يعود تاريخ السينما في العراق إلى العام 1959 حين أنشأت أول مؤسسة حكومية للسينما تحت اسم مصلحة السينما والمسرح إلا أن الإنتاج السينمائي العراقي لم يظهر إلى النور إلا في النصف الثاني من الستينات، إذ إن المصلحة اكتفت حتى العام 1966 بانتاج الأفلام الوثائقية ذات الصلة بحوادث ثورة 14 يوليو/ تموز . 1958 خلال الفترة التي سبقت ذلك قدم القطاع الخاص عدة افلام من بينها (حوبة المظلوم) و(أنا العراق)، كانت جميعها نسخاً من كثير من الأفلام المصرية التي لم تكن تحمل أي تميز. في العام 1962 قدم المخرج حكمت لبيب أواديس ثاني أفلامه تحت اسم «قطار الساعة 7» وهو فيلم ذو قيمة فنية عالية أحدث نقلة مميزة في السينما العراقية. تدور حوادثه المأخوذة عن مسرحية بعنوان (حكم القدر) للكاتب الارمني أواديس هاردينال، حول قصة فؤاد (سليم البصري) الذي يعمل تاجراً ناجحاً ويعيش حياة عائلية سعيدة مع زوجته إلا ان الغيرة والشكوك تتسبب في طلاقه لزوجته وفراقهما، بل وتدمير حياته وحياة الاسرة بأكملها. أجواء الفيلم كانت قريبة من أجواء الأفلام المصرية خصوصاً أفلام المخرج حسن الامام، إذ تلعب المصادفة والقدر دوراً في تحديد مصائر أبطال الفيلم. بعد ذلك ساهمت عدد من شركات القطاع الخاص في اثراء المكتبة السينمائية العراقية بعدد من الأفلام التي كانت قريبة في مستواها الفني من فيلم أواديس من بينها «مشروع زواج» و«أبوهيلة». السبعينات انطلاقة حقيقية على رغم كل تلك الانتاجات فإن الانطلاقة الحقيقية للسينما العراقية كانت في فترة السبعينات التي شهدت إنتاجا منتظما لنوعية جيدة من الأفلام التي أنتجتها المؤسسة العامة للسينما. تميزت هذه الأفلام الروائية بجديتها وبخروجها على النمط السائد في معظم البلدان العربية في ذلك الوقت، من بينها «الظامئون» و«المنعطف» و«بيوت في ذلك الزقاق». كذلك ظهرت خلال هذا العقد، أفلام جادة ونظيفة أخرى، كان لها دور كبير في بناء السينما العراقية الجديدة التي نشطت آنذاك، إذ تمكن الجيل الشبابي المحب للسينما من فرض حضوره على الساحة الثقافية المحلية والعربية، فظهرت أفلام مثل «الأسوار» لمحمد شكري جميل العام ،1979 و«القناص» لفيصل الياسري العام .1980 مثل هذه الأفلام كانت تسعى لخلق سينما عراقية جادة تكسر الجمود وتحاور العقل والروح، سجل فيها السينمائيون مواقفهم وآراءهم إزاء التطورات التي شهدتها الساحة السياسية العراقية. هكذا جاءت السينما العراقية الواقعية، التي تحاور الآخر وتستخلص تجاربه وتستفيد منها. اهتمت بها السلطة أنذاك وأنفقت عليها، فاستضافت السينمائيين والصحافيين من شتى أنحاء العالم، كما كثرت المهرجانات والمشروعات السينمائية في بغداد التي أصبحت ملجأً لكل محبي هذا الفن وعشاقه. أفلام الاستعراض... بداية النهاية اجتذبت هذه الحركة السينمائية النشطة الراغبين من الشباب، فطفقوا يقدمون مشروعات واقعية متميزة ألقت الضوء على شيء من معاناة الشعب العراقي في ذلك الوقت. أثار ذلك حفيظة السلطة الحاكمة، فأحكمت القبضة على الحركة السينمائية العراقية ليتغير كل شيء، ولتبرز إلى الساحة وجوه وأسماء أخرى لا هم لها سوى انتاج أفلام هدفها الأول والأخير استعراض أمجاد القائد وبطولاته عبر أعمال لا تمت لواقعية السبعينات بصلة، وقعت بأسماء كبار السينمائيين العراقيين والعرب كفيلم «الأيام الطويلة» لتوفيق صالح العام ،1980 و«القادسية» لصلاح أبوسيف .1981 هكذا إذاً وبعد ازدهار السبعينات النوعي، جاءت بداية الثمانينات لتشهد السينما العراقية انتكاسة حقيقية أنتجت خلالها مجموعة من الأفلام لا تمثل العراقيين بأية حال من الأحوال، وهي على رغم ذلك أحدثت تطورا ملحوظا في كمية الإنتاج السينمائي التابع لمؤسسة السينما العراقية، إذ بلغ عدد الأفلام المنتجة 28 فيلماً قياساً بسنوات السبعينات التي بلغ الانتاج فيها 16 فيلماً. هذا الانتاج الضخم الذي رصدت له موازنة هائلة لم يحقق أي نجاح يذكر، لا على الصعيد المحلي ولا على الصعيد العربي والعالمي، لا لتمجيدها المبالغ والمكذوب للنظام الصدامي وحسب، بل لما وصلت إليه من ضعف فني واضح في حكايتها الفيلمية وفي اخراجها، كفيلم «المهمة مستمرة» لمحمد شكري جميل، و«ساعات الخلاص» لطارق عبدالكريم الذي يرصد سقوط طائرة يقودها طياران عراقيان فوق الاجواء الإيرانية أثناء الحرب، فيضطران للهبوط بالمظلات في الأراضي الإيرانية، ومن هناك يتخذان طريقا في محاولة للوصول إلى الأراضي العراقية، وعلى رغم المعاناة يصلان سالمين إلى ارض الوطن. نضوب كامل ومحاولات للنهوض بعدها جاءت الفترة الممتدة من العام 1991 حتى ،2003 وهي التي شهدت نضوبا كاملاً للسينما العراقية، بسبب سيطرة السلطة الحاكمة. السينمائيون العراقيون جميعهم فروا بجلدهم، ومن هناك حاولوا تقديم بعض انتاجاتهم التي لم يكتب لها النجاح، لكنها على رغم ذلك ساعدت السينما العراقية على النهوض من جديد. بدايات النهوض جاءت في العام 2003 في بينالي السينما العربية بباريس، حين أولى البينالي اهتماماً خاصاً بالسينما العراقية، عارضاً « 18» فيلماً عراقياً ينحصر إخراجها بين الأعوام 1948 و.2004 كذلك أقامت اللجنة المنظمة للمهرجان ندوة خاصة عن السينما العراقية، فضلا عن الفعاليات والأنشطة الثقافية الأخرى التي أقيمت على هامش المهرجان. كانت تلك هي المرة الأولى التي يجتمع فيها السينمائيون العراقيون من الداخل والخارج ليتحدثوا عن هواجسهم السينمائية، وهمومهم الثقافية الأخرى بحرية ومن دون رقيب. كذلك كانت تلك هي البداية لنظرة جادة من قبل السينمائيين العراقيين لتخرج الى النور اعمال يأتي فيلم «أحلام» على رأسها. «أحلام» نشيد عراقي وطني يظهر بعد معاناة وتصميم استغرق تصوير الفيلم العراقي «أحلام» قرابة الأربعة شهور، بدأت في منتصف شهر سبتمبر/ أيلول 2005 واستمرت حتى نهاية ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه. ظروف التصوير كانت متعبة للغاية، بل وكان العمل مستحيلاً مع تعرض طاقم العمل للكثير من المتاعب جاء أولها في مطلع أكتوبر / تشرين الأول أي بعد أسابيع قليلة من بدء التصوير، إذ تعطلت إحدى الكاميرات، ليتعطل معها التصوير ريثما يتمكن الدراجي من السفر الى سورية لإصلاحها إذ يتعذر عمل ذلك في العراق. عاد الدراجي بالكاميرا بعد اصلاحها واستأنف التصوير مع نهاية أكتوبر لكن الأمور لم تسر كما ينبغي. ظهرت المزيد من المشكلات من بينها الانقطاعات المستمرة للكهرباء وهو أمر لم يحله اللجوء الى المولدات الكهربائية التي تعمل بالديزل لسبب بسيط يكمن في عدم توافر الوقود اللازم لتشغيلها. التبرير المستمر لكل أعمال التصوير للقوات الأميركية شكل عائقا آخر وأوقع الفريق في مزيد من المشكلات والورطات. عدا عما تسبب به منع التجوال المعتاد وتعرض أفراد الفريق لإطلاق النار من الجانبين العراقي والأميركي. ويفصل الدراجي «احتجنا لعمل مخيم للجيش في وسط الصحراء، ولئلا يشتبه فينا أي طرف، وتحسباً لأي هجوم جوي، قمنا بوضع اشارة كبيرة على احدى التلال كتبنا عليها باللغة الانجليزية «طيارو الأباشي الأعزاء، نرجوكم، قبل أن تتخذوا أي قرار، نحن لسنا ارهابيين، نحن صناع فيلم نحاول ان نعيد بناء الفن والثقافة العراقيين. مر اليومان الاولان بسلام، إذ كانت المروحيات تحوم حولنا لكن لم يتعرض لنا أحد. في اليوم الثالث، وإثر تجمع مئات الأشخاص، وأثناء انتظارنا غروب الشمس لنصور أحد المشاهد الرئيسية، ظهرت في الأفق طائرة لم يكترث طيارها لاشارتنا العملاقة ولعله لم يلحظها فبدأ في قصفنا لمدة 10 دقائق. تفرق طاقم العمل والممثلون والأشخاص الموجودون على اثر ذلك، ولم ينجنا سوى رحمة الله ووصول طائرة آخرى تمكن طيارها من ملاحظة اشارتنا». قصف الطائرات لم يكن النهاية، إذ اضطر الدراجي لايقاف عمليات التصوير في نهايات ديسمبر، إثر اختطاف اثنين من طاقم عمله هما فني الماكياج، ومسجل الصوت، من قبل البعثيين العراقيين أولاً، ثم من قبل بعض الجماعات الشيعية وأخيراً احتجزهما الأميركان بهدف التحقيق معهما. أثناء الاختطاف الأول تعرض مسجل الصوت لطلق ناري في قدمه، أما الآخر فقد تعرض لضرب مبرح وانتهاكات جسدية أخرى. كذلك تعرض طاقم العمل بأكمله للاعتقال بسبب شكوك القوات الأميركية في نوايا صانعي الفيلم، ولم يفك أسرهم إلا بتدخل عاجل من الخارجية الهولندية. ويواصل الدراجي «واجهتنا مشكلة وجود ممثلة تقدم دور أحلام، إذ لم توافق أية ممثلة على ذلك في مثل هذه الظروف خصوصاً مع وجود مشهد الاغتصاب. قبل بدء التصوير بيوم واحد عثرت على من يمكنها أن تؤدي الدور، لكنها اشترطت أن أغير مشهد الاغتصاب، ثم اشترطت ان يؤدي زوجها دور المغتصب، وأخيرا اشترطت ان تحضر معها ابنها الرضيع الى موقع التصوير. معاناتنا كانت طويلة لكن تصميمنا كان أكبر، لأننا نريد أن نبني عراقا جديداً، بنفس العراقيين وبروحهم وبقوة الشخصية العراقية. نحن لا نصنع سينما في العراق بل نبحث عن عجلة الحياة فيها، كما أن الفيلم بالنسبة إلينا ولكثير من العراقيين بمثابة نشيد وطني عراقي». الوسط البحرينية في 19 أبريل 2006
في لقاء مع مخرج الفيلم العراقي «أحلام»
الوسط - منصورة عبدالأمير فيلم «أحلام» العراقي، لمخرجه محمد الدراجي، هو واحد من أوائل الأفلام التي انتجها العراق بعد سقوط نظامه الصدامي، وهو محطة مهمة ومميزة في تاريخ السينما العراقية أعاد اليها روحها، علامة فارقة كادت أن تميزها في سبعينات القرن الماضي، هي اعتمادها الواقعية البحتة ناقلة هموم أبناء شعبها جاعلة إياها قاعدة لانطلاقها، خاطية بذلك خطوات ناجحة ما سبقها إليها على المستوى العربي سوى السينما المصرية في سنوات تألقها وعزها، والروسية على المستوى العالمي. «أحلام»... فيلم تضاربت بشأنه آراء النقاد، الذين حددت السياسة مواقف بعض منهم فوصفوه بالفوضى البصرية، التي اعتمدت قضية ساخنة سعياً الى النجاح من دون وجود قصة ذات تسلسل منطقي وواقعي. في مقابل أولئك وجدوه كثيرون آخرون عملا مميزاً ينبئ بمستقبل زاهر للسينما العراقية التي قتلها الظلم الصدامي وحروب ثلاث ثم معاناة اقتصادية دفع الشعب العراقي ثمنها على جميع الأصعدة. «الوسط» حاورت مخرج فيلم «أحلام» عبر اتصال هاتفي، ليرد على الانتقادات أعلاه وليتحدث بشيء من التفصيل عن سر الاهتمام بفيلمه وعن أهم عوامل القوة والتميز فيه. بداية رفض الدراجي تعبير «الفوضى البصرية» متهماً واضعيه بحملهم «نفساً سياسي وتأييدياً لنظام صدام حسين ولذلك لم يحبوا أن تعرض صورة سيئة له» ويضيف مؤكداً «بعض الصحافيين العرب لديهم هذه النظرة القومية الخاطئة للنظام على رغم انه هو من دمر القومية والوحدة بدخوله الكويت وهو من فرق العرب أشلاء» لكن الدراجي على رغم ذلك يؤمن بأن لكل ناقد «وجهة نظر مختلفة، وأنا أحترم رأي الجميع، لكني لا أتفق معهم في موضوع الفوضى البصرية، فأنا لدي وجهة نظر سينمائية فنية، عملت من خلالها على أن أجعل كثيراً من المشاهدين يرون الفيلم كما أراه» في المقابل حصل الفيلم على كثير من ردود الفعل الايجابية، فقد «أثبت نفسه في عدد من المهرجانات العالمية التي عرضته، وعددها 36 مهرجان، كما فاز بجائزة أفضل فيلم في مهرجان بنغلاديش، بالإضافة إلى حصوله على جائزة النقاد وصانعي السينما في آسيا، عدا عن ترشيحه لجائزة أفضل فيلم عربي بمهرجان القاهرة وتصنيفه ضمن أفضل عشرة أفلام بمهرجان روتردام من بين 160 فيلماً من جميع أنحاء العالم. اضافة إلى ذلك، رحب به الكثير من النقاد وأشادوا به، إذ اعتبره أحدهم لوحة من لوحات جوتو، بينما رأى آخر انه احيا السينما العراقية وأعادها إلى واقعية السينما الروسية. اهتمام عالمي كبير ... والأسباب واضحة بشأن سر الاهتمام العالمي الكبير بالفيلم، وفيما إذا كان ذلك يرجع لكونه التجربة الأولى تقريباً لجميع طاقم عمله، أو لكونه أحد أوائل الأعمال الفنية التي تأتي من العراق بعد سقوط النظام الصدامي، أجاب الدراجي: «بالتأكيد يثير فيلمي الاهتمام، فالعراق في نظر الجميع يعني الحرب، وهي لا تصنع سينما، بل تصنع حرباً ودماراً، ولذلك يعد تقديم فيلم عراقي صور بالكامل في العراق أمراً مفاجئاً وانجازاً كبيراً بل إن تشغيل الكاميرا في هذا البلد انجاز لأنه بمثابة خلق حياة جديدة. السبب الآخر الذي يرجع إليه الدراجي اهتمام الكثير من المهرجانات العالمية بفيلمه هو «ما يطرحه من وقائع الحرب الأخيرة، وما يقدمه من قصص حقيقية تصور معاناة عاشها بعض العراقيين نعرضها في إطار سينمائي واقعي بحت». سينما الصورة، وشخصيات تصنعها الحوادث عوامل قوة الفيلم في نظر الدراجي هي استناده إلى قصة حقيقية، عدا عن حقيقة تصويره داخل العراق، وكذلك تقديمه لممثلين عراقيين غير محترفين يخوضون تجربة التمثيل للمرة الأولى، بل إن غالبيتهم أناس عاديون مروا بتجارب حقيقية مشابهة. لكن الدراجي الذي اهتم بعرض قصص ثلاث شخصيات حقيقية التقاها في العراق، لم يعن بالغوص في أعماق هذه الشخصيات وتعريف المتفرج على مكنوناتها، ألم يكن ذلك ليضفي عامل قوة آخر تجاهله المخرج، ربما من دون قصد. لا يجد الدراجي الأمر كذلك فهو كما يؤكد «اعتمدت الواقعية البحتة في تقديم عملي سواء في قصصه المطروحة، أو في الوقائع التي تدور حول الشخصية والتي تصنعها. في بحثي المسبق لعمل الفيلم وجدت أن الشخصية العراقية تتأثر بالوقائع التي تمر بها وتتكون من خلالها. كذلك وجدت إن المواطن العراقي لا يستطيع السيطرة على هذه الوقائع، بل إنه ولفرط المصائب والهموم التي يمر بها لا يتوقف ليفكر في كل ما يمر به ولذلك لايوجد في فيلمي مشاهد أحاول فيها أن أدخل في أعماق الشخصية، كما انه خلا من أي حوارات داخلية تردد فيها الشخصية خواطرها، لأن الشخصية تبنى وتتطور عن طريق الحدث لا الحوار. هذا الفيلم قدم الصورة العراقية بإطار سينما الصورة، لا سينما الحوار عملت على رمزية المكان ورمزية الوقائع فلا وقت لدي لأدخل عوالم الشخصيات، فذلك يؤدي الى إطالة مدة الفيلم بالاضافة الى أنني أتحدث عن العراق، وهذه الشخصيات ليست سوى رموز مكونة للمجتمع العراقي، فلا داعي للخوض في تفاصيلها. تعمدت القسوة على المتفرج إن كان الدراجي يتجنب الاطالة فلماذا بدا الفيلم محشواً بكثير من التفاصيل والوقائع، عدا عن تكرار بعض مشاهده كتلك التي تصور أوهام أحلام وتخيلاتها، هل أراد أن يقول أكثر مما ينبغي في مدة الفيلم القصيرة، ألم يظلم فيلمه مرة أخرى؟ مرة أخرى يدافع عن وجهة نظره الفنية باعتباره «التفاصيل الصغيرة جزءاً مهماً في الفيلم، بل إنها كونت القصة، أنا لا أعتبرها حشواً أو تكراراً، كل مشهد أقدم به جديد، كما ان له مدى وبعداً مختلفين. أما بالنسبة إلى أحلام فأنا تعمدت أن أعطي تفاصيل أكثر عن معاناة هذه الشابة التائهة في شوارع بغداد، وهي فاقدة لعقلها لأنها معاناة مجسدة لمعنى العذاب. ويكرر «لا أجد المشاهد مكررة، بل إنني أتعمد القساوة على المشاهد، لأحدث التأثير المطلوب فيه، أريد أن يتعامل المتفرج مع لقطات الفيلم ومشاهده ويتأثر بها من أعماق قلبه، لئلا تمحى من ذاكرته». وكوميديا تطلق الدموع لا الضحكات يمتلئ الفيلم بكثير من مشاهد التعاسة والألم التي تشحن المتفرج عاطفياً، وهي التي منعت بعض من تابعوه من أن يمتنعوا عن اكماله، خصوصاً أولئك الذين عايشوا بعض التجارب المرة التي يعرضها الدراجي. لكن المخرج تعمد أن يطعم فيلمه ذاك بجانب فكاهي تمثل في شخصية حسن، الجندي العراقي الذي يحلم بالسفر إلى أوروبا لا لشيء ، إلا ليحصل على علاج لشعره الذي يأبى الصلع إلا أن يشوهه. الفكاهة التي تنطلق على لسان حسن، ومن خلاله، تأتي سوداء تحمل في طياتها كثيراً من التعاسة والألم، تعمد الدراجي ادراجها «لأنني أردت أن أوضح أن مصائب العراق ليست الحرب والحصار فقط، بل إن أبناءه يحرمون حتى من أبسط أمنياتهم (...) نعم هناك كوميديا سوداء فحسن يمكن له أن يموت في أي لحظة لكنه على رغم ذلك لا يفكر سوى في علاج شعره. أجمل المواويل العراقية لا يلجأ الدراجي للفكاهة وحسب، بل يملأ فيلمه بمجموعة من أروع الأغنيات العراقية الحزينة على الدوام سواء أكانت تتغني بالحبيب أم تشكو هجرانه، لكن استخدامه الأغنيات جاء مفرطاً بحيث لم تخل أكثر المشاهد منها، فلماذا كان ذلك، هل هي حالة شوق يعيشها الدراجي المغترب في هولندا، أم محاولة لشد انتباه الجمهور غير العربي؟ مرة أخرى لا يتفق معي الدراجي ويؤكد واثقاً «لا هذا ولا ذاك، لكنه واقع العراقيين المعروفين بأنهم شعب يحب الغناء في الحزن والفرح، المواطن العراقي يغني دائماً، وهذا جزء من التفريغ عما بداخله ويواصل أنا من وطن الاغنية، ولذلك أردت أن أجعل كل من يشاهد الفيلم يعيش أجواء العراق، فهذه الأغنيات هي جزء من الحدث والمكان، ولذلك يجب توظيفها في الفيلم. ورؤية سياسية متوازنة أخيراً يطرح الدراجي عبر فيلمه وجهة نظر سياسية متوازنة يشير فيها بأصابع الاتهام إلى كثير من الأطراف والجهات التي تحاول تدمير العراق الذي كان يعاني أيام النظام البائد لكنه لايزال كذلك وهو كما يقول «أقدم الشخصية العراقية التي تأذت من كثير من الاطراف، نظام صدام والاحتلال الأميركي، والمجتمع الدولي الذي ضغط على العراق وحاصره». لكنه على رغم ذلك يرفض أن يوجه اتهامه إلى أي طرف، ويختم كلامه حدافعاً : «أنا أقدم صورة سينمائية، لا أدين أي طرف، ولا أقوم بحملة دعائية ضد أي جهة، بل أعرض قصصاً موجودة وأدع المشاهد يكون قناعاته وقراراته بنفسه». يحكي فيلم «أحلام» الروائي الوقائع التي عاشها ثلاثة أشخاص تقاطعت طرق حياتهم، مستعرضا أمالهم، وأحلامهم، والوقائع التراجيدية التي مر بها كل منهم. ثلاث شخصيات جاءت لتمثل الشعب العراقي بأكمله، نلتقي بهم جميعا وسط أنقاض مستشفى للأمراض العقلية قصفته القوات الأميركية بعد دخولها بغداد. يقتل الكثير من المرضى والأطباء بينما يفر الباقون خوفا إلى رعب شوارع بغداد الذي يبدو أكثر خطراً وتهديدا لحياتهم. أول الفارين أحلام، شابة اعتقل زوجها في ليلة زواجهما من قبل مخابرات صدام ما أدى لاصابتها بصدمة عصبية أدت بها الى مستشفى الأمراض العقلية. أما مهدي، فهو الطبيب الشاب الذي يحرم من اتمام دراسته للحصول على شهادة الماجستير، بسبب توجه والده (المتوفى) الاشتراكي. يتطوع، بصفته احد الأطباء المستشفى المقصوف، لانقاذ من تبقى من الأحياء سواء الجرحى منهم أو أولئك الفارين، مع بعض المتطوعين لعل أبرزهم هو الشخصية الثالثة في الفيلم علي الذي كان جنديا سابقا في جيش صدام يفقد عقله بعد تعرضه لاصابة في الرأس أثناء هجوم جوي. يتمكن علي من العثور على أحلام ويساعدها على الوصول إلى المستشفى، لكنه يقتل حين يصل لأحد الشوارع التي تدور فيها مواجهات بين البعثيين الموالين لصدام (الفدائيين) وبعض من أبناء الشعب العراقي، تحت أعين الأميركان. تظل أحلام طريقها مرة أخرى حتى تصل لسطح بناية مهجورة، لا يتمكن أي ممن يسعون للوصول إليها لإنقاذها، لنراها في المشهد الأخير وهي تحاول القفز من أعلى السطح بعد أن فقدت الأمل في الوصول إلى بر الأمان وعجزت حتى عن أن تحلم بعودة حبيبها وزوجها أحمد. أحلام التي قفزت من سطح البناية، بعد أن فقدت عقلها، واغتصبت ثم ضربت، لم تزل ممسكة بعقد أهدته اياها والدة أحمد في يوم زواجها الذي لم يتم، في إشارة الى أمل العراقيين ببدء حياة جديدة. الوسط البحرينية في 19 أبريل 2006
أحلام ... حياة جديدة وتميز ملحوظ - منصورة عبدالأمير لم يكن «أحلام» الفيلم العراقي الأول الذي يتم انتاجه بعد سقوط نظام الحكم الصدامي، فلقد سبقه فيلما «زمان رجل القصب» و«غير صالح للعرض». لكن ما يميز هذا الفيلم بحق، ويجعل منه الأول (بعد سقوط النظام) بل وأهم هذه الأفلام هو النقلة السينمائية الواعية التي يحدثها للسينما العراقية. وعلى رغم بعض نواحي الضعف الفني التي يعاني منها، فإن «أحلام» وبشهادة أكبر النقاد، أعاد لسينما بلاده شيئاً من مجد السبعينات الذي عاشته والذي جاء بفضل اعتماد صانعيها في تلك الفترة أسلوب الواقعية البحتة في عرض قضايا وهموم الشعب العراقي آنذاك. اليوم يأتي فيلم جديد يعود به محمد الدراجي الذي لا يجد أسلوباً أفضل لنقل معاناة أبناء بلده من اسلوب الواقعية ذاك، فالحال العراقية لا تحتمل الترميز أو الاسقاطات أو... اللف والدوران، ولذلك أرتأى الدخول بشكل مباشر وواقعي لقصصه الثلاث التي عرض من خلالها بعض أوجه المعاناة التي عاشتها شخصيات ثلاث بدأت أحداثها إبان الحكم الصدامي ولا تزال معاناتها مستمرة على رغم سقوطه. ولم يكتف الدراجي باستعراض نماذج ممثلة للواقع لكنه لجئ الى اعتماد قصص حقيقية بعض أبطالها لايزالون على قيد الحياة، بل واستعان في تقديمها على الشاشة ببعض ممن عاشوا معاناة قد تكون مشابهة لحد كبير لما يقدمون على الشاشة. فيلم «أحلام» أعاد الحياة للسينما العراقية، وحصل على اهتمام عالمي دفع بصانعه للعمل حثيثا على الانتهاء من تصوير فيلمه الثاني «أم حسين» الذي يحكي هو الآخر وجها آخر من وجوه معاناة الشعب العراقي. هذه المرة عبر حكاية سيدة تفقد أبنها في حرب الخليج، وتظل تبحث عنه. الفيلم يستعرض صورة أخرى من صور المعاناة العراقية هذه المرة عبر استعراض قاس لضحايا المقابر الجماعية، سواء الأموات منهم أو الأحياء. فضائية البحرين... ومشروع مصالحة المسئولون في هيئة الاذاعة والتلفزيون لا يترددون في الإعلان عن باقة برامجهم الجديدة في كل مكان، رافعين شعارات المصالحة مع المشاهد هنا وهناك. والجمهور لايزال يبحث عن الوجوه البحرينية ويتساءل أين خريجو كلية الإعلام التابعة لجامعة البحرين، وهل يعقل ألا تجد الوزارة من يشرفها ويرفع رأسها من بين هؤلاء الخريجين؟ وهل يعقل ألا نتمكن من أن نسمع لهجتنا البحرينية على تلفزيوننا وأن نكتفي بسماعها مخففة و«متدلعة» على لسان اخواننا العرب. ومع احترامي لجميع القدرات والطاقات العربية، إلا أن المفترض أن تكون الفضائية هي «وجه البلد» وان تقدم للمشاهد في جميع أنحاء العالم عينة من أبنائه، من المحرق حتى المنامة وصولا للشاخورة والجنبية انتهاء بالمالكية والزلاق. لا أعرف حقا أي مشاهد ذلك الذي تريد الهيئة التصالح معه، كله إلا ده يا هيفا حسن، هذا ما كان ينقصنا، هيفاء تغني لأطفالنا، وتتقرب إليهم. انتهت من الشباب و«خلصت عليهم» والآن جاء دور براعمنا الصغيرة، لتساهم في وضع لمساتها الحنونة على عالمهم. هي موضة على أية حال، بدأت فيها نانسي عجرم ربما، فأبت هيفاء إلا أن تضع بصمتها واضحة في عالم أطفالنا وتساهم في تربية النشء وتعلمه عن عالم الواوا وكيف يجعلها بردانة وبحاجة لدفء الحبيب، «ما فيش حد أحسن من حد». أطلقت أغنية مبتذلة فيها الكثير من ملامحها، أسمتها الواوا تشبهها الى حد الغثيان، ويا عيني عليك يا هيفا، حريصة على صغارنا وتريدين اسعادهم، باغنيتك التي تتدفق طفولة تشبه تلك التي تطل من نظراتك وتأوهاتك. علينا الآن أن نقف موقفا مختلفا، اولياء الأمور عليهم أن يتجنبوا أي قصص ذات علاقة بالواوا، أما واضعو اللهجات العربية فعليهم أن «يشطبوا» هذه المفردة «الواوا» من كل القواميس العربية. سامحك الله يا هيفا، أحدثتي أزمة لغوية تشبه أزمة المرور التي تسببت فيها في بلد عربي شقيق، كيف يمكن لنا الآن الاستعاضة عن الواوا في ما تبقى من تراثنا الشعبي، وكيف يمكن أن تتم قصص أطفالنا من دونه. الفضائيات العربية عموماً عليها أيضا أن تقف موقفا تربويا شجاعا، صحيح أنه «ما لهم إلا هيفا» لكن اعتقد أنه يجب منع كليب الأغنية الذي يحوي بكل تأكيد مشاهد لا تصلح لكبار القوم فضلاً عن الصغار. الوسط البحرينية في 19 أبريل 2006 |
هوليوود..بوليوود و«دوليوود».. صناعة سينمائية تولد من قلب الخليج! كتب جعفر حمزة ''التزاوج الحديث بين السينما والعولمة بثقافتها وسياستها واقتصادها، بدأ بتفريخ أسواق ترسم ملامح لسينما معولمة''. بدأت صناعة السينما بعملية ''تغيير الجلد'' الذي كان عليها لسنوات طوال؛ للإذن بدخول مرحلة جديدة، مرحلة لا يكون فيها ''الاسم التجاري'' هو الفيصل والاعتماد الرئيسي في تناول مسائل صناعة مزدهرة ومهددة للسطو التقني عليها على الدوام ''القرصنة''. لقد أصبحت السينما بتكويناتها المختلفة محل ''خيارات متعددة'' للصنع والإنتاج والتوزيع، فما كان بالأمس ''حكراً'' على مكان أو خبرة معينة بات اليوم ''مُتاحاً'' حيث لا حدود للزمان ولا استئثار بالخبرة، ويبدو أن عصر ''السينما الأمريكية'' المنتجة في ''الأراضي الأمريكية'' لم يعد ملازماً ولا ''ضرورياً'' لبعض شركات صناعة السينما الأمريكية، فالحسابات مختلفة ووجهات النظر تتصارع من أجل رؤية أكبر، رؤية ينظر لها أصحاب رؤوس الأموال المستثمرين في هذه الصناعة العصرية، وينظر لها المخرجون وكتاب السيناريو بل وحتى الممثلين، لتكون عقلية ''هوليوود'' بأمريكا، وبقية أطراف جسمها ممتدة من شمال أوروبا، وصولاً إلى جنوب أفريقيا، ومن روسيا إلى الهند وحتى أستراليا. ما نحاول تسليط الضوء عليه في هذا الموضوع، طرح لتصور مدروس سيرسم الملامح القادمة لصناعة السينما في الشرق الأوسط، وقد يغير بصورة أو بأخرى بعض اتجاهات صناعة السينما في هوليوود. بين كرة القدم الباكستانية والعلامة العالمية يُذكر أن كثيراً من الصناعات في العالم تقوم على أساس العمالة الرخيصة، والعدد الكبير من كمية الإنتاج والجودة المقبولة التي ترضي ملايين الزبائن حول العالم، فصناعة كرة القدم على سبيل المثال تستلزم الآلاف من الأيدي العاملة الماهرة والرخيصة في الوقت نفسه، وليس هناك أفضل من البحث في الدول النامية لتجد ضالتك، لذا نجد أن تلك الصناعة موجودة ومنظمة في الباكستان، وما يجري على صناعة كرة القدم ''الباكستانية'' التي تحمل علامة ''أديداس'' أو غيرها من العلامات العالمية المشهورة، لا يختلف سوى في القالب التي تتم به العملية لا أكثر ولا أقل، ففي صناعة الرسوم المتحركة أو ما يطلق عليه ''الأنيميشن''، تبرم كثيرات من الشركات الأمريكية المهتمة بصناعة السينما عقوداً مختلفة مع الشركات الهندية المختصة بتقنية الأنيميش، لا لنقص تلك القدرات في الولايات المتحدة، إلا أن السعر المرتفع الموجود لدى تلك الشركات الأمريكية تدفع أصحاب القرار في صناعة السينما للذهاب إلى أقصى الشرق حيث المنتج العالي الكفاءة والالتزام المالي الأقل، وبالتالي تتحقق معادلة الربح المضاعف للجهتين، ففي حين ''تقتصد'' الشركات الأمريكية في بذل ما لديها لشركات بني جلدتها، لتستفيد منه بطبيعة الحال في مشاريع أخرى، تكون الشركات الهندية قد فتحت أبواب الجنة عليها في تلك الصناعة لشركات أمريكية أخرى، وهكذا يسير العمل. وبهذه المعادلة البسيطة، تتضح مسارات أخرى لكسر ''الحِكر'' السينمائي في الإنتاج، وليكون المعيار كلمتين: الجودة والأجر الأقل. هوليوود وأخواتها! الكل يعرف هوليوود، وكثير منا سمع عن بوليوود الهندية، إلا أن الغريب أن تسمع كلمة ''دوليوود'' وكأنها إحدى أخوات هوليوود.. تعتبر مدينة دبي الإماراتية إحدى مواقع التصوير الرئيسية في فيلم "Syriana"، وهو أول فيلم من هوليوود يتم تصوره في الإمارات العربية المتحدة. ويُقال إن كثيراً من الفرص والتخطيط المنظم في دبي قائمة على قدم وساق لتكون محط أنظار صناعة السينما في العالم. ولا يبدو الأمر مستبعداً لما تملكه هذه الإمارة من ''طاقة جبارة'' و''عقل منظم'' يعملان مثل ''الثقب الأسود'' الذي يجذب كل شيء إليه حتى الضوء والزمن. ويبدو أن المسألة لم تأتِ بمحض الصدفة من أجل حجز لتصوير في مدينة عربية، فالكثير من الأفلام الأمريكية تم تصويرها في بلدان عربية وإسلامية مختلفة، فما الجديد في تصوير هذا الفيلم، وما المقصود بالعقل المنظم، وكأنها بشارة لمدينة ''دوليوود'' -نسبة إلى دبي- لتكون محط صنّاع السينما في العالم؟ ما يدفع إلى هذا التحليل ''العلامات'' التي رسمتها مدينة دبي لنفسها لتكون ''ملفتة للنظر'' شئت ذلك أم أبيت، فمن المشاريع الضخمة التي تقوم بها الإمارة مدينة دبي الإعلامية Dubai Media Center (DMC)، وهي أبرز مثال للتطور القائم في مجال صناعة الإعلام في الشرق الأوسط، وبالخصوص في الإمارات العربية المتحدة، لما تتمتع به هذه الدولة من مميزات وتسهيلات بالإضافة إلى حوافز تشكل ملامح لفرص متعددة وكبيرة في مثل هذا المجال من الصناعة. فمدينة دبي الإعلامية التي تم تأسيسها في١٠٠٢ تشرف على ما يصل إلى ٠٠٩ شركة من أكثر من ٥٤ بلداً في العالم، ومازالت تنمو، وبعبارة أخرى تمثل هذه المدينة الجمع بين العبقرية والموارد المتوفرة. ويبدو أن صناعة جدية قائمة للسينما تولد في مدينة دبي لتكون بالقرب من أختها المتوسطة ''بوليوود'' وكلتاهما تنظران إلى ''هوليوود'' أختهما الكبرى. بين نفط العرب وكرتون شاب إماراتي ''حملة لتقليل الاعتماد على النفط''، كانت هذه العبارة الملفتة موجودة في الموقع الرسمي لفيلم"Syriana" وهو من بطولة George Clooney و Matt Damon، ومن إخراج Stephen Gaghan. وباختصار شديد يحكي الفيلم قصة العلاقات المترابطة والمتشعبة بين كبار رجال الأعمال الأمريكان وعلاقاتهم مع التجار والمستثمرين العرب ضمن توليفة قصصية تحكي الفساد والأخطاء التي ترتكب تحت مظلة النفط السوداء التي يتكالب عليه الجميع، فالمخرج أو الممثلون لم يكونوا متبرعين ويعملون بالمجان من أجل توضيح تلك الحملة التي تدعو للتقليل من الاعتماد على نفط الشرق الأوسط وبعبارة أكثر مباشرة، بالتقليل من الاعتماد على نفط العرب. ويتضمن الفيلم كثيراً من ''الإشارات'' التي لا يحب العربي أن يشاهدها، أو على الأقل أن يفهمها بطريقة خاطئة، وليس هذا بيت القصيد، فمعظم مشاهد التصوير تمت في مدينة دبي وفي الإمارات بصورة عامة، ما يعطي دفعة لخطوات أخرى من شركات ''هوليوود'' للبحث عن جديد في الشرق الأوسط، ما دام حديث الساعة، والشركات التي تتمع بقدر بسيط من الذكاء سيكون من ضمن أجندتها البحث في الشرق الأوسط، ليس عن النفط بل عن رصد لإخراج أفلام تتكلم عن مشكلة أمريكا في العالم ''الشرق الأوسط''. وبين كل تلك التراكمات السياسية والمالية للشركات الأمريكية، يظهر أنموذج عربي إماراتي شاب، يرسم سبيلاً آخر، يضيف إلى ''دبي'' رصيداً آخر يؤخذ في عين الاعتبار أيضاً. الفيلم الكرتوني ''فريج'' أخرجه الشاب محمد سعيد الحارب وتمت الاستعانة فيه بالأيدي الهندية الخبيرة في مجال الأنيميشن، وبتمويل من مؤسسة الشيخ محمد لتمويل رجال الأعمال الشباب (SME) ، والمسألة لا تقوم على أساس أن الفيلم من إنتاج عربي بحت، حيث أن رسم الشخصيات والفكرة العامة نابعة من شاب عربي فقط، بل إن المسألة يُنظر لها من جهة توجه ملحوظ لحكومات هذه المنطقة لدعم الإبداع والإنتاج، وهو ما يخلق الجو المشجع للإقدام على برم الصفقات وفتح المجال لإحدى أخوات ''هوليوود'' بالكلام والفعل وترك الأثر. وبين جورج كلوني ومحمد الحرب تتشكل صورة لمدينة أخرى تولد في الشرق الأوسط ''دوليوود''. فجر عربي بين مياه الدراهم وسماد الريالات القارئ المتمتع بقدرة الربط والشبك، وقليل من التحليل يرى أن إرهاصات التشكل ''الصوري'' بات أولوية قبل أن يكون خياراً، ويكفي للقارئ أن يتأمل ''الحِراك'' المتصاعد في السنوات الخمس الأخيرة في منطقة الخليج من ناحية ''صناعة الصورة'' سواء أكانت سينما أم تلفزيوناً، فمهرجان دبي السينمائي من جهة، ومسابقة أفلام من الإمارات من جهة أخرى، فضلاً عن مهرجان الجزيرة للإنتاج التلفزيوني، هذه الثلاثية المستمرة تدفع بالقول إن ''صناعة الصورة'' لم تعد ''مستوردة'' كما كان يُقال على الدوام، وكأننا أعدمنا الوسيلة والبصيرة والبصر، ما نلمسه من تلك المشاريع الثلاثية هي حجة مضاعفة لتصدير الصورة التي نريد أن نقولها للعالم عن أنفسنا، وما حصل مع بعض المتحمسين في زمن عرض فيلم ''آلام السيد المسيح'' ولئن مُنع عرضه في البحرين لسبب قد نتفق معه أو نختلف، إلا أن هناك ما دفع البعض للبوح بأمنية أن يقوم مخرج الفيلم ''ميل غيبسون'' بإخراج فيلم كقوة فيلمه عن المسيح عن إخواننا في فلسطين، ونقول إن القدرة المالية كانت وما زالت بين أيدينا، والقدرة التقنية أصحبت لدينا، والفرصة تتكرر على الدوام في مهرجانات ومسابقات واحتفالات، إلا أن النية هي الناقصة، وما زلنا نبحث عنها. فبين الملايين التي تتدفق لترسم صورة مبهرة وجذابة في دولة خليجية تبني صروحاً متعددة كالإمارات، وبين الملايين الأخرى التي ترسخها دولة جارة أخرى كقطر لتبقى ''الصورة'' هي الكلمة وهي المستقبل، فبين هذه وتلك تبقى الحجة قائمة علينا من أنفسنا لنثبت حضورنا في تلوين الصورة ذات الملامح الباهتة التي يراها الآخرون عنا. ومع ذلك تبقى النيات هي محركات الديزل التي لا تتوقف في أدمغتنا ليكون الإنتاج على رغم الملاحظات عليه، هو الذي يجدد تدفق وقود آخر لتستمر عملية صناعة الصورة مع كل الظروف، في الإمارات وقطر وعمان والكويت، وتستمر عملية إنتاج الصورة في البحرين بعدسة الذوادي التي لا تتوقف. فهل نرى منظومة بصرية خليجية لها القدرة على تركيز القوة الموجودة نحو نقاط تعيد العالم إلى التفكير فينا كأمة لها ثقافتها غير التي كانوا ينظرون؟ الوطن البحرينية في 19 أبريل 2006 فيلم أسترالي مؤلم ويجرح المشاعر قصة «حضارة» استخدمت القوة لاجتثاث الآخر نبيل عبدالكريم فيلم «أرانب تحت التجربة» Rabbit-proof Fence الاسترالي يتحدث عن تعامل الدولة مع سكان القارة الأصليين في فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي. سيناريو الشريط السينمائي هو مزيج من الدراما وتوثيق مرحلة شهدت خلالها القارة الاسترالية سياسة رسمية تقوم على منهج دمج السكان الأصليين بالثقافة الأوروبية التي نزحت مع المهاجرين من القارة البيضاء. هذا المنهج اعتمد مجموعة أساليب تقوم على القهر والاذلال والطرد والقتل والتشريد والعزل منذ بدايات ما يسمى بالاكتشافات الجغرافية في القرن الخامس عشر. وبعد أن استقر الوضع لمصلحة الوافد الأوروبي تجمع ما تبقى من سكان البلاد في مناطق منعزلة وهذا ما جعل دولة المهاجرين بعد 400 سنة تبتكر أساليب جديدة لتذويبهم في دائرة المستعمر الأوروبي. الفيلم يتحدث عن هذه الفترة حين ابتكرت أساليب حديثة تربوية واجتماعية لتحقيق هذه الغاية. مخرج الفيلم استند على معلومات ارشيفية صاغها في إطار درامي. فالتوثيق موجود ولكنه عالج المشكلة من خلال قصة أسرة اعتقل أطفالها (بنات ثلاث) ونقلوا إلى معسكر بعيد تشرف عليه مؤسسات تعمل على تلقين المخطوفين نمط حياة «البيض» وسلوكهم اليومي في التعامل والتخاطب والتحادث. وظيفة المعسكر واضحة فهي تقوم بمهمة تهجين المخطوفين من خلال ممارسة سياسة التلقين المنهجي وتزويجهم من «بيض» على أمل أن تتغير السلالة ولون البشرة وطباع المجموعات مع مرور الأجيال. قصة الفيلم تتحدث عن نموذج محدد كمثال عام للاطلاع على دور تلك المؤسسات الدينية (التبشيرية) التي ساعدت الدولة في تذليل العقبات من خلال تثقيف المخطوفين بالاكراه وتهذيب سلوكهم بالقسر حتى يتناسب مع تصورات «البيض» ورؤيتهم للعالم. القصة تكمن في هذه المساحة التي تفصل بين مناطق وجود ما تبقى من السكان الأصليين لقارة استراليا وبين ذاك المعسكر الذي اختير مكانه في مناطق نائية حتى يكون بعيداً عن أهل الأطفال. تبدأ القصة بصدور قرار يعطي للشرطة حق القاء القبض على فتيات تلك المجموعات التي لاتزال تعيش منعزلة وتعتمد على الطبيعة كمصدر للرزق والعيش. تطارد الأسرة ويلقى القبض على الفتيات الثلاث وينقلن قسراً بعيداً عن أمهن ووالدهن إلى ذاك المعسكر. وفي تلك «الثكنة» التبشيرية يعطي الفيلم فكرة عن أساليب الاكراه التي تعتمدها المؤسسات لتدجين هؤلاء وإعادة صوغ ثقافتهم وشخصياتهم لتكون منسجمة مع هوية المجتمع الأوروبي الذي استورد جاهزاً من تلك القارة وأعيد بناء علاقاته وفق تصورات وضعها المهاجرون. تنتهي قصة البنات حين تهربن من المعسكر وسط ملاحقات ومطاردات استمرت أسابيع. ولم تنجح الشرطة في القبض عليهن ونجحن أخيراً في العودة إلى أسرتهن. وأهمية القصة أنها كشفت هذه السياسة وفضحتها الأمر الذي دفع الحكومة الاسترالية إلى منعها وترك أهل البلاد يعيشون حياتهم وفق مسلكياتهم الخاصة أو ما يرونه هو الصحيح. المهم في الفيلم ليس نهايته السعيدة بل بداياته المؤلمة. فهذه العائلة هي واحدة من مئات آلاف الأسر قضت نحبها واقتلعت أو شردت أو أبيدت في مجازر جماعية ارتكبت بحق الهنود الحمر أو السمر (سكان أميركا واستراليا) باسم التقدم والتخلف. فالأبيض المهاجر أعطى لنفسه الحق في إبادة جماعات لا تحصى واجتثاث ثقافاتها وإلغاء لغاتها وتقاليدها وعاداتها من خلال النبذ والطرد والاقتلاع والاجتثاث تحت مسميات «حضارية» أجازت للمعتدين حق الاستيلاء على ممتلكات الآخر. التلقين أو التدجين أو التهجين هي مفردات لسياسات تربوية/ اجتماعية ابتكرت باسم «الاخلاق» و«التقدم» للقضاء على آخر اتهم بـ «الهمجية» و«التخلف». وتحت ظل هذه الثقافة الاستعلائية (الفوقية) سحقت حضارات موغلة في القدم واجتثت واقتلعت في فضاء من الكراهية التي تولد الاحقاد وتعطي شرعية للقوي أن ينتهك الضعيف ويخرجه عنوة من الجغرافيا والتاريخ. قصة الاكتشافات الجغرافية التي انتشرت عالمياً في القرن الخامس عشر لم تكتب كل فصولها حتى الآن. فهي ارتكبت أخطاء وتجاوزات ضد الإنسان والإنسانية لا يمكن حصرها أو احصاء أعدادها وتداعياتها. المكتشفون انطلقوا من نقطة الصفر واعتبروا أن كل أرض يصلونها هي «جديدة» وغير موجودة قبل اكتشافهم لها. حتى فكرة الاكتشاف خاطئة لأن أوروبا استخدمتها للغزو والتوطين واعادت توظيفها لتبرير نقل السكان من القارة إلى تلك المناطق التي اعتبرت «جديدة». الاكتشاف أعطى الحق في قتل كل من يخالف أو يمانع أو يرفض هذا الشكل الجديد في تنكيل الآخر وانتهاك مجاله الجغرافي وتغيير أسماء الأمكنة وصولاً إلى الغاء الإنسان. الفيلم الاسترالي اعطى زاوية ضيقة عن صورة كبيرة ومظلمة في تاريخ البشرية. فهو ينطلق من سياسات معاصرة استخدمت في خمسينات وستينات القرن الماضي وتعتمد على فكرة اقتلاع الطفل من أهله وعزله عن بيئته الجغرافية/ الثقافية ونقله إلى معسكر يعاد فيه صهره وإنتاجه من جديد ووفق تصورات نموذجية (تربوية) وضعها اختصاصيون للتجربة في الناس والبشر واختبار مدى صحة النظريات في ميدان التطبيق. قصة الفيلم الاسترالي مؤلمة وتجرح المشاعر الإنسانية ولكن المثير للدهشة أن هناك الكثير من النخب الأوروبية والأميركية لاتزال تدافع عن مثل هذه الأساليب النازية باسم التقدم وبذريعة إعطاء فرصة للمتخلفين للتعرف على حياة الحضارة ومسلكياتها. وهنا لب المأساة. الوسط البحرينية في 19 أبريل 2006
|
تاريخ السينما العراقية واقعية بحتة في السبعينات ونضوب كامل في التسعينات الوسط - محرر سينما |