مرزاق علواش . وهو من أشهر المخرجين السينمائيين الجزائريين، في بلدان المغرب العربي وفي العالم , كان أول من جرؤ ، في فيلمه الرائع (عمر قتلته الرجولة). عن الحديث عن الواقع اليومي الجزائري: الحياة الصعبة، البطالة، أزمة السكن، العلاقة بين الجنسين، قصة الفيلم عن شاب جزائري يعيش وسط عائلته التي تسكن منزلاً ضيقاً مزدحماً بأخوته أو الشارع الذي يسكن فيه، وعالمه الخاص المحصور بينهما، يفتقد عمر إلى شريط ويعاني الوحدة، يحاول أن يقيم علاقة مع فتاة سمع صوتها ذات مرة مليء بالشجن، ولكنه لا يدري كيف يتم التواصل معها. يعمل موظفاً في مكتب صغير، يقضي أوقاته في الشوارع لاهياً، يراقب النساء، أو في مشاهدة الأفلام، تعترضه عصابة وتسرق نقوده، وتترك جرحاً في وجهه، يلجأ إلى صديق مهرب لشراء مسجل يعثر على شريط كاسيت بصوت فتاة، يرتبط بها بعد معاناة، إنها ضائعة مثله، لكنه لا يستطيع التواصل معها، ويعود إلى سابق عهده.

فيلم مرزاق علواش غاص في العمق تتنبأ بأيام قادمة يعيشها هؤلاء الشباب الموضوعين على الهامش في الجزائر.

وتابع مرزاق علواش مسيرته، في أفلام لافتة تصور مختلف مراحل تطور الذهنية الاجتماعية الجزائرية.

فيقدم (مغامرات بطل) 1978 وأحداثه: في إحدى القبائل الصحراوية، ينتظرون البطل الذي سيدافع عن الفقراء، ويحقق العدالة ينتظر أحد العجائز الموقف، فيقوم بوضع علامة البطل على ابنه، كي يضمن له المستقبل السعيد، تفرح القبيلة، بمولد المخلص، ويقدمون له القرابين، تمر السنون، ويكبر الطفل، وعليه أن يصبح بالفعل بطلاً عندما يصير شاباً، يتلقى تعليمه، ويحاط بهالة من القدسية، رغم أنه ليس أكثر من بطل مزيف، يجوب البلاد ليتعرض لمجموعة مغامرات مصاغة بخيال جامح ومفعمة بروح السخرية. وعبر هذه المغامرات والمشاهد الفانتازية. يطرح المخرج تأملاته في قضايا العصر ومشاكل المجتمع الجزائري.

ثم يقدم علواش فيلمه (رجل ونوافذ) عام 1982 ويدور حول رجل ينقل من عمله الأصلي , كأمين في المكتبة الوطنية الى ناظر في مكتبة دار السينما الجزائرية , هو انسان مثالي في عمله , ولكن هذا يولد الغيرة في قلوب الآخرين منه , يسعى الى العودة الوظيفية القديمة , ويتقدم بشكوى الى مكتب الوزير , يتم تجاهل سكوته , وبعد العديد من المحاولات يعود الى وظيفته في المكتبة الوطنية . ليهاجر علواش بعد الفيلم إلى باريس ويعمل هناك فيقدم (حب في باريس) 1987، و (باب الواد الحوم) 1994، و (الجزائر بيروت للذاكرة) 1998، و (سلاما ابن العم) 1996 الذي يتعرض لوضع الجزائريين في الجزائر وفرنسا.

و بعد ذلك اخرج مرزاق علواش }باب الواد سيتي) 1994 الذي تطرق فيه الى موضوع الارهاب والسنوات السوداء التي عصفت في الجزائر . ثم يقدم (سلاما يا ابن العم) 1996: وهو فيلم يقترب بقصته من الحكايا الشعبية لعلواش الذي يصرح دائماً برغبته ( في متابعة عرض شهادته من الجزائر ) يروي الفيلم الصعوبات التي تعترض شاباً جزائرياً وابن عمه في العاصمة الفرنسية واللذين يعيشان من بعض الأعمال الصغيرة المشتركة . والفيلم مبني على التناقضات القائمة بين هاتين الشخصيتين عالميهما . يصل عليلو من الجزائر العاصمة إلى باريس ليعمل بتجارة مشبوهة ، يستقبله موك ، ابن عمه الذي ولد وعاش في باريس طوال عمره ، يضيع عليلو عنوان مراسله في باريس ، فيبدأ بسياق لاهث يدوم خمسة أيام بحثاً عن الحقيقة التي سيأخذها معه إلى الجزائر . خلال هذه (( الإقامة الفرنسية القسرية )) يصوّر لنا الفيلم الضغوط في المجتمع الجزائري من خلال الانبهار الدائم الذي يبديه عليلو ، وقسوة الحياة الباريسية من خلال الأعمال التي يضطر موك للقيام بها ، ويبقى عليلو الجزائري في باريس لأنه يلتقي فتاة يحبها ، ولا يعلم أن ابن عمه قد أبعد عن فرنسا وتمت إعادته إلى الجزائر لتورطه في عملية مشبوهة .

ووجها لوجه مع الإرهاب وأسئلته ينبني فيلم مرزاق علواش "العالم الآخر" المنتج بين الجزائر وفرنسا سنة 2001 على قصة ياسمينة المستوحاة عن يوميات فتاة من بولندا هاربة من المحرقة النازية؛ الموضوع مأساوي وعلى درجة عالية من الحساسية تنطلق ياسمينة الجزائرية المولودة والمقيمة بفرنسا في رحلة للبحث عن خطيبها رشيد الذي يقرر إثر نزوة طارئة، الالتحاق بصفوف الجيش رشيد ينخرط في الجيش الجزائري في التسعينيات من القرن الماضي، وهو ما يعني انخراطه لا محالة أيضا، في حملة مكافحة الإرهاب.. وفي إحدى المهام يسقط في كمين للإرهابيين لتنقطع أخباره عن ياسمينة، في خضم رحلة بحث ياسمينة عن خطيبها تنخرط هي أيضا في دهاليز متاهية تقودها إلى اكتشاف الكثير من الحقائق والآفات الاجتماعية والسياسية للجزائر وتعريتها من منظورين اثنين، منظورها هي كملاحظة من خارج ساحة الحرب وأطرافها المعنية بها، وهو الموقف الذي يعبر عن نفسه بواسطة أسئلة القلق الكثيرة والعارية عن أسباب هذه الحرب، عمن تكون أطرافها الحقيقية، والغاية من ورائها؟ ومنظور الواقع المر والعبثي أحيانا؛ الواقع الذي يدفع للحرب ونقيض الحرب في آن معا.. ما هي أسباب المد الأصولي في الجزائر؟ وما هي العوامل التي تقف وراء المسار الذي أخذته الأحداث.؟ وقبل ذلك وبعده: أين يكمن المشكل يا ترى في كل هذا الغموض المعتم، وكل هذا الوضوح الجلي؟! إنه السؤال الذي حرص المخرج مرزاق علواش ورغب في أن يظل مطروحا بالصوت والصورة لإثارة التفكير بجدية في الظاهرة قبل الإقدام على الخطوة الموالية، أي خطوة كانت، وفي أي اتجاه، مع بصيص من الأمل يتجسد من خلال اللقاء الحار وحميم بين ياسمينة ورشيد في نهاية الفيلم
ويتناول فيلم «شوشو» للمخرج مرزاق علواش المنتج عام 2003 موضوعاً حساساً وجريئاً في آن يرتبط كما هو الشأن بالنسبة لأعمال اخرى أنجزها في السنوات الماضية بالعلاقة بين ضفتي المتوسط، وجاء في مزيج من الكوميديا والدراما الاجتماعية. ولعب دور البطولة فيه الممثل الفرنسي ذو الأصل المغربي « جاد المالح» الذي يجسد دور شاب مخنث يحلم بالحياة في الغرب.‏

وتنطلق الأحداث بوصول «شوشو» القادم من احدى دول المغرب العربي الى باريس متنكراً في زي تقليدي من أمريكا اللاتينية، فيلجأ أولاً الى كنيسة لاستعطاف الراهب والجمعيات الخيرية كلاجىء هرب من بطش ديكتاتور تشيلي الجنرال بينوشي. ورغم الطابع الكاريكاتوري للشخصية المنتحلة فإن «شوشو» يحظى بعطف ومحبة كبيرين من الأب «ليون» الراهب الذي يجسد دوره الممثل الفرنسي «كلود براسور» فيأويه في الكنيسة ويجد له عملاً لدى طبيبة /محللة نفسانية/، وبعد أن استلطف تلك الطبيبة يبوح لها بسره فتسمح له بأن يتحول الى امرأة أثناء عمله بعيادتها. وتشاء الصدف أن يلتقي «شوشو» بصديق مغاربي في حي «كليشي» الشهير بقلب باريس، وهو مخنث أيضاً ويرافقه الى ملهى «ببلي» حيث يشتغل قريبه «حميد» الذي تحول إلى «فاليسا» كمغنٍ دائم. وتمكن «شوشو» بعد هذه السهرة من الحصول على منصب عمل كنادلة في الملهى ويقع في حبها «سنتليسلاس» الذي يؤدي دوره الممثل والمخرج الفرنسي «آلان شابا».‏

لكن أيام السعادة هذه لم تدم طويلاً وما لبثت أن صارت جحيماً بعدما اكتشف مفتش الشرطة «جريجوري» أمره وعلم أن النادلة رجل من المغرب العربي يقيم بفرنسا بطريقة غير شرعية.‏

لقد كان الفيلم قصة انسانية مثيرة قريبة من الجمهور. ونجح الثنائي علواش وجاد المالح اللذان يشتركان في كتابة السيناريو في تقديم عمل كوميدي راق بعيد عن التهريج كما مررا رسائل لها علاقة بالواقع في المغرب العربي عموماً وفي الجزائر على وجه الخصوص خاصة ما تعلق باللهث وراء الهجرة من جهة وصعوبة الاندماج في المجتمع الفرنسي وهي المفارقة التي حيرت المحللين منذ مدة طويلة.‏

وحين سئل مرزاق علواش عن سرّ نجاح الفيلم لم يعطِ الموضوع أهمية كبيرة بل أثنى على الممثلين الكبار الذين شاركوا فيه ومنهم كلود براسور وآلان شابا والمغربي رشدي زام بالإضافة الى الحضور المتميز للممثل جاد المالح الذي سبق وأن تعامل مع علواش في فيلم «سلاما يا ابن العم».‏

.. لقد استقطب الفيلم خلال عرضه بفرنسا جمهوراً أوروبياً كبيراً ربما لجرأته في تناول موضوع يطرح للمرة الأولى بهذه الصيغة ولأنه أتى بجديد واضح ووظف جملة من العوامل النفسية والاجتماعية توظيفاً ذكياً، لكنه جلب أيضاً اهتمام الجالية المقيمة بفرنسا المنحدرة من أصول المغرب العربي لمقاربته لإشكاليات تعيشها شرائح عديدة منها.‏

وقد رأى النقاد أن فيلم «شوشو» الموجه بالدرجة الأولى للمشاهد الفرنسي والذي يحقق نجاحاً واضحا من الوجهة التجارية يشكل منعطفاً كبيراً في حياة مرزاق علواش السينمائية، ويؤكد أن صاحب «باب الواد سيتي» و«الجزائر بيروت» وغيرها من العناوين الكبيرة غير وجهته المتلزمة الى أعمال تجارية ولم يعد ذلك المخرج المهموم بقضايا الوطن الأم الجزائر.•‏

الا أن مرزاق علواش يعود للجزائر بفيلم "باب الويب"، حيث يتلاعب في عنوانه بالكلام، نعلم ان حي "باب الواد"، أحد أشهر الأحياء في العاصمة الجزائرية، وكلمة "الويب" تشير إلى شبكة الإنترنت.. ويروي الفيلم قصة شقيقين، مولودين في فرنسا من أصل جزائري، ويقرر الأهل مغادرة فرنسا والعودة إلى الجزائر، مما يفرض بداية تأسيس حياة جديدة. ويبدأ الشقيقان في البحث عن عمل لكسب العيش وتضطرهما الظروف لقبول أعمال بسيطة كبيع الدخان في الشوارع، مثلا، وطريقة التسلية الوحيدة للتواصل مع العالم هي عن طريق الإنترنت، ويتعرف عن طريق "غرف الدردشة" على فتاة فرنسية تقرر زيارته في الجزائر.

قام علواش عبر عمله السينمائي على إنجاز أفلام ذات قيمة جمالية واجتماعية تعكس التحولات الجديدة في المجتمع الجزائري كما تعكس الطبيعة الأسئلة الجديدة المطروحة في المجتمع وعلى صعيد الموضوع والتقنية والجمالية في هذا الحقل المتفتح على التغيرات السريعة التي يشهدها العالم

جماعة السينما الفلسطينية في 16 مايو 2006

 

ألف وجه لألف عام

«بسايكو» لهتشكوك: اللعب مع الجمهور وأعصابه

إبراهيم العريس 

«لقد كان بناء هذا الفيلم أمراً بالغ الأهمية بالنسبة إلي، حيث انني في «بسايكو» عملت على ما يمكن أن أسميه إدارة المتفرجين – على وزن إدارة الممثلين – بحيث كنت كمن يعزف على آلة الأرغن غير مبال بالآلة نفسها، بقدر مبالاتي بوقع الأنغام على مستمعين أردت أن أحركهم وأحرك مشاعرهم كما أشاء». هذا ما قاله ألفريد هتشكوك ذات يوم عن فيلمه «بسايكو» الذي حققه العام 1960 بالأبيض والأسود، ولا يزال يعتبر حتى اليوم أكثر أفلام الجرائم إثارة للرعب في تاريخ السينما. والحقيقة ان ما يقوله هتشكوك بصدد هذا الفيلم سيبدو كلاماً نظرياً، لمن لم يشاهد «بسايكو» أو من لم يختبر المشاعر العنيفة والمتوترة التي يثيرها هذا الفيلم. انه، في المقام الأول، فيلم جريمة. لكنه سرعان ما يبدو شيئاً أعمق من ذلك بكثير: انه لعبة يلعبها هتشكوك مع جمهوره، وليس مع ممثليه. الممثلون هنا، على رغم روعة أداء كل منهم لدوره تحت إدارة فنان ماكر وحاذق، يبدون وكأنهم ليسوا أكثر من بيادق شطرنج يلعبه الفنان مع المتفرجين المفترضين لفيلمه. ومن هنا ما يقوله، عادة، كل واحد، من المشاهدين المدمنين لهذا الفيلم، من الذين يصرخون بأنهم شاهدوه مرات عدة... وفي كل مرة كانوا ينظرون اليه نظرة مختلفة، على رغم ان الأحداث ليست كثيرة فيه. بل على رغم ان المتفرج يمكن ان يتصور ما يحدث في الفيلم في شكل حتمي، حتى حين يراه للمرة الأولى.

# في «بسايكو» ليس ثمة مفاجآت حقيقية، أو خبطات مسرحية كثيرة. ولعل المشهد الوحيد الذي يحمل مثل تلك الخبطة هو ذاك الذي «يكتشف» فيه الجمهور مع واحد من شخصيات الفيلم ان أم باتس، المجرم في الفيلم لا وجود لها في الحقيقة. بل هي مجرد دمية أجلسها باتس على كرسي وأقام حواراً معها، هو في الحقيقة طرفاه. فهل علينا أن نقول ان هذا المشهد يكاد يكون، أضعف مشاهد الفيلم، وأقلها إثارة للرعب؟ في «بسايكو» يعرف هتشكوك انه يلعب لعبته الأساسية مع الجمهور، وتحديداً: بالتواطؤ مع هذا الجمهور. انه يدعوه منذ البداية الى ان يلعب معه لعبة المتلصص. وذلك حين يدخله، عبر الكاميرا، ومنذ اللقطات الأولى، الى الغرفة حيث ماريون، بطلة الفيلم، وعشيقها. والمشكلة، هنا، بالنسبة الى المتفرج وهنا تصل لعبة هتشكوك بأعصاب هذا الأخير الى ذروة لن تبدو هنا ذروة حقيقية: ان ماريون، منذ بداية الفيلم، ترتدي ثيابها، لا تخلعها ما يعني ان المتفرج وصل متأخراً... ويضع هذا المتفرج في ذروة استلابه، ممكناً هتشكوك من السيطرة عليه تماماً. بعد هذا – انطلاقاً من تلك اللحظة – يصبح كل شيء بالنسبة الى هتشكوك ممكناً. فالمهم بالنسبة إليه هو تلك السيطرة على المتفرج وتحميله ما يشاء هو، من مشاعر. ولسوف يتجلى هذا بسرعة في المشهد التالي حين يقدم رجل تكساسي غني عرضاً سخياً مبتذلاً الى ماريون فترفضه، وتقرر على الفور سرقة أموال الرجل. ان الباحث نويل سميسولو يصور لنا بدقة هنا (في كتابه عن «هتشكوك») كيف ان المتفرج سرعان ما يشعر بالاستياء من طريقة الثري التكساسي في تقديم عرضه – مسقطاً على نفسه تصرف التكساسي الأرعن شاعراً بالخجل ازاء ذلك الإسقاط – ما يجعل المتفرج متعاطفاً مع ماريون في فعلتها التي لا تعود هنا سرقة بل ثأراً شخصياً. ومن هنا سيظل الجمهور يتعاطف مع ماريون، حتى وإن كان يعرف انها لن تستمر حاضرة على الشاشة طويلاً. ففي فيلم «بسايكو» ينتهي وجود البطلة بعد ثلث ساعة من بداية الفيلم، إذ يقتلها باتس – وسنعتقد للوهلة الأولى ان القاتل أم باتس – ويصبح مجرى الفيلم تحقيقاً حول القتل – الذي سيكون بالنسبة الى الآخرين مجرد اختفاء غامض للصّة، أول الأمر – ثم تحقيقاً حول شخصية باتس وشخصية «أمه» والعلاقة بينهما.

# ولكن من هو باتس؟ من هي ماريون؟ من هي أم باتس؟ كلها أمور يوضح الفيلم بعضها منذ البداية، تاركاً البعض الآخر ليتوضح في النهاية، لأن هذا التوضيح هو عصب الفيلم. فهنا في هذا الفيلم البوليسي التشويقي، لا يصبح السؤال: ماذا حدث وماذا سيحدث؟ بل كيف حدث هذا وما هي الدوافع، حتى وإن كنا نعرف الشكل الذي ستنتهي الأمور عليه. وألفريد هتشكوك أوضح هذا كله في حواره الطويل مع زميله الفرنسي فرانسوا تروفو (وهو حوار احتواه كتاب ضخم صدر في الفرنسية أولاً ثم نقل الى الانكليزية وغيرها، هو عبارة عن حوارات أجراها تروفو مع هتشكوك حول القسم الأعظم في أفلامه، ويعتبر أشهر كتاب حوارات في تاريخ الفن السابع). يقول هتشكوك: «أنا لم أهتم في هذا الفيلم، كثيراً لا بالموضوع ولا بالشخصيات. ان ما اهتممت به أكثر من أي شيء آخر إنما كان تجميع عناصر الفيلم: التصوير، شريط الصوت، كل ما هو تقني. لأنني كنت أعرف مسبقاً ان ذلك التجميع التوليفي بين هذه العناصر هو وحده الذي كان قادراً على دفع الجمهور الى الصراخ. وأنا اعتقدت وأعتقد دائماً ان من دواعي سرورنا نحن أهل الفن السابع، أن نكون قادرين، عبر استخدام أمثل لهذا الفن بأن نوجد إثارة لدى الجمهور. ويقيناً اننا حققنا هذا في فيلم «بسايكو». فهنا في هذا الفيلم ليس ثمة رسالة أريد إيصالها، ولا حتى رسالة أخلاقية تشجب الجريمة. بل وليس ثمة تفسير يهز الجمهور هزاً. أعتقد ان ما هز الجمهور حقاً في هذا الفيلم إنما هو كونه فيلماً سينمائياً خالصاً ومتكاملاً».

# بعد هذا، هل ترانا حقاً في حاجة الى ان نروي ما يحدث في هذا الفيلم؟ سنفعل، باختصار: ماريون تسرق مال الثري الآتي من تكساس، وتهرب في سيارتها، حتى تعثر على نزل معزول تصل اليه ليلاً لتبيت ليلتها فيه (على رغم انه صوّر بالأسود والأبيض فإن منظر المنزل الشبحي ليلاً يبدو وكأنه مستقى مباشرة من لوحة لإدوارد هوبر، وهو أمر أكد عليه معرض أقيم في مركز جورج بومبيدو الباريسي قبل أعوام لعلاقة فن هتشكوك السينمائي بفنون الرسم والتصوير). ولكن بعد وصولها، وفيما تكون ماريون في الحمام تغتسل وقد أحست بشيء من الأمان، يدخل من يقتلها بطعنات خنجر عدة (صارت لاحقاً أشهر مشهد للقتل العنيف في تاريخ السينما). فور ذلك تقطع الكاميرا على نورمان باتس، صاحب النزل وهو يصرخ: «أماه... أماه... يا إلهي. هناك دم، دم في كل مكان». ويبدو لنا نورمان صادقاً في دهشته وذهوله قبل أن يبدأ بإعادة كل شيء الى مكانه وينقل جثة ماريون وأغراضها الى صندوق سيارتها. ثم يتخلص من السيارة برميها بمن وما فيها داخل المستنقع القريب. في تلك الأثناء، تكون شقيقة ماريون (ليلا) وصديقها وكذلك عميل شركة التأمين قد اكتشفوا اختفاء المرأة وبدأوا يبحثون عنها. ويكون عميل شركة التأمين أول الواصلين الى نزل باتس حيث يمطر هذا الأخير بأسئلته المقلقة، فيرفض باتس تمكينه من لقاء أمه. على الفور يتصل العميل تلفونياً بسام صديق ماريون واختها، ثم يصعد الى الطابق الأعلى من البيت الملحق بالنزل حيث تقيم الأم... وهناك تفاجئه طعنات خنجر ترديه. ويبدأ القسم الثالث من الفيلم مع سام وليلا وقد أخبرهما مأمور المنطقة ان أم باتس ميتة منذ زمن بعيد. وهكذا بالتدريج تنكشف أمام المتفرجين جملة حقائق، صحيح انها مفاجئة لكنها لن تبدو أهم ما في هذا الفيلم، الذي أقل ما يقال عنه انه أعاد الاعتبار، يومها، الى سينما الجريمة، وأكثر من هذا الى علاقة الفنان مع جمهوره.

# في ذلك الحين كان ألفريد هتشكوك (1899 – 1980) الانكليزي الذي بدأ عمله الفني في لندن قبل أن ينتقل لاحقاً الى هوليوود ليصبح واحداً من أسيادها، كان في ذروة مجده وتألقه الفني بفضل سلسلة أفلام وضعته في مكانة متقدمة جداً على خريطة الفن السينمائي (ومنها «العميل السري» و «السيدة تختفي» و «نزل جامايكا» ثم «ريبيكا» و «ظل الشك» و «الحبل» و «غريبات في قطار» و «النافذة الخلفية»). أما بعد «بسايكو» فإنه حقق سلسلة أخرى من أفلام لا تزال حتى اليوم علامات في تاريخ الفن السابع (مثل «العصافير» و «مارني»...).

الحياة اللبنانية في 16 مايو 2006

من دفاتر الذاكرة ( 6 )

فلم الخمسينات والولادات الجديدة

عدنان المبارك 

كان ولايزال مجهولا الفلم الفرنسي لدى المتلقى العراقي وليس هذا الفلم وحده بل معظم أفلام العالم عدا الهوليوودية والمصرية والهندية وعدد من افلام أخرى تعرض صدفة. وتبقى مجهولة أفلام بلدان كثيرة. ولاحاجة الى ذكر الأسباب ، وبينها أن الثقافة من الضرورات التي تضعها الذهنيات السائدة ، سواء أكانت سلطوية أو محيطية ، في المؤخرة ...

في الستينات كان المعادل ، عندي ، ل( التخمة ) الهوليوودية هو تلك الأفلام ( الأخرى ) التي كنت أسمع وأقرأ عنها في سنين البصرة وبغداد. وإذا لم تخني الذاكرة مرة أخرى كانت التجربة الأولى ، فيما يخص تلك الأفلام الأخرى ، مع فلم هنري كلوزو H. Clouzot المعروف ( ثمن الخوف la Salaire de la peur ) من عام 1953 ، كنت قد شاهدته في إحدى دور العرض البغدادية. وكان مفاجأة حقا رغم أن التقنية لاتبتعد هنا كثيرا عن هوليوودية معيّنة ( جون هيوستن خاصة ). في الحقيقة قام كلوزو هنا بتعميد صيغة أخرى ، متقدمة ، لفلم الإثارة في السينما الفرنسية ، فقد أراد له أن يعكس شيئا من الأمزجة الفكرية السائدة آنذاك. بالطبع دمغوا الفلم بختم الوجودية التي كانت على الموضة. أكيد أن المسألة لم تخل من شيء من المبالغة.

كان جان – بول لي شانوا J. – P. Le Chanois ممثلا لمدرسة أخرى : الميلودراما الفرنسية التقليدية التي صعد نجمها من جديد بعد إنحسار نسبي لغزو الأفلام الهوليوودية. في الواقع كانت الخمسينات بالنسبة للفلم الفرنسي عقد إختمار فني ينبيء بتحولات تبين ، فيما بعد ، أنها كانت مثيرة بفلسفتها وتقنياتها أيضا. أما ما كان حينها فلاشيء غير المشغل الجيد والذائقة الطيبة. وما يميّز لي شانوا عن باقي الميلودراميين إهتماماته الإجتماعية والأخلاقية ، غير أنها لم تدفعه ، في كل الأحوال ، صوب فن ثوري ما. وفلمه ( بلا عنوان Sans laisser d adress ) من عام 1954 يعّد نموذجا تقليديا للفلم الميلودرامي الفرنسي : فتاة مغرَّر بها تأتي الى باريس باحثة عن غاويها الذي هي حامل منه. تلتقي بسائق تاكسي يمثل الرجل العادي تماما وبدافع الشفقة والواجب الإنساني يلتزم بقضية الفتاة التي تقتنع في النهاية رغم تجربتها القاسية بأن الحياة هي ... شيء جميل حقا.

أندرية كايات A. Cayatte مخرج يقظ عند متابعته التبدلات في الحياة عامة. في فلمه ( قبل الطوفان Avante le deluge ) من عام 1954 تابع ما أحدثته الحرب الكورية من إنكسارات وخيبات أمل بعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية في القارة الأوربية خاصة. ويتكلم هذا الفلم عن، ربما يطرح ، وصفة للهرب من واقع ذي مستقبل لا ضامن له . خمسة أصدقاء يقررون الهرب الى جزيرة جنوبية . للحصول على النقود يقومون بسطو ينتهي بمقتل أحد الحراس ، وتدور الشبهات حول واحد من المجموعة لم يقتل الحارس وحتى أنه لم يشارك في السطو. الباقون خائفون و يدفعم الذعر الى خنق المشتبه به. في النهاية يلقى القبض عليهم جميعا ، وبينهم فتاة قامت بدورها مارينا فلادي ، وينزل بهم العقاب. في قاعة المحكمة يفكر آباء و أمهات هؤلاء : أين كان الخطأ في تربية أبنائهم ؟

كان هذا الفلم من سلسلة أفلام المحاكمات ، مثل ( تحققت العدالة ) و( كلنا قتلة ) و( الحقيبة السوداء ). إلا ان كايات لا يحصر إهتمامه بالعقد الجنائية أو البوليسية بل كان مسعاه واضحا في خلق فلم إجتماعي له طموح طرح قضايا مرتبطة بنزاعات العصرالكبرى. كان كايات يلقب ب( محامي السينما ). في الحقيقة كسب هذا اللقب وليس بسبب مضامين أفلامه بل شكلها حسب. فكل فلم من أفلامه كان قد ُبني بشكل مرافعة لمحامي الدفاع : متحيّزة لكن بالغة المنطق. وهذا المنطق يخاطب العقل و ليس المشاعر. فمعظم البراهين يتم فحصه بكل برود. وكان منظر السينما الفرنسي أندريه بازين قد حكم على فن كايات بهذه العبارة : إنه يقترح علينا عالما ميكانيكيا سكانه من الروبوتات ...

يعّد فلم ( فان فان توليب Fan fan la Tulipe ) من عام 1952 أحد أشهر أفلام كريستيان – جاك Christan Jacque . وكان بالفعل من أكبر نجاحات الكوميديا التسلوية المعتمدة على أحداث تأريخية . قصة الفلم مأخوذة من أغنية شعبية فرنسية من القرن السابع عشر. وفان فان فتى قروي يتطوع في الجيش هربا من زواج لا يريده. جرت الأحداث في زمن الملك لويس الخامس عشر( لويس رقم 15 كما كان يقول فان فان ). كان الفتى يكره الحرب , ومرّ فيها بأكثر من مشكلة إبتكر السيناريست لها حلولا لاتخلو من المنطق والسخرية أيضا. يعتقل مرة و يحكم عليه ثم يأتيه العفو وبعدها يجد نفسه وراء خطوط العدو ويقوم بأسر كامل هيئة الأركان هناك. ويجزيه الملك على هذا العمل البطولي . وكانت الجائزة زواج فان فان من الأميرة ... وكل هذا معروف ومألوف في الأفلام التسلوية من طراز أفلام ( العباءة والخنجر ). إلا أن ما يميز هذا الفلم إبتعاده عن العادات المسرحية السيئة ومنحه دينامية الحركة. بالطبع رفع جيرار فيليب من قيمة هذا الفلم و بفضله أيضا حقق شهرة عالمية. من ميزات الفلم أيضا أنه أخذ بنهج السخرية التي يلجأ اليها عامة الناس عند الكلام والحكم على ممثلي السلطة لسيئين ... ومن أقوال المعلق الذي رافق الفلم كانت : الحرب هي التسلية الوحيدة للملوك والتي يشارك الشعب فيها...

كان رينيه كلير Rene Clair أحد الخالقين الحقيقيين للسينما الفرنسية ( عمل في الفلم منذ عام 1920 ). قضى فترة الحرب وما بعيدها في هوليووود. وأول فلم له بعد عودته كان فلم " سحر الشيطان La Beaute de diable “ من عام 1949 . وفيه تناول من جديد ما يسمى بالغنائية الباريسية التي إزدهرت في الثلاثينات بشكل خاص. غير أن كلير أضاف إليها في هذا الفلم مناخ عصر ما بعد الحرب. بصورة ما إبتعد استاذ الفلم الكوميدي القديم عن مواضيعه وأخذ هذه المرة بعقدة فاوست . إعتمد فلمه هذا على سيناريو آخر أعاد الشيطان ( مفيستو ) للعالِم فاوست شبابه ( قام بدور البطولة جيرار فيليب )، وهذه المرة يقوم فاوست بفلق الذرة...

تفترق أحداث الفلم لأكثر من مرة عن تأريخ فاوست المعروف . بعد أن باع روحه للشيطان يمضي، هذه المرة ، في طريق آخر يقوده الى السيطرة على العالم و فرض ديكتاتوريته. إلا أن رينيه كلير الذي كتب سيناريو الفلم سوية مع أرمان سالاكرو A. Salacrou ، يدفع فاوست في طريق الحب ! : يقع هنا في غرام حسناء غجرية. وفي خاتمة الفلم يقوم البطل الذي لم يحبه كلير بتدمير كل مخترعاته الضارة والنافعة على السواء ،وبعدها يمضي في عربة عبر سهول مفتوحة ... كان واضحا أن هذا الفلم حمل روح العداء للحرب إلا أن بعض النقاد عابوا عليه إفتقاده للمعادل الفلسفي. وكان رد رينيه كلير أن البشرية باعت روحها للعلم والآن تريد تجنب إدانة العالم الذي خلقته بنفسها...

شأن جارلي جابلن كان جاك تاتي Jacques Tati سيناريسا ومخرجا وممثلا في أفلامه. وصفوه بأنه يمثل جسمه. كان في العشرينات ممثلا في الأفلام الصامتة ، ومن هنا إعتماده على الحركة والإيماءة في التعبير. وقد جاء أكمل تعبيرعن طريقته فلمه ( عطلة مسيو أولو Les Vacances de Monsieur Holout ) من عام 1953 . ومسيو أولو إنسان وحيد يدفعنا الى التعاطف معه بل الشعور بشيء من الرثاء . يتكلم الفلم عما حصل له عندما كان يقضي عطلته على ساحل المحيط الهاديء. كان خجولا و ينقصه السلوك المرن ، رغم ذلك يبحث عن صلة ورفقة مع الآخرين. وفي هذا البحث تتعاقب مواقف سوء الفهم والمصادفات التي ترمز كلها الى ما ينقص الحياة المعاصرة من قواعد في السلوك والعيش لا تبتعد عن المنطق و الروح الإنسانية...

القصة العراقية في 16 مايو 2006

 

غريزة المونتاج في الفلم القصير

حسن بلاسم

- الفيلم هو حياةٌ أُزيلت عنها لطخات الضجر. ألفريد هيتشكوك

يحتاج الفيلم القصير إلى تراكيب صارمة جداً ...

هذا ما كان يؤكد عليه (رومان بولانسكي) في حوار صحفي، وكان يصرّ في حديثه على أن تكون هذه التراكيب أكثر من صارمة, إذّ يرى ( (بولانكسي)، أنه لو كان بالإمكان العثور على فجوات, أو خلل ما في بناء مشاهد الفيلم الروائي، فهي فجوات يمكن الغفران لها, والتسامح معها، لكن مع الفيلم القصير ليس هناك من إستسهال مع كل لحظة تمرّ على الشاشة, وإن كان (هيتشكوك) يتحدث عن(الضجر) بشكل عام حول مختلف الأنواع السينمائية, يمكننا الحديث هنا عن خطورة هذا ( الضجر) إذا ما تسلل إلى جسد الفيلم القصير, إذّ لا ذرائع أمام هذا الشكل السينمائي فيما يخصّ الفجوات, أو الترهل, أو حتى ( ضجر هيتشكوك)، أنّى كانت هيئة هذا الضجر.

يرى بعضهم بأن كتابة سيناريو تفصيلي, ودقيق للفيلم القصير, لا يحتل أهميةً كبيرةً بالنسبة لصانع الفيلم, حيث يمكن تدوين بعض الملاحظات الضرورية, والتصورات لطريقة إنجاز (الفيلم), وهذا أسلوب عمل يمكننا إعتماده، ولا يمكننا بالطبع نفيه, أو الوقوف ضده، وهو ما تفرضه في كثير من الأحيان طبيعة العمل من ناحية الشكل, أو المدة الزمنية التي يستغرقها الفيلم على الشاشة, فقد يرى البعض أن (دقيقة سينمائية) ليست بحاجة إلى خطة, وسيناريو، بقدر ماهي بحاجة إلى تدوين الفكرة الأساسية, والتي قد لا تستغرق على الورق سوى : مسافة سطر !! لكن, ربما يجد البعض الآخر، أن الأمر يكون مختلفاً مع الفيلم القصير الذي قد يستغرق 30 دقيقة, أو أقل, أو أكثر بقليل، فهو غالباً ما يكون بحاجة إلى سيناريو أدبي, أو حتى تنفيذي، أو كلاهما معاً, مع ذلك, يبقى هناك من لا يُحبذ في كل الأحوال أيّ سيناريو دقيق، مهما كانت المدة الزمنية للفيلم القصير.

في الحقيقة, إن كل محاولة من قبل المخيلة تكون بحاجة إلى خطة دقيقة, فالمخيلة هي تأثيث الزمن قبل كل شيئ، بكل ما تحمله من أفكار, وصور وفق آلياتها الحلمية, فحتى ما نسميه ( فيلماً تجريبياً)، هو بحاجة إلى تشييد, وبناء محكم, وإن لم يكن هذا البناء قد إكتمل في المخيلة، فيجب على الأقل الإنتهاء منه داخل الورق قبل عبوره إلى الشاشة.

العشوائية التي يختبئ البعض خلفها بحجة التجريب، هي التي تتسبب في الغالب بشرخ هذا الشكل الإبداعي, وتركه مجرد ثرثرة متواصلة من الصور التي لا تؤدي ..!!، وقد يُحاجج البعض بأن ( صوره) هي مجرد تناغمات دلالية على المتلقي أن يشكلها, أو يعثر عليها في ( مخيلته), وهذه ذرائع (سئمنا) منها, وقد تسربت إلى السينما عن طريق النظريات النقدية للرسم, والأدب، وتمكنت السينما من خلال تجارب عديدة خلال رحلتها في تأسيس البعض من مثل هذه المفاهيم, والدوران حولها, لا نريد الوقوف بوجه (حرية) المبدع التي غالبا ما يكبلها بيديه من خلال الفوضى(لأن العقم في الصورة لا يمكن إعتباره دلالات، لا يمكن لعبقري أن يحلّ مغزاها).

الورق, أو شاشة الكمبيوتر التي يستخدمها اليوم أغلب كتاب السيناريو ـ هو مختبر المخيلة الذي لا يمكن الإستغناء عنه بسهولة, والتجريب ليس مجرد هلوسة، فحتى الهذيان هو قصيدة لا يمكن إنجازها إلا من خلال قوانين الفزع, والحلم .

ولنتأمل على سبيل المثال، لمَ نحن نتعمد في كثير من الأحيان العثور على غطاء شرعي لما ننجزه من تجارب سينمائية من خلال إستعارة بعض الأوعية الإبداعية الأخرى, نتحدث مثلاً عن قصيدة (الهايكو) مقابل ما نسميه (الفيلم القصير جداً), إن اللجوء إلى قصيدة (الهايكو) ماهو إلا دليل لحاجتنا الماسة إلى أسّس نرتكز إليها بعيداً عن الفوضى, والعشوائية, فقصيدة(الهايكو) هي شكل من أشكال الإبداع الشعري التي تستند إلى نظام, وأسلوب له غاياته الدقيقة, وهو خطة شعرية محكمة لبلوغ أقصى درجات الجمال في إقتناص اللحظة الحياتية عن طريق تكثيف (الصور) المُكتظة بالأحاسيس.

الفيلم القصير بحاجة إلى الكثير من الحذر كي يبلغ ذروته الإبداعية, وكلما قصر زمن الفيلم القصير، كان بأمسّ الحاجة إلى ما أُسميه (غريزة المونتاج), سواء كنت قد بدأت بكتابة الصور في المخيلة, أو على الورق, أو وصلت إلى الكتابة بعدسة الكاميرا, إنها( شاعرية الإفلات) التي يملكها الشاعر في تشذيب قصيدته من ( لطخات الضجر), لكنها(غريزة) بحاجة إلى تمرين متواصل لصقلها, وتركها أداة طيّعة يمكن من خلالها بناء حلم سينمائي قصير, وكأنه نسيج لا يمكن تجزأته.

إن الفراغات, والفجوات في الفيلم القصير هي في الأغلب تلك اللقطات التي زحفت أكثر, أو أقل من إطاراتها المحددة لها, وبدت أطرافها إما ملتصقة بما يجاروها من لقطات، أو كأنها لقطة قزمية داخل الإطار الذي من المُفترض أن يكون قد فُصل على مقاسها, إنها عملية مونتاجية بحتة، تتم قبل كل شيئ داخل المخيلة، وأن لا يسمح لها فيما بعد أن تزحف أثناء عملية تصوير الفيلم بطريقة منفلتة, فعملية المونتاج الأخيرة التي تتمّ بعد الإنتهاء من التصوير لا يمكنها أن تكون لوحدها، تلك الضربة السحرية الخلاقة، أو أن تُسعف ( لقطاتنا) بأنفاس ليست بحوزتها, فهذا التشذيب الأخير سيبدو مختلقاً, ومربكاً إن لم تكن (اللقطات) قد خُطط لها, وأنجزت قبل عملية التصوير بدراية, وتركيز، والتي بحاجة إلى تلك المراقبة التي أشرت إليها، وتطوير القابلية على التحكم بـ( غريزة المونتاج) .

إن قصة رجل ( يموت) في دقيقة سينمائية، هي من الضجر, والإثارة في نفس الوقت, فإن كان الرجل ـ على سبيل المثال ـ يموت فوق سرير مستشفى نظيفة, فأنت بحاجة إلى توقيت ساعة( المونتاج الغريزية) بحذر, والتي ترتكز إلى ثلاثة مفاصل أساسية، إضافة إلى كل مفردات اللغة السينمائية الأخرى، وهذه المفاصل الأساسية يمكن لها أن تتحكم بالإيقاع بمرونة عالية :

ـ المدة الزمنية التي ستستغرقها اللقطة الواحدة.

ـ إختيار فحوى اللقطة التالية( وهي التي تشكل نقطة الإرتكاز لما نسميه بغريزة المونتاج).

ـ الزوايا وحجم اللقطة.

إن لقطة أكثر من اللازم لنظرة الرجل المُفزعة، والتي يوجهها لسقف غرفة إحتضاره، لا يمكن أن يعوّل عليها كثيراً إن لم تكن محسوبة، إن كل ثانية تمرّ، هي الرجل يموت، فكم لقطة تلزمنا لخنق الرجل، وماهي مدتها الزمنية على الشاشة.

أما مفصل المجازفة في (غريزة المونتاج)، هو تلك القدرة على الحسّ بجدوى, وشرعية, وجمالية اللقطة الأخرى التي سننتقل إليها, وهي القدرة الأكثر عمقاً فيما يتعلق بحسّ الإفلات الشعري من سطوة الدلالات التي تتكدس بسرعة فائقة داخل اللقطة الواحدة, هي عملية مراقبة صارمة, وحادة لما للصورة السينمائية من فائض دلالي, وجمالي في أغلب الأحيان :

ربما ستنتقل إلى أصابع يدّ الرجل التي يهزها الآن ببطئ من دون سبب واضح, أو ربما هي إيماءة ذعر, أو أنك ستذهب إلى جاره المريض الذي يقضم تفاحته الآن بسعادة, أو أنك ستقفز إلى الممرضة في غرفتها, وهي تستلّ قطعة لحم صغيرة بعود تنظيف الأسنان, إلى أين ستنتقل !!، ربما مؤخرة طبيبة في الممر, منظف يمسح الزجاج, هل ستعود الآن مرة أخرى إلى نظرة الرجل, أم إلى زاوية شفتيه !! (قد تكون أصابع المُحتضر هي توأماً لنظرته، لهذا لا يمكن الإنتقال من الأصابع إلى النظرة، فهذا ما نسميه إنعدام الحسّ المونتاجي، إنه تكرار خفيّ لا يمكن الشعور به، لكنه تكرار قاتل للبناء الصوري).

إنها خيارات مفتوحة للدوران حول رجل ( يموت)، لكنها خيارات لن يمكنها أن تؤدي رعباً, أو سخرية من دون القدرة على الحسّ بتسلسل ( الجملة الصورية المتحركة), والتي لن تتحقق إلاّ إن كنت قد تمكنت من السيطرة على ساعة (المونتاج الغريزية) التي ستحدد مؤشر البوصلة, فالذهاب إلى غرفة المحتضر، وإرتجال (موته)، لن يؤدي إلا للمزيد من الضجر, وضياع فرصة القبض على تفاصيل الموت المُثمرة !!

والمفصل الثالث الأساسي، هو إختيار الزاوية, وحجم اللقطة، الذي يمكن له أن يدعم نظرة (الموت) بالكثير من جماليات, ودلالات الصورة، كي تأخذ مسارها بدقة, ويمكننا بالطبع ( قتل) الرجل بلقطة واحدة طويلة, حتى إن كان فيلمنا هو دقيقة سينمائية, أو دقائق, وهذا لا يختلف عما أشرنا إليه حول الحسّ المونتاجي, فكما نعرف, يمكن للقطة واحدة أن تتحرك, وتغير وجهة نظرها, وحجمها, وزاويتها كيفما تشاء.

غالباً ما نسمع, ونقرأ النقاد حين يتناولون قصيدة لشاعر، وهم يقولون : ( إنها قصيدة رائعة، لا يمكن رفع كلمة واحدة منها), وفي أمثلة كثيرة, سنجد نقاداً يطبقون هذا الإحتفال على الرواية أيضاً، طبعاً في حالة الرواية تكون آراء النقاد في الأغلب هي مجرد مبالغات شعرية مفضوحة, في السينما، وبالتحديد في الفيلم القصير, يمكن تطبيق آراء النقاد فيما يخصّ القصيدة من دون تردد, ففيلم قصير هو سبيكة من الصور الشعرية المتحركة، التي لا يمكن رفع صورة واحدة منها، من دون أن يُصاب هذا المُنجز الإبداعي بخلل, أو إهتزاز في أخلاقه الجمالية.

والغرائز يمكن خلقها بإستمرار، وهي ليست حكرا على الصدفة المانحة !

القصة العراقية في 16 مايو 2006

 

سينماتك

 

محمد عبيدو عن مرزاق علواش

أفلامه المميزة تصور تطور الذهنية الاجتماعية الجزائرية

محمد عبيدو

 

 

 

 

سينماتك

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك