روتردام ـ القدس العربي : ينتمي المخرج رشيد مشهراوي إلي تيار السينما الفلسطينية الذي بدأ يؤسس لذاكرة مرئية حقيقية كتلك التي بدأها المخرج ميشيل خليفي في عدد من أفلامه ذائعة الصيت مثل الذاكرة الخصبة . كما يمكن القول إن مشهراوي مولع بالتجريب، وقد أنجز أفلاماً تجريبية مهمة من بينها فيلم توتّر الذي ينعدم فيه الحوار، لكنك تستطيع أن تتبع قصة لها حكاية بداية، ووسط، ونهاية. وربما يكون فيلم انتظار هو نوع من اللعب علي الفكرة التجريدية للانتظار، هذه الفكرة العصية علي الإمساك شخصنها من خلال عدد من الممثلين غير المحترفين الذين أتقنوا دور المُنتظِر، وتفننوا فيه. رشيد مشهراوي من مواليد مخيم الشاطئ بقطاع غزة عام 1962، وقد أنجز حتي الآن أكثر من عشرين فيلماً روائياً وتسجيلياً، وبينها عدة أفلام تجريبية. ومن أبرز أفلامه الحصار ، أيام طويلة في غزة ، الملجأ ، رباب ، وراء الجدران ، حيفا ، دار.. دور ، موسم الحب ، تذكرة سفر إلي القدس ، عرفات أخي و انتظار . أسس في رام الله عام 1996 مركز الإنتاج والتوزيع السينمائي، ولكنه لم يستطع الذهاب إلي رام الله، وما يزال منتظراً العودة إليها. وعلي هامش الدورة الخامسة والثلاثين لمهرجان روتردام الدولي التقيناه، ودار بيننا الحوار الآتي:

·         الانتظار فكرة مجردة، ولكنك شخّصتها، كيف تمكنت من تشخيص الفكرة؟

الانتظار في جوهره بالمفهوم العام فكرة مُتعِبة. أنا حاولت أن أدفع بهذا الانتظار باتجاه الإنسان الفلسطيني. نحن كبشر شركاء بكثير من الانتظارات، ولكن الفلسطيني له انتظاره الخاص الذي يمتّد إلي نحو ستة عقود، والذي حدث مع الفلسطينيين في الثماني والخمسين سنة الأخيرة يدعك تشعر أحياناً وكأن الانتظار شيء فلسطيني بامتياز، أو كأننا أصبحنا من محترفي الانتظار. في هذا الفيلم حاولت أن أتعامل مع الانتظار من وجهة نظر عبثية أيضاً فأنا نفسي اللاجئ أصبحت لاجئاً بصيغة مضاعفة، لأنني لا أستطيع العودة إلي بيتي في رام الله. في هذا الفيلم حاولت أن أصنع شيئاً جديداً لا يتناول الموضوعات المكررة، والمُعادة، والتي شبعت رصداً ومعالجة إلي الدرجة التي بتَُّ أشعر فيها بأننا لم يعد لدينا ما نرويه للعالم، ولهذا اتجهت إلي السخرية المرّة، والتهكّم الحاد. ومن خلال هذه المواقف الكوميدية السوداء أعتقد أنني جسدت فكرة الانتظار المجرّدة بنجاح واضح تستطيع أن تتلمسه في أعين المشاهدين.

·     السينما بدأت صامتة، وهي تعوّل علي الصورة وليس علي الكلمة أو الحوار. إلي أي مدي تنطبق هذه الحقيقة علي السينما الفلسطينية؟ هل تحتاج السينما الفلسطينية إلي سينما صورة فقط أم إلي سينما فكرة؟

تحتاج السينما الفلسطينية إلي سينما صورة، بمعني أنها تكون تقنياً وفنياً وموضوعياً وحرفياً مثل أي سينما أخري في العالم تصنع أفلامها بشكل مسترخٍ ومريح، ثم يأتي موضوع فلسطين أو الوضع السياسي لها بوصفها دولة مُحتَلة لها معضلاتها الكبيرة. إلا أنني كفلسطيني، وصاحب قضية، ويجثم الاحتلال علي صدري منذ أكثر من خمسة عقود، ولدي صراع مع عدو قاسٍ جداً، ولاجئ منذ سنوات طوال، وصاحب حق لا بد أن أسترده، كل هذه المؤشرات الحقيقية لا تمنعني من التفكير بسينما ذات تقنيات عالية، ومنسجمة مع التطور العلمي الحديث. إذاً، عليك أولاً أن تكون سينمائياً حتي تستطيع مساعدة القضية التي تناضل من أجلها، فنحن نناضل علي أكثر من صعيد، ولعل تحدي التقنيات هي واحدة من أشكال المثابرة التي لا تقل شأناً عن أوجه الصراع الأخري مع العدو. في فلسطين نحن لدينا أحداث بشكل يومي، وعندنا وضع فيه اهتمام عالمي لأن مشكلتنا نحن مع إسرائيل. الاهتمام العالمي بالمناطق الساخنة في الشرق الأوسط واضح للجميع. وقد لعبت كثير من الظروف دوراً مهماً في أن يكون الفيلم الفسلطيني أكثر وثائقية بسبب الصراع السياسي الذي يضطرك لأن توّثق، كما يلعب التمويل دوراً مهماً في الخطوط العامة للإنتاج السينمائي بسبب عدم وجود إمكانيات ذاتية وكوادر وتقنيات ومختبرات ودور عرض وموزعين ومنتجين وتلفزيون وما إلي ذلك، الأمر الذي دفع بالسينما لأن تكون مبادرات لبعض الأشخاص المتحمسين لعملهم وقضيتهم حتي أن سبب استمرارهم في العمل السينمائي ربما يعود إلي علاقاتهم التي رسّخوها مع الآخرين. نحن نحتاج سينما الفكرة والحوار، كما نحتاج إلي سينما الصورة مثلما يحتاجها أي فنان عالمي آخر بغض النظر عن هويته أو البلد الذي ينتمي إليه.

·     القضية الفلسطينية صار عمرها الآن أكثر من خمسين سنة. هل تعتقد أن السينمائيين الفلسطينيين قد أسسوا لذاكرة بصرية من خلال إنجازهم الوثائقي هذا؟

هناك نوعان من الذاكرة المرئية التي يمكنك أن تستشفها عبر التأسيس لسينما فلسطينية كانت تنتج خارج فلسطين من خلال مؤسسات المنظمات الفلسطينية المختلفة بما فيها منظمة التحرير، وهذه السينما حسب رأيي لم تؤسس ذاكرة لأنها عندما بدأت كان لديها هدف تعبوي، وليس تأسيس ذاكرة، والهدف التعبوي نضالي صرف. وهذه السينما صُنعت في تونس أو بيروت أو مصر، بمعني آخر أنها لم تحتك بالحياة اليومية المباشرة للمجتمع الفلسطيني، كما أنها كانت تميل إلي كثير من الشعارات الرائجة آنذاك. أنا يتهيأ لي أن التأسيس للذاكرة السينمائية الفلسطينية قد بدأ فقط في بداية الثمانينات من خلال بعض الأفلام الوثائقية وبعض الأفلام الروائية، أي في الفترة التي بدأ فيها المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي يشتغل علي فيلم الذاكرة الخصبة وأخرج طريق النعيم و عرس الجليل و نشيد الحجر و حكاية الجواهر الثلاث و الزواج المختلط في الأراضي المقدسة ويعرض أفلامه في مهرجان كان ثم جئت أنا وعملت حتي إشعار آخر و حيفا و تذكرة إلي القدس وعرضت في مهرجانات كثيرة، وآخرون. هذه السينما تقدّم الفلسطيني بوصفه إنساناً صاحب حق في الحياة والعيش الرغيد ضمن حدود بلده، كما ترصد حركة المجتمع الفلسطيني، وإيجابيات الإنسان الفلسطيني وسلبياته وفي هذا المكان والزمان. هذه السينما ممكن أن تؤسس لذاكرة مرئية سينمائية. كما أود التأكيد مرة أخري وأتساءل فيما إذا كانت الذاكرة المرئية ممكن أن تكون هدفاً بحد ذاته ضمن الأوضاع التي نعيش فيها الآن؟ كلا، أنا أعتقد أن الهدف الأكبر لم يكن من أجل تأسيس ذاكرة سينمائية فقط، وإنما من أجل إثبات وجود تساهم السينما في تحقيقه. كان همّنا أن نوضح هوية بلدنا، وأن نبرز ملامح شعبنا بلغته وحضارته وتقاليده وثقافته بإيجابياته وسلبياته. هنا لعبت السينما الفلسطينية دوراً مهماً جداً لدرجة يمكن أن يكون فيها الوطن الفلسطيني كبيراً وقوياً رغم كونه موجوداً في السينما، وغير موجود في الواقع.

·     عندما شاهدنا فيلم انتظار في مهرجان روتردام الدولي كانت بعض الشخصيات معروفة ومحترفة مثل شكران مرتجي ومحمود المساد وبعض الفنانين الأردنيين المعروفين، غير أن البقية الباقية لم يكونوا محترفين وليست لهم علاقة بالسينما. ما هي الغاية من استثمار شخصيات غير محترفة؟ هل لأن الموضوعة تتطلب أشخاصاً غير محترفين أم أن هناك أسباباً أخر؟

الأغلبية كانوا غير محترفين وعدد من المعروفين طبعاً كانوا خمسة أو ستة ممثلين من الأردن وكل واحد منهم أدي مشهداً، ولكنهم علي مستوي الوطن العربي معروفون جداً مثل عرين عمري التي لعبت دور بيسان وهي معروفة وقد مثلت في فيلم برايفت لمحمد بكري، وأخذت جائزة في مهرجان لوكارنو، كما أن محمود المسّاد معروف كمخرج أيضاً، وشكران مرتجي معروفة في المسلسلات التلفازية السورية. ومع ذلك لم يكن هدف الفيلم إبراز أسماء أو تلميع لصورة نجوم، بل بالعكس كانت القضية بالمقلوب، إذ كنت أريد أن أنجز فيلماً يكون أبطاله غير معروفين فنياً. وكنت أبحث عن البساطة والعفوية وبأقل لباس وأقل مكياج وأقل تمثيل وبأدني درجة من الحرفة التمثيلية لكي يكون الفيلم قريباً للوثائقي وللواقع. وأعتقد أن هذا هو ما تحقق من خلال الفيلم.

·     ولكن البعد المجازي كان له دلالات كبيرة لأن الانتظار الفلسطيني لا يشبه أي انتظار آخر.. أنت لعبت علي البعد المجازي. أليس كذلك؟

هذه هي الفكرة تماماً. أنا بدأت الفيلم بفكرة الانتظار، أو دعني أقول بفكرة اللعب الفني علي الانتظار نفسه، وبمفهوم الانتظار الفلسطيني، ثم بدأت بعد ذلك باللعب علي فنية السيناريو أو تقنيته. كيف تعمل شيئاً مليئاً بالسخرية الكبيرة وممتلئاً حزناً ومرارة بنفس الوقت؟ نعم لعبت علي المجاز وهذا المجاز هو الذي عمّق فكرة الفيلم من خلال التهكم والسخرية المرة.

·     هل لاقيت صعوبة في ترويض محمود المسّاد كمخرج وتحويله إلي ممثل بالرغم من أنه مثّل في بعض الأدوار السابقة في أفلام أخر؟ هل هناك صعوبة في التعاطي مع مخرج آخر يحترف المهنة نفسها؟

لم أفكر في أثناء العمل ولا مرة واحدة أنني أتعامل مع مخرج وليس مع ممثل. الاتجاه العام كان مع مجموعة فلسطينيين سينمائيين وزعنا علي بعضهم أدواراً مختلفة لكي نعمل هذا الفيلم. من وجهة نظر محمود أنه كان يجب أن يلعب دور المخرج في هذا الفيلم لأنه مخرج أصلاً، فلعب دور المخرج، وأداّه بشكل جيد. أظن أن محمود المساد ليس لديه طموح في التمثيل مستقبلاً لأنه أحبَّ أن يقوم بهذا الدور الذي اقتنع به من أجل أن ننجز هذا الفيلم الناجح. لم يدر النقاش في مرة سابقة حول مستقبله في التمثيل، بل كان الحوار دائماً يدور حول الموضوع وطريقة إنجاز هذا الفيلم التهكمي والساخر بمرارة.

·         هل لديك طريقة محددة في استنطاق الممثل، وتثوير أعماقه. وهل تستطيع كشف وإظهار مواهبه كلية إلي الخارج؟

في بعض الأفلام يحتاج الوضع لجو خاص، وطريقة عمل محددة تقتضي هذا التثوير والاستنطاق فأنا حتماً سأحاول تحقيق هذا الشيء الذي ينسجم مع حاجة الدور وطبيعة الفيلم.. في فيلم توتر ليست هناك كلمة واحدة تقال، وإنما هناك أشخاص، ولكنك تستطيع أن تستشف الحكاية التي فيها بداية وتصعيد درامي ووسط ونهاية. في فيلم حيفا كان محمد بكري ممثلاً فلسطينياً كان يجب أن يكون مجنوناً وعاقلاً في المخيم في الوقت نفسه، وكان موضوع الفيلم سياسياً وله علاقة باتفاقية أوسلو للسلام. وكان ينبغي أن ندخل إلي تفاصيل الشخصية فيما يتعلق بكل حركة ونأمة ونظرة. عملياً ما كنت أبحث عنه هو ورشة عمل للتواصل مع الممثلين الثلاثة في فيلم انتظار وهم الذين قادوا العمل المخرج والمصور والمذيعة لقد حاولت كثيراً ألا يكون هناك تمثيل تماماً مثل الناس الآخرين الذين لم يمثلوا وإنما كانوا طبيعيين جداً في طرح فكرة الانتظار. ومن وجهة نظري فإن العمل الشاق كان أكثر مع الممثلين الموهوبين والمحترفين أنفسهم، لأنني طلبت من كل واحد منهم أن يلعب دور ممثل سيء. وهنا تكمن صعوبة العمل الفني لأنك يجب أن تجرّد الممثل المحترف من خبراته الفنية وقدراته وتجعله يؤدي دور ممثل غير محترف، وسيء، ولا يعرف شيئاً عن التمثيل. هذا هو التناقض الذي يكمن فيه كشف المهارات والخبرات أو استنطاق القدرات الداخلية للممثل.

·     هل أثارك فوز فيلم الجنة الآن بحصوله علي الغولدن غلوب كأفضل فيلم أجنبي، وهل تعتقد أن هذا الفوز هو فاتحة خير للسينما الفلسطينية التي وضعت خطواتها الأولي علي السجادة الحمراء؟

أنا أريد أن أنتظر في هذا الموضوع، لأنه يهيأ لي أن هناك نوايا سياسية في الموضوع. ببساطة لأن جوهر الفيلم قائم علي عمليات استشهادية، ثم فجأة يتركون موضوع التفجيرات الإرهاب بحسب القناعات التي طرحها المخرج وكاتب النص. نحن منذ خمس سنوات ننتج أفلاماً تشترك في مهرجانات عالمية مثل كان وبرلين وروتردام وغيرها، وقد أخذت بعض هذه الأفلام جوائز مهمة، ولكنني لست متأكداً تماماً فيما إذا كان هذا الأمر سيحدث قبل 11 سبتمبر أو قبل موّال الإرهاب الذي بدأت أمريكا تغنيه. نحن نريد للسينما الفلسطينية ألا تنبني علي حدث من هذا النوع. نحن نريد سينما تأخذ حقها الطبيعي المتسلسل والمتدرج والذي يأتي نتيجة لتراكم خبرات فنية. نحن لا نريد نتيجة لمرحلة ما، أولحدث ما أن ترتفع أي سينما في العالم إلي السماء، بل نريد لهذه السينما، فلسطينية أو غير فلسطينية، أن تأخذ مكانتها الطبيعية واستحقاقاتها الموضوعية، أي باختصار نريد شيئاً موزوناً لا يعترض عليه ذوو الخبرة والاختصاص وأصحاب المواقف الحقيقية الذين ينتصرون للفن دائماً. أنا أربط الذي يحدث في منح هذه الفيلم أية جائزة بالوضع السياسي وأقول حسناً، هذه هي الموضة، ولكن في أعماقي أنا أفرح طبعاً عندما أسمع أن فيلماً فلسطينياً أخذ جائزة الغولدن غلوب . هذه مسألة أخري. أنا ومنذ سنوات طوال أتعامل مع الأمريكان والأوروبيين. وأعرف من خلال خبرتي في التعامل معهم لماذا يكرّمون فيلماً ويهملون آخر. ما أريده أنا أو أتمناه علي الأقل أننا كعرب أن نعمل أشياءنا، ونصورها بأنفسنا، ونقدمها للعالم بشكل جميل وراق، ولا نتنازل عن الشروط الفنية أو الفكرية. وهذا هو الذي يوصلها إلي النجاحات الكبيرة التي نتجاوز من خلالها سلسلة خيبات الأمل الكبري.

·     علي الصعيد الشخصي لتجربتك السينمائية التي يمتد عمرها إلي عشرين فيلماً هل وضعت بصمات لك في هذه التجربة السينمائية كمخرج؟ وهل تنتمي إلي أسلوب أو تيار سينمائي محدد؟ وهل لديك مؤثرات من رؤي وتيارات إخراجية أوروبية أو عربية، أم أن لديك أسلوبك الخاص النابع من أعماقك؟

تستطيع القول إنني أحب السينما الإيطالية القديمة، ولكن ليس لدي مخرج محدد أحبه كنموذج مثالي، ولكن من الممكن أن أحب فيلماً مهماً لمخرج ما، ولكنني قد لا أحب أفلامه الأخري. أحب الواقعية الجديدة، وأحب أن أجرّب دائماً. في رأيي أن السينما العربية ينبغي أن تشبهنا نحن، وهذا ما هو مطلوب منا. أحاول أن تكون السينما مستخلصة من أدواتنا بمفهوم السيناريو والتصوير والمونتاج، أي أنك حينما تشاهد فيلماً من دون أسماء تستطيع أن تنسبه فوراً إلي السينما الفلسطينية، أي من دون الحاجة إلي أن تري الجنود الإسرائيليين أو الانتفاضة الفلسطينية، وهذا هو التحدي الكبير الذي أبحث من خلاله عن هذه السمات الفنية. لقد أقمت العديد من الدورات السينمائية لكثير من المخرجين الفلسطينيين ومنهم هاني أبو أسعد نفسه، وقد بدأ العمل معي كمساعد إنتاج، وأنتجنا له فيلمه القصير الأول، ولدي الآن 16 مخرجاً فلسطينياً يتدربون عندي في مركز الإنتاج السينمائي وبعضهم أنجز أفلاماً مهمة لا يمكن غض الطرف عنها.

القدس العربي في 22 فبراير 2006

فيلمه الجديد «انتظار»...

هل نجح المخرج رشيد مشهراوي في رسم الخريطة الإنسانية للمأساة الفلسطينية؟

دمشق - إبراهيم حاج عبدي 

لا يمكن فصل السينما الفلسطينية عن مسار القضية الفلسطينية وتعقيداتها، فمثلما أن الشعب الفلسطيني يعيش في ظل الاحتلال والحصار، فإن فنونه أيضاً محاصرة، وتتأثر بطبيعة الظروف السياسية في كل مرحلة، غير أن ثمة مبادرات فردية تحاول أن تكسر هذه العزلة المفروضة، وتقول شيئاً وسط هذا الخراب من خلال اللوحة أو المسرح أو الأدب أو السينما. ويعد رشيد مشهراوي واحداً من أولئك الذين تمردوا على الواقع وقالوا كلمتهم بلغة سينمائية لافتة، فهو من العلامات البارزة في السينما الفلسطينية الجديدة التي ظهرت في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، وهو - مع قلائل من مجايليه - استطاع إخراج السينما الفلسطينية من بيئتها المحلية الضيقة لتشارك في المهرجانات والمحافل الدولية وتستقطب الاهتمام النقدي والجماهيري. ينطبق هذا الآن على آخر أفلام مشهراوي «انتظار».

بعيداً من الشعارات

«انتظار» هو فيلم روائي طويل يبتعد عن الشعارات والخطابة ليركز على المخيمات الفلسطينية في سورية والأردن ولبنان والتي أصبحت رمزاً لمعاناة الشعب الفلسطيني منذ أكثر من نصف قرن. وتنهض بنية الفيلم على فكرة ذكية تتمثل في أن مبنى المسرح الوطني الفلسطيني هو قيد الإنجاز في غزة، وهذا يتطلب إنشاء فرقة مسرحية. المسؤول عن هذا المسرح أبو جلال (عبدالرحمن أبو القاسم) يكلف فريقاً فنياً مؤلفاً من المخرج المسرحي أحمد (محمود مساد) الذي يتطلع للرحيل عن فلسطين لكنه يوافق، مكرهاً، على المهمة، والصحافية بيسان أبو نصار (عرين عمري) التي جاءت إلى فلسطين بعد اتفاقيات أوسلو، والمصور لوميير ( يوسف بارود) الذي لم يغادر فلسطين قط. هؤلاء الثلاثة يقومون بجولة في مخيمات الشتات الفلسطيني بغرض إجراء اختبار ومن ثم اختيار ممثلين للفرقة المنتظرة.

وفق هذه «الحيلة الدرامية» تتجول كاميرا مشهراوي في المخيمات الفلسطينية في عمان ودمشق وبيروت في محاولة لرسم الخريطة الإنسانية للهم الفلسطيني، والتقاط قسوة الانتظار في قسمات وجوه أولئك الفلسطينيين الذي يعيشون في المخيمات حياة بائسة، أملاً في العودة، ذات يوم بعيد، إلى فلسطين التي تحولت في وجدانهم إلى حلم جميل عصي على التحقيق، وثمة من يتدرب على فن التمثيل ليتم قبوله في الفرقة رغبة في العودة إلى فلسطين.

المخرج المسرحي القادم من غزة والذي اعتاد على الألم، فلم يعد يتأثر بما يراه من حكايات وقصص تهز الوجدان، يختبر الممثلين في الفيلم ويطلب من المتقدمين أن يظهروا ما يشير إلى الانتظار. وهنا تبرز المفارقة فهؤلاء قضوا سنوات أعمارهم ولم يفعلوا شيئاً سوى الانتظار، وأن يأتي فريق عمل يطلب إليهم تجسيد دور «المنتظر» فهذا ما لم يخطر في بالهم، ذلك أن من يمعن في تغضنات وجوههم التي حفر فيها الزمن عميقاً، سيدرك مقدار ما تركه الانتظار من آثار عليها. لقد استطاع المخرج أن يحمل فيلمه منحى إنسانيا مؤثراً عبر اختيار شخصيات تأتي للاختبار ولكنها تتحدث عن همومها ومعاناتها وخيباتها في الشتات. لاجئون يحتفظون في ذاكرتهم بلون الصباح المشتهى في وطن مفقود، ويتشبثون بمفاتيح منازلهم كرمز لعله يبشرهم بعودة مؤجلة. انهم في حالة «انتظار» أبدي بلا ملل، يدربون خيالهم على تصوير وطن سيولد من بين الركام، ويمرنون ألسنتهم على صوغ الكلام الجميل لدى معانقة أقرباء وأبناء، وآباء، وأصدقاء هناك في فلسطين التي تعيش صراعاً دموياً يومياً، لكنها هي الفردوس المفقود للاجئين يحلمون بالعودة.

أين الموضوع؟

وعلى رغم خصوبة المادة التراجيدية المتوافرة في أروقة المخيمات والتي تراكمت عبر سنوات وسنوات، فإن كاميرا مشهرواي غرقت كثيراً في مشاهد ثانوية وأهملت الموضوع الرئيس الذي صنع الفيلم لأجله، وهو قضية اللاجئين التي لن تنجح أية تسوية سياسية مقبلة في حال تجاهلتها، بحسب ما يريد الفيلم قوله. الفيلم يسعى، بصورة مضمرة، إلى القول إن «حق العودة» حق مقدس، ومثل هذا التوجه يسجل لمصلحة الفيلم، ويمنحه أهمية سياسية أكيدة، لكن لا بد من القول إن النيات الطيبة لا يعول عليها في إنجاز فيلم ناجح. فالفيلم، الذي تصل مدته إلى الساعة ونصف الساعة، لم يستطع أن يظهر تلك الجدلية التي تتصل بعلاقة هؤلاء بأرض تركوها وهاموا على وجوههم وهم لا يزالون يعيشون حياة التيه في انتظار العودة إلى حقولهم ومنازلهم وبساتينهم، فضلاً عن إخفاقه في الاشتغال على الجانب الوجداني المطلوب في هذا النوع من الأفلام، الأمر الذي أفقد الفيلم الحنان، وحرارة العاطفة. هنا سيقول أحدهم إن هذا ليس نقداً سينمائياً، وسنرد بأن مقياس نجاح أي فيلم هو مدى ملامسته لوجدان المتفرج، وقدرته على مخاطبة مشاعره، وخصوصاً إذا كان هدف الفيلم، كما في «انتظار»، هو إبراز المنحى الإنساني والجمالي بعيداً من السياسة ومراميها الماكرة، المتعددة.

الحوار في الفيلم يأتي متقطعاً، ارتجالياً، يذكرنا بحوارات مسرح العبث، أو اللامعقول، فيما تهتز الكاميرا وتخطئ هدفها، غالباً، إذ تبتعد عما هو رئيس في المخيمات لتركز على الفلكلور الفلسطيني أو على تظاهرة تندد بالاحتلال الإسرائيلي، أو تناصر الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرافات، فالفيلم يتورط في ما أراد النأي عنه. ومشهراوي المعروف بدفاعه عن سياسات عرفات وبحبه له، إذ يغمز، قليلا، من قناة سورية (التي لم تكن على وفاق مع أبو عمار) فانه يظهر عمان كمدينة احتضنت اللاجئين واستوعبتهم، بينما ينتهي الفيلم في بيروت من دون إجراء اختبار إذ يحدث قصف يؤدي إلى إغلاق الحدود والمعابر، فيطلب إلى فريق العمل كذلك الانتظار مثلما كان على لاجئي الشتات انتظار كل هذه السنوات، وهنا يظهر مشهرواي وحدة المصير الفلسطيني فلا فارق بين فلسطيني الشتات والداخل، فجميعهم «يربون الأمل» بتعبير محمود درويش.

هناك أربعة ملايين لاجئ فلسطيني في الشتات، وهذا يعني أربعة ملايين مشكلة، ولئن وفق الفيلم في إيصال هذا التحليل الذي يرد على لسان بطل الفيلم حينما تطلب منه المذيعة أن يكون لطيفاً، ومتسامحاً مع من يتقدم للاختبار. لكن الفيلم الأقرب إلى الريبورتاج التلفزيوني، أخفق في استثمار إمكانات السينما بوصفها فناً يتيح للمخرج التحليق في فضاءات الخيال والسحر وصوغ الأمنيات، كما عجز صاحب «حتى إشعار آخر» في التقاط هموم الحياة الحزينة المزمنة في عتمة المخيمات. فبدلاً من الاعتماد على المشاهد الخارجية وتسليط العدسة على زوايا الجرح الفلسطيني القابع عند كل منعطف وزاوية في المخيمات البائسة، فانه ركز على التصوير الداخلي الأقرب إلى الأداء المسرحي، مما يلغي المبرر لأن يتجول مشهراوي وفريق عمله في المخيمات الفلسطينية، إذ كان يمكن له إنجاز فيلمه في أستوديو في غزة مثلاً حيث يقيم، من دون أن يضطر إلى هذا الرحلة المضنية، والمكلفة إنتاجياً (الفيلم ممول من جهات فرنسية) طالما لم يستثمر المادة البصرية الخصبة المتوافرة أمامه في المخيمات.

الحياة اللبنانية في 24 فبراير 2006

 

الكومبارسات تلتهم النجوم بعد طول «انتظار»

فجر يعقوب 

يتكئ فيلم «انتظار» للمخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي على فكرة جميلة وذكية مطمئنة، ولكنها تنتهي مع دوران الأمتار الأولى من الشريط الذي عرض أخيراً في المركز الثقافي الفرنسي في دمشق ضمن فعاليات أيام الفيلم العربي - الفرنسي، إذ يتحول الفيلم إلى مسرحية لا تكتمل فصولها في دول الشتات. ربما جاءت اللمعات التسجيلية التي صورت في لبنان أفضل من كل هذه السياحة الروائية المرهقة التي دارت فصولها في دول الشتات، وغزة المتخيلة في السبات الروائي، وقد أعيد فيها تصوير ما هو مفترض في هذه البقعة المستحيلة من السيناريو في سورية ولبنان...!

وتحول فيلم «انتظار» الذي ينشد معاناة الشعب الفلسطيني في داء اسمه الانتظار إلى انتظار سينما لا تجيء في موعدها، فلا يعقل أن تصل إلى المحطة الأخيرة (بعد غزة) كي ترى قوة الفيلم في النزعة الوثائقية التي منحت له مصادفة، وليس من طريق السيناريو، وكأن هذا الإلهام قد تفجر في موعده هنا بالضبط، من دون ماكياج لمن يعمل على أرض الواقع. نقول سينما لا تجيء في موعدها لأن نقطة ضعف الفيلم الرئيسة تكمن في ممثليه الأساسيين، وهم يتبادلون الأدوار مع ممثليه غير الأساسيين، وليس في الأمر أحجية أبداً. فـ «الذريعة» الدرامية التي يتكئ عليها الفيلم برمته تخفق في التحقق منذ لحظاتها الأولى، أو منذ تلك اللحظات التي يقرر فيها المخرج أحمد (لعب دوره المخرج الفلسطيني محمود مساد) أن يكون نزقاً من دون أن يقنع أحداً بالطبع، وقد اكتشف ضابط إسرائيلي أشقر أثناء تفتيش حقيبته حجراً فيها وهو يعود إلى غزة، ويسأله عنه من دون أن نعرف لماذا، إذ لم نعد نرى وجه هذا الضابط بعد أن انكشف هنا الرمز التقريري للحجر على الملأ. ذلك أن أحمد يصر من بعد خروجه على التقاط حجر بديل وإخفائه في ثيابه من دون أن نعرف سبباً لذلك، وهو الذي يمقت كل شيء من حوله، وقد بدا ذلك واضحاً من نرفزته وتعاليه و»احتقاره» للمواطنين الممثلين في «دولته» ودول الشتات...!

تبدأ قصة «انتظار» هكذا. ينطلق المخرج أحمد برفقة المذيعة في التلفزيون الفلسطيني عرين عمري، والمصور لوميير أو منير، وهو أحسن تقني تلفزيونات ولا فرق هنا طالما أن الاسم لا يمس أحد الأخوين لوميير (لعب دوره المصور التلفزيوني يوسف بارود)، بهدف انتقاء أعضاء فرقة مسرحية تشكل نواة للمسرح الوطني الفلسطيني المزمع تأسيسه في غزة بعون من الاتحاد الأوروبي. ويدور الطاقم على مواقع الشتات الفلسطيني التقليدية، وهي في هذه الحال الأردن، سورية، لبنان، بحثاً عن ممثلين مفترضين في أوساط اللاجئين وكان يتوجب عليهم في الاختبارات التي تحولت إلى عبء على الفيلم وأجهضته أن يمثلوا دور من ينتظر. طبعاً يتخلل هذا البحث مفارقات مضحكة، ارتجلها البعض في سياق الاختبارات، وبعضها جاء ليكمل المسار الثقيل الذي اختطه الفيلم بعد أن وقع في شرك نصبه لنفسه بنفسه ولولا مهارات المصور الفرنسي جاك بيس لسقط الفيلم برمته في شرك المسرح، فلا نعود من بعدها نعرف ما إذا كان الاتكاء على فرضية مخرج حقيقي بعينه، ومصور تلفزيوني بعينه تعود مجدية في حالته، وكأن التعبير عن الواقع بالواقع نفسه يصبح لا معنى له هنا، إذ يخون السينما نفسها. فإذا ما أردت ممثلاً يؤدي دور مخرج، فلا يعني هذا أن تحضر مخرجاً حقيقياً ليؤدي دور المخرج المطلوب أمام الكاميرا، وكذا الحال بالنسبة إلى المصور الحقيقي الذي تولى بالكاميرا الرقمية مهمة إكمال «الخيانة» من حيث بدأت، فقد تداخل الأداء ببعضه البعض، وأطاحت «كومبارسات» المنفى، بالأبطال وطباعهم والتهمت طاقم البحث، وبدا واضحاً أن حضور ممثلين مخضرمين مثل عبدالرحمن أبو القاسم وصبحي سليمان قد أطاح بالفكرة من أساساتها.

على أن مشكلة هذا الفيلم بالتأكيد لا تكمن في الفكرة الجميلة التي تذرع بها، بل في التنفيذ وقد خضع لجراحة مسرحية ثقيلة بدا واضحاً معها أن مشهراوي قد سلّم أمره بالكامل للمسرح الفلسطيني الذي ينوي (أبو جميل) تأسيسه في غزة، وكأنه لم يغادره أبداً حتى من قبل أن تشيد دعاماته بعون من الاتحاد الأوروبي أو من دون عون، فهذا المسرح الذي لا يعود موجوداً بفعل غارة إسرائيلية يغلق ستارته أمام ممثليه الثلاثة، لقد دفنت الفكرة هناك، وقام المخرج والمصور بالتمظهر حول ذاتهما الحقيقية في الواقع اليومي، وقد جرّا معهما المذيعة التلفزيونية التي بدت وكأنها هاربة للتو من مبنى تلفزيوني دمر بالكامل، ليس بسبب من غارة إسرائيلية، بل من غارة Make – Up غير موفقة، منعت المخرج الموهوب مشهراوي من إكمال توضيب رحلته.

الحياة اللبنانية في 24 فبراير 2006

 

سينماتك

 

المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي:

أشعر أننا لم يعد لدينا ما نرويه للعالم لذلك اتجهت إلي السخرية المرّة

عدنان حسين أحمد

 

 

 

 

سينماتك

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك