لا نعرف سبباً حقيقياً لتلكؤ محمد ملص في عرض فيلمه الروائي الطويل الثالث "باب المقام" على جمهوره السوري. ففي الأخبار المتداولة من حوله على مدى العامين الماضيين أنه عرض في مهرجان قرطاج عرضاً خاصاً، وشارك في مهرجان مونس البلجيكي لسينما الشباب وحظي بكاميرا رقمية مقدمة من القناة الخامسة في التلفزيون الفرنسي، كما أنه انسحب من مهرجان دبي السينمائي الدولي الأول من دون توضيح للأسباب، ولم يشارك في مهرجان برلين السينمائي الماضي، وعرض في عمان...الخ من دون أن يعرض في دمشق طوال الفترة الماضية.

لكن العرض الخاص له في "دار الأسد للأوبرا والفنون" فاجأ الكثير من متابعي شؤون السينما السورية، فقد عنى هذا الأمر لهم أن الفيلم لم يكن ممنوعاً، ولم يصور أي جزء منه خارج مدينة حلب، ولا تعدو موضوعته الأساسية أكثر من خبر تناقلته الصحف السورية من قبل حول جريمة حقيقية دارت أحداثها في دمشق صيف العام 2001، إذ كتبت هذه الصحافة عن امرأة متزوجة قتلت بسبب من عشقها لأغنيات أم كلثوم.

لا شك أن مأساة كهذه حدثت في (مجتمع يخفي من العنف الكامن ما يخفيه) بحسب ملص، تلهب خيال السينمائيين بالدرجة الأولى، ففيها كل مقومات الفيلم المطلوب: طزاجة السرد السينمائي، وواقعية اللحظة المشتهاة. وهو الأمر الذي دفع بالمخرج ملص للتصدي لهذه الواقعة بالاستناد إلى سيناريو كتبه له الكاتب والروائي خالد خليفة بوصفه ابناً لمدينة حلب، عاصمة الغناء السورية، المدينة التي ستنقل إليها أحداث الفيلم لأسباب درامية بحتة. سوف نشاهد في الإفصاح "البدائي" عن هويتها بالشرك الفوتوغرافي المنصوب سلفاً للقصة، فنحن نستطيع أن نفهم ذلك من خلال بورتريهات وضعها المخرج في "دكان" الغناء الأصيل لشيوخ الغناء السوري، عمر البطش وبكري الكردي. طبعاً هناك صور لأسمهان وأم كلثوم "المسؤولتان" أيضاً عن الغناء الأصيل في حياتنا.

في الفيلم سوف تلتقي الضحية (المعدة سلفاً للقتل) بالخوجا بديعة حافظة أسرار هذا الغناء أو ما بقي منه، وهي التي صالت وجالت في أعراس أيام زمان. طبعاً يقابل هذا الإفشاء البصري من دون أي مراوغة "دكاناً" آخر يقع تحت "باب المقام "، وفيه نرى مباشرة من هو المسؤول عن الترويج للأغنيات الهابطة. ولن نرى وجه البائع بعكس الدكان الأولى. ربما كان حرياً أن تكون الصورة مقلوبة، فما نراه هنا هو الأصابع المرتجفة والمذعورة والمرتبكة أثناء تبادل السؤال بين "إيمان" وصاحب المحل.

هكذا ندخل إلى أسرار الصورة بصوت شعبان عبد الرحيم الذي يفترض المخرج مسبقاً أنه مسؤول عن موجة الغناء هذه أو هو خير ممثل لها من دون تقصي حجم التبدلات الاجتماعية والثقافية التي أدت بنا إلى هنا، مع أننا نفترض أن هكذا مغنين كانوا موجودين على الدوام ما دام هناك شجاع وجبان يمشيان على سكة واحدة كما يقال.

يبدأ الفيلم بحديث إيمان (لعبت دورها سلوى جميل) إلى زوجها الحيادي جداً (أسامة السيد يوسف)، والمهووس بنشرات الأخبار الجديدة والبائتة، إذ لا يهمه من هذا العالم سوى الأخبار من دون أن نعرف لماذا، في الوقت الذي تعشق هي أغنيات أم كلثوم. وهي تعشقها في الفيلم كما يمكن لأي واحد منا أن يعشقها في الواقع، وهذا وأد درامي لا يمكن البناء عليه بناءً صحيحاً، فالعشوائية في اختيار الأغنيات تدلك على عشوائية في "نفخ" اللحظة الدرامية، وهذا خطل، فهذا الاختيار بدا خير مفتت للسرد الذي سيقوم عليه الفيلم، فلا نلمح تطوراً في معماره، وهو تطور يفترض أن يبنى على غناء هذه الزوجة المقتولة مقدماً كما يريد الفيلم أن يخبرنا بذلك.

حديث إيمان باللهجة الحلبية إلى زوجها (يا الله شقد تغيّرِتْ حلب) ينقلنا إلى تلقي رسالة مباشرة فحواها أن هذه الممثلة سوف تذهب إلى حتفها، وما بقي من حوارات طويلة ومملة مجرد تفاصيل مرهقة للفيلم. فكل هذا "الحوصان" الذي يقوم به العقيد أبو صبحي (ناصر وردياني) من حول ضحيته المستعدة للموت بيقين مدهش لا يعود مهماً، وحتى تأليبه لولديه المشغولين بالدواجن ولشقيقها، الطالب الجامعي المشغول بالأناشيد الحماسية والتلصص على (أفراد قبيلته) لا يعود مجدياً، فالأسرار كلها قد انفضحت على الملأ، وما من شيء يخفيه المخرج ليحمي فيلمه من بدائية التعاطي مع رموز استهلكت من زمن بعيد. فإذا ما أردتُ ـ كمشاهد ـ أن أترحم على زمن الغناء الأصيل، فهل يجب أن أقول أن هناك غناء هابطاً بالمقابل يتربص برموزنا وشيوخ غنائنا، وأنَّ (الأميّ) شعبان عبد الرحيم خطر بالتالي على أم كلثوم، وعلى حياتنا وأفئدتنا المروَّعة من دون أغانيه أصلاً. بهذا المعنى ألم تكن أم كلثوم خطراً على حياة إيمان نفسها في مجتمع ينوء بأثقال "عنف كامن في النفوس". وهي برأينا أصبحت خطراً لأن فهماً خطيراً ينداح من ثنايا الفيلم حول المرأة التي تقتل بسبب من عشقها للغناء في مجتمعات أخذت على عاتقها ـ أخيراً ـ مهمة أن تحرّم الغناء وتحلّله. ألا يصبح خطيراً هذا التأويل السينمائي الملتبس الذي قد يقود في بعض نواحيه أيضاً إلى تفصيل خطر للغاية حول غناء حلال وغناء حرام ؟! وهل بوسعنا أن نقول من جهة أخرى أن "تمويل" هذه النوعية من الأفلام قد يخضع في جانب كبير منه لتملق المخرج العربي وهو يلهث وراء جهات تبحث فنياً عن صورة ترضيها من دون العناية الحقيقية بواجهة التحولات النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أصابت مجتمعاتنا بشروخ هائلة تأتي على الدراما السينمائية بآثام وشرور لا يعود بوسعها أن تحملها. فما الذي يهم بعد ذلك من بحث أبو صبحي في السوق عن مفرداته السوقية الجلفة التي تكشف عن ماضيه الحافل بالرتب العسكرية لكي يقف أمامنا ويتأملها بدلاً منا، وكأنه يقول لنا: ها أنذا أقف أمامكم أيها الجبناء بكامل قيافتي، وأنا مسؤول عن التغيرات التي أصابت وجه مدينة حلب؟!

ولكن من قال إن حلب قد تغيرت حقاً؟

من المؤكد أنه إذا ما تأملنا في تلك البانوراما الصباحية التي تلت جملة الممثلة القتيلة إيمان، والتي قتلت في لحظة طيش درامي غير متقن، فقد يبدو واضحاً لنا أن حلب مدينة باقية على حالها ولم تتغير. فالقلعة في مكانها، وشيوخ غنائها يحتلون أمكنتهم، وهم موجودون في ضمائرنا وأفئدتنا، وما يحدث حواليها من "تدخل" سافر للغناء الهابط في حياة الناس ليس شأناً حلبياً بالكامل. فهو شأن المعمورة كلها ربما، فهاهنا غناء وهاهنا غناء. هاهنا غناء أصيل وهاهنا غناء هابط ورخيص ومبتذل، وهذا طبيعي للغاية فقد لا نلمس تغيراً في أحوال مدينة ما لمجرد مقارنة من هذا النوع الساذج. والتغير الوحيد الذي قادنا المخرج إليه يكمن في "اكتشافه" لنوعين من الغناء بالاستناد إلى قاعدة خطرة: غناء حلال وغناء حرام، وما ينشأ عنه بالتالي من ذبح حلال وذبح حرام، فالإشارات التي انطلق منها الفيلم ليروي قصة هذه المرأة المعذبة حملت برموز مغرقة في بدائيتها، وأظهرت تقصيراً في مجال السرد السينمائي الذي لا يعود يحتمل كل هذا التبسيط: زوجة مخلصة لزوجها. عم متسلط ديكتاتور. أب مهزوم ومتردد. شقيق مغيب لأسباب سياسية. وشقيق آخر يقف في العمارة المقابلة للتجسس على عائلته من خلال باب المؤلف السينمائي الذي يغلق ويفتح أو من خلال الطنين البدائي الذي تبعثه عين الساحر، العين المتلصصة على أحوال البيت وأهله.

تجيء كل هذه الرموز مجتمعة لتكشف عن بساطة الخيط الدرامي الواحد، الذي لا يعنى بشبكيتها، فماذا لو كان أبو صبحي يستطيع أن يدبر مكيدة من هذا النوع لابنة أخيه، وهو بوسعه أن يدير أرزاقه في مدجنة أو مدجنتين، وبوسعه أن يستمع إلى أم كلثوم مثل إيمان. ألا يوجد مثل هؤلاء الناس؟! ألا يوجد مثل من هم من نوعية أبوصبحي الذي بوسعه أن يقتل ويتلذذ بأغنيات قد يبدو من خلال مفهوم قولبة عاتية أنها حكر علينا فقط لأننا نسعى إلى تقديم صورة مخالفة عنهم وقد نشأت وترسبت في أذهاننا نحن فقط؟!

يتطاول الفيلم برموزه كما أسلفنا ولا يتوقف، ولا يعود المكان الحلبي بيئة مهمة لأن حجم التغيرات كما شاهدنا لا تقدم صورة مقنعة عن أحوال المدينة، مع أننا كنا نرغب بالقبض على شيء من أحوالها، ولكن في العمق، وليس في تلك الملامسة السطحية لها. فحلب مدينة (في الفيلم) لم يعد لديها ما تقوله، بعد أن قالت الضحية إيمان كل شيء من البداية. وبهذا المعنى، فإننا لا نجد في هذه المعالجة السينمائية لقصتها المأساوية ما يفيدنا عن سبب نقل مجريات القصة من دمشق إلى حلب، وإلى "باب المقام"، وهو أحد أبوابها المشهورة، فهل هناك ما أصاب الغناء الحلبي بكارثة تستدعي النقل إلى هناك، فالباب في الفيلم لم يفضِ إلى شيء ولم يقدنا إلى أي شيء، ومصرع إيمان لم يكن يحتاج إلى بوابة عبور نحو مصيرها وقد انفضح منذ الكادرات الأولى، فلو دخلنا بعد ذلك من أي باب فما من شيء سوف يتبدل في مصيرها.

"باب المقام" بهذا المعنى فيلم برموز واضحة مدفونة أمامنا، وما من تراب يسترها، فقد نسي المخرج أن يهيله على جثة ضحيته بعد أن طالها الأخ القاتل بسكينه والعم بمسدسه المحشو برصاصتين: واحدة للإجهاز عليها نهائياً، وواحدة لتحطيم آلة التسجيل التي كان على إيمان أن تحفظ فيها صوتها الكلثومي وهو آخر طلب لزوجها الذي ظل يدور ويدور في سيارته ويستمع إلى نشرات الأخبار المواكبة للانتخابات النيابية في سورية، أو للعدوان على العراق. ففي المظاهرتين المنددتين بالعدوان الأمريكي "توجسنا" من كاميرا الأخ الكبير التي تثبتّت بورتريهات المشاركين فيها، وهي كما بدت بورتريهات شاحبة لا تقدم صورة شعاعية لواقع العنف الكامن في النفوس، وهو العنف الذي يمثله هنا العقيد أبو صبحي فقط. إذ لا يعود بوسعنا بعد ذلك التسليم بأن هذا العقيد (الضحية) هو أيضاً مسؤول عن الكارثة التي أودت بنا إلى هنا وقادت في طرف آخر منها إلى مصرع عاشقة أم كلثوم التي لم تذنب ولم تترنم بأغنية من أي نوع، وجاء ذبحها مخالفاً للنيات فقد بدا للبعض، ونحن منهم أن هذا الذبح حلال..!!

يركض "الخانتوس"، أو رمز القماءة العقلية في الفيلم وراء القتلة في نهاية الفيلم ويصرخ: "قوصوا الغنّية". يقصد بالطبع أنهم أطلقوا النار على الأغنية، وهو المسكون بصوت (إيمان)، فهو جارها والمستمع الوحيد لها بعد زوجها وولديها وابنة شقيقها المغيب.

ألا يعود الكون الحلبي ظالماً ومظلوماً بعد هذا المآل؟

سؤال قد لا نجد إجابة عنه إلا في هذا الفيلم الذي يراوغ مشاهده بذريعة الغوص في أعماق المجتمع السوري لتشريح العنف الكامن فيه، وإذا تجلى لنا هذا العنف واضحاً على السطح، فإن هناك عنفاً موازياً له في نفوس القائمين على الفيلم ظل خبيئاً ولم يطل إلا في الرمز الوحيد فيه وقد جاء على لسان معوق قد لا يبدو حضوره مهماً لأن علاقته بالأغنية الأصيلة "ملتبسة" بحكم تخلفه العقلي. ففي حالته قد يتساوى شعبان عبد الرحيم بأم كلثوم، وأبو صبحي بالخوجا بديعة ولا يعود هناك تفريق في الأسباب المؤدية إلى كل هذا العنف، فهم أطلقوا النار على الأغنية،وقام هو من فوره ليركض وراء شيء لا يحمل له معنى، فهو يركض ويسحب وراءه الأمتار الفيلمية التي علقت بقدميه.. ويظل يركض ليقول لنا إن الفيلم مهدى إلى ذكرى تلك المرأة التي قتلت في حزيران 2001.

المستقبل اللبنانية في 26 مارس 2006

 

الفيلم السوري باب المقام في المحكمة: خالد خليفة يحتج وملص يترك الامر للقضاء

دمشق ـ من أحمد الخليل:  

لم يكد ينتهي العرض الأول لفيلم محمد ملص باب المقام في دار الأسد (دمشق) مساء يوم الأحد الماضي (12/3 /2006) حتي بدأ الروائي والسيناريست خالد خليفة بتوزيع بيان علي بعض الإعلاميين في بهو الدار جاء فيه: (لم يكتف السيد محمد ملص وزوجته السيدة انتصار صفية بصفتهما شريكين في إنتاج فيلم باب المقام بالتغاضي عن حقوقي المادية وعدم دفع أتعابي وحصتي من ثمن السيناريو محمد ملص شريك بل قاما بإضافة اسم السيد المنتج التونسي أحمد عطية كشريك لنا في الكتابة رغم أنه ليس بكاتب ولم أتعرف إليه إلا بعد إنتهاء الفيلم نهائياً،ولم يكتب السيد عطية حرفاً واحداً في الفيلم، وبعدها قاما بحذف إسمي من تيترات النسخة الفرنسية للفيلم، مما يشكل أكبر مخالفة مهنية في تاريخ السينما السورية. ويضيف خليفة معترضا علي المستوي الفني للفيلم: (رغم كل ذلك قام السيد محمد ملص كمخرج بقراءة خاطئة للنص، وتقديم مستوي مهني مفاجيء وهذا الفيلم يخرجه ملص دون تعاون فني مع أسامة محمد وعمر أميرالاي .

وكوني شريكاً أساسياً في نص فيلم باب المقام الذي شاهدتموه أسجل اعتراضي الكامل ودهشتي الشديدة لهذه الرؤية الإخراجية المفككة والضعيفة التي أودت بالفيلم إلي عكس معناه.

لذلك واحتراماً لما تبقي من مدنية في الثقافة السورية توجهت إلي القضاء أول جلسة 26/4/2006 ليفصل في هذه القضية التي لا تخصني بشكل شخصي فقط بقدر ما ستلقي الضوء علي أوهام ثلاثين عاماً من عمر الثقافة السورية، وأعتقد بأن الوقت قد حان لمراجعتها بشكل نقدي وشامل وجذري).

ولدي اتصالنا بالمخرج محمد ملص لتوضيح الأمر قال: إن ما أثير حول الفيلم ليس موضوعا للصحافة وسنترك الكلمة الفصل للقضاء السوري فأنا حسمت أمري ألا أصرح بأي شيء يخص ما يثيره الكاتب خليفة. كما أكد ملص أنه لم يتلق أي طلب رسمي للحضور إلي محكمة ما من قبل أي شخص حتي تاريخه وأضاف: سأتحدث في المحكمة عن كل شيء بالتفاصيل وتنكشف الحقيقة أمام الصحافة والرأي العام.

وكان وزير الثقـــافة السورية د. رياض نعسان آغا قد تبني عرض الفيلم ليكون دحضاً، للتقارير الإخبارية التي ساقتها بعض وسائل الإعلام حول منع عرض الفيلم في سورية الأمر الذي استغربه الوزير الذي قال: لم أر أي سبب موجب لمنع الفيلم، وأضاف مازحا: يبدو المخرج ملص كالعروس الجميلة التي تطالب بمهر غال.

القدس العربي في 21 مارس 2006

سينماتك

 

فيلم "باب المقام" لمحمد ملص:

بورتريهات شيوخ الغناء باقية في حلب

فجر يعقوب

 

 

 

 

سينماتك

 

في اليوم العالمي للمرأة

الجامعة الأمريكية تصدر موسوعة عن أمهات السينما المصرية

د. عفاف عبد المعطي  

ربما كان إصدار قسم النشر بالجامعة الأمريكية "موسوعة المخرجات العربيات" في مناسبة اليوم العالمي للمرأة لمحة مميزة تتيح لنا ان نتوقف ليس فقط عند التحية والإعزاز لنراجع ما قدمته المرأة التي تمثل نصف المجتمع من أجل تطوير وتقدم بلدانها. بل في ذات الوقت نراجع الحقوق التي حصلت عليها المرأة عبر تجسيد صورة فيلمية لدورها الاجتماعي ومن ثم الحقوق التي لا تزال تحتاجها، فالمرأة شريحة مهمة وأساسية من شرائح المجتمع ـ حسب ما أكده عمل المخرجات اللاتي ضمتهن الموسوعة ـ وهي الآن وبعد مرور أزمنة كثيرة من حرمانها من حقوقها أصبحت تساهم في حركة التطور والتحديث في دول العالم المتقدم والنامي علي السواء. ومناسبة اليوم العالمي للمرأة مثالية لأن تجتمع النساء في كل مكان في العالم، بغض النظر عن الاختلافات اللغوية والثقافية والاقتصادية والسياسية، للاحتفال باليوم العالمي للمرأة خاصة ان حقوق المرأة وواجباتها هي احد الشروط التي يقاس بها تقدم الأمم.

وإذا عنّ لنا ان نقرر أهمية موسوعة المخرجات العربيات فينبغي اولا ان نذكر الجهد الكبير الذي قامت به المستشرقة الالمانية ربيكا هيللر التي قدمت عبر صفحات الموسوعة التي تربو علي الخمسمائة، عمل المرأة المبدعة علي مستوي الصورة بما يسقطه فعل المخرجات العربيات، بينما استهلت الكتاب بعرض تاريخ رائدات صناعة السينما العربية وهن بهيجة حافظ، أمينة محمد، آسيا داغر، ماري كويني.

بهيجة وماري

كان للإسكندرية دور الريادة في السينما المصرية.. وبالتالي فلم يكن غريباً أن تمد الإسكندرية السينما المصرية بأكثر من رائدة من بناتها وفي مقدمتهن بهيجة حافظ ابنة حي محرم بك والتي دخلت السينما المصرية بالصدفة عن طريق الموسيقي.

فتلك الفتاة الارستقراطية التي هوت الموسيقي منذ الصغر كباقي أفراد عائلتها.. واكملت دراستها الموسيقية في فرنسا حيث حصلت علي دبلوم فن الموسيقي.. وألفت الكثير من القطع الموسيقية الخاصة بها.. كانت في طريقها إلي الاحتراف لولا زواجها الذي حال دون تكملة هذا الطريق.. ولكنه لم يدم طويلاً فسرعان ما انفصلت عن زوجها وتوفي والدها لتأخذ حياتها منعطفاً جديداً.. فقد قررت عدم العودة إلي الإسكندرية حيث يوجد أهلها وسافرت إلي القاهرة لتشق هناك طريقها الموسيقي وتتخذ منه مهنة للعيش والحياة. وفي القاهرة ذاع صيتها كمؤلفة موسيقية وتعاقدت معها شركة أوديون بالقاهرة وكولومبيا بالإسكندرية لشراء مؤلفاتها الموسيقية. إلي أن لعبت الصدفة دوراً في تغيير مسار حياتها من جديد.. فقد نشرت صورتها علي غلاف مجلة المستقبل كأول مؤلفة موسيقية مصرية.. لتقع المجلة في يد المخرج محمد كريم الذي تصادف بحثه عن وجه جديد ليقوم ببطولة فيلمه الصامت "زينب" 1930 بدلاً من الممثلة أمينة رزق التي رفض أستاذها يوسف وهبي عملها في السينما خوفاً من أن يضر ذلك بعملها معه في المسرح. ومن هنا كان الفيلم من نصيب صاحبة الغلاف بهيجة حافظ التي رحبت بالعمل في السينما لتسجل اسمها كرائدة من رواد هذا الفن في تاريخه الصامت.. كما قامت بهيجة حافظ بتأليف الموسيقي التصويرية الخاصة بهذا الفيلم وكانت عبارة عن 12 قطعة موسيقية وكان بذلك أول فيلم مصري توضع له موسيقي تصويرية مؤلفة خصيصاً من أجله.

ورحلة بهيجة حافظ في السينما لا تتعدي خمسة أفلام.. فيلمان صامتان هما "زينب" لمحمد كريم.. و"الضحايا" إخراج إبراهيم لاما وإنتاج بهيجة حافظ عام 1932 . وعندما عرض هذا الفيلم عليها وكان صامتاً لم ترض عن مستواه الفني فقامت بإعادة إخراجه من جديد بنفس الاسم سنة 1935 ولكنه أصبح ناطقاً واشترك معها في البطولة كل من زكي رستم وعبد السلام النابلسي وقامت بالغناء فيه لأول مرة ليلي مراد مع أحمد عبد القادر.

أما الفنانة اللبنانية الرقيقة ماري كويني فتعدها المستشرقة الألمانية ربيكا هيللر إحدي رائدات السينما المصرية لعطائها الكبير الممتد لسنوات حيث توفيت عن عمر جاوز 87 عاما بعد أن أثرت السينما بعدد من الأفلام تمثيلا وإنتاجا.وقد ولدت ماري كويني بقرية تنورين بلبنان عام 1916 ورحلت إلي مصر وتزوجت المخرج السينمائي المصري الراحل أحمد جلال حيث تعاونا في أفلام أخرجها جلال وشارك زوجته بطولتها وأنتجتها الرائدة اللبنانية آسيا داغر صاحبة سابع فيلم في تاريخ السينما المصرية (غادة الصحراء).كما تقرر الموسوعة أن ماري عملت في مجال المونتاج بداية من فيلم (عندما تحب المرأة) عام 1933 بالتوازي مع التمثيل حيث بدأت بمشاركة خالتها آسيا داغر بطولة فيلم (وخز الضمير) عام 1931. وبعد وفاة زوجها احمد جلال قامت ببطولة أفلام قليلة من بينها (الزوجة السابعة) أمام محمد فوزي. وقد اعتزلت التمثيل في صمت في بداية خمسينات القرن الماضي مع استمرارها في إنتاج بعض الأعمال التي بلغت نحو 30 فيلما لكبار المخرجين المصريين من بينهم يوسف شاهين الذي أنتجت له (فجر يوم جديد) و(نساء بلا رجال) و(ابن النيل) والذي اختاره سينمائيون ضمن قائمة أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية.

هن وتهميش وجود المرأة

وإذا كانت ربيكا هيللر قد استهلت موسوعتها بالحديث عن رائدات الفيلم العربي، وقد مثلتهن أربع، فقد احتفظت لنفسها بحق إجراء الحوار الحُر من مخرجات أثرن كثيراً في تقديم صورة المرأة في العالم العربي ونظرة المجتمع والرجل لها؛ منهن اللبنانية عرب لطفي وشقيقتها الكبري نبيهة لطفي واللبنانية مني غندور وكذلك المصريات إيناس الدغيدي وإنعام محمد علي وعطيات الابنوي وإن اختلفت رؤية كل منهن وتصويرها للمرأة وكذلك معالجتها للواقع الاجتماعي للنساء في العالم العربي. ففيلم (بوابة الفوفا) لعرب لطفي تشكل كمشروع بعد الاجتياح الاسرائيلي لجنوب لبنان 1978 وقد كانت تجربة عنيفة جدا تتمثل في احتلال مدينة صيدا مما كان له وقع شديد السوء علي النفس.. فضلا عن الشعور بفقدان الأماكن والأصدقاء الذين قتلوا.. كذلك فيلم المخرجة إيناس الدغيدي "الباحثات عن الحرية" ـ الذي رفع أحد المحامين دعوة قضائية عليها كي يوقف عرضه لأنه يخالف العادات والتقاليد المصرية ويتضمن مشاهد العري والإباحية التي تدعو للانحلال الخُلقي ـ الذي يمثل صحوة كبيرة للمجتمع حيث يعاني الكثير من الفجوات في العلاقات الاجتماعية خاصة العلاقات الشائكة بين الرجل والمرأة. أما حوار المخرجة إنعام محمد علي في سياق الموسوعة، فيمكن أن يتم إسقاطه علي رأيها في أن الدراما كفيلة بشكل كبير بتغيير وتطوير المجتمع، فضلا عن إسرافها في الحديث الذاتي عن ارتباط أعمالها بالسياسة.

ولاشك ان الموسوعة ـ عبر حوار ربيكا هيللر مع المخرجات ـ تضم معني مضمراً ينحو الي منح المرأة العربية مساحة اكبر في مجال الاخراج السينمائي ضمانا لاستمرار الثراء الفني والانساني الذي كانت تتمتع به السينما العربية منذ بدايتها. خاصة أن المرأة بدأت تغيب او يتم تغييبها عن القيام بدورها المجتمعي في صناعة السينما وانتاج الافلام وابداعها في العقدين الاخيرين رغم دعوات المثقفين الدائرة في الحجرات المغلقة حول الابداع النسائي والنقد النسوي. خاصة وان ذاكرة السينما تحفظ الكثير من الادوار التي قامت بها رائدات صناعة السينما العربية مثل عزيزة امير وفاطمة رشدي وبهيجة حافظ وامينة محمد، اللائي شاركن بالانتاج والتمثيل وكتابة السيناريو ووضع الموسيقي التصويرية لافلام قمن بانتاجها بل ان اول فيلم روائي في تاريخ السينما المصرية وهو فيلم «ليلي» كان من انتاج عزيزة امير التي شاركت في كتابته واخراجه وعمل المونتاج له فضلا عن بطولته.

جريدة القاهرة في 28 مارس 2006

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك