الشخصية العامة سواء أكانت سياسية أو فنية معرضة دائما للانتقاد في اللقاءات العامة، ولهذا ينبغي أن يتمتع من تضعه الأقدار في تلك المكانة التي تجعله في مواجهة الجماهير بقدر من اللياقة والكياسة وإلا فقد كل شيء ووقف عاريا أمام الناس.

في الأسبوع الماضي تابعت حديثين الأول عن طريق التليفزيون والثاني الصحافة، الأول خاص بكوندوليزا رايس التي تتحرك في كل أنحاء العالم لنقل أهداف السياسة الأمريكية إلي العالم ولتبرير وتمرير العديد من أخطاء وخطايا أمريكا.. كانت كوندليزا في استراليا في مؤتمر صحفي تتكلم عن أمريكا وموقفها من احتلال العراق من أجل إرساء قواعد الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، وهنا ثار بعض الشباب ضد كوندليزا وهتفوا ضدها وضد أمريكا التي تمثلها وطالبوها بمغادرة القاعة ومغادرة استراليا.. قالت كوندليزا بكل هدوء إنها سعيدة بهذا الغضب وأيضا بأسلوب التعبير أن هذه هي الديمقراطية التي ينشدونها، وأن العراق الآن يتمتع بتلك المساحة من الديمقراطية التي تجعل أي مواطن يستطيع أن يرفع صوته محتجا ضد أعلي سلطة في البلد ومن أجل ذلك احتلوا العراق! أيا ما كان رأيك في الدوافع الحقيقية لاحتلال العراق وبأن أمريكا لا تفكر وهي تتخذ أي قرار إلا في مصلحتها المباشرة، فإننا يجب أن نتفق علي هذا القدر من اللياقة الذي تعاملت به كون المبعوثة الأمريكية مع من يطالبون بطردها من القاعة ومن استراليا.. وفي نفس اليوم كان يجري في إحدي جامعات صعيد مصر شيء مغاير تماما لما حدث في سيدني بـ«استراليا».

سعيد صالح الفنان الكوميدي المحبوب في ندوة بإحدي الكليات وسؤال من أحد الطلبة علي أسباب قضائه عاما في السجن هل لخروجه علي النص كما يدعي، حيث إنه اتهم من قبل الرقابة علي المصنفات الفنية بأنه خرج عن النص أثناء تقديمه إحدي المسرحيات للقطاع الخاص، وانتقل هذا الأمر إلي ساحة القضاء، حيث أدين أمام محكمة أول درجة، ولكنه طعن في الحكم بعد ذلك وحصل علي البراءة.

ولكن القضية التي أدين فيها وحكم عليه تنفيذيا بالسجن هي تعاطيه المخدرات، حيث ضبطه رجال المباحث في مدينة الإسكندرية يتعاطي المخدرات وتمت إدانته بالسجن لمدة عام في سجن الحضرة..!!

غضب سعيد صالح رغم أنها واقعة حقيقية وشاهدنا أقلاما عن فنانين كبار وعالميين أدينوا في قضايا مماثلة وواجهوا المجتمع واعترفوا وبعضهم أمضي فترات عقوبة وعاد لممارسة العمل الفني.. ومثل هذه القضايا في عرف القانون لا تعتبر جرائم مخلة بالشرف.. ولهذا بعد انقضاء فترة العقوبة يسمح للفنان بممارسة النشاط الفني.. علي عكس قضايا أخري مخلة بالشرف مثل الاتجار في المخدرات والدعارة لا يسمح فيها للفنان بالعودة لممارسة نشاطه، ولكن من الواضح أن سعيد صالح لم يتحمل أن يذكره طالب بواقعة حقيقية كان سعيد صالح قبل سنوات قليلة لا يخجل من أن يذكرها في كل أحاديثه ولا يكف عن ذكر أسماء أصدقائه الذين تعرف إليهم في السجن والدروس المستفادة من تلك الأيام.. ولكن الموقف الأكثر إيلاما في ندوة سعيد صالح ليس إنكاره واقعة السجن عن جريمة تعاطي المخدرات، ولكن عندما داعبه أحد الطلاب متسائلا عن سر ارتدائه ـ كوفية ـ حمراء هل بسبب ميوله لتشجيع الأهلي أم تشجيع «فودافون» علي اعتبار أن اللون الأحمر هو شعار «فودافون» هنا قال له سعيد صالح بلفظ ناب لا يمكن ذكره أنت «....» حمرا!! وحاول مدير الندوة أن يحصل علي اعتذار من سعيد صالح لامتصاص غضب الحضور دون جدوي، حيث واصل «سعيد» تهكمه وانتهت الندوة بالطبع بعد أن تعرض سعيد صالح لانتقاد كل الحاضرين وبينهم مدير الندوة.. وهذه الواقعة لا ينبغي أن تمر هكذا بدون تدخل نقيب الممثلين أشرف زكي ينبغي محاسبة الفنان الذي خرج علي التقاليد، فهو يسيء إلي كل الفنانين ولا يمكن أن يعتبر نقيب الممثلين أن الأمر يمر دون اعتذار منه إلي الكلية وإلي الجامعة.. يقدمه نيابة عن كل الفنانين نقيبهم.

والحقيقة التي ينبغي أن ندركها هي أن عددا من الفنانين يشكلون نسبة لا يمكن إنكارها لا يجيدون مخاطبة الرأي العام ويتلعثمون ويخرجون علي النص وبعضهم ليس لديهم أي ثقافة عامة ولا حتي في مجال تخصصهم وهذه تظل مجرد عيوب شخصية لا ينتقد من أجلها الفنان طالما ظلت في إطار البيت والأصدقاء المقربين وخطأ سعيد صالح أنه لم يدرك الفرق بين جلسة أفرادها شلة الأصدقاء الذين يتبادلون النكات حتي ولو كانت خارجة فيما بينهم وبين مجتمع أكبر لا يحق له أن يفرض شروطه عليه ولا أن يتجاوز في إشهار أسلحته اللفظية ضده.. الفنان اللبق يعرف كيف يعتذر في التوقيت المناسب ولا أتصور أن سعيد صالح هو هذا الفنان.

لا أنسي مثلا كيف استطاعت أم كلثوم أن تواجه إلحاح مستمع في إحدي حفلاتها الأخيرة، وذلك عندما غنت في آخر حفل لها أغنية «ليلة حب» وكلما بدأت في أداء مقطع غنائي تقول فيه ما تعذبناش ماتشوقناش وتعال نعيش فرحتنا هنا.. وقبل أن تنهي هذا المقطع.. طالبها أحد المتفرجين بطريقة لا تخلو من عصبية بإعادة هذا المقطع مرة أخري واستجابت أم كلثوم مرة واثنين ثم في الثالثة نظرت وقالت له وهي تشير بإصبعها إليه، ما تعذبناش وضجت الصالة بالتصفيق لـ«أم كلثوم» واكتسبت الجمهور لصالحها، وفي نفس الوقت لم تخسر حتي هذا المتفرج الذي تقبل تلك المداعبة الكلثومية!! التي تتم عن ذكاء وخفة ظل. مثلا في مهرجان القاهرة الدولي السينمائي الأخير عندما اختلط الأمر علي عمر الشريف بسبب ابتعاده عن ممارسة اللغة العربية سنوات عديدة ولأنه يفكر بالإنجليزية ويتكلم بالعربية وهكذا في المساحة الزمنية التي تقتضيها الترجمة من الإنجليزي إلي العربي قد تفلت كلمة ووصف عمر الشريف عبدالناصر بأنه كان عميلا للأمريكيين في مطلع الثورة، وكان يقصد أنه كان يتعامل وليس عميلا وعندما نبهه الحاضرون إلي هذا الخطأ سارع بالاعتذار عن الخطأ غير المقصود.. وقبل أن يغادر مطار القاهرة كرر أيضا الاعتذار عادل إمام منذ عدة سنوات في معرض القاهرة الدولي للكتاب وفي إحدي الندوات تحدث عن التطبيع بين مصر وإسرائيل، والبعض فسر كلمات عادل إمام بما يوحي بأنه يؤيد التطبيع علي عكس ما أراد عادل إمام فما كان منه إلا أنه سارع بتوضيح وجهة نظره بعد الندوة في أكثر من حوار صحفي مؤكدا أنه ضد التطبيع مع إسرائيل؟! وانتهت الأزمة!!

عبدالحليم حافظ في عز الصراع بينه وبين فريد الأطرش قال: كيف تتم مقارنتي بـ «فريد» إنه في عمر والدي؟! وفي جلسة صلح بينهما تحولت إلي برنامج «تليفزيوني عاتبه فريد قائلا: كيف تقول علي إنني في عمر والدك.. رد عليه عبدالحليم قائلا: متزعلش أنت في عمر «جدي»؟ وضحك فريد علي تلك المداعبة؟!

صورة الفنان الذهنية التي تتشكل عند الجمهور لا تستند فقط ملامحها إلي إبداعه، ولكن إلي سلوكه وتصرفاته وأقواله وسعيد صالح يخسر كثيرا عندما يقدم أعمالا فنية متواضعة ويخسر أكثر عندما يتكلم في الندوات!!

> > >

قال أرسطو كلمته الشهيرة «تكلم حتي أراك». فما هي رؤيتكم لـ «سعيد صالح» بعد أن تكلم؟!

جريدة القاهرة في 21 مارس 2006

 

د. رفيق الصبان يكتب عن فيلم «90 دقيقة»:

سقطة غادة عبدالرازق التراجيدية

الفيلم «ملطوش» عن فيلم أمريكي بديع نجح السينارست المصري في إفساده بجدارة  

لا أدري السبب الذي جعل السينارست الشاب إيهاب يحيي يضع اسمه علي أول فيلم طويل يكتبه ويدعي أنه من تأليفه.. رغم أنه مأخوذ عن فيلم أمريكي عرض أكثر من مرة علي شاشات التليفزيون.. وهو قصة الأم الثرية المتسلطة التي تقاوم زواج ابنها من فتاة فقيرة.. ولكن حادث سيارة مأساويا يتعرض له الحبيبان يشوه وجه الفتاة تماما.. فتعرض عليها الأم الثرية أن تعالجها وأن تستبدل لها وجهها بوجه آخر.. شريطة أن تبتعد عن ابنها وأن تدعي أنها ماتت إثر الحادثة.. وهكذا يكتم الفتي ألمه في قلبه ويوافق علي الزواج من الفتاة الثرية التي جهزتها أمه له.. ولكنه عندما يقابل فتاته بوجهها الجديد يقع مرة أخري في حبها.. وتكون هي في هذه الفترة قد ارتبطت بعلاقة حب مع الطبيب الذي استبدل لها وجهها.. وهكذا.. يقف الحب شامخا.. في وجه كل الظروف.. لأنه لا يولد نتيجة إعجاب جسدي وإنما يولد لتوافق الأرواح والنفوس.

هذه الرسالة الجميلة التي حملها الفيلم الأمريكي.. أعاد صياغتها السينارست الشاب وأغفل فيها أهم ما فيها لأن الحبيبة ظلت محتفظة بوجهها القديم.. إلي أن تلتقي صدفة بحبيبها القديم.. وبالطبع فإن قصة الحب تنمو من جديد بينهما.. بينما تضحي الفتاة الثرية العاشقة بحبها.. وكذلك يفعل الطبيب.. إعداد أفقد القصة أجمل ما فيها وحولها إلي مجرد قصة تائهة.. لا تقنع أحدا.

ولا أدري السبب الذي جعل ممثلة كـ «غادة عبدالرازق».. لها إشعاعها الخاص وأدوارها المميزة في التليفزيون.. وأذكر خصيصا دورها أمام محمود عبدالعزيز في مسلسله الأخير.. حيث قدمت أداء شاعريا مليئا بالرقة والمشاعر لأم يونانية.. لها ابنة في الثامنة عشرة من عمرها.. لا أدري حقا ما الذي دفعها لقبول دور لا يتناسب مع عمرها ولا مكانتها الفنية.. ولا يحمل جزءا واحدا من المنطق أو الإقناع.. وأعجز عن فهم حسابات ممثلة بذكائها وحساسيتها وكيف عجزت هي أيضا.. عن تقدير ما يمكن لهذا الدور أن يسببه من أضرار معنوية وفنية لمسيرتها.

كذلك أعجب.. من تورط ممثلة شابة تفتحت أمامها دروب كثيرة.. منذ ظهورها الأول في فيلم داود عبدالسيد.. ولكنها لم تحسن ولوج أي منها.. وأغلقت بنفسها وإرادتها الأبواب التي تفتحت أمامها.. والدليل في فيلم «90 دقيقة» واضح وصريح ولا يحتاج إلي شرح.

ولا أنهم أيضا.. كيف يقتنع أي منتج.. كائنة ما كانت خبرته.. في أن يمول فيلما عاطفيا يلعب بطولته مطرب سوري.. لا يملك ناصية اللغة.. ولا يملك الشهرة المطلوبة في السوق المصري.. ولا يملك أخيرا أية طاقة تمثيلية.. حتي في أدني مراحلها.. خصوصا أن تجارب فشل مطربين آخرين في السينما وعلي رأسهم «حكيم» ذي الشعبية الكبيرة.. الذي حقق فيلمه الأول فشلا جماهيريا مشهودا.. أثر بشكل أو بآخر علي مسيرته الغنائية.. كما أوصد أبواب السينما أمامه بصورة نهائية.. كذلك الحال مع مطرب آخر.. لم تصل شهرته الشعبية إلي شهرة «حكيم».. هو «فارس» الذي فشل هو أيضا في تجربته السينمائية.. كما فشل من قبله عمرو دياب نفسه ومدحت صالح ولم ينج من الغرق إلا مصطفي قمر.. وإلي حد ما وبتحفظ محمد فؤاد.

كذلك ألم يكن من الأجدر بالمنتج المسكين أن يري نتائج تجربة مطرب لبناني آخر هو يوري مرقدي الذي هوي بشكل فاضح بفيلم مصري جمع إلي جانبه نجوما لهم شعبيتهم وجمهورهم.. كـ «حنان ترك» و«منة شلبي» وسواهم من النجوم الشباب.

وأخيرا كيف يوافق مخرج يقدم أول أعماله هو إسماعيل فاروق يحاول أن يضع اسمه علي درب السينما الوعر.. أن يتحمل مسئولية فيلم يحمل كل هذه العيوب.. والأخطاء التي يكفي واحد منها.. لإسقاطه إلي القاع.

وبقي أخيرا أن أرثي لكون عادل هاشم ونهال عنبر.. اللذين تورطا عن قصد أو غير قصد في هذه المغامرة المجنونة المحكوم عليها بالضياع هكذا للقطة الأولي.

نهال عنبر حاولت أن تكون صادقة.. في دور لا يحتمل أية ذرة من الصدق.

أما عادل هاشم.. فقد كان يبدو لي ساخرا مما يقول.. تمتلئ لهجته.. بلامبارة واضحة وإحساس جلي بأن ما يقوله مجرد فقاعات في الهواء.. لا تعني شيئا.

«تسعون دقيقة».. فلم يعبر عن «معجزة» الإنتاج المصري الذي يرتدي ثوبا مليئا بالثقوب.. ومع ذلك يقرر أن يواجه الأمواج.. دون أن يرتدي أي طقم للنجاة.

لم أجد في الفيلم حسنة واحدة.. يمكن أن تشد المتفرج أو تقنعه أو تجعله يتعاطف مع ما يري.. لا القصة الأصلية التي شوهها السيناريو ولا الإخراج البدائي ولا التمثيل المتكلف.. ولا وجود المطرب السوري الذي يبدو وكأنه قادم من كوكب آخر.

وحتي عندما اكتفي الفيلم بإعطائه أغنية واحدة في الفيلم كله.. مما جعل حتي عشاق غنائه علي قلة عددهم يخرجون محبطين.. فلا هم طالوا عنب الشام ولا بلح اليمن.. واكتفوا برؤية مطربهم المفضل يعارك اللغة التي ينطقها.. ويفتش عبثا عن تعبير تمثيلي واحد.. يقدمه حتي «يخزي الشيطان» كما تقول الأمثال الشعبية.

ونأتي أخيرا إلي «العارض» أحمد هارون.. الذي يبدو أنه مازال مستمرا علي عناده في أن يبقي ممثلا.. ورغم كل الصعوبات والعقبات.

إني أحيي عناده.. وإن كنت أجد أن الطريق مازال طويلا.. طويلا.. طويلا وشاقا حقا.. لكي يقنعنا بأنه شخصية يلعبها.. وهو هنا يلعب شخصية طبيب أقرب إلي السذاجة.. منه إلي العلم.

ولا أدري مرة أخري.. لم لا يكتف أحمد هارون بمهنة العارض «المانيكان» التي ابتدأ بها مسيرته.. فهو بجسده الممشوق ووجهه الخمري.. أقرب إليها وإلي امتاعنا بجدواها.. من مهنة التمثيل الشاقة.. التي يبدو أنها اتعبته قدر ما اتعبتنا.

في تعليق ساخر للناقد الصديق طارق الشناوي.. اعتبر «90 دقيقة» فيلما كوميديا.. اضحك الجمهور.. وكم كنت أتمني لو أشارك الصديق الشناوي رأيه.. لأني لم أستطع أن اغتصب ابتسامة واحدة علي شفتي وأنا أري هول الكارثة التي تسير عليها السينما المصرية التي تدعي الشباب.. رغم أنها كما يقولون: «شر البلية ما يضحك».

جريدة القاهرة في 21 مارس 2006

مصطفي محرم يكتب:

علي هامش حوار المخرج سمير سيف مع «القاهرة»

2 ـ قضية الثقافة الجماهيرية

إن القضية الثانية التي أثارها حوار سالي نبيل مع المخرج سمير سيف هي قضية الثقافة الجماهيرية، وكيف كان النشاط الحقيقي والازدهار لأنه عهد سعد الدين وهبة. والحقيقة أن الثقافة الجماهيرية التي أصبحت الآن «الهيئة العامة لقصور الثقافة» هي أهم أجهزة وزارة الثقافة علي الإطلاق وهي الأساس الذي ينبني عليه أي نشاط ثقافي بعد ذلك من كتاب وموسيقي وسينما ومسرح وفنون تشكيلية. ولكن السؤال الذي يتبادر إلي ذهننا فيما يتعلق بهذه الأهمية هو: هل يدرك أي وزير للثقافة في مصر أتي وقد يأتي مدي هذه الأهمية؟

وإذا كانت الثقافة الجماهيرية تدين بالكثير حسب رأي سمير سيف لـ«سعد الدين وهبة» فهي تدين أكثر لـ«ثروت عكاشة» أعظم وزير ثقافة مصري حتي الآن. فإن هذا الرجل يعتبر ظاهرة مضيئة جدا في تاريخ الفكر والثقافة المصرية. وهو النموذج الأمثل لما يجب عليه أن يكون وزير الثقافة في دولة مثل مصر. فهو قبل كل شيء رجل مثقف صاحب رؤية وعندما تولي مقاليد وزارة الثقافة جمع شتاتها من خلال نظرة شاملة، ولم يكن متحيزا لأي فرع من فروع الثقافة، بل إنه نظر إليها نظرة عادلة متوازنة تحقق مفهومه لكلمة ثقافة. إن ثروت عكاشة في رأيي لا يختلف عن طه حسين في عمق رؤيته للتعليم والثقافة في مصر. وإذا كان طه حسين نادي بأن التعليم مثل الماء والهواء، وقام بتطبيق مبدأ مجانية التعليم، فإن ثروت عكاشة قام بتطبيق مجانية الثقافة. أنشأ أكاديمية للفنون لدراسة المسرح والسينما وفنون الموسيقي واستقدم كبار جهابذة الفنون من دول مختلفة للتدريس في معاهد الأكاديمية. أنشأ مؤسسة المسرح بمسارحها المختلفة. أنشأ مؤسسة السينما للإنتاج والتوزيع ودور العرض. أنشأ مؤسسة التأليف والترجمة والنشر التي ساهمت في تشكيل عقول مئات الألوف من المصريين بسلاسل من الكتب الثمينة القيمة الرخيصة الثمن حتي وصل ثمن الكتاب من سلسلة المكتبة الثقافية إلي قرشين فقط. فتح دار الأوبرا في حفلات صباحية للأوركسترا السيمفوني والباليهات والأوبرات بأسعار خاصة زهيدة للطلبة وعامة الشعب، وأذكر أنني كنت ارتاد تلك الحفلات بتذكرة ثمنها ستة قروش تتحول في المساء إلي عشرة جنيهات لمن يرتدون ثياب السهرة.

أما بالنسبة للثقافة الجماهيرية موضوع القضية التي تتحدث عنها فله الحق كل الحق أن يأسف ويأسي لها المخرج سمير سيف لما وصل بها الحال الآن.

كانت الثقافة الجماهيرية حلما من أحلام ثروت عكاشة، وقد نشأ هذا الحلم في رأسه عندما كان يعمل سفيرا في البلدان الأوروبية فكانت لديه الفرصة لمشاهدة قصور الثقافة هناك. لم أكن أعلم أن في أوروبا قصورا للثقافة حتي رأيت بعضا عندما سافرت إلي مهرجان كان عام 1984. كنت مدعواً مع فيلم «الحب فوق هضبة الهرم» أنا والمخرج عاطف الطبيب وجاء معنا منتج الفيلم عبدالعظيم الزغبي. وبعد أن عرضنا الفيلم في مسابقة نصف شهر المخرجين طلبت بعض قصور الثقافة هناك عرض الفيلم. ذهبت أنا والمخرج عاطف الطيب والمنتج عبدالعظيم الزغبي وعرضناه في أكثر من قصر ودارت مناقشات بيننا وبين الشباب الفرنسي الذي لم يكن يعرف شيئا عن السينما المصرية وعن مشاكلنا.

أنشأ ثروت عكاشة ما يقرب من أربعة وعشرين قصرا في أنحاء مصر من القاهرة حتي أسوان جنوبا ومن القاهرة حتي مرسي مطروح شمالا. اختار ثروت عكاشة أحد الكتاب اليساريين وهو الكاتب المفكر سعد كامل وهو رجل كان يحظي باحترام الجميع. وفي الحقيقة أن هذا الرجل وضع الأسس التي يسير عليها العمل في هذه القصور بشكل يتيح الإلمام بكل فروع الثقافة للفرد العادي. ورغم أنه كان يختار رسله للمساهمة في نشر الثقافة من اليساريين شبابا وشيوخا، إلا أن الاستفادة كانت أكبر من هذا الانتماء الفكري، خاصة أن سياسة الدول كانت تميل إلي هذا الاتجاه في ذلك الوقت.

وتولي سعد الدين وهبة بعد ذلك مسئولية جهاز الثقافة الجماهيرية، فقام بترسيخ الأسس التي أنشأها سلفه سعد كامل وأضاف إليها الكثير. كفل سعد الدين وهبة لهذا الجهاز الإدارة الممتازة واستقطب كبار المثقفين في مصر لإلقاء المحاضرات وإقامة الندوات فكانوا يلبون دعوته علي الفور رغم قلة الأجر الذي يحصلون عليه. وكان إيمان سعد الدين وهبة في نفس الوقت إيمانا قويا بالشباب فاستعان بأفضلهم من كل الاتجاهات ليتولوا المسئولية فيما بعد. وأنا أذكر من بين هولاء الشباب أسماء كانت شابة في ذلك الوقت مثل فاروق حسني وعز الدين نجيب وفؤاد عرفة وفتحي فرج وعلي عبدالخالق ومحسن زايد ويسري الجندي ورضوان الكاشف وسيد عواد وعلي أبو شادي. وأذكر أنني كنت أجوب القطر المصري عاما بعد عام مصطحبا الأفلام السينمائية المصرية والأجنبية الجيدة لعرضها وإقامة ندوات لمناقشتها رغم أنني لم أكن موظفا في هذا الجهاز ولكن إدارة السينما التي كان يرأسها فؤاد عرفة ويعمل معه الناقد السينمائي الكبير فتحي فرج ويساعده علي أبو شادي ورضوان الكاشف كانت ترشحني لذلك الأمر. وكانت هذه الإدارة تصدر نشرة كل ثلاثة أشهر لا تقل صفحاتها عن مائة وخمسين صفحة للدراسات والترجمات وتحليل الأفلام السينمائية، وكنت أشارك فيها وتعتبر هذه النشرة من المراجع السينمائية المهمة.

كان سعد الدين وهبة يهدف إلي التثقيف العام ورفع الذوق الفني عند جماهير المترددين علي هذه القصور والمتعطشين للثقافة والفنون. وكان مكتبه مفتوحا لنا ويستمع إلي اقتراحاتنا نحن المتعاملين مع هذا الجهاز نظير أجور صغيرة.

دائما صاحب التاريخ الكبير في أي فن أو في أي مجال يكون مليئا بالثقة ويحترمه الجميع ويقدرونه. ولذلك فعندما كان سعد الدين وهبة يقوم باختيار أي شخص مهما كانت مكانته الأدبية لإلقاء محاضرة أو إقامة ندوة فكان يلبي النداء علي الفور مهما كان تواضع الأجر الذي يحصل عليه.

ولم يكن سعد وهبة وحده هو النقطة المضيئة في مسيرة الثقافة الجماهيرية، فبعد أن ترك مكانه جاءت بعده أسماء ساهمت في هذه المسيرة، وأضافت إليها الكثير مثل: حمدي غيث وحسين مهران وفؤاد عرفة وعلي أبو شادي وأنس الفقي. وتدهورت الأحوال بعد ذلك وتدخلت المحسوبيات إلي أن فرضت لجنة السياسات في الحزب الوطني واحدا من أعضائها يعمل أستاذا في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ويحدوه الأمل إلي أن يصبح وزيرا بعد ذلك، وآسف لأنني لم أستطع أن أتذكر اسمه كاملا فإن ما أذكره أن اسمه كان الدكتور علوي. انتهي عدم الاهتمام بأستاذ الجامعة بفاعلية هذا المنصب إلي محرقة بني سويف التي راح ضحيتها ما يقرب من المائة شخص بينهم أشخاص كنا نرجو علي أيديهم الكثير. وبعد جهد جهيد وتحت ضغوط الرأي العام تم التخلص من د. علوي غير مأسوف عليه، وجري انتداب الفنان التشكيلي أحمد نوار، وهو علي ما يبدو ليست لديه دراية بأمور الثقافة الجماهيرية ولكنه يحاول. المهم في كل ذلك أن يكون الوزير مؤمنا بخطورة هذا الجهاز، وأن يقتدي بـ «ثروت عكاشة» عندما اعتبره الركيزة الأولي أو اللبنة في نشر الثقافة والارتفاع بالذوق العام، وهذا أساس لنهضة الفنون والآداب ورقيها، وهذا هو الرسالة الحقيقية لوزارة الثقافة حتي لا تصبح مجرد وزارة مهرجانات وتشريفات وسط شعب لم يتفتح ذهنه ولم يرتق ذوقه مما جعل المخرج سمير سيف يقول في حواره: «انعكس تراجع دور قصور الثقافة في تدني الذوق العام الذي نعانيه حاليا».

جريدة القاهرة في 21 مارس 2006

 

 

سينماتك

 

طارق الشناوي يكتب: أدب وقلة أدب

من «كوندليزا رايس» إلي «سعيد صالح»

 

 

 

 

سينماتك

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك