التأسيس للمنحى البصري

وُلدت الفنانة والمخرجة الإيرانية سبيدة فارسى فى طهران عام 1965. وما إن أنهت دراستها الإعدادية حتى شدّت الرحال إلى باريس عام 1984 لأن عقليتها المتفتحة، وروحها الطليقة لم تتحملا البقاء فى ظل القيود التى كبلت الناس المتحررين. كما أنها كانت تحلم بدراسة الرياضيات هناك. ولأن باريس تحفّز على ظهور المواهب المكبوتة، فسرعان ما وجدت سبيدة نفسها منغمسة فى الفنون البصرية التى كانت تمحضها حباً من نوع خاص مذ كانت فى إيران. وفى باريس لم تذهب إلى مدرسة أو معهد للتصوير، فهى شابة مفعمة بالحيوية والنشاط، إذ علّمت نفسها بنفسها فن التصوير الفوتوغرافى قبل أن تتجه كلياً للسينما، وتحترف أكثر من جنس فني، إذ شرعت فى كتابة عدد من السيناريوهات للأفلام القصيرة فى أواخر الثمانينات من القرن الماضي، ومن بينها "الأحذية الحمراء" 1988، و"التانغو" 1989، و"ريح الشمال" 1993، و " "أحلام المياه" 1997.

بدأت تجربتها السينمائية بـ "رجال الأطفاء" عام 2001، وهو فيلم تسجيلى يتحدث عن رجال الإطفاء فى إيران. أما فيلمها التسجيلى الثانى فقد كان بعنوان "العالم بيتي" 1999وقد كشف هذا الفيلم عن هاجس سبيدة الفلسفى لأنه يبحث عن سؤال الهوية الثقافية للإيرانيين الذين يعيشون فى المنافى الأوروبية، وفى فرنسا على وجه التحديد، خصوصاً إذا عرفنا بأن سبيدة تنحدر من أصول أفغانية وإيرانية مشتركة، ثم أنها هى نفسها قد استقرت فى باريس، ونهلت من معرفتها وفنونها الشيء الكثير حتى باتت ذاكرتها مزيجاً من معارف متنوعة شرقية وغربية فى آن معاً.

وربما يكون الفيلم التسجيلى المعنون بـ "هومى دى سيثنا مخرجاً" الذى أنجزته عام 2000 هو الفيلم الذى رسّخ اسمها فى ذاكرة النقاد السينمائيين ومحبى السينما على حد سواء. فقد صوّرت هذا الفيلم فى الهند، وهو يتناول حياة مخرج زرادشتى كبير فى بومباي. وقد عُرض هذا الفيلم فى بعض المهرجانات الدولية، وحاز على العديد من الجوائز من بينها جائزة فيبريسى الشهيرة أو جائزة النقاد. وقد بررت لجنة التحكيم منح هذا الفيلم جائزة النقاد لكونه يدمج دمجاً فعّالاً ومؤثراً بين الصورة والفكرة. كما يتوفر على أناقة أسلوبية، ومقترب إنسانى لفنان وإنسان إستثنائى ورائع. .

ولأن سبيدة متعددة المواهب فقد جرّبت حظها فى التمثيل، وجسّدت دور مريم فى فيلمها التسجيلى "رحلة مريم" 2002 ، وقد اعتبره النقاد فيلماً مؤثراً، وقطعة شاعرية تستكشف طبيعة الذاكرة، والتوق، والفقدان، والأمكنة، والناس. . ثم تضيف سبيدة نفسها أن المقصود بالناس هنا، هم الذين صنعوا منا ما نحن عليه الآن. . وقد صُوّر هذا الفيلم بالكامل فى مكان حميم قريب من سبيدة لدرجة أنها كانت ترى الأشياء كلها بوضوح كبير. فهى بطلة غيرمرئية تبحث عن أبيها. وفى عمق هذا البحث تكمن طبيعة الرحلة التى تتجلى جماليتها فى القدرة على التجريب واستنطاق الصورة، وتعزيز الخطاب البصرى الذى تعوّل عليه. ولهذا فقد قيل عن هذا الفيلم تحديداً إنه يستدعى الرؤية البصرية الرفيعة لفيرتوف أو لمبدع بلدها الشهير كياروستمي. . وفى نهاية هذا الفيلم يرتفع صوت أصيل إلى الأعالى يتواءم مع هذه الرحلة الشخصية الحميمة إلى الأمكنة المجاورة بكل تفاصيلها المهمة طرقاً وأزقة وزوايا، ولكن يبقى الشيء الأكثر أهمية هو الإنسان، هدفها الأول والأخير، سواء فى طهران أو غيرها من حواضر العالم. ولأهمية هذا الفيلم من ناحية عمق الثيمة وجمالية الصورة السينمائية فقد وصفه بعض من النقاد الحاذقين بـ الفيلم الشاعرى الذى يلغى الحدود بين ما هو تسجيلى وروائى . كما تلّمسوا فيها روحية مخرجة عالمية تتجاوز الأطر المحلية من دون أن تهملها، كما أن هذا النزوع الكونى لديها يكشف هويتها الثقافية الملغزة وغير المتعيّنة.

وفى العام ذاته أنجزت فيلمها الروائى الأول "أحلام الغبار" ثم توقفت قليلاً لتراجع تجربتها وتتأملها جيداً قبل أن تُقدم على إنجاز فيلمها الروائى الثانى "نظرة مُحدقة" بعد أن غيّرت عنوانه الأولى "عودة أسفانديار" لكى يتطابق المنحى المجازى للعنوان مع الثيمة الجوهرية لهذا الفيلم الذى دخل فى مسابقة الأفلام الروائية الطويلة لنيل جائزة النمر فى مهرجان روتردام الدولي، خصوصاً وأنه من بين الأفلام المدعومة من قبل صندوق هيوبيرت بالس فى روتردام.

الصورة المجازية فى فيلم "نظرة مُحْدقة"

كما أشرنا سابقاً إلى أن سبيدة، على رغم حداثة تجربتها الفنية، تعمل فى ذات المنطقة التى يعمل بها فيرتوف وكياروستمي، وربما يكون هذا الأخير أكثر تأثيراً على تجربتها السينمائية ورؤيتها الفنية لأنه ابن بلدها أولاً، ولا بد أنها قد تابعث الكثير من أفلامه التى تجاوزت الثلاثين فيلماً، خصوصاً بعد الشهرة التى حققها بعد اندلاع الثورة الإيرانية التى ناصبته العداء، لكنه رفض مغادرة إيران لأنه مؤمن بأن الشجرة عميقة الجذور حينما تنقل إلى تربة أخرى قد تعيش، لكنها لا تثمر، وإذا ما أثمرت فإنها قطعاً لن تعطى فاكهة جيدة كتلك التى تعطيها فى تربتها الأصلية. وطالما أن كياروستمى ينتمى إلى ما يسمى فى إيران بـ "الموجة الجديدة" هذا التيار السينمائى الذى نشأ فى ستينات القرن الماضي، وازدهر فى السبعينات، وجمع حوله عدداً من الأسماء الإخراجية المهمة فى إيران أمثال فروغ فروغزاد، وشوهراب شهيد ساليس، وبهرام بيضائي، وبرفيز كيمياوي، وكانوا روّاداً فعليين لهذه الحركة السينمائية الفاعلة التى قدّمت منجزاً بصرياً مهماً يتوفر على نبرة سياسية وفلسفية من جهة، ولغة شعرية من جهة أخري. كان شوهراب ساليس غالباً ما يُقارن بروبير بريسون. بعض هؤلا تبنوا الأسلوب الواقعى غير التقليدي، بمعنى أن الحبكة، بما تنطوى عليه من تصعيد درامي، ليست قوية إلى الدرجة التى تسرق ذهن المشاهد وتمنعه من ممارسة فعل التخيّل، أو لا تدع مجالاً لعينيه كى تتمعاً بجماليات الصورة السينمائية، بخلاف الآخرين أمثال كيمياوى الذى كان يسمّى بغودار إيران لأنه يزاوج ما بين الفنتازيا والواقع، ويستعمل الشكل المجازى أو الاستعارى فى الثيمة والصورة، وسبيدة فارسى لا تشذ عن هذا التوجه الذى يعوّل على الصورة السينمائية، والمجاز بأعلى تجلياته.

وفيلم "نظرة مُحدقة" يراهن على البنية المجازية بشكل أعّم. فبدءاً من عنوان الفيلم "نظرة مُحدقة" يحيلنا إلى أن البطل الذى عاد إلى طهران لا ليلقى نظرة عابرة أو أخيرة على وجه والده المحتضر، وإنما جاء لتصفية حساباته سواء مع الأسرة أو مع الناس الآخرين من معارفة وأصدقائه أو الذين تربطهم وإياه علاقات غامضة تحتاج إلى تأويل.

لنتوقف عند الهيكل العام للقصة علها تسلط بعض الضوء على التفاصيل الغامضة، والسرّية التى دفعت بأسفانديار للعودة من باريس إلى طهران بعد غياب دام عشرين عاماً بالتمام والكمال. بينما كان أسفانديار المغترب يقيم فى باريس منذ سنين طوال، وصله خبران سيئان سيلعبان دوراً مهماً فى قلب حياته رأساً على عقب، الأول: أنه سيفقد بصره تدريجياً، والثانى أن أباه يحتضر على فراش الموت. من هنا يتوجب علينا أن نأخذ مفردتى "الرؤية" و"المشاهدة" على محمل مجازي، وليس حقيقياً. فجوهر الفيلم يعتمد على قوة الاستعارة ودقتها ومجيئها فى المكان المناسب. كما أن هذه الرؤية تعكس "وجهة نظر" الإيرانيين المغتربين أو المنفيين قسراً، أو الباحثين عن تحقيق أحلامهم الشخصية فى بلدان الغرب الأوروبي. هؤلاء الناس، وجلهم من المثقفين والسياسيين والليبراليين والمنفتحين لهم وجهات نظر مختلفة بطبيعة النظام الثيوقراطى الذى أزاح فيه الكهنةُ والمعممون كل من يرتدى زياً أوروبياً، ويعقد ربطة عنق. هؤلاء يجب أن نصيخ لهم السمع جيداً، ليس لأنهم مهجرّون ومنفيون ومشرّدون فى الأرض، بل لأن لهم الحق فى سلطة البلد وثروته، وأن يعيشوا الحياة التى يريدونها هم أنفسهم، وليس ما يقترحها رجال الدين الذين قفزوا من بيوت العبادة إلى سدة الحكم.

تشكّل عودة المنفى أو المغترب إلى وطنه الأصلى معضلة حقيقية يجب معالجتها، لأنه هو نفسه قد تغيّر من جهة، ولا يستطيع الاندماج فى بلده الأصلي، كما أن الوطن الأم قد تغيّر أيضاً ولم يعد يتقبل هذا النموذج الطارئ والمثقل بقيم وأفكار جديدة. وفى هذا الفيلم قدمت لنا المخرجة بطلها "أسفنديار" وأمثاله وكأن الوطن الأم لم يعد قائماً فى أذهانهم منذ مدة طويلة. وأن هذا الغياب الذى استمر لمدة عقدين من الزمان قد أثّر كثيراً على العلاقة بين الأب والإبن، وبالرغم من أن أسفنديار ينتمى إلى الإقليم الكردى فى إيران، فإن المخرجة لم تتعاطَ مع هذا الموضوع من ناحية سياسية مباشرة، لكنها لم تهملها تماماً. لقد اكتفى البطل بالقول إنه غادر كردستان إيران قبل عشرين عاماً، وها هو قد عاد من جديد لكى يلقى النظرة الأخيرة على والده المحتضر، لكن المتلقى الحصيف لا يخفى عليه البعد السياسى الذى لم تصرح به المخرجة ولا بطلها، وإنما تركا لنا حرية تخيّل علاقة هذا المواطن الذى يزور بلده بعد كل هذه السنوات الطوال، وهو فى أعماقه لا يريد هذه الزيارة، لكنه مُجبر عليها. الفيلم يجسّد ثيمة الاغتراب بكل معانيها الفكرية والوجودية والإنسانية، وأن البعد المكانى ليس هو السبب الرئيس فى هذا الاغتراب، وإنما النفور الفكرى أوالآيديولوجى هو السبب الأول والأخير الذى هز قناعات الناس المغتربين والمنفيين ففضلوا المنفى على الوطن مجبرين لا مخيّرين. حينما يصل أسفنديار إلى طهران تتكشف له حقائق جديدة إضافة إلى الحسابات القديمة التى يجب أن يصفّيها معهم، ولعل أبرزها مع شخصيتين قريبتين جداً منه الأولى أبوه الذى أحب فروغ، حبيبة ابنه، وقرّر أن يتزوجها فى غيابه بالرغم من صغر سنّها. والثانية زوجة أبيه فروغ نفسها الشابة الجميلة التى تكشف الأحداث أن شيئاً مهماً بينهما قد مات إلى الأبد، ولعل موت هذه العلاقة يعزز موت الأب مجازياً، كما أن فقدان البصر هو موت بشكل أو بآخر. إن موت العلاقة القديمة يثبت لنا أنها قد غيّرت حياته بشكل نهائي، وساهمت فى دفعه إلى الرحيل عن الوطن، إضافة إلى العوامل والمؤثرات السياسية والاجتماعية التى دفعته للغربة القسرية.

تجليّات الرؤيا بعد فقدان البصر

يبدأ إيقاع الفيلم فى باريس سريعاً، متواتراً، وكأن المخرجة سبيدة فارسى تريد أن تضعنا فى قلب الحدث مباشرة، كما أنها تشير من طرف غير خفى إلى أن طبيعة الإيقاع الحياتى الأوروبى المتسارع، ولا يمنح الإنسان فرصة للتأمل والتفكير وإطالة النظر. فما أن صَدمه الخبران السيئان اللذان فاجآه فى وقت واحد حتى وجد نفسه فى مستشفى فى باريس وهو يسأل مستفسراً من طبيب العيون الذى أبدى استغرابه الشديد من تفاقم مرض أسفنديار بهذا الشكل السريع: كم من الوقت سأستغرق قبل أفقد بصرى نهائياً؟ . فأجابه طبيب العيون: لا أعرف، بضعة أسابيع على الأرجح، أو بضعة أشهر تقريباً. . إن سرعة إيقاع الفيلم مدروسة، ومبررة فنياً، لذلك لم نفاجأ حينما يحزم أسفنديار حقائبه، ويسافر على متن أول طائرة ذاهبة إلى إيران. وفى مطار طهران يعترضه ضابطا أمن، ويستجوبانه. ثم نعرف فى الحال بأنه غادر إيران بطريقة غير شرعية، وأنه لم يعد إلى الوطن خلال العشرين سنة الماضية. وهذا ما يكشف لنا بأن وراء قصة هروبه غير الشرعية أسباب سياسية اكتفت المخرجة بالتلميح إليها، ولم تخض فى التفاصيل. وتعزيزاً لفكرة تصفية الحسابات لم يذهب أسفنديار إلى بيت أبيه مباشرة، وإنما أقام فى منزل ريفي. وقد أدهشت هذه الزيارة المفاجئة الجميع بمن فيهم الأخ الأصغر كيفان الذى لم يفرح لهذه العودة المفاجئة، بل على العكس أسقطته فى الحيرة والذهول، لأن الجميع يدركون تماماً أن سبب العودة المفاجئة هو تصفية حسابات شخصية من جهة، وسياسية من جهة أخري، مرّ عليها عقدان من الزمن. وتتأكد هذه النوايا حينما يصرّ أسفنديار على مقابلة والده منفرداً. وحينما يقع اللقاء على وجه السرعة تتكشف الحقيقة المرعبة التى صدمت الإبن المطعون فى قلبه وكرامته. تساءل أسفنديار: لماذا يا أبتي؟ فأجابه الوالد بأنفاس متقطعة: من أجل الحب ربما. وأن الأمر لم يعد يعنيني. . افعل ما يتوجب عليك أن تفعله. إذاً، كانت فروغ، الفتاة الجميلة اليافعة تحب رجلاً طاعناً فى الشيخوخة، وعلينا أن نقدّم تفسيراً لهذا الحب الخارج عن المألوف، والذى لا ينسجم مع أحلام الشباب وطموحاتهم، فلا بد من وجود خلل ما فى تفكير المرأة فى الأقل، أو فى موت أحلامها بهذه الطريقة التراجيدية المفجعة التى قد تكشف فى جانب منها فكرة "جَلْد الذات" بعد السقوط فى الخيبة واليأس. وعندما يغادر أسفنديار الغرفة كان أبوه قد فارق الحياة بعد أن انتهى الشوط الأول من لعبة التحدى والمجابهة، ليبدأ شوطها الثانى الذى استغرق وقتاً طويلاً من مدة الفيلم "83 دقيقة".

لم يكن باستطاعة أسفنديار أن يتفادى فروغ، فهى حاضرة فى كل أرجاء البيت. وهى أمامه أينما رفع بصره، أو أنى يمم وجهه. فثمة شيء كبير من الماضى المخبأ يربطهما معاً، ويشدهما لبعضهما البعض. إنه الحب الجامح الذى لم تتضح معالمه جيداً من خلال الفيلم لأن المخرجة أرادت أن تفاجئ المشاهد بهذا البركان العاطفى الذى حمل صاحبة على عودة مفاجئة للوطن وغير مأمونة العواقب. فالجروح كبيرة وما تزال مفتوحة حتى الآن، وهذه القصة لا تريد أن تنطوى أو تلوذ بزوايا النسيان. قال أسفنديار فى سرّه: لم تنته القصة بعد. ولا يستطيع أن يتخلص الإنسان من ماضيه بهذا الشكل. لقد توقفت ساعتى الداخلية عن التكتكة لمدة عشرين سنة، وبدأت تدق الآن من جديد عندما وطئت قدماى أرض هذا الوطن مرة ثانية. . ولأن المخرجة تفترض فى المتلقى أن يكون ذكياً بما فيه الكفاية فإنها تضعه فى مواجهة أسفنديار وهو ينظف مسدساً قديماً وجده فى العلّية ذات ليلة، ولم يبق لدية متسع من الوقت، وعليه أن يستعمل هذا السلاح، ولكن ضد منْ؟ أيستعمله ضد أولئك الذين أجبروه الرحيل والنفى القسرى من كردستان، وبطريقة غير قانونية، أم يستعمله ضد الناس الذين سببوا له هزائمه وخساراته العاطفية التى لا تعوّض؟. قال أسفنديار لصديقه سياماك: ألا ترى أن الليل يهبط عليّ؟ . ثمة إحساس مفجع بأن الحكايات القديمة تحاصره، وأن الذكريات البعيدة تطوّقه من كل حدب وصوب، وأن قطارة العيون لم تعد تسعفه كثيراً، لذلك يسقط أسفانديار فيما يشبه الهستيريا، وعليه أن يصب جام غضبه على رجل يطارده فى أزقة ضيقة فى حارة مشهورة فى طهران، تلك المدينة التى بدأ اسفنديار يتعرف عليها شيئاً فشيئاً. وحينما يذهب أسفنديار إلى موعد غير محدد، لم يكن الشخص الذى كان ينتظره هناك سوى زوجة أبيه فروغ. منتظرة هى الأخرى لحظة المجابهة الحتمية. وكالعادة فقد وصل أسفنديار متأخراً بعض الشيء، فقالت فروغ: دائماً تأتى متأخراً أيها الرفيق. وفى تلك اللحظة بالذات كان بمقدور أسفنديار أن يسألها سؤالاً واحداً لا غير طالما أرّقه خلال العشرين عاماً الماضية. لم يا فروغ، لماذا؟ ، فتجيبه من دون مواربة: لأننى أحببته. . شعر أسفنديار بالإعياء. وكل الذى استطاع أن يفعله هو أنه أغلق عينيه وطفق الليل يهبط عليه عندما بدأ يرى الأشياء على حقيقتها.

هكذا انتهت فكرة تصفية الحسابات الشخصية أو العامة قبل أن يفقد بصره ويغرق فى ظلام دامس. وإذا كانت ثمة أهداف مقصودة لمخرجة الفيلم تريد أن تضمّنها فى هذا الفيلم فلعل أبرزها هو صعوبة الحُكم على الناس أو اتخاذ قرارات سريعة بحقهم، لأن هذه الأحكام قد تكون نسبية وتلحق الضرر بالشخص المعني. وإذا كان الفيلم برمته يقوم على ثنائية النظر والمشاهدة أو بكلمات أخرى يبين التناقض بين الذاتى والموضوعي، والذى حاولت المخرجة أن توضحه بواسطة الأسلوب البصرى للفيلم فإن المجابهة بين الابن العائد وأبيه وفروغ من جهة، وبين ماضيه من جهة أخرى تسفر عن جواب شديد البساطة والجمال، بل إنه محطّم للأعصاب فى بساطته بحيث لم يتخيله هذا الشخص الذى عاد لكى يقلّب فى أوراقه القديمة التى لم تحترق بعد. إن عودة الأحداث التى لها صلة وثيقة بالموضوع هى أبعد مما ترويه حكاية الفيلم نفسه! لأن فقدان بصر أسفنديار هو استعارة أخلاقية لهذا العائق الفيزيقى الذى يتطابق مع وجهات النظر التى يتبناها العديد من الإيرانيين فيما يتعلق بماضى بلدهم القريب الذى يمتد منذ عام 1979 وحتى الآن، بل أن المخرجة نفسها قد صرّحت غير مرة قائلة بأن: كل شخص يريد أن ينسى هذه الحقبة الزمنية الأخيرة، ولكن الأحداث تكشف بأن الظلال تختبئ فى الزوايا دائماً. .

وجدير ذكره أن المخرجة سبيدة فارسى لها حضور قوى فى مهرجان روتردام للفيلم العالمي، فلقد سبق لها أن عرضت فيه فيلمها الروائى "أحلام الغبار" كما شارك فيلم "نظرة محدقة" بمسابقة الأفلام الروائية الطويلة المتنافسة على جائزة النمر "VPRO" لهذا العام، ومن المؤمّل أن يُعرَض لها فى العام القادم فيلم "الأبرياء" والمدعوم أيضاً من صندوق هيوبيرت بالس للتنمية. شاركت سبيدة فى العديد من المهرجانات العالمية فى كل من فرنسا، كندا، الهند، أسبانيا، بولندا، إيطاليا، مصر، وهولندا.

موقع "العرب أنلاين" في 23 فبراير 2006

ظلمته حيًا وميتًا

فشل السينما المصرية مع أدب يوسف إدريس

خالد محمد غازي 

يعتبر النقاد يوسف إدريس عميد القصة القصيرة، وصاحب الروايات والمقالات والمعارك الفكرية والسياسية الشهيرة، والتى كانت تحرك ركود الحياة، أو الحياة المصرية.

اسمه يوسف إدريس على يوسف سيد يوسف ولد فى 19 مايو من عام 1927 بقرية البيروم التابعة لمركز فاقوس بمحافظة الشرقية، وينتمى لأسرة ريفية من الطبقة الوسطي، تخرج يوسف فى كلية الطب وعمل طبيبًا بمستشفى قصر العيني، وكتب القصة مبكرًا، ومبكرًا أيضًا انتمى إلى الحركة الوطنية وانحاز إلى اليسار، وقدم للحياة الثقافية والسياسية والفكرية 42 عملاً منها 12 مجموعة قصصية، 8 مسرحيات، 10روايات، 15كتابًا فى السياسة والنقد والحياة.

وكان يعشق كل ما هو مصري، ويكره كل من يعتدى على الشعب المصرى بأى طريقة من الطرق، ولذا كانت كراهيته الكبرى لإسرائيل، وتأتى الكتابات القصصية ليوسف إدريس، من عمق البيئة، وهو قادر ببراعة على خلق الجو الاجتماعى الواقعى للشخصيات بعيدًا عن النظريات التى تمتهن الفن وتقيده.

لكن الشيء العجيب والملغز أن السينما المصرية لم تتمكن من الاستفادة من الإبداع الثرى والمتنوع للأديب الكبير الراحل يوسف إدريس فلم يظهر اسمه على التترات إلا 11 مرة فقط، منها تسع مرات عن قصص وروايات له بينما استوحى المخرج أشرف فهمى قصة فيلمه "عنبر الموت" عن مقالات يوسف إدريس والتى تناول فيها قضايا الأغذية الملوثة بالإشعاع، والمرة الوحيدة التى تعامل فيها يوسف إدريس مباشرة مع السينما كانت فى قصة فيلم "حدوتة مصرية" والتى كتب لها السيناريو يوسف شاهين فى الفيلم الذى كان فاتحة أفلامه عن سيرته الذاتية.

أما التسع مرات التى تعاملت فيها الشاشة المصرية مع إبداع يوسف إدريس فقد اعتمدت على روايتين: "الحرام" و"العيب"، وثلاث روايات قصيرة "لا وقت للحب" عن "قصة حب"، و"قاع المدينة" و"حلاوة الروح" عن "العسكرى الأسود"، وأربعة عن قصص قصار هى "حادثة شرف" - "النداهة" - "على ورق سيلوفان" - "العسكرى شبراوي" عن قصة "مشوار".

وهكذا لم تقترب السينما من إبداع يوسف إدريس برواياته ومسرحياته وقصصه القصار التى ملأت أربع عشرة مجموعة قصصية إلا تسع مرات فأضاعت على نفسها فرصة للنهل من نبعه العميق، ثم أعادت إضاعة الفرصة فى الأفلام المأخوذة عن قصصه، فالسينما لم تحافظ على عمق رؤية الكاتب الكبير، وإنما حاولت أن تطوع إبداعه لمقتضياتها فسطحت فنه العميق وربما لم تنتج السينما فيلماً جميلاً عن عمل ليوسف إدريس إلا مرتين فى "الحرام" و"لا وقت للحب". أما فى الأفلام السبعة الأخرى فقد تباين نصيب الأفلام من النجاح حيث حققت بعضها نجاحاً محدوداً مثل "النداهة" و"قاع المدينة" بينما فشل "العسكرى شبراوي" فشلاً ذريعاً.

الحرام

أول ظهور ليوسف إدريس على الشاشة كان مع المخرج هنرى بركات فى فيلم "الحرام" فقد استطاع كاتب السيناريو والحوار سعد الدين وهبة أن ينفذ إلى جوهر رؤية يوسف إدريس، كما وفق المخرج بركات فى اختيار طاقم الممثلين وإدارتهم، وقد كانوا جميعاً من الموهوبين وعلى رأسهم فاتن حمامة، وزكى رستم، وعبد الفتاح البارودي، كما وفق فى توظيف الموسيقى التى استخدمت الآلات الشعبية فأضافت إلى الصورة عنصراً جمالياً أسهم مع استثمار المخرج للتصوير فى الأماكن الطبيعية للأحداث فى إشعارنا وكأننا نعيش الحدث مع شخوصه ليقدم الفيلم بانوراما رائعة لحياة عمال التراحيل بلا خطابة أو ثرثرة مبرزاً أشد اللحظات الدرامية فى حياتهم.

تدور أحداث "قصة حب" خلال فترة الاحتلال الإنجليزى قبيل ثورة يوليو، ونتابع لحظات هروب "حمزة" الثائر من قبضة المحتل مصوراً نشوء علاقة الحب بين حمزة وفوزية، وتطورها لتجذب "فوزية" إلى الكفاح والمقاومة. وقد أعد السيناريو للفيلم كاتب إيطالى هو لوسيان لامبيربت، وكتب الحوار يوسف إدريس بنفسه فى سابقة لم تتكرر، ولم يكن حوار الفيلم بمستوى الحوار فى قصص يوسف إدريس من ناحية شاعريته أو قدرته التعبيرية، ولعل فشل فيلم "العيب" الذى كتب حواره يوسف إدريس أيضاً هو ما منعه من تكرار التجربة. فحتى حينما كتب سيناريو "حادثة شرف" تخلى عن كتابة الحوار، وأيضاً كان هذا السيناريو سابقة لم تتكرر فلم يكن إلا محاولة لإعادة سرد القصة وترجمة السطور ترجمة حرفية إلى كادرات فجاء الفيلم باهتاً، وعانى السيناريو من خلل واضح فى البناء فلم يعد يوسف إدريس لكتابة سيناريو بعدها.

أما فيلم "العيب" فهو واحد من الأفلام القليلة التى أخرجها للسينما المخرج المسرحى الشهير جلال الشرقاوى وأعد السيناريو كاتب لم يستمر طويلاً فى السينما هو رمضان خليفة، وقد حاول الاثنان إخضاع الفن للسياسة، فالرواية تصور السقوط الاجتماعى والجسدى لفتاة اضطرتها ظروفها القاسية للتخلى عن مفاهيمها للشرف والكرامة لكن الفيلم حاول مغازلة المرحلة - الستينات - فغير النهاية وجعل الفتاة تواصل الصمود فى وجه الظروف القاهرة، وجاءت الشخصيات مسطحة، وقد شاركهما يوسف إدريس بكتابته للحوار فى هذه الرؤية فتحمل الثلاثة معاً مسؤولية فشل الفيلم.

قاع المدينة

اشتهر المخرج حسام الدين مصطفى بأفلامه المقتبسة عن روايات ديستويفسكي، وكانت الأفلام تجارية تغازل شباك التذاكر ولم تحتفظ من ديستويفسكى إلا بالاسم، وقد فعل ذلك أيضاً مع قصة يوسف إدريس "قاع المدينة" فى الفيلم الذى حمل نفس الاسم وساعده على ذلك السيناريو الذى أعده الأديب أحمد عباس صالح.

فالرواية تتناول علاقة القاضى "عبد الله" الثرى الأعزب العاجز جنسياً مع الخادمة "شهرت"، يتراءى للقاضى أن شفاءه لن يكون إلا على يدى "شهرت" أو على جسدها، وحينما يتحقق له الشفاء فإنه يدفع الخادمة إلى طريق البغاء، فالرواية عن الجنس باعتباره موضوعاً يمكن أن يكون محل تفسير نفسى واجتماعي، بينما صناع الفيلم رأوها رواية جنسية، واجتهد حسام الدين مصطفى فى استغلال جسد نادية لطفى ليغازل به شباك التذاكر ولا يهمه إن أفقد الفيلم مغزاه أو سار به فى طريق آخر غير طريق الرواية الأصلية.

النداهة

نفس الشيء تقريباً حدث مع فيلم "النداهة" وقد أعد له السيناريو عاصم توفيق، ومصطفى كامل وأخرجه حسين كمال وقد أثبت صناع الفيلم عجزهم عن فهم فكر يوسف إدريس، فالنداهة قصة تحكى عن القرية فى مواجهة إغراءات وغوايات المدينة، وما "فتحية" إلا رمز. لكن الفيلم اختار أن يقتصر على تتبع طريقها للسقوط، وبدلاً من أن يقبح الأفندى الذى يغوى "فتحية" - كما فعلت القصة - راح يصوره جذاباً وسيماً.. مهندس كمبيوتر ناجح وثرى وتحبه الجميلات. ولم يفلح الفيلم فى إظهار ما تريده "فتحية" فهل هى تريد أن تكون إمرأة عاملة ذات دور، أم تريد عالم المجون فى شقة المهندس. وحتى فى مشهد الاغتصاب فشل المخرج والممثلة ماجدة فى إقناعنا بأنها مغتصبة بل بدت وكأنها سعت إلى ذلك. وبذلك شوّه الفيلم رؤية يوسف إدريس فقد كان هدف مخرجه ترديد شعارات الانفتاح الاقتصادى وقد كانت صاخبة وقت إنتاج الفيلم وتصور الانفتاح بوصفه توجهاً سياسياً واجتماعياً.

"حلاوة الروح" فيلم كتبه المخرج أحمد فؤاد عن قصة "العسكرى الأسود" وفى القصة نلتقى بالدكتور "شوقي" صاحب الشخصية المركبة فى انتكاستها من التمرد إلى الاستكانة، ومن إنكار الذات والتضحية إلى الابتزاز وطلب الرشوة.. إنه باختصار مثال للمثقف الذى تحطم بفعل سلطة غاشمة تقمع من يخالفونها، وهى القصة التى وصفها النقاد بأنها أصدق عمل أدبى مصرى عن اضطهاد أصحاب الرأى كتبها سينمائياً المخرج أحمد فؤاد، فأظهر شخصية "شوقي" هشة وحتى فى لحظات التمرد لم تنطق الشخصية إلا بشعارات، وفشل الفيلم فى إظهار شوقى كإنسان، وقدم الفيلم وجهين للسلطة متمثلة فى رجال البوليس السياسى وتطرق إلى الحياة الشخصية والعائلية لكبار رجال البوليس السياسى دون هدف درامى ومتحولاً إلى مجرد ثرثرة تبتعد عن الهدف الأساسى للقصة.

العسكرى شبراوي

مما يدعو للأسف أن مخرج فيلم "الحرام" وهو أهم فيلم اعتمد على أدب يوسف إدريس هو نفسه مخرج فيلم "العسكرى شبراوي" أسوأ هذه الأفلام. فكاتب سيناريو الفيلم أحمد الخطيب التقط من قصة "مشوار" فكرة توصيل امرأة مجنونة من القرية إلى مستشفى الأمراض العقلية بالقاهرة بواسطة "العسكرى شبراوي" فصاغ مواقف هزلية مبتذلة تكشف فى نهايتها عن أن الفتاة ليست مجنونة بل تدعى الجنون، فتذهب مع شبراوى إلى المأذون بدلاً من مستشفى الأمراض العقلية. وثمة فارق كبير بين الكوميديا السوداء فى "مشوار" والهزل فى "العسكرى شبراوي" فلم يبق من قصة يوسف إدريس الرائعة غير ملامح باهتة تدل على فيلم مبتذل.

وقد تبرأ يوسف إدريس من هذا الفيلم، مؤكداً أنه مسؤول فقط عن قصة "مشوار" المنشورة ولعل ذلك ما صرف صناع الأفلام عن أدب يوسف إدريس، فبعد ذلك لم نر إلا فيلمين استخدم فيهما اسم يوسف إدريس ولا ينتميان إلى أدبه وهما "حدوتة مصرية" من حياة مخرجه يوسف شاهين، و"عنبر الموت" وقد كتب له السيناريو مصطفى محرم عن مقالات ليوسف إدريس، وتم استغلال اسم يوسف إدريس فى الأفيشات باعتباره صاحب القصة، والفيلم يتناول قضية الأغذية الفاسدة التى يتم تهريبها إلينا من دول الغرب، وأحداثه كلها من صنع كاتب السيناريو حتى وإن التقط الخيط الأصلى من مقالات صحفية ليوسف إدريس.

وأخيراً فقد اختلف مستوى الأفلام المأخوذة عن قصص ليوسف إدريس تبعاً لاختلاف المرحلة وليس لاختلاف صانع الفيلم، فهنرى بركات صاحب "الحرام" هو نفسه مخرج "العسكرى شبراوي" مما يثبت أن عوامل مثل التكوين الثقافى للمخرجين وكتاب السيناريو تتضافر مع ظروف الإنتاج السينمائى والملابسات الاجتماعية وقت إنتاج الفيلم لتقدم فيلماً يستغل اسم يوسف إدريس دون أن يستطيع الإفادة من رقى أدبه بل أخضع الأدب لمتطلبات السينما التجارية.

موقع "العرب أنلاين" في 22 فبراير 2006

 

سينماتك

 

الفيلم الإيرانى نظرة مُحْدقة

اللعبة الاستعارية بين الرؤية التأملية والمشاهدة العابرة

عدنان حسين أحمد

 

 

 

 

سينماتك

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك