عنه لاسباب مجهولة ربما هي خوف صناع الافلام او احساسهم العالي بالرقابة والممنوعات.

المستقبل اللبنانية في 16 يونيو 2006

 

"جارهيد".. فيلم آلات القتل الأمريكية

محمد جمال عرفة**

يسمونها في اللغة العربية "الجرة"، ويسمونها في اللهجة العامية المصرية "القُـلَّـة"، أما في أمريكا فهم يطلقون على جندي المارينز أو أصحاب القبعات الخضراء الذين يحلقون رءوسهم تمامًا ويتركون شعيرات في منتصف أعلى الرأس، اسم "رأس القلة" أو "رأس الجرة" -جارهيد JARHEAD- على اعتبار أن رأسه الصلعاء بعد الحلاقة تصبح مثل "الجرة" المستديرة التي لها غطاء هو هذه الشعيرات الصغيرة أعلاها.

ومع أن مخرج فيلم "جارهيد" JARHEAD أو (يوميات مقاتل) اختار هذا الاسم كدلالة على شكل جنود القبعات الخضراء، فالهدف من وراء ذلك هو رسم صورة دقيقة للغاية لكيفية تدريب وتصنيع هذا الجندي كي يتحول إلى أداة للقتل والعنف منزوعا منه العقل والأحاسيس، بحيث ينفذ دون تفكير أو اعتراض ما يطلب منه، حتى إن الجنود الأمريكان -في الفيلم- الذين ذاقوا الويلات في التدريبات، وعلى أيدي قوات الحرس الجمهوري العراقية في حرب تحرير الكويت عام 1991 -وفق اعترافاتهم في الفيلم أيضا- ظهروا ساخطين جدًّا في نهايته؛ لأنه لم تتح لهم فرصة قتل أي جندي عراقي، فأقاموا حفلة لإطلاق النار في الهواء للتنفيس عن طاقة القتل داخلهم عقب انتهاء الحرب!.

وحوش بشرية

الحقيقة أن فكرة تدريب الجنود كوحوش أو كائنات لا تشعر وتحويلهم إلى "آلة" للقتل، فضلاً عن عبثية الحروب التي سعى هذا الفيلم لتأكيدها، تكشف بوضوح خطورة ما يجري داخل الجيش الأمريكي من مسخ لهوية الجنود ومشاعرهم وتدمير لصحتهم النفسية وتحويلهم إلى آلات للقتل، بحيث يقتلون بمشاعر باردة، ويفسر ضمنًا المجازر التي تقوم بها القوات الأمريكية في المناطق التي تحتلها.

بل إن الفيلم يفسر ضمنًا جرائم التعذيب في أبو غريب وجوانتانامو وتلذذ الجنود بالتعذيب والانتهاكات الجنسية، والمجازر الأمريكية في العراق مثل الفلوجة، وآخرها مجزرة مدينة "حديثة" والتي أعادت ذكريات مجزرة (ماي لاي) في فيتنام والتي يقوم بها جنود تحولوا بفعل التربية العسكرية غير الآدمية إلى آلات معدومة الأحاسيس، ويفسر -أيضًا- سر انتشار الأمراض النفسية والانتحار بين الجنود الأمريكان.

والأخطر أنه يفتح الباب أمام مقارنات أخرى بين تربية الجنود عمومًا على القتل أو التعذيب بدون أن يشعروا بأي ذنب، وبين نماذج مشابهة لمجندي قوات الأمن في دول عربية ممن يجري اختيارهم من بين الأشخاص محدودي الفهم والثقافة كي ينفذوا ما يؤمرون به من قمع للمتظاهرين أو اعتقالات وتعذيب أحيانًا، على غرار ما كشفه فيلم (البريء) الشهير الذي يصور حياة جندي مصري يتصور أن من يتم تعذيبهم في المعتقلات هم أعداء الوطن حتى يجد من بينهم صديق عمره المثقف.

ومن الطريف أن أحد المحامين -وفق صحف مستقلة مصرية- رفع قضية طالب فيها بفحص القوى العقلية لمسئولي الأمن الذين قاموا بهذه الانتهاكات، ومن يشاهد فيلم "رأس الجرة" سيلحظ معقولية تلك القضية.

مسخ ما بعد الحرب!

أحداث فيلم JARHEAD مستوحاة من قصة حقيقية لرجل من رجال البحرية الأمريكية يسمى "أنطوني سوفورد" كتبها في كتاب -يقوم بدوره في الفيلم الممثل جاك جلينهال- حيث تدور الأحداث حول تجربته هو ورفاقه أثناء أدائه الخدمة العسكرية في حرب الخليج الأولى (تحرير الكويت عام 1991) في منطقة صحراوية قاحلة مشتعلة الحرارة على الحدود بين السعودية والكويت، والظروف التي واجهها هؤلاء الجنود في حرب مع عدو لا يعرفونه ولم يرونه حتى انتهت الحرب وهم محطمون نفسيًّا.

وقد لخّص بطل الفيلم الفكرة في النهاية بقوله: "إن الجندي يذهب بعد الحرب إلى بيته ويعيش مع أولاده وزوجته ويرجع لحياته الطبيعية، ولكنه أبدًا لا ينسى أنه كان [جارهيد] أي [رأس جرة] أو أشبه بالمسخ أو صور القتل"، في إشارة للآثار النفسية الرهيبة التي تركتها فترة التدريب العسكري القاسية وأجواء الحرب عليه والتي ظهرت في صورة انتحار أحد زملائه بالفعل عقب عودته من الحرب.

تحطيم الآدمية

وترجع أهمية هذا الفيلم إلى أنه إنساني بالدرجة الأولى، لا يركز على البطولات والتضحيات الأمريكية في الحروب -مثل فيلم "إنقاذ الملازم رايان"- أو الأفلام ذات الصبغة السياسية مثل "بندقية معدة للإطلاق" Full Metal Jacket و"الفصيلة" Platoon، وإنما يركز على أمرين هامين:

الأول: خطر تربية الجنود في الجيوش كآلات للقتل، وهو ما يحولها مستقبلاً إلى عاهات بشرية تمتلئ بالأمراض النفسية.

الثاني: عبثية وكآبة وحقارة الحروب بشكل عام والتي تحرم الجندي من أهله ومحبيه وأولاده وتذيقه الويلات وتحطم آدميته.

وقد برع البريطاني "سام منديس" صاحب فيلم "الجمال الأمريكي" في تصوير هذه الكآبة، خصوصًا في مشاهد الجنود وهم مغطون بالزفت الناتج عن المطر المحمل بزيت البترول الناتج عن حرق آبار البترول الكويتية، وكأن "الأرض تنزف" كما قال أحد الجنود، ومشاهدهم وهو يجلسون بجوار جثث متفحمة تمامًا لمدنيين كانوا يهربون في الصحراء من ويلات اندلاع الحرب، وبعضهم يلهو بهذه الجثث.

كما برع في تصوير مشاهد الظلام وكآبة الصحراء واختفاء قرص الشمس خلف الدخان الأسود الكثيف الناتج عن احتراق آبار البترول والتي بدت حقيقية تمامًا ومفزعة، فضلاً عن مشاهد الإهانات والمشاق للجنود، والاعتداءات البدنية والنفسية التي يتحملها الجنود إلى حد كيهم بالنار وتوثيقهم بالحبال، خصوصًا في بداية تدريبهم والتي يواكبها ألفاظ شاذة جارحة تطال الأم والزوجة.

أوامر.. وأوامر

والفيلم -على عكس التوقعات- لم يمتلئ بمشاهد الحرب، ولكن بتفاصيل مملة -مدة 175 يومًا في الصحراء- عن الحياة المملة لهؤلاء الجنود في الصحراء القاحلة وهم ينتظرون هجوم القوات العراقية عليهم (وفق تصور أن الجيش العراقي كان يستعد لمهاجمة آبار البترول السعودية أيضًا)، مع ما يتصل بها من خسارة بعضهم لصديقته أو زوجته نتيجة بعده عنها، مما يضطرهم للكذب -بطلب من قائدهم- على وسائل الإعلام التي حضرت للسؤال عن روحهم المعنوية المحبطة فيقولون إنهم "سعداء وينتظرون لقاء العدو بشجاعة"، في حين أنهم مرعوبون من القتال خصوصًا بعدما قيل لهم إن العراقيين يستخدمون الغازات السامة والحارقة.

المشاهد في الفيلم مكررة وتركز على الأوامر: أوامر بشرب المياه المعدنية بالقوة باستمرار كي لا يشعر الجنود بالجفاف في الصحراء، أوامر بحفر خنادق، أوامر بالفرجة على شرائط فيديو تصور بطولات الجنود الأمريكان في فيتنام(!) ويظهر فيها قصف الطائرات الأمريكية لكل شيء في فيتنام والجنود يصيحون إعجابًا، بل وأوامر للجنود بلعب الكرة وهم يلبسون الأقنعة والملابس الثقيلة الواقية من الغازات والأسلحة البيولوجية في ظل قيظ الصحراء!.

كذلك تكرار مشاهد الإحباط والكآبة، فمشاهد انتظار الحرب مملة، ومشاهد سماع الجنود لتخلي أقرب الناس إلى قلوبهم (صديقاتهم) عنهم مكررة في صورة رسائل من صديقة لجندي تبلغه بمرافقة شخص آخر غيره، وأكثر هذه المشاهد إحباطًا مشهدان:

الأول: لطائرة أمريكية تغير على فرقة الجندي "سوفورد" بطريق الخطأ وهم يهمون بالتحرك للقتال بعد طول انتظار؛ لتقتل وتصيب كثيرين وتحرق عربات الجيش الأمريكي، مما يثير الإحباط أكثر بين الجنود بسبب هذه النيران الصديقة الغادرة.

والثاني: لجندي تلقى وهو سعيد هدية من زوجته عبارة عن شريط فيديو لفيلم "صائد الغزلان" (فيلم عن حرب فيتنام)، وعندما يتجمع الجنود فرحين ليروا الفيلم يفاجئون بأنه شريط إباحي لزوجته مع رجل آخر وكأنها تتعمد إهانته والسخرية منه، وحينئذ يسرح كل منهم أمام شاشة العرض وهو يسأل نفسه كيف يمكن أن تخون زوجة (أو صديقة) زوجها أو صديقها؟!.

تعطش للقتل

الأكثر غرابة أن هؤلاء المارينز المتخصصين في القنص والمتعطشين للقتل يفاجئون بعد كل هذا الانتظار والمعاناة بأنه لا دور لهم في المعركة، وأنهم لن يقتلوا أي عراقي، حيث تتولى الطائرات الأمريكية والصواريخ ضرب المواقع العراقية التي كان من المفترض أن يهاجموها. وهنا يصور لنا المخرج مشهدًا يعبر عن كم الغضب والشحن المعنوي والتعطش للقتل لدى الجنود في صورة احتجاج جندي على الضابط الذي أجهض مهمتهم بقنص ضابطين عراقيين، وأمر بضرب الموقع العراقي كله بالطائرات لدرجة الاشتباك معه بالأيدي، وطرد الجندي من الجيش وانتحاره في النهاية!.

فيلم (جارهيد) في التفسير الأخير ليس سوى محاولة لتصوير تمجيد الجندي الأمريكي للقتل والعنف وشغفه لهذا العنف وطربه له.

وقد أظهر الفيلم هذا عندما صوّر جنود المارينز في بداية الفيلم وقبل ترحيلهم إلى الصحراء وهم يتفرجون على المشهد الشهير من فيلم "سفر الرؤية الآن" Apocalypse Now للمخرج كوبولا الذي يظهر هجوم الطائرات المروحية الأمريكية على قرى فيتنامية وإزالتها من الوجود، بينما يهتف المارينز ويصرخون طربًا ونشوة.

كما أظهر الفيلم في نهايته الجنود يقيمون لأنفسهم حفلا بعد إعلان انتهاء الحرب (التي لم يحاربوا فيها)، وأخذوا خلالها يطلقون كل أنواع القذائف التي يحملونها في الهواء وهم يصرخون وترتسم على وجوههم كل عبارات العنف.

**المحلل السياسي بموقع إسلام أون لاين.

إسلام أنلاين في 15 يونيو 2006

 

الأفلام محطة لاستكمال الهموم الموسيقية والغنائية

نديم جرجورة

بدت ستينيات القرن المنصرم وكأنها تعلن نهاية مرحلة تاريخية في صناعة السينما العربية، بالنسبة إلى الفيلم الغنائي. ففي مصر، شهدت تلك الفترة بداية أفول نتاج بصري متكامل، جمع التمثيل بالغناء والرقص، وجعل من الأغنية أساساً لسرد درامي أفضى غالباً إلى نهاية سعيدة، حتى ولو عرفت فصوله (أو بعضها على الأقلّ) أحداثاً تثير القلق والبكاء والخوف، في أحيان عدّة. وفي لبنان، وبسبب صدور قرارات التأميم الاشتراكي الناصري، تدفّقت رساميل إنتاجية وقدم سينمائيون وممثلون مصريون إلى بيروت، ما أدّى إلى تأسيس نمط سينمائي غرف من تقنيات السينما المصرية وفضاءاتها المرتبكة والهشّة ما ساعده على ابتكار لغة بصرية عادية للغاية، موصومة بأسلوب مصري في مزج <توابل> مختلفة (إن لم تكن متناقضة، أحياناً) تصنع فيلماً سينمائياً تجارياً، بالمعنى الشعبي الكبير لكلمة <تجاري>. وإذا اعتبر التأريخ السينمائي العربي أن نهاية الستينيات وبداية السبعينيات محطّة تحوّل فعلي في مسار السينما الغنائية المصرية والعربية، فإن <أبي فوق الشجرة> (1969) لحسين كمال، الفيلم الأخير لعبد الحليم حافظ، شكّل ما يشبه بداية خاتمة سينمائية جميلة لمرحلة ثرية بالأفلام الغنائية الرومانسية. ولعلّ المفارقة تكمن في أن ثلاثة أفلام غنائية أنجزها الأخوان عاصي ومنصور الرحباني في النصف الثاني من المرحلة نفسها، بدت وكأنها، هي أيضاً، تُعلن بداية أفول (إن لم يكن أفول) هذا النوع السينمائي في لبنان، الذي مرّ وقتٌ طويلٌ جداً قبل أن يُطلّ ثانية في مصر مع مغنين شباب، تماهى بعضهم بكلاسيكيات الفيلم الغنائي الرومانسي من دون بلوغ جمالياته الإبداعية، منذ منتصف التسعينيات الفائتة تقريباً، في حين أن لبنان انتظر نحو أربعين عاماً (أنجز الفيلم الرحباني الأول في العام ,1965 والأخير في العام 1968) قبل أن يُنجز فيليب عرقتنجي فيلماً غنائياً استعراضياً راقصاً جديداً بعنوان <البوسطة> (2005).

غير أن <جديد> الفيلم الغنائي لم يصل، بحسب آراء نقدية، إلى المستوى الإبداعي الجميل الذي عرفه <قديم> هذا النوع السينمائي. فقد أشار البعض إلى أن <التراجع> عائد إلى أسباب عدّة، لعلّ أبرزها وأهمها كامن في <تدنّي> المستويات المختلفة في صناعة الأغنيتين المصرية واللبنانية الحديثتين، قياساً إلى ما ابتكره كبار الموسيقيين والمطربين ومؤلّفي الأغاني القدماء، وأيضاً قياساً إلى النوعية الخاصّة بهذا الجديد نفسه، الذي عجز مؤلّفوه ومنشدوه عن تقديم الجيّد والجدّي، في مقابل طغيان العاديّ الذي يصل، أحياناً، إلى حدود الابتذال، خصوصاً مع تنامي ظاهرة ال<فيديو كليب>، وانحدار غالبيتها إلى مستنقع الجنس الرخيص. هذا كلّه، من دون تناسي أن بعض النتاج الجديد، في مصر ولبنان على حدّ سواء، عكس جدّية واضحة في اختيار الكلمات وصوغها، وفي تأليف الألحان وغنائها، وفي مقاربة المواضيع المختلفة، في الحبّ والعلاقات والقضايا الإنسانية.

في هذه الفترة نفسها (ستينيات القرن الفائت)، أطلّ الأخوان عاصي ومنصور الرحباني على جمهورهما العريض من خلال السينما، في محاولة متواضعة أراداها تمريناً على عمل فني لم يمارساه منذ بداية مسارهما الإبداعي. فبعد التأليف الغنائي والتلحين الموسيقي والنتاجات المسرحية والإذاعية والتلفزيونية المختلفة، وجدا أن السينما ربما تكون قادرة على إكمال صورتهما الفنية، وأن وضع المضمون المسرحي (قصةً وغناءً ورقصاً) في فيلم سينمائي يُمكن أن يساهم في تفعيل التواصل بينهما وبين الجمهور، وهو تواصل متين وثابت، خصوصاً على المستويين المسرحي والغنائي، بفضل لغتهما الساحرة في ابتكار جمل وكلمات وألحان تتداخل فيما بينها، وتصدح عالياً بنبرة فيروز المتألّقة في اختراق الحجب كلّها، وبشدو آخرين (أبرزهم نصري شمس الدين). وعلى الرغم من الجماليات المكتنزة بقوة في عمق أعمالهما المختلفة، إلاّ أن القراءة النقدية الموضوعية تكشف <عقم> الأداء التمثيلي لفريق من المغنين والمغنيات والراقصين والراقصات ذوي الحناجر البديعة والأجساد المتمايلة في لوحات مليئة بالنبض الإنساني الحيّ، في مقابل جمال الصوت وروعة <التابلوهات> الراقصة.

هموم الفرد وقلق الجماعة

ذلك أن هؤلاء جميعهم (فيروز ونصري شمس الدين وهدى وإيلي شويري وجوزيف ناصيف وغيرهم) لم يتدرّبوا على تقنيات التمثيل المسرحي أو التلفزيوني، بل ربما لم يكترثوا، هم والأخوان الرحباني، بهذا الجانب الأساسي في العملين المسرحي والتلفزيوني، لأن الجميع مشغولٌ بلغة النصّ الغنائي (لحناً وكلمات ومعاني)، وبجعل خشبة المسرح، مثلاً، فضاء مفتوحاً على الرقص والديكور والحكايات المتواضعة في صوغها واقعاً إنسانياً لبنانياً مصقولاً بروح الضيعة وبراءتها، ومشحوناً بالألفة والمحبّة والتسامح والنهايات السعيدة دائماً. كما أن الاهتمام الأول ظلّ محصوراً بكيفية إعادة رسم الملامح البشرية، المنزّهة من كل عيب، وإن ظهر الشرّ فهو يبقى خفيفاً وعابراً، إذ سرعان ما ينتصر الحقّ والخير والجمال، في <وطن> رحبانيّ لا مثيل له على الأرض. وإذا أظهر عددٌ من الذين مثّلوا في هذه الأفلام أداءً أفضل في تقديم الأدوار والشخصيات، فهذا عائدٌ إلى اختبارهم التمثيل المسرحي أو التلفزيوني في أعمال جعلتهم <نجوماً>، بمعنى ما، في الوسط الجماهيري. إذ يصعب التغاضي عن واقع أن بعض هؤلاء، كصلاح تيزاني (أبو سليم) ومحمود مبسوط (فهمان) وعبد الله حمصي (أسعد) وسلوى حداد (أم ملحم) وإحسان صادق وبرج فازليان ووليم حسواني وآخرين، مارس التمثيل، وإن بحدوده القصوى، إذ إن التلفزيون كان لا يزال وليداً، ولم يتوصّل إلى تأسيس منهج تمثيلي، في حين أن العاملين في شؤون المسرح اللبناني انبثقوا من تدريب فكري وثقافي ومسرحي لم يُسعفهم في أداءهم السينمائي هذا. في حين أن عاصي ومنصور نفسيهما لم يكونا ممثلين أو حتى مؤدّيين، بل مجرّد شخصين يتلوان جملهما من دون أن يمنحاها روحاً. لا شكّ في أن غياب <الممثل السينمائي اللبناني> في تلك المرحلة (كما في المراحل السابقة واللاحقة) لعب دوراً سلبياً في تدنّي المستوى التمثيلي في الأفلام الثلاثة، علماً أن النَفَس الأدائي الجيّد ظلّ حاضراً في المجالين التلفزيوني والمسرحي، وإن احتاج إلى تأصيل أقوى وأمتن وأوضح.

لم تكن الأفلام الثلاثة التي وضعها الأخوان عاصي ومنصور الرحباني مختلفة كلّياً عن أجواء أعمالهما المسرحية. فالفيلم الأول، <بياع الخواتم> (1965) ليوسف شاهين، ليس إلاّ تصويراً سينمائياً لمسرحيتهما التي تحمل العنوان نفسه، والتي قدّماها للمرّة الأولى في العام .1964 وهو تصوير مجبول بشيء من عوالم شاهين وارتباكاته البصرية التي تعكس، غالباً، ارتباكاته النفسية والثقافية والإنسانية في مقاربته أحوال المجتمع وناسه. ومع أن الفيلمين الآخرين، <سفر برلك> (1966) و<بنت الحارس> (1967) لهنري بركات، كُتبا خصيصاً بالسينما، إلاّ أن الأخوين الرحباني (اللذين ألّفا القصّة وكتبا السيناريو والحوار للفيلمين الأخيرين، في حين أن صبري الشريف كان قد كتب نص <بياع الخواتم>، بالإضافة إلى تأليفهما الموسيقى والأغنيات) اعتمدا الصيغ نفسها التي ميّزت أعمالهما المسرحية: مناخ ريفي غالباً، مقارعة الظلم الناتج من مشكلة ما أو من سلطة غاشمة، علاقات محبّة وأخوّة بين غالبية الشخصيات، حب ورومانسيات وتقاليد، وغيرها من العناوين التي كرّراها مراراً في مسرحهما، من دون أن تفقد، أقلّه في مسرحياتهما، رونقاً ما في تسليط الضوء على هموم الفرد وقلق الجماعة والرغبة في الانعتاق من بؤس اليومي وشقاء العيش. وفي أفلامهما الثلاثة، حافظا على هذه التركيبة التي أسّست جمهوراً عريضاً لهما، انتقل من صالة المسرح إلى قاعات السينما ليُشاهد ما يُمكن أن يكون عملاً رحبانياً بامتياز، في شكله الجديد هذا.

هبوط وارتفاع

للأسف، يصعب اليوم التأكّد من مدى النجاح الشعبي لهذه الأفلام الثلاثة، التي أنجزت كلّها في النصف الثاني من الستينيات، أي في المرحلة التي شهدت توافد سينمائيين مصريين إلى لبنان بسبب قرارات التأميم التي أصدرها جمال عبد الناصر منذ مطلع المرحلة نفسها. يصعب الحصول على أرقام المبيعات أو عدد المشاهدين، وإن رأى بعض من عاصر تلك الفترة أن فيلمي بركات كانا الأكثر نجاحاً، لأنهما من صنع مخرج سينمائي عرف آلية تحقيق المعادلة السينمائية المطلوبة، التي تجمع مضموناً جدّياً بشكل مبسّط قادر على جذب أكبر عدد ممكن من المشاهدين. لكن منصور الرحباني قال مراراً إنه على الرغم من أن الأفلام الثلاثة هذه حطّمت الأرقام في لبنان، <إلاّ أن حظّها سيئ في الخارج>، خصوصاً <سفر برلك>، الذي <طاردته السفارات التركية في كل مكان، مانعة عرضه>. في كتابه <السينما المؤجّلة> (<مؤسّسة الأبحاث العربية>، 1986)، كتب الناقد محمد سويد أن أهمية <تجربة الرحابنة تكمن في تمدّدها داخل مختلف فروع الفن، إلى الحدّ الذي يتطلّب تقديم تفسير واضح لسبب قصر عمر هذه التجربة سينمائياً>، مضيفاً أنه بعد فشل <بياع الخواتم> (الفيلم الرحباني الأول)، <ابتسم الحظّ للرحابنة أكثر في الفيلمين التاليين>، مشيراً إلى أن هذا الفشل لم يكن بسبب قيام مخرج مصري بتنفيذ أوبريت <بياع الخواتم>، لأن هذا السبب <الإقليمي> ينتفي <إزاء حقيقة قيام المخرج المصري هنري بركات بتحقيق الفيلمين الآخرين>. في الإطار نفسه، رأى سويد أن السبب يعود ربما إلى <رؤية يوسف شاهين الخاصّة، وسعة خبرة هنري بركات بمتطلبات الفيلم الجماهيري وكيفية تركيبه بحسن استغلال المنظر الطبيعي اللبناني قياساً على أهمية العنصر التاريخي في <سفر برلك> (فيلمهما الثاني)، والعنصر الواقعي المألوف جداً في <بنت الحارس> (الفيلم الثالث والأخير لهما)>. وأشار سويد إلى أن هذا كلّه كان <وراء هبوط وارتفاع مستوى الإقبال الجماهيري بين الأفلام الثلاثة، لا سيما أن نص <بياع الخواتم> كان مقتبساً عن الأصل المسرحي (يبدو أكثر رمزية في عملية النقل السينمائي)، فيما استند كل من نصي <سفر برلك> و<بنت الحارس> إلى قصّة معدّة خصيصاً للشاشة الفضية>. أما الناقد إبراهيم العريس فرأى، في مقالة له بعنوان <يوسف شاهين: ثلاثون عاماً في السينما> (مجلة <دراسات عربية>، آذار 1979)، أن هناك <خطأ في التقدير جعل المخرج (شاهين) يقبل بتصوير الفيلم كلّه داخل ديكور بُني في الاستديو، وضمن مقاييس حدود العمل وظروف الإنتاج>.

من ناحية أخرى، تعاون هنري بركات، الذي اشتهر (من بين أمور أخرى) بتقديمه فاتن حمامة، مثلاً، في روائع سينمائية لا تزال ثابتة في تاريخ السينما العربية ومفاصلها الدرامية والثقافية، مع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز والفريق الرحباني كلّه في فيلمين أريد لهما أن يمزجا أبعاداً سياسية وإنسانية واجتماعية بنمط شكلي مُبسّط، لا يلغي جمالية المشهد بقدر ما يُقدّم الحكاية بما يريح المُشاهد ويجعله يتفاعل سريعاً مع التفاصيل الدرامية، كما مع المشاهد الغنائية. لا يعني هذا أن <بياع الخواتم> غرق في المتاهات الجميلة التي اعتاد يوسف شاهين أن يبتكرها في بعض أفلامه. فهذا الفيلم يأتي بعد أن قدّم مخرج <باب الحديد> ثلاثة أفلام غنائية مصرية سبقت تجربته الوحيدة مع الرحابنة: <سيدة القطار> (1952) مع ليلى مراد، <إنت حبيبي> و<ودّعت حبّك> (1957) مع فريد الأطرش. بهذا المعنى، يُمكن القول إن لشاهين تجربة في صناعة فيلم غنائي تحرّر، إلى حدّ ما، من سطوة الارتباك الإبداعي الخاص به، مقدّماً النصوص السينمائية في قوالب مبسّطة قابلة للفهم الجماهيري، وقادرة على صوغ حكاياتها بسلاسة ممزوجة بالصوتين الجميلين لمراد والأطرش، وبعوالمهما الغنائية والموسيقية المتنوّعة. ورأى البعض أن شاهين استفاد في فيلمه الرحباني من بعض الأجواء الشاعرية التي سبق أن شاهدها في فيلم <مظلات شربورغ> (1964) لجاك ديمي، وعرف كيف يستخدم الألوان بشاعرية، كما حركة الكاميرا والمجاميع.

راجح

اللافت للنظر، من ناحية أخرى، أن الأفلام الرحبانية الثلاثة هذه أنجزت قبل حرب الأيام الستة، أي قبل وقوع النكسة وإنطلاق ثقافة الهزيمة وبداية طرح أسئلة الخراب الفظيع الذي ضرب الأمة العربية وأحلامها الثورية الكبيرة. مع هذا، استمدّ الأخوان الرحباني موضوعاً سياسياً، بالمعنى الإنساني الشامل، من واقعة تاريخية جرت فصولها في خلال الاحتلال العثماني للبنان وجواره (سفر برلك). لكن البُعد السياسي الإنساني حاضرٌ، أيضاً، في الفيلمين الآخرين: فاختراع كذبة رجل شرير، في <بياع الخواتم>، يريد شرّاً بالقرية وأهلها، ناتج من رغبة المختار في تثبيت دعائم سلطته من خلال بقائه سيّد القرية والمسؤول الأول فيها (بمعنى آخر: الآمر الناهي)، وإن بسرده الحكايات المتنوّعة عن راجح الخيالي. ذلك أن سلطة المختار قائمة على تأليف قصص خيالية انجذب أهل القرية إليها ووقعوا في سحرها. في حين أن الاستغناء عن خدمات رجلي الشرطة في قرية <بنت الحارس>، أفضت إلى إشعال فتيل جرائم خفيفة، كي ينتبه أعضاء المجلس البلدي إلى أهمية الحارس وضرورة الإبقاء عليه، خصوصاً أنهم باتوا عرضة للفضائح الجنسية والخيانات التي ارتكبوها سرّاً. ومع أن بنت الحارس هي التي لعبت الدور الخفي ل<مجرم> خيالي (أيضاً)، كي تعيد والدها ورفيقه إلى عملهما، إلاّ أن فكرة البقاء في <سلطة> ما (هي هنا شرطة البلدية) ليست إلاّ عملاً سياسياً بامتياز.

قيل إن دخول الأخوين الرحباني عالم السينما نتج من الصدفة: ذلك أن صديقاً لهما يُدعى رجا الشوربجي أقنعهما، ذات يوم، بتحويل إحدى مسرحياتهما إلى فيلم سينمائي، في تلك المرحلة الغنية بالأفلام الغنائية العربية المختلفة، فسألا كامل التلمساني (الذي عمل مستشاراً لهما في مجالات فنية متنوّعة) رأيه بالموضوع، بالإضافة إلى يوسف شاهين، الذي كان موجوداً في بيروت حينها، بعد <خروجه> من القاهرة إثر نزاعه المرير مع رجال جمال عبد الناصر. هكذا بدأ عاصي ومنصور تجربة العمل السينمائي: اختارا <بياع الخواتم>، واتفقا مع المنتج السوري نادر الأتاسي على تمويل الفيلم ومع يوسف شاهين على إخراجه، وتعاونا مع المجموعة الغنائية والتمثيلية نفسها، وانطلقا في تجربة أفرزت فيلمين آخرين أخرجهما هنري بركات، الذي ظلّ على تواصل دائم مع وطنه الأم لبنان. فهل العمل مع شاهين وبركات مجرّد صدفة بحتة، أم اقتناع بحرفية المهنة وثقة بنمط العمل الإخراجي؟ ذلك أن الأخوين الرحباني تعاونا مع مخرجين سينمائيين مصريين من أصل لبناني، بالإضافة إلى كونهما مسيحيين، وإن عرفا كيف يتجرّدا من انتمائهما الديني البحت، كي يُبقِيا على البُعد الإنساني في مقاربتهما أحوال الناس والمجتمع والمسائل الحية في الواقع والتاريخ. لا شكّ في أن حِرَفية المهنة سببٌ واضحٌ وأساسي في اختيار الأخوين الرحباني شاهين وبركات لإخراج أفلامهما الثلاثة. ولا شكّ في أن الظروف التاريخية لعبت دوراً في ذلك أيضاً: فشاهين موجودٌ في بيروت بعد أن لمع اسمه في السينما العربية بفضل سلسلة أفلام شكّلت، قبل إخراجه <بياع الخواتم>، منعطفات حقيقية في صناعة الصورة، لعلّ أبرزها <صراع في الوادي> (1954) و<باب الحديد> (1958)، في حين أن بركات، الذي قدّم بدوره كلاسيكيات بديعة، حافظ على علاقة وطيدة بلبنان، وظلّ حاضراً فيه بين حين وآخر.

إذاً، جاءت التجربة السينمائية الرحبانية في سياق ظروف ساهمت في بلورة المسار المسرحي والغنائي والموسيقي، ليكتمل في ثلاثة أفلام أنجزت في أقلّ من أربعة أعوام. من هذه الظروف: وجود المنتج السوري نادر الأتاسي، واستعداده للتعاون مع الأخوين الرحباني. انتقال عدد من السينمائيين المصريين من القاهرة إلى بيروت، بعد عمليات التأميم التي شملت القطاع الخاص هناك، وبقاء العاصمة اللبنانية خارج إطار التجاذبات الإقليمية، أي تحوّلها <إلى بنك سينمائي كبير، غرف منه المنتجون والفنانون العرب>، إذ إنها أضحت منطلق عدد كبير من الأفلام الروائية القائمة على ما أسماه محمد سويد <كومبينة>، رأى أنها <جمعت بغرابة منقطعة النظير الممثل المصري واللبناني والسوري، في لهجة مُركّبة هجينة، أساسها دمج القصّة الخفيفة بالصنعة المصرية والمنظر اللبناني السياحي> (من مقالة له منشورة في <السفير> بتاريخ 28 حزيران 1986).

إنها تجربة لم يكن ممكناً الاستغناء عنها في مرحلة شهدت رواجاً للفيلم الغنائي العربي، مع أنها حملت في طياتها، في الوقت نفسه، بذور النهاية المحتومة لهذا النوع السينمائي. إنها تجربة لا يُمكن القول بنجاحها الفني والتقني والدرامي والنقدي، على الرغم من تعاون عاصي ومنصور الرحباني مع مُحترفين سينمائيين (مخرجَين مصريين وبعض التقنيين الأوروبيين، كالمصوّر أندره دوماج)، بقدر ما ترجمت رغبة ما للأخوين الرحباني في اختبار المدى الإبداعي للكاميرا السينمائية، بعد أعوام على خوضهما أنواعاً فنية مختلفة.

لكن، ما الذي بقي من الأفلام الرحبانية الثلاثة، في مطلع القرن الواحد والعشرين، وبعد مرور عشرين عاماً على رحيل عاصي الرحباني؟ لا يُمكن الجزم بأن هذه الأفلام مارست تأثيراً ثقافياً أو فنياً في المسار التاريخي للسينما اللبنانية أو العربية. لكنها شكّلت محطة فنية ما للأخوين ومجموعتهما الفنية، واستكملت بعضاً من <هواجسهما> الإنسانية وهمومهما الموسيقية والغنائية. فعلى المستوى الإنساني، استمرّا في مقاربة الوجع اليومي للناس القائمين على اختلافاتهم والمنصهرين في أحلامهم المشتركة، القاضية إما بالتحرّر من نير الاحتلال، أي السلطنة العثمانية في <سفر برلك>، أو من سطوة الخيال الداعم لبقاء السلطة بيد صاحبها، سواء بابتكار شخصية وهمية اسمها راجح (سرعان ما تبيّن أنها حقيقية)، ومعلّقة في التباس الواقعي بالمتخيّل الشعبي (بياع الخواتم)، أو في خلق شخصية مجرم وهمي أيضاً، انقضّ على هواجس الجميع وأقلقهم في يومياتهم (بنت الحارس). وعلى المستوى الغنائي، منحت فيروز شكلاً ساحراً للنتاج الرحباني، ولعب الآخرون أدوارهم الغنائية في أغنيات مختصرة ومكثّفة ومشحونة بالنغم اللبناني والنوتة الفولكلورية.

السفير اللبنانية في 16 يونيو 2006

 

سينماتك

 

المخرج الجزائري رشيد بوشارب عن فيلمه "بلديون" حائز جائزة التمثيل في "كان":

اليوم جاء دور الأفارقة ليقولوا نحن حاربنا ضد النازية

كان ـ ريما المسمار

 

 

 

 

سينماتك

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك