قبيل نهاية العام 1972 وفي مناخ اتصف بتسارع العنف الدموي فيه أقدمت مجموعة من تنظيم أيلول الأسود باقتحام جناح الوفد الإسرائيلي المشارك في أولمبياد ميونخ الرياضي وقامت باحتجاز الرياضيين الإسرائيليين مهددة بقتلهم في حال لم يستجب لمطالبهم.

في نهاية مأساوية للحدث أقدمت مجموعة كوماندوس إسرائيلية أو ألمانية على التعامل العسكري مع المجموعة في مطار ميونخ، مما أدى إلى مقتل الرياضيين الإسرائيليين وأسر المختطفين الذين أفرج عن بعضهم في العام التالي عبر عملية اختطاف طائرة ألمانية.. الموساد الذي اعتبر أن عملية ميونخ هي عار على جبين دولة إسرائيل قرر تشكيل وحدة اغتيالات لتتبع أفراد المجموعة الخاطفة والمخططين لها... وهكذا أقدمت هذه الوحدة وغيرها على تنفيذ عمليات اغتيال شكلت استمرارا لإسلوب لم يكن غريبا عن هذا الجهاز الذي قام بتصفية غسان كنفاني قبل وقوع عملية ميونخ بشهرين تقريبا... وعلى رغم أن جميع الوقائع آنذاك كانت تشير الى تورط الموساد في اغتيال كنفاني وابنة أخيه لميس إلا أن إسرائيل ظلت تنكر قيامها بالعملية الدموية التي أوقعت الموت بشخصين أبرياء لم يمارسا القتل بحق الإسرائيليين.. ولعل الرابط بين ما حصل لكنفاني ولعدد من الفلسطينيين ممن جرت تصفيتهم لاحقا هو أنهم كانوا يختارون بشكل عشوائي بدلا من محاسبة 'المتورطين' في أعمال 'إرهابية' ضد الإسرائيليين 'الأبرياء'. كانت عملية ميونخ مادة دسمة للعديد من الإعلاميين والصحافيين الذين حاولوا تقصي ما حصل فقد جرى إنتاج فيلم سينمائي شهير عرض لوقائع العملية بعنوان '21 ساعة في ميونخ'... إلا أن العديد من الزوايا في سياق الحدث ظلت عصية على الفهم خاصة عمليات التصفية العشوائية التي جعلت العديد من الأبرياء ضحايا لعمليات الانتقام التي قام بها الموساد 'قتل نادل مغربي بعد الاشتباه فيه بأنه فلسطيني قيادي هارب يقيم في النرويج'

من هذه الزاوية وجد ستيفن سبيلبرغ في كتاب 'الانتقام' للصحافي الكندي جورج يوناس مادة مثيرة تناسب وجهة نظر طالما فكر فيها، فالكتاب يروي اعترافات أحد أفراد مجموعة الاغتيال الإسرائيلية بعد أن ترك إسرائيل احتجاجا على قيامها بعمليات عنف مبالغ فيها.. وجهة نظر سبيلبرغ التي صرح فيها لمجلة التايم تتمحور حول قوله : 'إنني دائما ما أؤيد أن ترد إسرائيل بقوة حين تكون مهددة.. وفي الوقت نفسه فإن الانتقام المتبادل لا يحل أي شيء..هناك مستنقع من الدماء التي سالت في عمليات القتل المتبادلة بين الطرفين لسنوات كثيرة في تلك المنطقة'.

شارك في كتابة السيناريو لفيلم ميونخ مع سبيلبرغ الكاتب المسرحي اليهودي توني كوشنر المثير للجدل بين أوساط اليهود المناصرين للصهيونية وذلك بسبب مواقفه السياسية اليسارية، وإدانته للاحتلال الإسرائيلي للضفة وغزة وقد سبق له المساهمة في تحرير كتاب 'الصراع مع صهيون: ردود أفعال تقدمية أميركية على النزاع لإسرائيلي الفلسطيني'.. جرت عمليات تصوير الفيلم وسط سرية كاملة وبعيدا عن وسائل الإعلام وقد برر سبيلبرغ هذه السرية برغبته في سير العمل بعيدا عن تأثيرات الإعلام وكذلك بسبب الحساسية السياسية للقضية.

هجوم.. ودفاع

على رغم عدم انقضاء أكثر من أسبوعين على البدء بعرض الفيلم في صالات العرض الأميركية إلا أن ردود الفعل عليه توالت وتسارعت، فقد شبه القنصل الإسرائيلي في لوس أنجلوس سبيلبرغ بالساذج!

واتهمه العديد من اليهود الأمريكيين بأنه يساوي من الناحية الأخلاقية بين 'الإرهاب الفلسطيني' و بين عمليات 'مكافحة الإرهاب الإسرائيلية' وقد هوجم من قبل البعض الآخر لمجرد تصويره لمشهد يجمع بين عميل للموساد وبين فلسطيني يدافع عن حق مواطنيه بدولة فلسطينية.! وفي إسرائيل واجه سبيلبرغ موجة واسعة من الاحتجاجات من قبل إسرائيليين اعتبروا أنه فقد صوابه بسبب ما يقدمه في فيلمه وانضم عدد من العاملين السابقين في الموساد إلى المحتجين على سبيلبرغ و فيلمه فقد وجد هؤلاء أن الفيلم 'يعطي إشارة خاطئة إلى أن تصفية الحسابات هي السبب وراء ما يجري من عمليات كر وفر بين إسرائيل والإرهابيين..' و قال ديفيد كمحي الذي كان من كبار مسؤولي الموساد في السبعينات: 'أعتقد أنها مأساة أن شخصا في مكانة سبيلبرغ الذي صنع أفلاما رائعة يقوم بإخراج فيلم يستند إلى كتاب يقدم قصصا زائفة..' بينما شبه آفي ديشتر ـ رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي السابق ـ الفيلم بقصص الأطفال قائلا: 'لا وجه للمقارنة بين ما تراه في الفيلم والكيفية التي سارت بها الأمور في الواقع..'. وعلى رغم حصول سبيلبرغ على دعم أرملتي رياضيين إسرائيليين قتلا في عملية ميونخ إلا أنه أضطر إلى الاستعانة بإيال أراد أحد أبرز معاوني شارون السياسيين من أجل تسويق الفيلم.!

في الجانب العربي قال بعض مسؤولي منظمة كير المدافعة عن العرب والمسلمين الأميركيين بعد مشاهدتهم للفيلم إنه لا يشوه صورة الفلسطينيين، ودعوا العرب إلى مشاهدة الفيلم.. من جانبه أعرب محمد داوود مخطط عملية ميونخ الذي لم يستطع الموساد تصفيته ضمن حملة الانتقام، وعلى رغم عدم رؤيته للفيلم، عن استيائه من عدم استشارة سبيلبرغ له أثناء عملية الإعداد للفيلم وقال إن فيلم ميونخ الذي أسماه مخرجه 'صلاة من أجل السلام' لن يحقق السلام بين الجانبين وأنه لو كان سبيلبرغ يريد حقا توجيه رسالة سلام لكان استمع إلى رواية الجانبين ليعكس الحقيقة في عمله بدلا من خدمة الجانب الصهيوني وحده' وأضاف داوود: 'لقد قام المخرج بعرض الفيلم على أرامل الضحايا الإسرائيليين، ولكنه تجاهل أسر الضحايا الفلسطينيين.! بينما تؤكد كاثلين كنيدي منتجة الفيلم أنه قد استعين بمستشار فلسطيني في إنتاج الفيلم ولكن من دون أن تصرح بهويته. يعتقد الكثيرون من المتتبعين للشأن السينمائي أن الفيلم لا بد من انه سيثير حفيظة العديد من العرب والفلسطينيين الذين يرون أن السينما الأميركية مازالت أسيرة لسيطرة اللوبي اليهودي وأن أغلب ما نشاهده لا يخرج عن التوجهات الإسرائيلية التي تريد منح الصفة الإنسانية للسياسة الإسرائيلية التي مارست القتل في الماضي ضد الأبرياء..! ويدلل هؤلاء على وجهة نظرهم عبر استدعاء نموذج المؤرخين الإسرائيليين الجدد الذين يمارسون نقدا ما للتاريخ الإسرائيلي من باب أن إسرائيل القوية لا تخاف من تاريخها.!

يقول سبيلبرغ في تصريح له لمجلة التايم الأميركية (نقلته عنها جريدة المستقبل اللبنانية): 'إنه لم يصنع فيلم حركة وتشويق وإن كانت بعض المشاهد لا تخلو منهما، بل صنع فيلما للتفكير في المصائر الفردية لأناس وضعتهم تجربة الصراع المزمن جميعا في موضع الضحية والجلاد وفي وقت معا'. ويقول:'إنه مشروع قديم وقد قيض له أن ينجز أخيرا لأنه وجد أخيرا من يعالج القصة (كاتب السيناريو توني كيشنر) لا بوصفها 'مقالة نظرية في السياسة'، بل بوصفها عملا فنيا. فما تعالجه هو مصائر بشر عاشوا كأفراد لهم حياتهم الحميمة وتطلعاتهم وحسناتهم وسيئاتهم، على الرغم مما اضطروا إلى ارتكابه أو ما سيرتكبونه في المستقبل من أفعال مثيرة للجدل أخلاقيا ولكن...

صورة الفلسطيني والمنطق الإسرائيلي

صورة الفلسطيني في الفيلم يمكن الاشارة اليها من اكثر من زاوية وهو يأتي فقط كهدف للقتل أو مسبب له، أو فكرة عابرة على القاتل أن يطردها.

الحياة المرفهة التي يعيشها محمود الهمشري تقول لنا انه يقطن في بيت باريسي أنيق. ابنته وزوجته لهما سيارة وسائق وهو، أي الهمشري، يتحدث لابنته بالعربية فتجيبه بالفرنسية اما أبوحسن سلامة حين يزور اسبانيا يمضي وقته في فيلا أنيقة على شاطئ البحر.

والفلسطيني لا يعرف كيف يدافع عن قضيته، ولا ينظم حديثه. مثلا حين يأتي أحد أفراد عصابة القتل إلى بيت الهمشري متنكرا على هيئة صحافي فيقوم بزرع القنبلة في الهاتف، يبرع المخرج في تصوير ضوضاء الفلسطيني، وعدم مقدرته على تنظيم نفسه والحديث بصوت واحد.

وفيما يقوم الهمشري بشرح معاناة الفلسطيني تقوم زوجته بمقاطعته ويصرخ في وجهها في النهاية 'هي المقابلة معاي ولا معاكي'.

وعلى رغم قوة دفاع علي المبنية على العاطفة وتسليط سبيلبرغ للكاميرا على عينيه وهو يوضح كيف أنه حتى إن فشل في استعادة بلاده فإن أحفاده وأحفاد أحفاده سيكملون المشوار، فإن سبيلبرغ يقدم علي بصورة يغلب عليها التهور والاندفاع في مقابل المنطق الإسرائيلي المؤسس على القيمة الأخلاقية والإنسانية.

حتى حين يتحدث الفلسطيني بلغة أخرى فسبيلبرغ لا ينسى أن يتهكم عليه. فالفتاة الإيطالية التي يستخدمها ضابط الموساد في مراقبة وائل زعيتر تتهكم من لغة زعيتر الإيطالية حين يلفظ إحدى الكلمات. على العكس من ذلك فضابط الموساد يبرع في حديث فلسفي مع فتاة ألمانية تدلي له في النهاية بمعلومات عن كيفية الاسترشاد لضحاياه.

وسبيلبرغ لا يفوته تذكير المشاهد بين لحظة وأخرى بالقتل والإرهاب الفلسطيني. فهو مثلا لا يقوم بسرد عملية الخطف في ميونخ دفعة واحدة بل يقوم بتوزيع مشاهدها بين ثنايا الفيلم.

يبدأ الفيلم بمشهد الاختطاف إلى حين ينجح الفلسطينيون في اقتحام جناح الرياضيين الإسرائيليين، ثم يركز سبيلبرغ على مشهد تكليف غولدا مائير للضابط وتشكيل فرقة القتل. في خضم تفكير ضابط الموساد بقبول أو رفض المهمة الخطيرة يقطع المخرج المشهد ليكمل حكاية الخطف عبر تصوير قتل الفلسطينيين لأحد الرياضيين بطريقة دموية ثم يعود للفيلم. قبل عميلة القتل الأولى لفرقة الموساد لا ينسى المخرج من تذكير المشاهد: لا تنس أنهم يفعلون ذلك بسبب قتل الفلسطينيين لمجموعة من الرياضيين الأبرياء.

لفعل ذلك يعود إلى لحظة وضع المختطفين في طائرة استعدادا للإقلاع بهم بعيدا عن ألمانيا. ثم وبعد عملية قتل أخرى يرجع المخرج للحظة التي يزعم فيها أن الفلسطينيين قتلوا الرياضيين. هنا يعلن سبيلبرغ انحيازه المطلق للرواية الإسرائيلية. أولا لا حديث عن الرفض الإسرائيلي لمقايضة الرهائن بمائتي أسير فلسطيني وعربي وأجنبي من مقاتلي الثورة.

المخرج يمر عن هذا مرور الكرام ولا يقول لمشاهده كيف أن إسرائيل رفضت التعاطي مع هذه المطالب ولو فعلت لكانت وفرت على نفسها الكثير من العناء، وينسى أن يقول إن غولدا أمرت بقتل جميع الخاطفين مهما كان الثمن.

ثانيا هل قتل الفلسطينيون الرهائن؟ هناك حديث عن أن الكوماندوز الإسرائيلي والألماني هم الذين فجروا الطائرة بقنبلة أو طلقة رصاص أصابت مخزن الوقود، وهذا ليس بالسر. سبيلبرغ لا يعرف الأسرار فهناك متهم جاهز يحمل على كتفه أعباء القضية وتبعاتها.

ولكن ايضا ثانية يجب وضعها في الاعتبار.. رغبة سبيلبرغ ووجهة نظر فان رغبة سبيلبرغ التي نراها بوصفها مشروعة من خلال موقعه كمنتج سينمائي عالمي قد تبدو للبعض غير نزيهة بالنظر إلى تاريخ تعاطفه مع اليهود تبعا لكونه يهوديا ولكنها هي وجهة نظر سبيلبرغ اليهودي الذي يعيش في أميركا وليس في إسرائيل وهي في الحقيقة صدى لوجهة نظر شريحة غير قليلة من اليهود الذين يؤمنون بإمكان التعايش بين الشعبين.. وربما تستحق وجهة النظر هذه من العرب أن يتلقوها بصدر رحب إذ هي تضع بين أيديهم اعترافا حقيقيا بكون خصومهم يتحملون مسؤولية سلسلة واسعة من عمليات التصفية التي طالت الأبرياء وغير المتورطين في الأعمال الفدائية... وهو أمر لا يعترف به الإسرائيليون إلا نادرا.. تقول منى الطحاوي في مقالة لها في الشرق الأوسط اللندنية تعالج فيلم ميونخ وردود الأفعال العربية المحتملة عليه: 'إنني قلقة من تكلس النقاش الدائر في العالم العربي حول فيلم 'ميونخ' عند حدود كلمة الإرهاب، فيفوت عليه فهم رسالة الفيلم نفسها. أنا متخوفة من أن يمنع العالم العربي فيلم 'ميونخ'، باعتباره آخر مثل عن تصوير الغرب للعرب كإرهابيين. وفي حالة منعه فإن ذلك سيكون آخر مثال عن عدم استعداد العالم العربي للمشاركة في الحوار الفكري الذي يدور الآن. فالفيلم لا يستند فقط إلى مفهوم مكافحة الإرهاب، بل هو يطرح تحديا أمام العالم العربي، كي ينتج أعماله الفنية التي هي الأخرى تطرح أسئلة مؤلمة ولها علاقة وثيقة بموضوع هذا الفيلم نفسه. هل العالم العربي بمستوى التحدي؟' وبدورنا نطرح السؤال مع الكاتبة ونقول ألم يحن الوقت بعد كي نقوم بالتمحيص في شكل تعاطينا مع النتاج السينمائي الغربي الذي يتماس مع قضايانا..؟

القبس الكويتية في 25 أبريل 2006

 

"ميونيخ" لستيفن سبيلبرغ

صــلاة ســـيـنـمـائــيـة من أجــل الـســـلام

هوفيك حبشيان  

لـتحفة سبيلبرغ الجديدة قدرة مغناطيسية على الامساك بضمير المشاهد الى حدّ ان لا يعود يشعر بشيء. يبرم صاحب روائع السينما الاميركية عقداً مع المتفرج: ان يتغاضى الاخير عن مواقفه ويتعالى على افكاره الجاهزة ويرمي جانباً عقله المشوش، في مقابل ان تروى له قصة كبيرة وتجربة انسانية عميقة ليس لها مثيل الا في التراجيديات الاغريقية. سبيلبرغ، اليهودي الانتماء، الاميركي التأهيل والاعداد، والانساني الهوية الثقافية، يرتفع فوق كل الاعتبارات السياسية والدينية والايديولوجية، ويأتينا بفيلم هو النقيض التام لـ"لائحة شندلر": شاذ، صريح، مخلّ، وصادم، الى حد ان يقلب الطاولة على رؤوس المجتمعين حولها.

ليرحل منتقدو "ميونيخ" الى الجحيم! لمرة، نحن امام عمل من خضم الصراع العربي - الاسرائيلي، اختار ألا يساوم ولا يوفر احداً، ولا ينضم الى أيّ من المعسكرين اللذين يرمي عليهما المخرج نظرة شفقة. بئس الشعارات والخطب البالية. كبر الطفل الذي كان يرفض ان يكبر وادرك حقيقة العالم الذي يعيش فيه. تبددت اوهامه وتمكنت السوداوية من الحلول مكان الرؤية الوردية، وعبر فيلموغرافيته المتنوعة خسرت الانسانية كثيراً من بريقها وطيبتها ونياتها الحسنة. ظل سبيلبرغ يصور اصعب المآسي كما لو كان ذلك الطفل الذي يؤمن بوجود كائنات فضائية. مع الفرق ان سماءه لم تعد مرصعة بالنجوم انما ملبدة بسحب سوداء. لا غبار على تمكنه من كتابة التاريخ الانساني، مصحوبة بشيء من الفلسفة البصرية، ومرتكزةً على التفاصيل الانسانية السامية. لكن حتى في فيلمه الشهير عن المحارق النازية، لم تكن المأساة بهذا الحجم، ولم تكن المعضلة التي يضع فيها شخصياته، مخربة ومزعجة الى هذا الحد. مرة اخرى، يتخطى سبيلبرغ نفسه فكرياً وفنياً وسينمائياً، لتصير كل وحدة تصويرية في سينماه تتنفس شعراً.

يعيدنا سبيلبرغ في "ميونيخ" أكثر من ثلاثة عقود الى الوراء، بعدما رصد حوادث افلامه الاخيرة، في الحاضر أو المستقبل، متحرشاً  بصفحة سوداء من تاريخ المنطقة: عملية خطف 11 من الرياضيين الاسرائيليين المشاركين في العاب ميونيخ الاولمبية عام 1972 وتصفيتهم على يد جماعة "أيلول الاسود" الفلسطينية. هذا العمل الارهابي لن يبقى يتيماً من الانعكاسات والتداعيات، وخصوصاً بعدما أعطت رئيسة الوزراء الاسرائيلية آنذاك غولدا مائير، الضوء الأخضر للقبض على اعضاء الفريق الارهابي وقتلهم، بكل برودة أعصاب.

تندر الافلام التي تقتحمنا من الخارج الى "الداخل" بهذه السرعة. بدقائق معدودة، نجد انفسنا في خضم معركة. عبر الكاميرات التلفزيونية ومراسلي المحطات العالمية والقابعين خلف شاشاتهم من المتابعين للحدث كما لو كان فيلماً شائقاً، تتوضح معالم الازمة. رواية الخطف يركّبها المخرج بقطع البازل المتوافرة لديه، لاجئاً الى حسه الصوري البارع والتناغم الايقاعي الفظيع. بتواضع كبير يتماهى مع ما يوضع في تصرفه من صور ارشيف. لا يفرق بين لقطاته ولقطات التلفزيون في محاولة لردم الهوة بين الحقيقة وتجسيدها. بين الحدث واعادة بنائه درامياً. في التقاطه مشاهد الدهم، يوفر سبيلبرغ الكثير من الامكانات والمؤثرات والمناورات. نكاد نقول انه "ينقل" أكثر من كونه يعيد الاحياء. تقنيات معقدة وجمالية بالغة الدقة وادارة فنية تتسم بالذوق الرفيع، يلجأ اليها سبيلبرغ لمنح انطباع أكيد بأننا في سبعينات القرن الماضي. وطبعاً، لا يطيش سهمه في عملية بناء الحقبة التي تعتمد في المرتبة الاولى على الضوء والالوان وانعكاس الظلال وحتى في الاستخدام العشوائي او المبالغ فيه للـ"زوم"، الذي كان معتمداً في افلام الجواسيس المشغولة بعجل أو موجة الافلام السياسية التي اطلقتها هوليوود في السبعينات. يبرع سبيلبرغ هنا في فن التأطير واعادة التأطير، ومطاردة كاراكتيراته بكاميرا كثيراً ما تكون محمولة على الكتف او تلحق مساراً افقياً وعمودياً طويلاً. بمعنى ما، ليس استخدام الضوء وانعكاس الضوء في "ميونيخ" بريئاً.

ما ان يفلت سبيلبرغ من مستلزمات الحقيقة التاريخية، حتى تلحقه ضرورات المهنة في مشهد الختام حيث نرى في خلفية اللقطة برجي مركز التجارة العالمي. وعليه، لا نزوع في "ميونيخ" الى فن التصنع. عبقرية السينمائي الاميركي تبلغ حداً يمكنه حتى من نسخ الركامات بحرفيتها او اعادة تجسيد الخراب المادي كما هو. يتجلى حافز سبيلبرغ الاول والاخير في همّ الواقعية. وهو مع بلوغه هذا المستوى العميق من التأمل حول سؤال "ما هي السينما؟"، يقطع يد الاستعراض التي تطاولت على سينماه سنوات طويلة.

بصراحة، لا يفرّق سبيلبرغ كثيراً بين المعتدي والمعتدى عليه. لسبب بسيط يجيء على لسان احد اعضاء الـ"موساد" (اذا كنت تعتقد ان الارهاب اختصاص الفلسطينيين...) هو ان الطرف الذي يمارس الارهاب على الطرف الآخر، كان ضحية ارهاب هذا الاخير في السابق، وتالياً ليس ما يفعله الا رد فعل. مدهش كيف استطاع المخرج ان يتعالى على كل التجاذبات والصراعات، ليأتينا بنظرة منصفة وعادلة. نفهم لماذا اعداء السلام، من الجانبين، لم يرحبوا بالفكرة، لأن الفيلم يساوي بين شعبين مجبرين على التعايش والمشاركة رغم كل شيء. في هذا الاطار، المشهد الذي يتكرر فيه اسم يوسف حيناً في خانة الارهابي، وحيناً آخر في خانة الضحية، لفتة جميلة الى القواسم المشتركة بين الاسرائيليين والفلسطينيين. في المقابل، يشير سبيلبرغ الى ان ثمة فوارق حتى بين اتباع موسى. فعميل الموساد أفنر، مثلاً، الانيق وذواقة المأكولات من الطراز الرفيع،  يتميز عن سائر الاسرائيليين في انه ولد في اوروبا، ولذلك لا يعتبره مواطنوه من السكان الاصليين. اينما ذهب، ثمة من يذكّره بأصوله. وهذا الامر، على مستوى عمل السيناريو، يسمح لسبيلبرغ بأن يمد جسراً مع شخصيات افلامه الاخرى التي على طريقتها تشكو نقصاناً في المناعة او ضعفاً او عجزاً. وفي عمل غير مسبوق لديه، يلجأ سبيلبرغ الى ضرب اسس الشخصية المصنفة سلفاً والتي ألفتها هوليوود، للقول ان لا احد طيب أو شرير بالمطلق.

الى ذلك، "ميونيخ" أكثر افلام سبيلبرغ قتامة وعنفاً. مسافراً من جو سينمائي الى آخر، من بلد الى آخر، من لغة الى آخرى، يضعنا المخرج امام معضلتين، الاولى تخص الشخصيات، وهي الخيار بين وقف العنف كي لا يجر المزيد من العنف والمضي في الاقتتال، والثانية تتصل بالمشاهد والمخرج. الثانية هي الأكثر استفزازا وصعوبة: ما الفرق بين اعطاء الارهاب وجهاً انسانياً، والتعاطف معه واستيعابه ومحاولة تبرير اسباب وجوده؟ بتطرقه الى قضية آنية جادة وخطرة (الارهاب) تكلف حكومته امكانات مادية طائلة، لا يحسب سبيلبرغ طريق العودة بل يحشر نفسه، من المنظار السياسي، في مكان لا يحسد عليه. يجازف في خياراته. ولا تقتصر مهماته كمخرج يبحث دوماً عن المثير والمقلق في التحرش بوكر الدبابير، انما يعلن بـ"وقاحة" يُشكر عليها انه لا يرى ان ثمة طريقاً للخروج من دوامة العنف في حين ان السياسة الوحيدة المتبقية امام مكافحي الارهاب، هي سياسة "تقليم الاظافر". غولدا مائير هي نفسها تعترف في الفيلم انها أرادت من خلال دعوتها الى الانتقام، ان تثبت الى العالم ان قتل اسرائيلي ليس بالامر السهل، ولكن ما لم تدرجه في حسابها ان قتل فلسطيني لن يسلم من العواقب. ثم، ان سبيلبرغ لا يضيّع ادنى مناسبة للعبث ببعض الشخصيات التي يجدها سمجة. وكونه يهودياً مستعداً ليموت من أجل اسرائيل (هذا ما اعلنه لصحيفة "دير شبيغل")، ليس من مشكلة عنده في ان يشتاق شاب فلسطيني الى شجرة الزيتون في ضيعته، ولا داعي لأن نحلف كي تصدقوا، فالصورة تتكلم، بأن شيئاً ما يتفجر داخل الفيلم في تلك اللحظة، ويعلو شأن سبيلبرغ الى مصاف العقلاء الكبار، ممن لا يزالون، رغم كل شيء، يؤمنون بأن السلام ممكن يوماً. وعليه، كلٌ في الفيلم يبحث عن وطن. بطن امرأة حامل قد يكون هذا الوطن، مثلما قد يكونه الطعام، الشديد الحضور في الفيلم، او المطبخ، وهو أصدق كائن في حياة منزل.  

لا شك ان "ميونيخ" هو فعلاً صلاة سبيلبرغ من اجل السلام. لكنها صلاة عنيفة وفجة. في سعيه ليبلسم جروج ضحايا الظلم، يكشف المخرج عار السلطات الحاكمة طوال ثلاثة عقود، ويفعل من أجل السلام أكثر مما فعله الاسرائيليون والفلسطينيون على مدار نصف قرن من شد الحبال: الاصرار على ان العدو الحقيقي في مكان آخر، لا وجه له ولا يراه الا من قرر ان يعود الى انسانيته ويتصالح معها.   

* يُعرض بدءاً من هذا الخميس في سلسلة صالات "أمبير".

النهار اللبنانية في 25 أبريل 2006

 

ميونيخ‏..‏ يرفع شعار الحياد التام

مغالطات سبيـلبـــرج‏..‏ خـدمت إسـرائيـل

معتز أحمد 

مما لا شك فيه أن الفرد وعند مشاهدته لفيلم ميونيخ يشعر أنه أمام تحفة فنية بداية من الإخراج المتميز أو الأبطال أو حتي استخدام الأفراد للغتهم الأصلية سواء العربية التي تظهر مع أعضاء منظمة أيلول الأسود‏(‏ لنا عودة حتي النصر‏)‏ وبقية الفلسطينيين والعرب الآخرين من أبطال الفيلم أم العبرية التي تتجلي مع الأبطال الذين يجسدون الأبطال الإسرائيليين في الفيلم بداية من العميل أفنير أو قادة الموساد ممن يملأون الفيلم بنشاطهم واجتهادهم من أجل إسرائيل‏.‏ علي الرغم من امتلاء الفيلم بالعديد من المواقف التي تطرح وجهة نظر العرب في العمليات الاستشهادية والرغبة في الرجوع إلي فلسطين وهو ما تجلي في الحوار العالمي العظيم بين بطل الفيلم أفنير والبطل العربي علي الذي جري في الفيلم قبيل تنفيذ إحدي عمليات الموساد باغتيال ناشط فلسطيني في أوروبا بالإضافة إلي إدانة إسرائيل في أكثر من جزء في الفيلم بداية من استخدامها للغة القوة وعدم رغبتها في التفاهم مع الفلسطينيين وهو ما فضحه المخرج سبيلبرج من أول لحظة في الفيلم خاصة رفض رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير الحديث أو التفاوض مع العرب الخاطفين للرياضيين الإسرائيليين من أعضاء منظمة أيلول الأسود في ألمانيا أو انتقاد الأوضاع الداخلية في إسرائيل والعنصرية التي تمارس بين اليهود فيها بسبب أصولهم التي ينحدرون منها سواء من أوروبا أم الدول العربية أم إظهار صورة الأم اليهودية المتشددة التي تدفع ابنها إلي قتل العرب لحماية إسرائيل إلا أن هناك العديد من المواقف التي تخدم إسرائيل بل وتكرس لمبدأ‏'‏ قوة إسرائيل المطلقة‏'‏ التي لا تضاهيها أي قوة أخري‏.‏

ومن أبرز المشاهد التي تتجلي بها قوة إسرائيل المنظر العام لعملاء الموساد ممن قادهم العميل أفنير الذين يظهرون كمن يرتعون في أوروبا مثلهم مثل الإسرائيلي الذي يتنزه في شارع يافا الساحلي أو شارع ديزنجوف في قلب تل أبيب بلا رقيب أو شخص يستطيع الكشف عنهم أو عن العمليات التي يقومون بها باستثناء المخابرات الأمريكية‏,‏ وهي نقطة في منتهي الأهمية وتطرح تساؤلا مهما ألهذا الحد بات عملاء الموساد يمتلكون القوة للتجول بحرية وبدون مضايقة من أحد في أوروبا من أجل تنفيذ مهامهم؟‏,‏ وهل لهذا الحد باتت قوة الموساد والمخابرات الإسرائيلية ؟

بالإضافة إلي إظهار إسرائيل في صورة الدولة المحترمة التي لا تقبل الفساد ولا تستطيع التعايش معه مهما كانت قدسية المهمة التي توكل لأحد أبنائها ويتجلي ذلك في الحوار الذي جري بين المسئول المادي في جهاز الموساد من جهة وبين البطل أفنير من جهة أخري قبل تنفيذ المهمة عندما قال له‏':‏ ستنفق إسرائيل كل ما تريد عليك من أجل إتمام مهمته بقتل الناشطين العرب ولكننا في النهاية نريد وصولات وكشوف حساب بكل مليم تنفقه‏',‏ الأمر الذي يعكس نزاهة إسرائيل المادية وهي إحدي أبرز الرسائل التي رغب سبيلبرج في نقلها للمشاهد ورغب في إظهار إسرائيل في صورة الدولة الصغيرة في الشرق الأوسط التي لا تقبل الفساد وترفضه‏.‏بجانب ظهور القادة الفلسطينيين في صورة الأثرياء الذين يحرصون علي تنظيم الحفلات سواء الماجنة أم الصاخبة كما صورهم علي حسن سلامة وههم يتنقلون في أفخر السيارات ويرتدون أرقي الملابس العالمية ويعيشون في أوروبا‏,‏ في الوقت الذي يعاني منه الفلسطينيون من قسوة الحياة في المخيمات تحت الاحتلال وهي رسالة غير مباشرة بفساد القائد العربي عموما‏.‏

الأهم من هذا هو إظهار أن اليهودي لا ينسي من قتلوه أو تسببوا في مآس له علي مر السنين وهي النقطة التي سعي سبيلبرج إلي إظهارها من أول لقطة في الفيلم وكما لم ينس اليهود الانتقام من أدولف إيخمان المتورط في تعذيبهم في المعسكرات النازية والمساعد الأول لهتلر في الحرب العالمية الثانية لم ينس اليهود الانتقام لقتلاهم في عملية ميونيخ وقاموا بالانتقام من‏11‏ ناشطا فلسطينيا وعربيا من أجلهم في العملية التي قادها العميل الإسرائيلي أفنير‏.‏

وكما نعلم فإن إسرائيل مستمرة في قتل العشرات من الناشطين والمسئولين الفلسطينيين بلا رحمة علي الرغم من هدوء الأوضاع بها وعدم تنفيذ أي عمليات استشهادية والسبب الذي لا يعرفه الكثيرون هو تورط هذا الناشط أو ذاك في عملية استشهادية أو تسببه في قتل إسرائيليين من قبل‏,‏ الأمر الذي يفسر عمليات الاغتيال المتواصلة التي تقوم بها إسرائيل بين آونة وأخري‏.‏

الأخطر من هذا هو المغالطة الكبيرة التي وقع فيها سبيلبرج عندما صور الرياضيين الفلسطينيين وهم يقتلون بأنفسهم الرياضيين الألمان وهذه حقيقة كاذبة وكشفها الكاتب الصحفي الشهير آيتان هابر‏-‏ رئيس ديوان رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل إسحاق رابين‏-‏ في مقال شهير له نشر في صحيفة هاآرتس منذ أربعة أشهر عندما اعترف بأن القناصة الإسرائيليين ممن ذهبوا إلي ألمانيا عند اختطاف أعضاء منظمة أيلول الأسود هم الذين قتلوا الرياضيين الإسرائيليين بالإضافة لأعضاء منظمة أيلول الأسود الفلسطينيين والعرب‏,‏ الأمر الذي أثار ردود فعل واسعة في إسرائيل آنذاك إلا أن الموضوع تم تداركه ولم تذكر إسرائيل مرة أي كتابات عن هذه الحادثة التي مازالت ومنذ وقوعها تثير العديد من ردود الفعل‏.‏

وكان هابر قد أكد أن الخاطفين ركبوا مع الرياضيين الإسرائيليين أوتوبيسا سياحيا كبيرا إلا أن رئيسة الوزراء جولدا مائير أعطت أوامرها بقتل كل من في الأوتوبيس ورفض التفاوض مع الفلسطينيين بدعوي عدم الرضوخ للإرهاب وهو ما يفسر غياب مائير عن حضور جنازة الرياضيين الإسرائيليين عند عودتهم إلي تل أبيب وتعليلها ذلك بأن أختها قد ماتت وعدم قدرتها علي مواجهة الحادثتين معا‏.‏

بجانب هذا كله سعي سبيلبرج إلي إضفاء التشويق علي العملية الإسرائيلية التي يقوم بها أعضاء الموساد حتي أن المشاهد بات يكره العرب بالفعل بل ويتمني أن تتم هذه العملية كلها ويقتل جميع العرب المتورطين فيها بأقرب وقت وهو ما يفسر حالة الإحباط التي تسيطر علي المشاهد عند قرار أفنير عدم استكمال العملية مهما كانت الضغوط من حوله والاستقرار بعيدا عن إسرائيل وهي النقطة التي أثارت إسرائيل كثيرا خاصة وأنها تظهر أن حياة اليهود باتت أفضل بعيدا عن أرض الميعاد المليئة بالمشاكل والقتل مع العرب‏.‏

عموما إن إخراج سبيلبرج لهذا العمل في النهاية يحمد له خاصة مع ما يتضمنه من نقاط أساسية عرضت لمشكلة العرب‏,‏ وهو العرض الذي ولا شك لم يخل من خدمة إسرائيل‏*‏

الأهرام العربي في 22 أبريل 2006

 

عبدالقادر ياسين يرصد: المغالطات التاريخية في فيلم «ميونيخ»

* بالأدلة: لا علاقة لكمال ناصر وكمال عدوان وزعيتر ووديع حداد بتدبير مذبحة الدورة الأوليمبية

* الفيلم لم يشر إلي إقدام فريق القتل الموسادي علي اغتيال المغربي أحمد بوشيكي خطأ.. ظنا منهم أنه «المطلوب» أبوحسن سلامة.. مما أثار أزمة بين الموساد والسلطات النرويجية  

هل يمكن اعتبار فيلم «ميونيخ» متوازنا غير متحيز؟! طبعا من الظلم تطبيق معايير العربي القومي في الحكم علي هذا الفيلم كما أن من السذاجة وضعه في خانة ضد الصهيونية إذ نكتفي بالبداية التي أظهرت الشعب الفلسطيني البادئ بالعنف فيما وجدت السلطات الإسرائيلية نفسها مضطرة للرد علي هذا العنف.

الكل يعلم بأن الصهيونية هي التي اغتصبت الأراضي وشردت الشعب ولاحقته بالمذابح المتوالية فرد هذا الشعب بالمقاومة المشروعة حسب كل الشرائع السماوية والأرضية علي حد سواء ومن هنا كانت البداية بل منذ أغسطس آب 1897 حين تأسست الصهيونية عبر مؤتمرها الأول في بال بسويسرا.

بل إنه في العام الذي فقد فيه فدائيون فلسطينيون عملية ميونيخ في سبتمبر/ أيلول 1972 نفذ الإسرائيليون قبل هذه العملية ثلاث عمليات اغتيال دون ذريعة عملية ميونيخ بل قبلها أولاها ضد الصحفي الجزائري الشاب بوديه، الذي اغتيل في باريس في يوليو/ تموز 1972 بطرد مفخخ تلاه اغتيال الأديب الفلسطيني المرموق غسان كنفاني وابنة اخته لميس في 8/7/1972 فيما جرت محاولة ثالثة لاغتيال المفكر الفلسطيني الشهير د. أنيس صايغ مدير مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير بطرد مفخخ.. «19/7/1972».

معروف أن رئيسة وزراء إسرائيل آنذاك جولدا مائير، قد طلبت من رئيس «الموساد» تسفي زامير قتل كل فلسطيني تهمته إسرائيل بالاشتراك في عملية «ميونيخ».

لقد عرض الفيلم بتقنية ومهنية عاليتين تنفيذ قتل كل من الكاتب الفلسطيني مدير مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في روما عادل زعيتر عام 1972 ونظيره في باريس محمود الهمشري 8/12/1972 ونظيره روسيا حسين أبوالخير والمنسق بين الأمن الفلسطيني والأمن السوفييتي حسين عباد البشير 25/1/1973 وكل من عضوي اللجنة المركزية لفتح كمال عدوان ومحمد يوسف النجار وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية الشاعر كمال ناصر 10/4/1973 فيما لم يشر الفيلم من قريب أو بعيد إلي إقدام فريق القتل الموسادي علي قتل المغربي أحمد بوشيكي في يوليو/ تموز 1973 في النرويج ظنا من الفريق أن المستهدف هو أبوحسن سلامة.

ما أثار ضغينة الأمن النرويجي لعدم إقدام الموساد علي التنسيق معه في أمر اغتيال سلامة وقد تمكن تسعة من فريق القتل الموسادي من الهروب من النرويج بمجرد قتل بوشيكي بينهم رئيس الموساد نفسه تسفي زامير فيما أصدرت المحكمة النرويجية أحكاما مخففة علي خمسة من القتلة تراوحت بين سنة واحدة وخمس سنوات مع إطلاق سراح قائد القتلة ما أثار سخط الرأي العام النرويجي.

ولم يمض وقت طويل حتي أفرج عن المتهمة الأولي سبلينا رفائيل بعفو ملكي بعد زواجها من محاميها.

في السياق نفسه أهمل الفيلم اضطرار رئيس قسم العمليات القذرة في الموساد فايل هراري، إلي تقديم استقالته لكن جولدا مائير رفضتها فاستمر هراري في موقعه هذا سبع سنوات أخري، بعد جريمة قتل بوشيكي.

مرة أخري نتعرض للذبح جملة قالتها والدة مسئول فريق القتلة الموسادي وجولدا مائير تعقيبا علي عملية «ميونيخ».

أنتم العرب لكم أماكن كثيرة جملة قالتها امرأة في محاولة لتبرير اغتصاب الصهوينية أرض فلسطين وتهجير شعبها فضلا عن إظهار كافة القتلة الموساديين في صورة إنسانية مرهفة أو كروح رقيقة علي حد وصف أحد شخصيات الفيلم.

نأتي إلي المعلومات حيث يذكر الموساد أن المسئولين عن عملية «ميونيخ» هم وديع حداد، باسل الكبيسي، كمال ناصر، كمال عدوان، محمد يوسف النجار، أبوديار، علي حسن سلامة عادل زعيتر، ومحمود الهمشري.

بينما تأكد للكافة أن أيا من هؤلاء لم يشارك في التخطيط أو التنفيذ، فرقما 1،2 من قادة الجبهة الشعبية والثالث مستقل كان يتولي رئاسة دائرة الإعلام في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بينما من قام بالتخطيط والتنفيذ في ميونيخ ينتمون إلي منظمة أيلول الأسود، الاسم الوهمي لمجموعة تنتمي للرصد الثوري في فتح بقيادة خلف أبوإياد أي أنه لا علاقة بالعملية لأي من عدوان، أو النجار أبو إياد، أبو سلامة، وزعيتر أو الهمشري.

وبعد فرغم أن قائد القتلة الموساديين اقترف كل ما اقترف من جرائم القتل فإن روحه الرقيقة طغت عليه فهاجر إلي الولايات المتحدة وقد عاني من عذاب الضمير رغم أن من قتلهم هم من القتلة بحسب الموساد.

لكن هذا القائد يكتشف بعد فوات الأوان أن من قتلهم ليس ثمة ما يؤكد أن لهم أي صلة بعملية ميونيخ إذن نحن أمام فيلم غير صهيوني حتي إنه يذكرنا بظاهرة المؤرخين الجدد في إسرائيل الذين يغسلون أيديهم في جرائم أبائهم فيما لا يدعوا أولئك المؤرخين إلي تصحيح ما ترتب علي تلك الجرائم مثل إعادة اللاجئين الذين هجرهم الصهاينة مما يحصر عمل المؤرخين الجدد الإسرائيليين وربما معهم هذا الفيلم في مجرد محاولة غسل تاريخ إسرائيل وإلا لماذا لم يظهر الفيلم كيف أن الفدائيين الفلسطينيين ردوا بقتل رهائنهم الإسرائيليين بعد أن غدرت الحكومة الإسرائيلية بالفدائيين وباد اتهم بالقتل بالاتفاق مع الألمان وبذا يكون الإسرائيليون من بدأوا بالقتل مع سبق الإصرار والترصد.

جريدة القاهرة في 18 أبريل 2006

»ميونخ« يطرح السؤال من أجل السلام والهوية

كتب - حسين الخباز 

وجد المخرج الكبير ''ستيفن سبيلبيرغ'' نفسه محاصراً بالكثير من الأسئلة التي تتطلب منه أن يقف موقفاً عادلاً مع الإنصاف، طالما أنه اشتغل مؤخراً على مشروع يستهدف الصراع البشري وتكوينه الأيدلوجي الذي يتعلق بسؤال الهوية وحق الأرض، مُنظّراً في ذلك مستقبل السلام بين الصراع الإسرائيلي على الأرض والسلام أولاً وبين الحق الفلسطيني على الهوية ثانياً، وقد وجد نفسه في المقابل أيضاً بين سؤال سياسي محض يتعلق بالطريقة الدموية والغامضة دائماً التي يستخدمها الموساد الإسرائيلي في داخله كتنظيم وخارجه كاشتراك بعض الدول الأوربية في هذا الصراع، وبين الطريقة التي يلجأ إليها الفلسطينيون في المطالبة بحقوقهم، وعندما اتفق مع نفسه أن يكون السؤال سؤال سلام اختار لنفسه أن يخصّب الأنفس ويفككها من خلال عرض حادثة مقتل أحد عشر رياضياً إسرائيلياً في اوليمبياد ميونخ 1972.

حتى يجيب على هذا السؤال، كان يعلم جيداً أن القضية قضية ثأر وأرض وهوية، وأن الجميع ينتظر منه أن يفتح الستار على مخالفات واضحة من قبل سياسات العالم أجمع، وأن لا يقف بالضرورة مع الفلسطينيين إذا ما أراد أن يجعل السلام سؤاله، لأن الوقوف على سؤال الهويات يحتاج إلى جواب واحد ولا يمكن في أية حال أن يقبل هذا الجواب فرضيّة معينة، حيث أن السلام المشترك لا يمكن أن يكون مجدياً إذا ما كان الصراع بين قطبين يختلفان في الديانة والتكوين وحتى الأعراف والقيم.

وعندما قرر أن يغامر ويبدأ، كان قد قرأ كتاب ''الانتقام'' للصحفي الكندي ''جورج يوناس'' الذي يسلط الضوء على شهادات أحد الناجين من هذا الاختطاف، وبعد أن استقر على فكرته ووجدها صالحة للتنفيذ، استعان بصديق دربه ''جينيز كامنسكي'' في التصوير، هذا الصديق الذي لم يستطع أن يستغني عنه في معظم أفلامه، أما الموسيقى فقد كانت للموسيقار العريق ''جون ويليامز'' الذي بدأ يسير إلى المجد بخطى ثابتة بعدما حصل على أوسكاره الخامس هذا العام، أما السيناريو وهو الأهم فقد كتبه'' سبيلبيرغ مخرج هذا العمل بالتعاون مع أريك روث واليهودي توني كوشنر'' بطريقة السيناريو المقتبس من كتاب''جورج يوناس، أما البطولة فقد كانت للنجم الموهوب ''إريك بانا'' بدور إفنر.

صلاة مستعجلة

دائماً ما كان يصر''سبيلبيرغ '' أن فيلمه هذا هو رسالة وصلاة من أجل السلام، وفي الوقت نفسه كان يرى أن السلام هو حالة مستحيلة الحصول، طالما أن هدر الدماء لا يتوقف، ويقف دائماً عند مصطلح السلام بأرجل نازفة وغير قابلة للمضي من أجل تحقيق معادلة ترضي الطرفين أو حتى أن ترضي طرف واحد، لأن صورة الشرق مازالت غير ثابتة عند الغرب وهي أيضاً لست مطمئنة لوجود الإرهاب، وفي المقابل هناك عدم ثقة واضحة في علاقة الفلسطينيين بالإسرائيليين، ما يمكن أن نفسره باستحالة المصالحة والسلام من أجل التخلي عن الأرض من الجانب الفلسطيني، وعدم قبول الجانب الإسرائيلي بالتخلي عن حقه التاريخي والقومي في القدس، ومن هنا يبدأ المخرج بعرض ارتباكه وتخوفه من ضياع هوية هذه الصلاة، لأنه طالب بسلام جديد بحجة عدم توقف الدماء، وهذا مالا يمكن أن يقبل به أحد الطرفين، والأمر الآخر الذي يقف في عائق الصلاة، هو عدم فهم ''سبيلبيرغ'' الكافي لطقوس ومبادئ الجهة الفلسطينية من ناحية المبادئ الدينية والقومية بالذات، فلا أعتقد أنه كان يعلم أن الجهة الفلسطينية ترى في المواجهة هدف أسمى من هدف السلام - من ناحية دينية - ومن ناحية قومية أيضاً، ولا أعتقد أنه كان يعلم أيضاً أن المواجهة كانت بدافع الأصالة والكرامة و النشأة الدينية التي لا تتوافق شكلاً ومضموناً مع اليهودية، ومن هنا بدأ عدم التكافؤ الذي كان العائق الأكبر لعدم اقتناع المشاهد بالجواب وبالأمل.

ضوء الكلام

لا يمكننا أن نفهم الفيلم بأنه استعراض لقصة وفد رياضي تم قتله بطريقة بشعة في العاصمة الألمانية ميونخ، ولا يمكننا أن نعتبر الفيلم هو توثيق فني لحدثٍ مر عليه ثلاث عقود، ولا نستطيع أن نعتبره أيضاً وجهة نظرة سينمائية، لأننا لا نستطيع أن نخفي اندهاشنا من القيمة الفنية والبصرية التي يقدمها الفيلم، فقد كان الحوار متماسك لحد كبير لولا بعض الثغرات التي جعلت المشاهد يتوقف عن الغوص في رموز الكلام، ويعتبرها مجرد رقعة بصرية لا أكثر، ولا يمكننا أيضاً أن لا نتأثر إيجاباً من الإضاءة الخفيفة التي كانت نواة نجاح الصورة في الفيلم بلا شك، وحتى الديكور رغم صعوبة تطبيقه لاختلاف مناطق التصوير بين تل أبيب وأمريكا وفرنسا وإيطاليا وبيروت فقد كان مقنعاً لحد كبير، والملابس هي الأخرى كانت موفقة وواقعية وسبعينية جداً، أما الموسيقى فهي تأتي فجأة وتقوم بواجبها على أتم وجه وتذهب، أما الممثلين فقد كان يتحركون بخفة عالية وبتوتر ملحوظ كان له الدور الكبير في نجاح الفيلم، أما البطل ''إيرك بانا'' فقد كان مشدود الذهن طيلة أحداث الفيلم وكان اليد الضاربة لسبيلبيرغ، ماعدا ذلك أن الممثلين لم يحالفهم الحظ في الانسجام الواضح والترتيب الذي نقصد منه ربط العنصر النفسي بالتحركات الجسدية وربطها بالملامح الخارجية للجسم، ونلاحظ أن ذلك كان واضحاً في مشاهد الشك الأخيرة حينما شك ''إفنر'' ورفاقه بعدم جدية الموساد في تأمين ضمانات تكفل لهم حق العودة للوطن وتعطيهم حق التعامل بشفافية مع هذه القضية، ولكن هذا لا يعني أن ''إفنر'' لم يكن مبدعاً في العديد من المشاهد وبالخصوص في المشاهد التي تربطه بنفسه وبزوجته وبابنه الذي سافر عنه وهو في بطن أمه، ووقوفه المستمر أمام متاجر الأدوات المنزلية التي تعود بذاكرة إلى أمنياته البسيطة، وهي أن يعيش حياة تقليدية بين زوجة محبة وطفل صغير.

إفنر ''إريك بانا''  كان علامة فارقة ومحورية من ناحية سردية وفنية في نجاح الفيلم، هذا النجم المغمور الذي لا يحمل سيرة طويلة ولم يخض تجارب صريحة مع أفلام فارقة من هذا النوع، استطاع أن يقدم ما يريده ''سبيلبيرغ'' منه وبجداره، وقد قام بأدوار تحسب في رصيده الفني في هذا الفيلم، ولكن هذا يعني أن ''إريك'' كان الورقة الأصح لهذا الدور، وكان اختياره موفق لهذا الدور، وربما ما يشفع ''لسبيلبيرغ'' اختياره لهذا النجم الموهوب هو عدم احتياجه لنجم يخطف من سؤاله وصلاته ورسالته أي ضوء، ومع هذا كله، فإن ''أريك'' كان اختيار صحيح لهذا الدور، ولكننا لا نستطيع أن نقول أنه الأنسب.

موت الأمـل

من تداعيات الدم، أصبح المخرج يؤمن بأن النزاع لا يكمن في قضية ميونخ فقط، وأن هناك  مصادر عديدة وقديمة في هذا الصراع، وقد أقر بعد ذلك أن قضية ميونخ لم تكن بداية حقيقية للثأر بالدم، وربما هي من أهم الصراعات التي اكتسبت هالة إعلامية واسعة، وأن الحوار عنها والتفكير فيها لا يعود بالنفع على كلا الطرفين ولا يخدم السلام، فإن مات فلسطيني فسوف يموت إسرائيلي في المقابل والعكس، لأن الهوية والقومية قد أخذت مأخذها، ولا يمكن لأي طرف أن يتنازل عن حقه مهما كان ثمن ذلك، ومهما توطدت علاقة الطرفين بالبعض فسوف يأتي اليوم الذي سيقتل الفلسطيني فيه الإسرائيلي والعكس، فقد ضرب الفيلم مثالاً واضحاً من خلال الحوار الذي تمّ بين الشاب الفلسطيني ''علي'' وبين إفنر'' في ذات لحظة  انكسار وضعف، قال علي(أنت لا تعرف معنى أن تتجرد من وطنك، وأن تبقى بلا مأوى) فيرد عليه ''إفنر'' بعاطفة قوية لا يمكن أن تكون بين فلسطيني اعتاد على الأصالة و الكرامة العربية وتربى تحت ضلال أشجار الزيتون، وبين إسرائيلي قد يكون أجداده من أصل أمريكي أو من أصل ألماني يهودي، ورغم كل هذا التسامح والحب يقوم ''إفنر'' ورفاقه بقتل ''علي'' عندما تدور مواجهة إطلاق الرصاص الحي بين ''إفنر'' و''علي'' ، فيقع الأخير على الأرض وسط أنظار ''إفنر'' الحائرة.

أحد عشر رياضياً

ميونخ، يبدأ بالانتقام وينتهي بالسؤال، أو هكذا أنت تعتقد أو هكذا يعتقد الفيلم والمخرج، هو قصة أحد عشر رياضياً إسرائيلياً تم أخذهم كرهائن في اوليمبياد ميونخ ,2791 وقتلهم بعد صراع تم بين القوات الألمانية والإسرائلية في مطار العاصمة ميونخ أدى إلى مقتل الرهائن عن طريق التسرّع والتردد من كلا الطرفين، ولكن القصة لا تنتهي عند هذه النقطة، ذلك أن بعض من خططوا لهذه العملية مازالوا أحياء، ليقرر الموساد الإسرائيلي وبطريقة متسترة بالانتقام، بإدارة رئيسة الوزراء السابقة ''جولدا مائير'' التي لم تقبل بإعطاء ضمانات للخاطفين في ذلك العام، وبمساعدة إبن حارسها الشخصي ''إفنر'' مع ستة أشخاص تم اختيارهم لأداء هذه المهمة.

عندما تلتقي المجموعة في أوربا لتنفيذ هذه الانتقامات، يصوّر لنا المخرج الحالة الفطرية التي يأخذ فيها ''إفنر'' الأمور باعتباره الوحيد الذي يرجع مولده لإسرائيل، أما البقية فهم يهود قادمون من جنوب أفريقيا وألمانيا، ليوسع المخرج الدائرة حول علاقة اليهود بالألمان، وكأنه يسأل ويستنكر اشتراك الألماني مع الإسرائيلي في عملية انتقام لأبرياء فلسطينيين ربما، فما الذي يدفع الإسرائيلي إلى التعاضد مع الألماني وهم من قاموا بإحراق آلاف اليهود في عهد ''هتلر''. ولم يكتف عند هذا الحد عندما ورّط الاستخبارات الفرنسية في هذا الانتقام وبدور كبير للغاية، مع وجود متحالفين من إيطاليا وأمريكا ومافيا العالم ضد الفلسطينيين،  ولو أنه كان يرجح هذا الاشتراك بسبب المصالح الدولية التي تربط إسرائيل ببقية دول العالم وبأوروبا بالذات.

هل مات السلام؟!

وزّع المخرج مشاهد الاختطاف والقتل في أربعة مشاهد متفرقة على طريقة (الفلاش باك) وقد كان التوزيع مدروس بشكل متقن للغاية وبعناية فائقة، ولم يكن توزيعه بشكل عشوائي، لأن كل مشهد كان يليه أو يسبقه حدث مهم كان سبباً لهذا القتل، فإما أن يسبق المشهد لحظة ضعف وانكسار وتردد من قبل ''إفنر'' أو إما أن يلي المشهد لحظة عاطفية جنسية، فالمخرج يريد أن يبرهن أن الحالة المزرية للسلام والقتل كان سببها ممارسات خاطئة وبسيطة تقف عائقاً في حصول السلام، وأن السلام هو مفتاح للدماء أصلاً، فربما يكون السلام وتداعيات الهوية هما سبب كل هذه الدماء، وربما نحن الآن نضع السلام في موقف المتهم أو موقف المستسلم لأنه كان الهاجس الخاطئ في هذه القضية، ولا يمكننا في المقابل أن نبارك ونزكي مشروع ''ستيفن سبيلبيرغ'' على أنه مفتتح حواري لقضية السلام، ولا نستطيع أن نثق في - حياديته - لا لأنه (من أصول يهودية) ولا لأن تجربته هي التجربة الأولى الصريحة التي تتحدث عن السلام والمعايشة والهوية بين فلسطين وإسرائيل، وإذا كنا سنعترف في مقدرة هذا المخرج وهذا النص وهذا السؤال من نواحي فنية، فإننا لا نستطيع أن نبرهن نجاح الفيلم على أرض الواقع، فهل ''سبيلبيرغ'' استطاع أن يضع أي سؤال أو استطاع أن يضع إجابة ولو بسيطة لهذا السؤال؟ !! لا أعتقد.

الوطن البحرينية في 26 أبريل 2006

 

لـوحــــات مـبـعـثـرة

ميونخ.. والسلام المستحيل

محمد راشد بوعلي 

منذ عدة شهور وتحديداً عندما تم عرض فيلم المخرج النيوزلندي''بيتر جاكسون'' ''كينغ كونغ'' على شاشات العرض العالمية، التقيت صدفة مع المخرجة العربية الأردنية ''غادة سابا''، وجرى بيننا حوار جميل كان من بين طياته الحديث عن فيلم المخرج ''ستيفن سبيلبيرغ'' القادم آنذاك ''ميونخ'' وكان من بين أطراف حديثنا اختلاف بالنسبة لتطلعاتنا لما سيقدمه ''سبيلبيرغ''، حيث كانت ترى ''غادة'' أن ''سبيلبيرغ'' سيقدم الفيلم بنظرة حيادية وذلك حفاظاً على سمعته ومكانته العالمية في صدق طرحه للمواضيع، فكان ردي لها بان هذا ما أتمناه ولكني لا أستبعد أن يكون هناك ولو جانب بسيط من التحيز لبني شعبه اليهود، وخاصة إذا ما شاهدنا مواقفه العامة عن طريق تمويله للدولة اليهودية بملايين الدولارات سنوياً والتي يجنيها من خلف شركه الإنتاج الخاصة به "Dream Works" ، إضافة إلى أنه لم يخطط لعمل فيلم عن أحداث الألعاب الاولمبية ''ميونخ ''1972 إلا بعد عرض فيلم ''آلام المسيح'' في العام الماضي والذي كان له تأثير كبير على زيادة كره اليهود في جميع أنحاء العالم وخاصة بعد اتهام الفيلم المباشر لليهود وتحميلهم المسؤولية الكاملة لصلب المسيح!، لهذا لا أعتقد بأن'' سبيلبيرغ '' سيقدم  فيلما لا يكمن في أعماقه جذباً للتعاطف مع اليهود.

بعد مشاهدتي لفيلم "Munich" أدهشتني روعته الفنية منذ الدقيقة الأولى، فأسلوبه الرائع والفريد بلمسات خاصة من ''سبيلبيرغ'' في تسيير الأحداث وطريقة حركة الكاميرا جعلني مشدوداً مع الفيلم متطلعاً لم يحويه من دقه في تصويره للأماكن، ومن إبداع في تنفيذ الديكورات والخلفيات!

فقد بدأ الفيلم بوجود 11 عربياً يبدؤون عملية اقتحام سكن الرياضيين الإسرائيليين المشاركين في الألعاب الاولمبية ''ميونخ ,''1972 بقصد جذب الانتباه العالمي للقضية الفلسطينية، إلا أن المقاومة التي واجهتهم دفعتهم للقيام بعمليات القتل لهؤلاء الرياضيين، مما دفع إسرائيل بقيادة رئيسة الوزراء السابقة ''غولدا ميير'' بتمويل 5 أشخاص سريين الهوية يترأسهم أفنر ''إيريك بانا'' (حارس شخصي لرئيسة الوزراء سابقا)،روبرت ''ماثيو كاسوتيقتز'' (خبير في القنابل)، كارل ''كيران هيندس'' (وهو يعمل على إزالة الأدلة بعد نهاية كل عمل)،ستيف ''دانيال كريج'' (وهو مختص بالمسدسات)،هانز'' هانز زيشلير'' ( وهو محترف بتزوير الوثائق والبطاقات).  للقيام بعملية اغتيال 11 شخصية فلسطينية ثأرا لما قام به الفلسطينيين في ميونخ، واضعين حدودا إقليمية لملاحقة هؤلاء الفلسطينيين بأن لا يتم الذهاب إلى أي من الدول العربية أو روسيا!.

لقد طرح الفيلم بشفافية نظرة كل من اليهود الإسرائيليين والعرب الفلسطينيين بالنسبة للقضية الفلسطينية-الإسرائيلية حاملا في طياته تعاطفاً مع الجانبين ولو كان به شيء بسيط للتعاطف مع اليهود و كما قال صديقي بعد مشاهدته للفيلم: (لو كان مخرجاً غير يهودي لقلت إنه تحيز لليهود لكن كمخرج يهودي يخرج مثل هذا العمل أعتقد أنه كان حياديا).

طبعاً، بعد عرض الفيلم اختلفت الآراء كثيراً حول حياديته، فهناك من وصفه بأنه تعاطف ووقوف مباشر مع الفلسطينيين، وهناك من قال العكس بأنه وقفه حب للإسرائيليين، مما سبب اعتراضاً وجدلاً كبيراً على الفيلم من قبل الطرفين!، وهناك من وصف الفيلم بالحياد!، باعتقادي لولا حياده لما اختلفت الآراء حوله، وطبعاً يبقى لكل شخص وجهة نظره الخاصة، فهناك حكمه قالها المخرج ''كونتين تارنتينو'': مغزى الفيلم هو ما فهمته أنت ولو اختلفت به عن غيرك''.

لقد استطاع ''سبيلبيرغ''  والذي يعتبر الصديق المفضل لليهود بان يكسب صداقة بعض الفلسطينيين بهذا الفيلم، فلم يسبق لأي فيلم أن وضح أسباب وأهداف الفلسطينيين من معارضتهم، أو أن يوضح بأن ما يريده الفلسطينيون فقط منزل يعرفون انه منزلهم ووطن يحتضنهم بأمان!

كما أوضح الفيلم أن اليهود إلى الآن لم يجدوا لنفسهم وطنا وطرح فكرة هل يجب أن يبحثوا عن وطن خارج الأرض، بينما العرب لديهم ارض كبيرة ألا تسع هذه الأرض العربية للفلسطينيين؟، أضافه إلى ذلك طعن الفيلم في السياسة الإسرائيلية طعنة كبرى، وهي إنها لا يمكن الثقة بها، حيث حتى شعبها أصبحوا يخافون من تخطيطها.

الفيلم حمل في بواطنه نظرات عميقة لبواطن الأفكار التي يحتويها الطرفين وأوضح بطياته بان النزاع مستمر وإن وجود السلام لهو شيء من شبه الاستحالة وحتى لو وجد السلام ستبقى القلوب مليئة بالكراهية والحقد والانتقام الدائم في الفكر! لقد كانت هناك الكثير من المشاهد الرائعة والتي تكسب العواطف نذكر مشهد اغتيال أول فلسطيني ''رجل كبير في السن يحكي قصصاً لرواد مقهى في ايطاليا، يذهب إلى كبينة هاتف، يكلم ابنته الصغيرة ويقول لها ''هلا حبيبتي'' بعدها عند ذهابه إلى شقته يحاط باليهود الخمسة بمسدساتهم ويقول لهم بالعربية وهو يرتعش ''نزل المسدس، نزل المسدس'' إلا أنه يتم اغتياله!

كما يشدنا مشهد الطفلة التي كان من المفترض تفجير منزلها باغتيال والدها بعد أن يجاوب هو على الهاتف، وكان اليهود بانتظار خروجها للمدرسة، إلا أنهم لم ينتبهوا لعودتها إلى المنزل وتقوم هي  بالإجابة على الهاتف ''المقنبل'' بدلاً من والدها! كما لا ننسى الحوارات الرائعة والمتميزة لعل أبرزها بين ''افنر- ايرك بانا'' وعلي العربي ''عمر متولي''  حيث طرح كل منها بسلاسة أفكار ومتطلبات الشعبين الفلسطيني واليهودي ونظرتهما المختلفتين للوضع. طبعاً لا يمكنني أن أخفي إعجابي بالطاقات العربية التي تواجدت في الفيلم، ولعل ما شد انتباهي هو تواجد عدد من أبطال فيلم ''باب الشمس'' للمخرج يوسف نصر الله، أمثال (ريم تركي) في مشهد الاقتحام ببيروت بدورها زوجة كمال العدوان، وعند التكلم عن مشهد بيروت لابد لنا أن نشيد بروعة وإبداع رسم المنطقة  بزواياها ومحتوياتها بكل دقة وجمال!

لقد كتبت ما كتبت بعد مشاهدتي للفيلم بعدة أيام، وذلك لأني لم أستطع أن أفكر كيف يمكنني أن أنصف عملاً مثل ''ميونخ'' أو كيف يمكنني توضيح ما شاهدته وما أحسست به بأعماقي من أفكار وتحليلات للفيلم، فقد سرق ميونخ تفكيري فلم يكن بإمكاني مشاهدة أي فيلم أخر لعدة أيام  لمدى وطأة الفيلم علي. إذا سألت هل يستحق الفيلم ترشحه للأوسكار؟

ستكون إجابتي: باعتقادي أن قضيته تتفوق على قضية "Crash" بمراحل!

؟ ميونخ فيلم يستحق المشاهدة والنقاش حوله، وعند مشاهدتك له فكر باختيار واحد من الثلاثة جوانب، هل كان الفيلم حيادي أو انحاز لفئة معينة، فعند تفكيرك بهذه النقطة ستجعلك تتعمق في مشاهدة الفيلم أكثر مما تعلم، وستستطيع مشاهدة جوانب في الفيلم لن تلحظها بالمشاهدة العادية.

الوطن البحرينية في 26 أبريل 2006

 

سينماتك

 

"ميونخ" بين وجهة نظر سبيلبرغ وردود الافعال العربية

صورة مشوهة للفلسطيني وتحسين صورة الجلاد

عرض وتحليل:  عماد النويري

 

 

 

 

سينماتك

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك