رحل المخرج الياباني شوهي ايمامورا قبل عشرة أيام بعد صراع طويل مع المرض عن عمر يناهز 79 عاماً وهو المخرج الذي تطلق عليه اليابان لقب «كنز السينما اليابانية». يعد من كبار مخرجي «الموجة الجديدة» في بلاده وأكثرهم تميزاً الى جانب أوشيما وإيشيكاوا وغيرهما من الذين جددوا بجرأة ابتداء من الستينات. حصل ايمامورا على السعفة الذهبية في مهرجان «كان» السينمائي مرتين، وكانت السعفة الذهبية الأولى عام 1983 عن رائعته «رحلة ناراياما» التي عرفت ايضاً بترجمة «ملحمة ناراياما»، والسعفة الذهبية الثانية عن فيلم «ثعبان البحر» وقد نالها عام 1997 مناصفة مع الإيراني عباس كيورستامي.

بعد رحيل ساموراي السينمائي أكيرا كوروساوا رشح النقاد شوهي ايمامورا لحمل سيف السينما اليابانية الذهبي، ليصبح سيدها الأول، فهو يعتبر من أبرز المخرجين ومن أكثرهم تميزاً وشهرة عالمية.

ويعرف ايمامورا بأنه من ابرز المدافعين عن حقوق الإنسان وعن الطبقات الفقيرة والكادحة والنقد اللاذع لظروف المجتمع وفضح ما به من فساد على جميع المستويات، وكان لا يستثني من ذلك حكومة أو طرفاً قيادياً في المجتمع. ومن هذا المنطلق يأتي رسم الشخصيات الموجودة عادة في أفلامه، فالغالبية العظمى من شخصياته يتركز على نساء يعشن تحت خطر الفقر ودفعتهن الظروف القاسية التي تحيط بهن الى سلوك حياة الرذيلة، وكذلك رجال وأطفال من الطبقات الدنيا في المجتمع. ويتسم تناوله لمثل تلك الشخصيات بالموضوعية والحيادية الشديدتين.

على رغم هذا، فإن شوهي ايمامورا أنجز تنويعاً سينمائياً تراوح بين النقد الاجتماعي والسياسي المبطّن، الذي يمكن اعتباره بمثابة نظرة إنسانية معمقة، والسخرية الضاحكة، احياناً. ذلك ان المواضيع التي تناولها في افلامه، تراوحت بين التقاليد القروية وملامح المجتمع الياباني وسلوكه وتفاصيله الإنسانية المختلفة.

وعن أسلوبه السينمائي يقول: «اصور افلاماً ما روائية كما الأفلام الوثائقية، إنجاز فيلم وثائقي يتطلب إظهار الوقائع كما هي عليه، من دون كتابتها مسبقاً، عندما أخرج فيلماً روائياً أقوم بالشيء المماثل تقريباً، أصور اللقطات كما تحدث حقاً في الواقع، أبدأ بتحضير اماكن التصوير في شكل دقيق، آخذ في الاعتبار طوبوغرافية المواقع المختلفة التي سأصور فيها، أرسم حتى خريطة على السيناريو، تصف تنقلات الشخوص بطريقة دقيقة.

أشرح للممثلين ما أريده منهم، فأنا لا أحدثهم عن الجانب النفسي لشخوصهم، افضل أعطاءهم تعليمات جسدية، تقريباً جغرافية، في النهاية، ذلك يعطي لأفلامي الروائي طابعاً وثائقياً».

ولد ايمامورا في طوكيو عام 1926، وحين كان مراهقاً عاش صراع بلاده وفي ظل المآسي الإنسانية الحادة التي ادركها في مطلع عمره، والتي صنعتها الهزيمة اليابانية في مواجهة القنبلتين الذريتين الأميركيتين اللتين وضعتا حداً دموياً للأحلام الامبراطورية العسكرية اليابانية. عانى ايمامورا بؤساً وشقاء رسم شيئاً متواضعاً من عنفهما وطغيانهما القاتل على الفرد والجماعة. وعبّر عن ذلك في احد افلامه في الكلام التالي: «حين اعلن الامبراطور سقوطه عبر الراديو كان عمري 18 سنة وقلت في نفسي: هذا رائع وأخيراً تحررنا». في نهاية الحرب العالمية الثانية ترك دراسته وعاش في شارع شينجوكو المعروف «بالسوق السوداء» في طوكيو وهناك اختبر الحياة الواقعية بقوة. وظهر اهتمامه بالأدب وهو لا يزال في مقتبل عمره، التحق بالمعهد الفني تهرباً من تأدية الخدمة العسكرية وبعد انتهاء دراسته الفنية الاكاديمية وكان ذلك في معهد «واشيدا»، عام 1945 ودرس الادب بها، وقام خلال الدراسة بكتابة وتمثيل العديد من المسرحيات. وبعد تخرجه، عمل مع عدد كبير من المخرجين اليابانيين العظام، حيث استفاد منهم بشكل كبير، مثل المخرج الشهير ياسوجيرو أوزو، حيث عمل معه في فيلم «الصيف المبكر» عام 1951، وفيلم «قصة طوكيو» عام 1953.

رؤية كوروساوا

عن بدايته يقول: «كنت اشاهد كثيراً من الأفلام، العديد من الأفلام الاميركية استقدمت الى اليابان، مباشرة بعد الحرب، لكنني لم اجدها ذات اهمية، ثم اكتشفت كوروساوا. عندما شاهدت «الملاك السكران» شعرت حقاً برغبة في ان اكون سينمائياً. في تلك الفترة، كنت في جامعة واسيجا، حيث شكلنا انا وبعض اصدقاء الدراسة فرقة مسرحية، في الوقت نفسه كنت مشغولاً بالسوق السوداء، التي كانت تساعدني على دفع نفقات دراستي. بعد الجامعة واصلنا لفترة قصيرة ممارسة المسرح ثم افترقنا.

بقيت وحيداً، ولم اجد ما اقوم به في ذلك الحين، بعد مشاهدة افلام كوروساوا، شعرت برغبة في ان أكون سينمائياً، لهذا ترشحت للدخول في استوديوات «توهو وشوشيكو». لقد اخترت «توهو» لأنها كانت الشركة التي يعمل فيها كوروساوا، وكنت ارغب في رؤيته يعمل، واذا امكن ان اكون مساعده، للاسف، في تلك السنة وكانت استوديوات «تومو» في إضراب، لهذا لم يقبلوا مساعدين جدداً، على العكس «سوشيكو»، كانت توظف، كان يجب القيام بامتحان دخول.

كنا سبعة، سئلنا مع أي مخرج نريد الاشتغال، كنت مهتماً بـ «كينوشيتا»، وهو مخرج جيد، كان معروفاً تقريباً بقدر كوروساوا في تلك الفترة. وفي كل الحالات، كان الاكثر شهرة في استوديوات كينوشيتا، لكن المشكلة ان الجميع كان يريد العمل مع كينوشيتا فقمنا اذاً بعملية قرعة، لكن للأسف طلعت الأخير. فقيل لي: «لم يبق أمامك إلا «أوزر» فقط»، أحد الأصدقاء واساني قائلاً: «أتعلم، أوزر هو ايضاً جيد». في تلك الفترة، لم تكن له شهرة واسعة مثل كينوشيتا، لكن حالما التقيت به تفاجأت لهيبته ووقاره، كان جد صامتاً، كان يحترم الشباب، هكذا بدأت خطواتي في السينما، كنت محظوظاً».

وانتقل للعمل في «شوشيكو» و»نيكاتسو»، وهما اثنان من اهم الاستديوات السينمائية اليابانية واكبرها عام 1954، حيث عمل هناك كمساعد مخرج وكاتب سيناريو قبل ان يقوم بإخراج ثلاثة افلام عام 1958 وهي: «الرغبة المسروقة» – وهو ينتمي الى افلام الكوميديا السوداء، حول فرقة تمثيل تعمل في المناطق سيئة السمعة حيث فتيات الليل –، و«ضوء الليل» و»رغبة لا تنتهي» وكان يعتبر من المراقبين الجيدين للمجتمع الياباني والموضوعات التي عالجها تطرقت دوماً الى العادات والتقاليد القروية في اليابان وهو انتقد بشدة الحياة السفلية في الشارع التي اختبرها وهو شاب يافع حين قرر رسم حياة البائسين في الشارع في ذاكرته لترتسم بعد حين في افلامه. وسلط الضوء بقوة على شرائح معينة في المجتمع الياباني وهي الشرائح المهمشة.

ثم شق لنفسه اسلوباً خاصاً لفت انظار النقاد في العالم ورأوا فيه موهبة فذة فتحت السينما اليابانية على سؤال الحداثة الكبير. ويقول ايمامورا: «منذ سنين مضت، كنت اصادق كاتب سيناريو معروفاً اعتاد العمل على ياسوجيرو اوزو، وكنت أجلس معه في بيته الذي اعتاد ان يقضي فيه فترات اجازته. وبينما كنت اعمل في أحد السيناريوات المهمة، نهض من جانب المدفأة التي كانت موجودة في منتصف الحجرة وجاء عندي وأخذ مني السيناريو وبدأ يقرأ بصوت عال. لقد رأيت ان مثل هذا التصرف غير لائق ولا يجب القيام به. ثم قال: رباه، ألا تزال تكتب عن هؤلاء الشحاذين والساقطين من المجتمع. في الواقع لم يرق لي تعليقه هذا، وبدأ الأمر يثير أعصابي لأنني لا أعتقد بأن هذا هو الأسلوب الصحيح لوصف تلك الشخصيات التي تصفها أنت بالمضطهدين. وحتى على رغم أن بعضاً من الأشياء التي تقولها تلك الشخصيات يبدو سخيفاً، فإن حياتهم والتجارب التي يمرون بها هي قضايا حقيقية من واقع الحياة، وتأتي تعبيراتهم وتعليقاتهم في شكل صادق غير مفتعل. فهم بشر على أي حال على رغم أنهم يأتون من الطبقة السفلى للمجتمع. فما يقولونه حقيقياً وواعياً. واذا لم تتأثر أنت كمشاهد بما يقولونه أو يفعلونه في أفلامي، فالأمر ليس خطأ هؤلاء بل خطأي أنا، لأن هذا يعني أن أفلامي لم تقم بعكس مشاعرهم الحقيقية في شكل دقيق».

أيتام ومناجم

ثم أخرج ايمامورا بعد ذلك فيلم «أخي الثاني» (1959)، الذي تدور قصته حول مأساة أربعة أيتام يعيشون في احدى المدن اليابانية ويعملون في المناجم. وبعد ذلك أخرج ستة أفلام تعد من أشهر ما عرفته صناعة السينما اليابانية وهي: «الخنازير والسفن الحربية» عام 1961، ويدور حول مجموعة من المراهقين يحاولون كسب قوتهم من طريق بيع الخنازير التي تقتات على القمامة والفضلات التي تركتها قوات الاحتلال الأميركية. وفيلم «المرأة الحشرة» عام 1963، وهو من فئة أفلام الكوميديا السوداء عن فتاة ريفية تُجبر على العمل في أحد مصانع انتاج الأسلحة أثناء فترة الحرب العالمية، وبعد هزيمة اليابان تتحول الى ابنة ليل.

وفيلم «رغبة القتل» وهو فيلم يدور حول الظواهر السلبية التي يعاني منها المجتمع الياباني، مثل الاضطهاد والاغتصاب والفساد وغيرها، وفيلم «الإباحيون – مقدمة الى الانتروبولوجيا» عام 1965، وهو ينتمي أيضاً الى أفلام الكوميديا السوداء حول شخص يعمل في صنع وإنتاج الأفلام الإباحية ويتعلق بابنة محبوبته عاطفياً، وفيلم «اختفاء انسان» (1957)، وفيلم «المرأة – الحشرة» (1963) وهو الفيلم الذي أدخله بقوة الى فرنسا، و «الرغبة القاتلة» (1964)، و «الرغبة العميقة للآلهة» (1968).

وفي فترة السبعينات، أخرج إيمامورا فيلم «تاريخ يابان ما بعد الحرب» (1970)، وفيلم «موهاماتسو يعود الى موطنه» (1973)، وفيلم «في البحث عن الجنود المفقودين» (1975) وفي منتصف السبعينات وبعد انهيار صناعة السينما ونظام الاستوديوات في اليابان وتراجع صناعة السينما في شكل عام في البلاد، قام إيمامورا بتأسيس الأكاديمية اليابانية للفنون المرئية وتولى رئاستها، كما قدم «انتقام لي» (1979).

وفي فترة الثمانينات أنجز «إيجانايكا» (1981) و «رحلة ناراياما» (1983) الذي صور من خلاله الحياة في إحدى القرى اليابانية في القرن التاسع عشر فهو يحكي قصة امرأة يابانية مسنة يفترض أن تكون قد ماتت لكنها في صحة جيدة. والتقاليد القديمة في مطلع القرن التاسع عشر في اليابان كانت تقضي بأن ترحل العجوز كما كل عجائز بلدتها في اتجاه «الجبل المقدس» حيث تنتظر موتها، لتريح عائلتها وتترك الفرصة للشباب والصغار، فرصة الغذاء في ظروف الحياة الاقتصادية الصعبة. فتقرر أن ترحل وتأمر ابنها الذي تربطها به علاقة روحية قوية بأن ينقلها الى هناك، فيحملها على كتفيه ويمضي بها نحو المجهول.

وتعكس هذه القصة سواء كانت تقوم على تقليد حقيقي أم كانت من وحي الخيال الشعبي نظرة اليابانيين الى الموت وبالتالي نظرتهم الى الحياة. هذه النظرة التي ترى الموت نهاية طبيعية... وللتعبير عن هذه الرؤية البالغة القسوة والشاعرية يلجأ إيمامورا الى صوغ البناء الدرامي لفيلمه على شكل فصول السنة. وقد أبدع مصور الفيلم في التعبير عن هذا الامعان بالألوان والظلال. «رحلة ناراياما» الى جانب أفلام كثيرة مؤثرة للمخرج إيمامورا تشكل صورة خاصة عن اليابان بعين مواطن حساس وجريء، وظف عبقريته في سبيل تغيير مجتمعه الى الأفضل والأرقى والسير به الى صورة انسانية عادلة.

فيلم «المطر الأسود» (1989) ركز على العذاب الداخلي الذي الم بضحايا القنبلة الذرية التي سقطت على هيروشيما. والفيلم يتميز بالقوة الشديدة وينتهي بعبارة قوية على لسان شخصية تندد بالحرب. بعد توقف عن العمل دام تسعة أعوام، عاد 1997 ليكتب سيناريو فيلم «ثعبان البحر ودكتور أكاجي» ويخرجه.نال هذا الفيلم وفيلم «رحلة ناراياما» قبله جائزة السعفة الذهبية في مهرجان «كان»، الأمر الذي جعله واحداً من ثلاثة مخرجين فقط في العالم نالوا هذه الجائزة مرتين. وفي الجزء الخاص به في الفيلم الدولي، الذي تناول هجمات نيويورك في 11 أيلول (سبتمبر) 2001 المؤلّف من 11 فيلماً قصيراً لـ11 مخرجاً من دول وجنسيات وثقافات مختلفة. قدّم إيمامورا، صورة حادة وصادمة عن معنى البؤس الكبير الذي ينحدر اليه الناس جراء انكساراتهم المتعددة.

إيمامورا، الراحل بعد حوالى نصف قرن من ابداعه السينمائي، يمتلك ذلك الفن العظيم للغموض الخصب.

الحياة اللبنانية في 9 يونيو 2006

 

رحيل سينمائي الرغبات الممنوعة

شــــــويـــه إيـــــمـامـــــــورا قــــــنـاص نــفـــــــدت ذخـــــــيــرتــــه

هوفيك حبشيان  

كم وجدناه وقحاً هذا الخبر الذي تسلل حتى الى أعز الاماكن الى قلب ايمامورا. يا له من شعور بنكران الجميل والاسى ينتاب المرء، حين يعرف، من مدينة كانّ الفرنسية، بوفاة شويه ايمامورا، وذلك بعد ساعات فقط على ختام مهرجان رفعه الى مصاف السينمائيين الذين أدرجت اسماؤهم في كتاب السينما بأحرف من نار وذهب. فبمعزل عن اهمية السينما التي قدّمها هذا المخرج الياباني، كان ايمامورا ابن كانّ المدلل، وصاحب سعفتين ذهبيتين، وتالياً صنيع المهرجان الذي شرّع له ابواب العالمية الى حد ان اصبح احد سفراء السينما اليابانية، محبوباً من الخارج أكثر من الداخل. برحيله المبكر تسقط ورقة من اوراق السعفة الكانيّة، وينكسر غصن من شجرة العائلة التي يتألف منها المهرجان. ليس غصناً يبّسته الايام انما غصن يحمل براعم سينما لا تزال شابة بأفكارها ورؤياها ومضامينها. برحيله ايضاً، يضيع من يد السينما اليابانية ثاني أكبر معلم لديها بعد كوروساوا. حبذا لو ينتقل الارث الى جيل يجيد كيفية مواكبة لغة الحداثة من دون الاذعان لمنطق الاستسهال او التزييف الاخرق.

مؤسف طبعاً ان يسمّم السرطان دم ايمامورا (وهو بالكاد يبلغ الـ79 من العمر)، ويجمّد اهم ما يملكه، ويدمّر الرغبة ثم الرغبة ثم الرغبة، حتى الانطفاء والتلاشي والاستسلام. خلافاً للزحمة السينمائية غير المعقولة المتأتية لنا من البلدان الآسيوية، عنفاً وبطشاً وقذارة وفحشاً، كانت سينما ايمامورا نقية ونظيفة الى حد بعيد. لكن لم تكن قط خبيثة. حرص الرجل الاّ يترك خلفه اعمالاً منافقة ترجّح كف الاكذوبة الاجتماعية، فجاءت اعماله مزعجة تترجح بين النبرة الخفيفة والعنف المنزلي الشديد الوطأة على المشاهد. من فيلم الى آخر، اراد التقرب من الروابط بين مختلف طبقات المجتمع الياباني، بحكمة المعلّم الذي كانه، ولم تهمّه كثيراً المحرمات السياسية والاجتماعية والجنسية. واذا كان حس الفكاهة غالباً ما يخفف من طغيان الموضوعات السقيمة، فإن ايمامورا لم يتوان عن بلورة جانبه الوقح. وما اكثر المرات التي كان اللجوء الى الحلم منفذه الوحيد وطريقه الخاص للهرب الى احضان المتخيل.

اهم ما في ايمامورا انه كان استفزازياً بالفطرة، كأنه ولد قناص. لكن الظروف شاءت ان يوضّب سلاحه كي ترضى به السينما، ولداً حكيماً طيباً يريد الخير لمجتمعه. واليوم، هو القناص الذي نفدت ذخيرته. منذ نعومة اظفاره، لم يكن ايمامورا سهل الاقناع، وخصوصاً انه شبّ في عائلة من الاطباء البورجوازيين، وفي بيئة يابانية كانت حمأة الحرب ماثلة في ذاكرتها، وعذاباتها كانت دوماً حاضرة في الضمير الجماعي. من شدة كرهه للعسكر، دخل الصبي معهداً لتعليم المهن. لم يكن مشاكساً كما نسمع في سير عظماء الفكر والادب والفن، لكنه لم ينجرّ يوماً الى الوطنيات التافهة والشوفينية البلهاء، حتى في اكثر المراحل الحساسة من تاريخ بلاده. الى درجة انه، لدى سماعه خطاباً للامبراطور هيروهيتو، يعلن فيه خسارة اليابان في الحرب العالمية الثانية، لم يخف ابتهاجه: "يا للهول، واخيراً صرنا احراراً".

في معهد الادب في واسيدا، تابع دروساً في الحضارة الغربية، بيد ان اكتساب المعرفة جنباً الى جنب الانتليجنسيا اليابانية لم يخلصه من تمرده، ولم يحرك شغفه كذلك. فلم يملك الا التخلي عن العلم والاستقرار في منطقة شيجوكو (طوكيو)، حيث المخدرات والسوق السوداء والاعمال غير الشرعية، ومأوى المومسات والعصابات، ليمضي قسطاً مهماً من شبابه وسط هذه الاجواء، معبّراً عن تمرده على الطبقة البورجوازية التي انحدر منها. في الواقع، أثّرت النماذج التي التقاها في هذه المرحلة كثيراً في ايمامورا، ولجأ لاحقاً في مساره الى شخوص من وحي احتكاكه بالخارجين على القانون، ليبني شخصيات افلامه، علماً انه لم يخف انبهاره بالكاراكتيرات الممزقة من الداخل والمهمشة من الخارج طوال حياته.

لعب أوزو دوراً محورياً في تأهيله واعداده للمرور وراء الكاميرا، اذ استعان به كمساعد منذ بداية خمسينات القرن الماضي، ولاسيما في فيلمه "سفر الى طوكيو" (1953). الى التقنيات، اكتسب من الاخير الحس النقدي في التبليغ عن البيئة اليابانية. لكن لم يستهوه تسلطه وتقليديته، ولا نظام الاستوديوات، فشقّ طريقاً اخرى. ثم كرّت السبّحة وانطلقت مسيرة ومسار حافلان باللقاءات الشائقة: أول تجربة اخراجية ("رغبة مسلوبة") عام 1958، ثم شركة انتاج عام 1965، فمدرسة للسينما عام 1975. وجاء اعتراف نقدي وتكريس مهرجاني تدريجاً.  

كان ايمامورا لاذعاً في انتقاده لما يراه، ولا يساوم، مصحوباً بعقلية مستقلة. لكنه كان بعيداً عن التجني والتجريح، اذ كان انسانيا بامتياز. ولعل أكثر ما لفته، وايقنته سينماه، تيه المحيط الياباني بين الحداثة من جهة والاعراف والتقاليد الاجتماعية من جهة أخرى، فحوّله الى هاجس ظل يستحوذ على عقله واحساسه حتى الرمق الاخير. وكانت سينماه تتنفس الجنس اينما وجد، وبقيت افلامه تفوح منها رائحة الجسد والرغبة الممنوعة. لم يكن ثمة حدود لتعاطفه مع أولئك الذين لم يبتسم لهم الحظ، اي غير الميسورين مثله. سواء أكان فلاحاً ام صياداً ام بائعاً متجولاً ام عاهرة. لم يذلهم ايمامورا مثلما فعل بعض السينمائيين بحجة اظهار مأساتهم وتراجيديتهم، بل كانت كراماتهم أمانة عنده، ووصمة عار لمن يخونها. ناهيك بكونه مناصرا للنساء من الطراز الرفيع، إذ رفض ان يرى في المرأة اماً وعشيقة، بل مصدر بهجة لكل من يقترب منها، مرتجلاً مقولة اشتهر بها: "المرأة مستقبل الرجل".   

مع رائد آخر، هو ناغيسا اوشيما ("أمبرطورية الحواس")، اسس قواعد سينما يابانية تتنشق هواء الحداثة وتحاول الافلات من قبضة الانماط التي قيّدت الجيل الاسبق من السينمائيين، على غرار ما شهدته السينما الفرنسية في اواخر الخمسينات واطلق عليه تسمية "الموجة الجديدة". بميله الى الانتروبولوجيا، ادرك ايمامورا ان نقد مجتمع مثل المجتمع الياباني، خيار لا بد منه، فالتقط واقعه من زاويا عدة: أولاً، الاستغلال الجنسي وتجارة النساء في "تاريخ اليابان ما بعد الحرب كما ترويه مضيفة حانة" و"النساء اللواتي يذهبن في البعيد"، وثانياً، مخلفات الحرب والقنبلة الذرية في "مطر اسود"، وثالثاً ماهية الموت في "جولة ناراياما"، ورابعاً العودة الى الجذور والابوة في "كانزو سانسي"، وخامساً الجريمة في "لانغي"، واخيرا انشودة للرغبة النسائية في "من الماء الفاتر تحت جسر أحمر"، قبل ان يخفف داء السكري الذي كان مصاباً به منذ اكثر من اربعين عاماً حماسته. ورغم أنف المرض اللعين لم يتوان عن تقديم نظرة خاصة عن حوادث 11 أيلول في الفيلم الجماعي 11/9/01.

تماماً في اللحظة التي كان يُلَفّ فيها السجاد الاحمر وتنتزع ايادي العمال التعبة الملصقات عن الجدران، حلّق الخبر من بلاد الاساطير ليحطّ في هذا المكان الذي كان على موعد مع ايمامورا في لحظة حضوره، وكذلك في لحظة غيابه. الفرق ان الستارة اسدلت الآن لمرة أخيرة على رجل، وليس على فيلم، اعطى السينما، احياناً، اكثر من قدرتها على التلقي.  

النهار اللبنانية في 6 يونيو 2006

 

رحيل المخرج الياباني شوهي إيمامورا

كوليت مرشليان 

رحل المخرج الياباني شوهي إيمامورا مساء أول من أمس بعد صراع طويل مع المرض عن عمر يناهز 79 عاماً وهو المخرج الذي تطلق عليه اليابان لقب "كنز السينما اليابانية" وهو كان يعد واحداً من كبار مخرجي "الموجة الجديدة" في بلاده وأكثرهم تميزاً الى جانب أوشيما وإيشيكاوا وغيرهما من الذين جددوا بجرأة ابتداء من الستينات. حصل إيمامورا على السعفة الذهبية في مهرجان "كان" السينمائي مرتين، وكانت السعفة الذهبية الأولى عام 1983 عن رائعته "رحلة ناراياما" التي عرفت أيضاً بترجمة "ملحمة ناراياما"، والسعفة الذهبية الثانية عن فيلم "ثعبان البحر" وقد نالها عام 1997 مناصفة مع الايراني عباس كيارستامي.

ينتمي شوهي إيمامورا الى عائلة بورجوازية وولد عام 1926 وحين كان مراهقاً عاش صراع بلاده وعبّر عن ذلك في أحد أفلامه في الكلام التالي: حين أعلن الامبراطور سقوطه على الراديو كان عمري 18 سنة وقلت في نفسي: هذا رائع وأخيراً تحررنا". في نهاية الحرب العالمية الثانية ترك دراسته وعاش في شارع شينجوكو المعروف "بالسوق السوداء" في طوكيو وهناك اختبر الحياة الواقعية بقوة.

التحق بالمعهد الفني تهرباً من تأدية الخدمة العسكرية وبعد انتهاء دراسته الفنية الأكاديمية وكان ذلك في معهد "واشيدا"، عمل مساعداً للمخرج الياباني الشهير ياسوجيرو أوزو، ثمشق لنفسه أسلوباً خاصاً لفت أنظار النقاد في العالم ورأوا فيه موهبة فذة فتحت السينما اليابانية على سؤال الحداثة الكبير. ويقول إيمامورا أنه قرر العمل في السينما من أشد ما أعجب بفيلم "الملاك السكران" لأكيرا كوروساوا.

وعام 1951، عمل في الستوديوين الكبيرين شوشيكو ونيكاتسو وعام 1958 حقق أول فيلم طويل وكان عنوانه "الرغبة الهاربة". وكان يعتبر واحداً من المراقبين الجيدين للمجتمع الياباني والموضوعات التي عالجها تطرقت دوماً الى العادات والتقاليد القروية في اليابان وهو انتقد بشدة الحياة السفلية في الشارع التي اختبرها وهو شاب يافع حين قرر رسم الحياة البائسية في الشارع في ذاكرته لترتسم بعد حين في أفلامه. وسلط الضوء بقوة على شرائح معينة في المجتمع الياباني وهي الشرائح المهمشة. ومن أبرز أعماله: "المطر الأسود" (1989)، و"تلك النساء التي ترحل بعيداً"، و"ماء فاتر تحت الجسر الأحمر" (2001)، "رحلة ناراياما" (1983)، "في البحث عن الجنود المفقودين" (1975)، "موهاماتسو يعود الى موطنه" (1973)، "رغبات الآلهة العميقة" (1968)، "تبخر رجل" (1968)، "الرغبة القاتلة" (1964)، "المرأة ـ الحشرة" (1963) وهو الفيلم الذي أدخله بقوة الى فرنسا، وغيرها من الأفلام.

أما فيلمه الشهير "رحلة ناراياما" فهو حكى قصة امرأة يابانية مسنة يفترض أن تكون قد ماتت لكنها في صحة جيدة. والتقاليد القديمة في مطلع القرن التاسع عشر في اليابان كانت تقضي بأن ترحل العجوز كما كل عجائز بلدتها باتجاه "الجبل المقدس" لتريح عائلتها وتترك الفرصة للشباب والصغار، فرصة الغذاء في ظروف الحياة الاقتصادية الصعبة. فتقرر أن ترحل وتأمر ابنها الذي تربطها به علاقة روحية قوية بأن ينقلها الى هناك، فيحملها على كتفيه ويمضي بها نحو المجهول.

"رحلة ناراياما" الى جانب أفلام كثيرة مؤثرة للمخرج إيمامورا تشكل صورة خاصة عن اليابان بعين مواطن حساس وجريء، وظف عبقرية الفذة في سبيل تغيير مجتمعه الى الأفضل والأرقى والسير به الى صورة انسانية عادلة.

المستقبل اللبنانية في 2 يونيو 2006

"وادي الذئاب، العراق" للتركي سيردار آكار من دون مشاهد أبو غريب

الدرس الأخلاقي والإنساني لا يرفع السينما

نديم جرجوره

تستمرّ العروض التجارية المحلية لفيلم <وادي الذئاب، العراق> للمخرج التركي سيردار آكار، للأسبوع الثاني على التوالي، وذلك في صالات <كونكورد> (فردان) و<الزوق> و<أبراج> (فرن الشباك) و<سيتي كومبلاكس> (طرابلس). تمثيل: نيساتي ساسماز وبيلي زان وغسان مسعود وغاري بازي وآخرين.

يُذكر أن الفيلم، الذي ساهم سادولاّ سانتورك في إخراجه، مقتبس من سلسلة تلفزيونية تركية لاقت مواسمها الثلاثة نجاحاً لافتاً للنظر عند عرضها على شاشات التلفزة التركية.

تصعب الكتابة عن فيلم <وادي الذئاب، العراق> لسيردار آكار، من دون التوقّف، مرّة جديدة، عند مقصّ الرقيب اللبناني، الذي بات يعمل على خطّين متوازيين، في وقت واحد: إمعانه في تشويه السياق الدرامي والجمالي لأي صنيع فني (لا أتكلّم هنا عن القيم الجمالية والإبداعية، بالمعنى النقدي، لهذا الصنيع أو ذاك)، وإصداره ردوداً <ضد> كل من يُسلّط ضوءاً، ولو صغيراً، على مسألة الرقابة، يُضمّنها رأياً نقدياً واجتماعياً وسياسياً لتبرير فعلته هذه، باحثاً في أحوال المجتمع اللبناني، ومبدياً خوفه على المواطنين من تأثيرات سلبية تطلقها مواضيع أفلام سينمائية. مرّة جديدة، يطال المقصّ المذكور فيلماً سينمائياً بدأت عروضه التجارية المحلية في الأسبوع الفائت، بعد مروره على مقصّ الرقيب، الذي (أي الرقيب) ارتأى حذف المشاهد كلّها المتعلّقة بأهوال سجن أبو غريب في العراق المحتلّ من قبل الأميركيين وأسياد القتل باسم الدين، معتبراً، كما يبدو، أن عنف المشهد السينمائي أحدّ وأقسى من الصُوَر التي تناقلتها وسائل الإعلام العربية والأجنبية، ومن التقارير المختلفة التي عكست قذارة ما ارتكبه جنود أميركيون في هذا المعتقل.

بات الأمر ملحّاً: يجب العثور على آلية تحرّر الرقابة من سطوة الأمن، وتجعلها في عهدة لجنة مستقلّة. صحيح أن التركيبة السياسية والطائفية التي صنعت لبنان تمنع إلغاء نهائياً للرقابة على الفنون والآداب والحريات العامة والفردية. لكن، في حالة كهذه، بات يُفترض بالمعنيين <إنقاذ> الفنون والآداب والحريات العامة والفردية من رقابة أجهزة الأمن، ومن <القوانين> الغامضة والملتبسة التي لا تزال تتحكّم بعمل الرقابة، وذلك بتشكيل لجنة مستقلّة ما، وبوضع قواعد عصرية ومتطوّرة، لا تلغي الخصوصية اللبنانية، ولا تقضي على الحريات العامة والفردية.

لا تتعلّق المسألة بفيلم <وادي الذئاب>، أو بمشاهد التعذيب في سجن أبو غريب. فسواء شوهدت هذه الصُور المرعبة أم لا، إلاّ إن اقتطاع صنيع فني لأي سبب يبقى مرفوضاً، حتى ولو كان هذا الصنيع سيئاً أو عادياً أو جميلاً أو مهمّاً. ذلك أن مشاهد التعذيب، المحذوفة من الفيلم بأمر من الرقيب اللبناني، ستبقى مشاهد عالقة في وعي ملايين البشر، ومن بينهم لبنانيون ممنوعون من مشاهدتها في فيلم سينمائي، وفي الذاكرة الجماعية، وفي كتب التاريخ، وفي مسام الجغرافيا، تماماً كمشاهد التعذيب والقتل والاغتيالات والخراب والجرائم المختلفة، التي ارتكبها قتلة محترفون على مرّ السنين، والتي لا تزال قابعة في الذاكرة البشرية جمعاء. على الرغم من هذا، فإن المسألة الأساسية هنا تكمن في الرفض المطلق لأعمال المقصّ الرقابي اللبناني.

على الرغم من هذا، فإن <وادي الذئاب> يبقى فيلماً عادياً، حاول صانعوه أن يرووا فيه مجموعة من الحكايات المترابطة فيما بينها، شهدها العراق الممزّق (ولا يزال يشهدها يومياً) بين احتلالات عدّة، أبطالها (أي الاحتلالات) أميركيون وجاهليون ومرضى بالقتل والدم والعنف. وإذا بدأ بانتحار ضابط تركي، بعد أن أنهى كتابة رسالة إلى أخيه يُخبره فيها عن جريمة حصلت في السليمانية من قبل أميركيين ضد أتراك، فإن السياق الدرامي قدّم صُوَراً مختلفة عن الأزمات التي يعانيها الأتراك والعراقيون، عرباً وأكراداً. وإذا بدا الفيلم مهموماً بحسّ إنساني ما، وإن صعب على صانعيه تقديمه بشكل جمالي، فإن السرد الحكائي مشحون بلغة خطابية ودروس أخلاقية نطق بها الممثل العربي غسان مسعود، الذي أدّى دور شيخ جليل من سلالة النبي، فرض حضوراً في المجتمع العراقي، واكتسب حظوة لدى الجميع من دون استثناء. ففي أكثر من مشهد، وقف مسعود خطيباً ينطق بالحقّ والعدالة، ويرفض القتل، ويسوّق للتسامح والمصالحة والغفران، ويدعو إلى نبذ العنف. وهذا كلّه بلغة لا تمتّ إلى السينما بصلة، مع أنها تترجم رغبة صانعي الفيلم في إبراز الوجه الحسن للإسلام، في مقابل الفلتان الأخلاقي وتنامي ظاهرة الذبح باسم الدين الإسلامي، اللذين صوّرهما الفيلم أيضاً.

في تجربته السينمائية <العالمية> الثانية، بعد <مملكة الجنة> لريدلي سكوت، بدا الممثل السوري غسان مسعود في شخصية الشيخ عبد الرحمن حاليس كركوكي، أقلّ هيبة وسطوة من حضوره الجميل في شخصية صلاح الدين الأيوبي. ولعلّ ملامح وجهه أغرت المنتجين والمخرجين على التعاون معه، إذ إن الفيلمين هذين قدّماه في شخصيتين تتشابهان في الأخلاق الحسنة والمقام الرفيع وقوة المكانة الإنسانية والاجتماعية والدينية وسطوة تأثيرها. لكنه، في <وادي الذئاب>، أسرف قليلاً في تصنّع الحالة الإنسانية المتسامحة، من دون أن يفقد سويته الأدائية في منح الشخصية الدرامية أبعادها الجمالية والفنية المطلوبة، وإن بشكل عادي وبسيط، على نقيض براعته في اقتناص بعض الملامح التاريخية لصلاح الدين الأيوبي.

في عالم غارق بالدم والخراب والفوضى، صوّر سيردار آكار بعضاً من معالم الموت والخيبات والتمزّق، في متتاليات مشهدية استُلّت من <يوميات العنف العادي>، التي باتت مفكرة يومية جديدة للعراقيين، اكتسبوها منذ ثلاثة أعوام على الأقلّ. وعلى الرغم من أهمية الموضوع الإنساني، فإن <وادي الذئاب> بدا عادياً للغاية في لغته السينمائية ومفرداته التقنية. فالممثلون الذين أدّوا أدوار جنود أميركيين، مثلاً، لا يشبهون زملائهم الذين يظهرون في أفلام أخرى، لأنهم يحتاجون هنا إلى تدريبات عسكرية خاصّة بكيفية اقتحام المنازل وتبادل إطلاق النار والاحتياطات الواجبة. ثم إن لغتهم الإنكليزية بدت مفكّكة، كأنهم ليسوا أميركيين. في حين أن الاختلاط العرقي واللغوي (الفيلم ناطق بالعربية والإنكليزية والكردية والتركية) في قلب الصراعات (السياسية والثقافية والأمنية)، بدا تجسيداً باهتاً لقوة التمزّق العراقي والتقاسم القبائلي الخطر، الذي ازداد تمزّقاً بالممارسات الشنيعة لأميركيين لا يتردّدون لحظة عن ارتكاب أي فعل دنيء <من أجل حفنة من الدولارات> (مسؤول أميركي رفيع يتاجر بالعراقيين العرب والأكراد وبالأتراك أيضاً، وطبيب أميركي أيضاً يبيع أعضاء بشرية).

في مقابل الحسّ الإنساني الذي أراده صانعو الفيلم محور عملهم هذا، احتاج <وادي الذئاب، العراق> لسيردار آكار إلى مقوّمات فنية وجمالية ودرامية عدّة، لانتشاله من تبسيطه الدرامي وارتباكه الفني والأداء العادي لغالبية ممثليه.

السفير اللبنانية في 8 يونيو 2006

 

اشكال .. رؤى برهان علوية

نديم جرجورة  

يتغنّى كثيرون بمقولة باتت جزءاً أساسياً من الخطاب التأريخي: عاشت السينما اللبنانية طوال عمرها بفضل المبادرات الفردية. يُمكن القول إن هذا الأمر صحيح للغاية، وبنسبة عالية جداً. ذلك أن السينمائيين اللبنانيين لا يزالون يعملون، كأفراد، في <صنع> أفلامهم، متعاونين، بطبيعة الحال، مع شركات أو مؤسّسات إنتاجية غربية.

لهذا، لم يكن مفاجئاً أن يبادر <نادي لكل الناس>، بإمكانياته المادية المتواضعة وطموحاته الكبيرة لأعضائه العاملين بجدّ في تنظيم نشاطات ثقافية وفنية متنوّعة، إلى <إنتاج> خمسة أشرطة <دي في دي> خاصّة بخمسة أفلام للمخرج اللبناني برهان علوية (كفرقاسم، بيروت اللقاء، لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء، إليك أينما تكون، رسالة من زمن المنفى). إنها مبادرة فردية تستحق التهنئة والتشجيع. إنها خطوة ثقافية جدّية ومهمّة يُفترض بمؤسّسات ثقافية ما أن تقوم بها.

الخطوة جديرة بالاهتمام والدعم. ذلك أن السينمائي المختار مثقف لبناني عربي أغنى المشهد السينمائي بأفلام متنوّعة، سلّط بعضها ضوءاً على خصوصية بيروت في تحوّلاتها المجتمعية والإنسانية والثقافية، وتناول بعضها الآخر هواجس عربية مستقاة من التاريخ والجغرافيا معاً. وإذا كان النادي، منذ تأسيسه قبل أعوام قليلة، <يناضل> بجدّية وثبات وجهود <فردية>، كي يؤسّس حيّزاً شبابياً منفتحاً وعصرياً، فإن برهان علوية لم يتوقّف يوماً عن ممارسة حقّه الإنساني في مواجهة آلة القتل والشرّ والفساد التي مارست أبشع أنواع التعذيب الدموي على المدينة اللبنانية وناسها، وعلى المجتمع العربي وأبنائه، وعلى قضايا إنسانية مختلفة. وكما أراد النادي أن يصنع من النشاط الثقافي محطّة متواضعة للغاية وسط الشلل الثقافية المنتشرة هنا وهناك، التي تكاد تتحوّل إلى مؤسّسات ثقافية سلطوية و<فاعلة> (وإن إلى حدّ ما)، هكذا أراد برهان علوية أن يستعيد، مع هذا النادي، جزءاً من تاريخه الشخصي، الذي بات تاريخاً إنسانياً لبنانياً وعربياً، من خلال أفلام كشفت بؤس الفرد وتمزّق الجماعة.

يُمكن القول إن سبب اختيار هذه الأفلام الخمسة نابعٌ من رغبة في إلقاء نظرة على جوانب فكرية وإنسانية انشغل بها المخرج، أو في تقديم نماذج متنوّعة عن آليات العمل السينمائي الخاصّة به. لكن الخطوة نفسها تثير الاهتمام، وتعيد طرح أسئلة لا تزال مُعلّقة: أين هي الأفلام اللبنانية، خصوصاً تلك التي أنتجت قديماً، أو على الأقلّ تلك التي حقّقها سينمائيو السبعينيات المنصرمة، الذين كافحوا من أجل سينما لبنانية مغايرة للاستهلاكي السائد آنذاك؟ هل هناك نسخ (سينمائية أو غير سينمائية) منها؟ ألا يُفترض بالجميع أن يعملوا معاً (أو بمبادرات فردية، كما تفعل <مؤسسة سينما لبنان> أيضاً) لحماية هذا النتاج المتنوّع كلّه من الاندثار النهائي؟ هل ستنتظر السينما اللبنانية <مبادرات> فردية كهذه، كي تحصّن ذاتها من الموت؟

السفير اللبنانية في 8 يونيو 2006

 

ريتشارد دونر صاحب "سوبرمان" و"نذير شؤم" و"سلاح قاتل"

المخرج الذي هوى 

دخل المخرج ريتشارد دونر في عقده الثامن من دون اية بوادر تقاعد. بل ان العام 2006 يعيد لأحد مخرجي هوليوود البارزين في السبعينات والثمانينات بعضاً من مجده الزائل عند مجموعة من الأفلام أنجزها منذ منتصف التسعينات ولم تلاقِ النجاح. يعترف المخرج بتلك "السقطات" السينمائية واولها "القتلة" The Assassins (تبعه "نظرية المؤامرة" و"سلاح قاتل 4" و"الخط الزمني") من دون ان يخفي مرارته تجاه هوليوود التي "على الرغم من كل ما قدمته لها ولمنتجيها ولاستديواتها نبذتني عند اول فيلم صغير غير ناجح." يبدو ان ذلك الزمن قد ولى الى غير رجعة. فقبل أشهر، عاد دونر الى الساحة السينمائية بفيلم حركة وتشويق هو الافضل بين اعماله منذ سنوات طويلة. انه 16 Blocks مع بروس ويليس. وبمحاذاة ذلك، يتزامن حدثان سينمائيان ليقدما تحية الى اثنين من اشهر افلامه: Superman وThe Omen. كلا الفيلمين المذكورين خضعا لاعادة انتاج على أيدي براين سينغر وجون مور تباعاً. وفي حين بدأت عروض The Omen قبل ثلاثة ايام، من المنتظر ان يعرض "سوبرمان" اواخر حزيران الجاري. من المثير معرفة ان مسيرة دونر الفنية بدأت في التلفزيون، اولاً كممثل ومن ثم كمخرج، حيث عمل لمدة عشرين سنة قبل انتقاله الى السينما اوائل الستينات. ولكن الشهرة لم تأته على طبق من فضة، بل استغرقته نحو اربع محاولات قبل ان يحقق ضربته في the Omen عام 1976. توالت بعدها نجاحاته مع Superman وThe Goonies وسلسلة Lethal Weapon وMaverick متقلباً بين الحركة والتشويق والكوميدا والرعب وسينما الأطفال. مع فيلمه الأخير، 16 Blocks، عاد دونر الى نيويورك مسقط رأسه محاولاً ان يستعيد ذكريات طفولته كما يروي في حوار مع أ ولي ريتشاردز من مجلة "إمباير" (العدد الاخير لشهر حزيران). "عندما تكون صغيراً تشعر ان الجميع أكبر منك وانك مضغوط. هذا ما حاولت تصويره في الفيلم، ذلك الاحساس بضيق المكان." واجه الفيلم مشكلات كثيرة في مرحلة التمويل "في البداي، لم يرد أحد ان يوظفني. ارادوا المشروع ولكنهم رفضوني الى ان وافقت ميللينيوم فيلمز على انتاجه بشرط الحصول على نجم. فكان بروس ويليس المغامر في اختيار ادواره. وكان السؤال: هل سيرضى بالتخلي عن صورة الماتشو والظهور في شخصية سكير ويائس.؟ كان جوابه نعم." وبمقارنة شخصيتي بروس في الفيلم ومل غيبسن في Lethal Weapon، ينتبه المخرج الى الشبه الكبير بينهما خلا ان غيبسن "استطاع ان يحول غضبه الى اشياء كثيرة في حين ان بروس لا ينال سوى اليأس".

عندما يستعيد دونر Lethal Weapon، يتذكر متعة العمل مع غيبسن وداني غلوفر ورغبة الاستديو في انجاز اجزاء تابعة معترفاً بتوجه الاجزاء الثلاثة التي تبعت الاول الى الترفيه أكثر من الاول: "قررنا ان تكون الاجزاء اللاحقة أكثر ترفيهاً ولكن تحت ذلك الغطاء قلنا الكثير عن تجارة السلاح والتمييز العنصري.. لقد كانت الاجزاء اللاحقة تحولاً لشخصية غيبسن السوداء الى الضوء واستثمار للجانب الفكاهي عند الممثلين كما أدخلنا جو بيشي في الجزء الثاني." كانت السلسلة بداية علاقة شخصية بين دونر وغيبسن تُرجمت في فيلمين آخرين (Maverick وConspiracy Theory) ومشاريع لم تبصر النور.

عن بداية التراجع الجماهيري الذي تكرس مع Assassins، يقول دونر: "أعتقد ان سيلفستر ستالون قام في هذا الفيلم بواحدة من افضل ادواره وكذلك انتونيو بانديراس. لم يحقق الفيلم النجاح. بالطبع هذا مؤلم. أتعلم لماذا أتمنى لو انه حقق نجاحاً أفضل؟ لأن المال الذي يعيده الى الاستديو المنتج يتيح صنع أفلام الآخرين. بسبب نجاح The Omen استطاعت فوكس ان تصنع حرب النجوم." الجدير ذكره ان سيناريو الفيلم وقعه الأخوان واتشوفسكي صعود نجميهما مع The Matrix.

تجربة The Superman كانت الأغرب والأكثر جرأة في مسيرة ريتشارد دونر. "تلقيت اتصالاً بعد ظهر يوم أحد من الكسندر سالكيند الذي قال انه منتج اميركي كبير يطلب مني ان أخرج له Superman مقابل مليون دولار. ظننته مجنوناً. لم أكن أعرف وقتها حجم الجهد الذي سأبذله ولا ان الفيلم سيكون فيلمين." يتذكر السيناريو الاولي الذي كان مكتوباً بشكل سيئ وحماسته للمشروع في وصفه إرثاً ثقافياً أميركياً تربى عليه ومشكلاته مع المنتجين الذين "لم يكونوا صناع افلام وانما صناع أموال" والذين أقصاهم عن التصوير مما أدى الى طرده في منتصف تصوير الجزء الثاني. ولكن برغم ذلك، ثمة جزء لاحق سيخرج قريباً هو "سوبرمان يعود" بتوقيع سينغر الذي يراه دونر "أفضل ما حدث لسوبرمان خلال الـ25 سنة الفائتة" في اشارة الى انه من هواة الشخصية وحافظي جملها الحوارية في الافلام. بالتزامن مع ذلك، تعتزم وورنر بروذرز اصدار "سوبرمان: نسخة ريتشارد دونر" على "دي.في.دي" التي ستتضمن مشهدين صورهما لتجربة الأداء فقط للجزء الثاني. لا يبدي دونر اية رغبة في اعادة تقديم "سوبرمان": "لقد صنعته منذ زمن. انه زمن براين سينغر الآن."

اما The Omen فقصته أكثر اثارة لأنه اول افلام دونر التي اشتهرت. يستعيد المخرج كيف وصله سيناريو في عنوان The Antichrist بتوقيع دايفيد سيلتزر يحتوي على الكثير من الاشارات الدينية المباشرة والالهة الشيطانية مما أخاف المنتجين فلم يقبل به أحد. ولكن دونر رأى فيه جانباً آخر فاشتغل مع المنتج آلان لاد من فوكس على فكرة "المصادفات" التي يشير حدوثها الى نذير شؤم ما بما يجعل النص أكثر واقعية وتالياً أكثر قدرة على اثارة الرعب. وهكذا حدث بالفعل وانتج الفيلم بنيف ومليوني دولار وبمبلغ اضافي بلغ 25 الف دولار للمؤلف الموسيقي جيري غولدسميث.

المستقبل اللبنانية في 9 يونيو 2006

 

سينماتك

 

ساموراي السينما اليابانية المدافع عن حقوق الانسان...

ايمامورا الراحل مع سعفتين من «كان» فنان الدهشة والشاعرية والغموض الخصب

محمد عبيدو

 

 

 

 

سينماتك

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك