العنف نتيجة حتمية للعشوائية، هذا ما فطن إليه الكاتب وحيد حامد في فيلمه المعروض حاليا ''دم الغزال''، أما الدم فانهمر ليروي عطش العنف، والغزال هو ذلك المخلوق الضعيف الذي يتسم بالبراءة والجمال، وقد راح ضحية هذا العنف، ومن هنا يأتي اسم ''دم الغزال'' مجسدا للحالة التي عاشها السنياريست وحيد حامد بين أوراق الفيلم، اما الحالة الثانية التي عاشها الجمهور مع ''دم الغزال'' فتكمن في تواصل فريد بين جيل الكبار من الفنانين، وجيل الشباب، والحالة الثالثة هي التي عاشها جيل الكبار عندما شاهدوا الشباب يتألق، انه الشعور بالرضا حتى لو كانت مساحة دور النجم الكبير نصف مساحة الممثل الشاب· انا مواطن عشوائي لا أهل لي، لم أكن أعرف ماذا اريد من الدنيا، ولم يكن لي طموح، بتلك الكلمات اسدل ''جابر'' بطل الفيلم الستار على حياته المليئة بالنصب رغم طيبة قلبه، وينهي العنف الناتج عن العشوائية حياة الفتاة البريئة التي عانت بسبب الحرمان وفقدان الوالدين، وهي نهاية تؤكد ان التطرف مستمر والارهاب لم ينقطع دابره· نهاية الفيلم كما يقول وحيد حامد في ندوة بالقاهرة كانت صادمة للجمهور وهذا مقصود، فالفتاة البريئة التي راحت ضحية للإرهاب حزن عليها الجمهور اما الجاني فجلس امام النيل ينعم بجريمته·ويضيف وحيد حامد: كان بإمكاني ان انهي الفيلم بالقبض على الإرهابي وان تظل الفتاة البريئة على قيد الحياة، لكني نقلت الواقع، والفيلم دارت احداثه عام 1995 حيث مات ابرياء بسبب العنف وعاش الارهابي، انه الجو الخانق الذي يقتل البراءة· وحول استمرار السينما المصرية في تقديم أعمال عن الارهاب قال وحيد حامد: هذه الأعمال مستمرة لان الإرهاب مستمر· وعن تقديم الدراما لنموذج المسلم على انه ارهابي قال: المسلم الحقيقي لا يمكن ان يكون ارهابيا أو متطرفا أو حتى سيئ السلوك، لكن الذين يلجأون للعنف والتطرف ينسبون أنفسهم للإسلام، وما ذنبي كمؤلف ان هناك سيدة ترتدي النقاب متخفية فيه لتصعد إلى شقة عشيقها أو متطرف يتنكر في زي عالم دين يطلق لحيته· ويؤكد وحيد ان الدين ليس رجل الدين، وفي بعض الاحيان يخطئ رجال الدين وهم ليسوا معصومين من الخطأ، فحتى لو تطرقت الدراما الى خطأ لرجل الدين فهذا وارد، لكن ما أقدمه في أعمالي هو تلك النماذج التي تتمسح في الدين لأغراض لا يعرفها سواهم، لذلك أرفض من يروجون أن الفن والفكر المستنير ضد الدين، ونحن لا نقبل اي اهانة للدين ولذلك كان المجتمع كله ضد ما نشرته احدى صحف الدنمارك من اساءة للاسلام والتمسح في الدين وممارسة الإرهاب والتطرف من خلال عباءة الدين لا يزال موجودا، ولان المشكلة موجودة فسنظل مصاحبين لها ، وأرجو ألا يدعي احد ان التطرف انتهى، فهو موجود وسيظل موجودا في أعمالنا لاننا من خلال الدراما نعري الإرهاب· تهميش وحول تهميش شخصية الممثلة عايدة رياض في الفيلم قال وحيد حامد: هذه الشخصية مهمة في الفيلم، ولكنها ليست مهمة لعايدة رياض كممثلة، حيث طلبت من المخرج محمد ياسين ترشيح ممثلة تقدم دورا لفتاة دلوعة، فاختار عايدة رياض، أما أهمية الشخصية فتكمن في انها تخدم شخصية ''جابر عميش'' حتى نظهر من خلالها ان هذا الرجل يحب السيدات، وإذا كان نصابا وبداخله قلب كبير، فهو أيضا لديه غريزة يشبعها بعلاقاته النسائية· وبعيدا عن فيلم ''دم الغزال'' واجه وحيد حامد هجوما من بعض الحضور الذين اتهموه بنقل بعض أعماله من أعمال أجنبية· وقال وحيد: كتبت أول أفلامي عام 1976 وكان بعنوان ''طائر الليل الحزين'' وعندما عُرض الفيلم كتب احد النقاد مقالا أكد فيه انني اخذت قصة الفيلم من مسرحية عالمية هي ''رأس الآخرين'' ولو افترض انني اخذت الفيلم من المسرحية، فمن أين اتيت بباقي أفلامي الخمسة والاربعين؟ ويضيف وحيد: عندما كتبت فيلم ''آخر الرجال المحترمين'' الذي قام ببطولته نور الشريف فوجئت بصديق ألماني يقول لي ان الفيلم نسخة من فيلم ألماني لكني اكتشفت ان الفيلم الألماني انتج بعد فيلمي بعامين ولم أتحدث ولا أعمل بنظرية التخوين وفيلمي ''الإرهاب والكباب'' نقل إلى السينما الفرنسية ونصحني البعض برفع دعوى قضائية لكني رفضت، واخر اتهام لي كان بعد نشر مسرحيتي ''أنا وأنت وساعات السفر'' حيث قيل انني اخذتها من مسرحية كتبها حنا مينا وهو أديب كبير، لكني اكتشفت ايضا انني كتبت مسرحيتي قبل ان يكتب حنا مينا مسرحيته بعامين· وازاء تأكيد أحد حضور الندوة ان وحيد حامد نقل احد أعماله حرفيا من عمل أجنبي قال وحيد: أنا حرامي إنت عايز حاجة؟ واضاف: اشتريت رواية ''عمارة يعقوبيان'' من علاء الأسواني وعندما قرأتها رفضت في البداية كتابة السيناريو والحوار لها لأنني اكتشفت ان الرواية بها شخصية هي نفس احدى الشخصيات التي كتبتها في مسلسل ''العائلة'' لكني تراجعت بعد اقتناعي بان قضية الإرهاب لا تزال قائمة وأي شخصية متطرفة ليست حكرا على أحد· وحول تحويل قصة حياة الأديب محمد عبدالحليم عبدالله إلى عمل سينمائي قال وحيد حامد: امام ذكر هذا الاديب الكبير أشعر بالضعف، وانا مستعد لانتاج فيلم عنه، ولن أنسى له وقوفه بجانبي ومساعدته لي، وكنت لا أزال في بداية الطريق وكنا نحن الشباب نتردد على نادي القصة، واذكر انني جلست لأقرأ قصة لي فهاجمني احد الحضور وقلل من شأن القصة لكني فوجئت بالأديب الراحل محمد عبدالحليم عبدالله يشجعني ويثني على القصة وحتى يشجعني على الاستمرار في الكتابة دفع لي اشتراكا في رحلة، كما ان هذا الاديب الكبير مات في حادث مؤسف، ففي اثناء عودته إلى بلده كفر الشيخ بسيارته فوجئ بسائق تاكسي يشتمه ويقول له: يا حمار، فسقط الرجل ميتا ضحية صدام بين الجهل والشفافية· الجميع ضحايا وأكد الفنان نور الشريف ان وحيد حامد في فيلم ''دم الغزال'' جعل الجميع ضحايا، فالفتاة البريئة ماتت بسبب مطاردة الشرطة للإرهابي والإرهابي دفعه ضعفه إلى التمسح في الدين والرجل الكبير اعتاد النصب، كل هؤلاء ضحية العشوائية التي ولدت العنف والتطرف· ويضيف نور الشريف: ''جابر عميش'' الذي جسدت شخصيته رجلا عشوائيا، اعتاد النصب على الناس، ويُلقي بنفسه امام السيارات ويدعي الاصابة ليأخذ المقابل المادي، ثم يُنفق ما يجمعه على النساء، ورغم ذلك يمتلك قلبا طيبا، يحنو على من حوله، وجعل من نفسه أبا حنونا للفتاة اليتيمة التي راحت ضحية للإرهاب· ويرى نور الشريف ان فيلم ''دم الغزال'' تحذير من ان التطرف مازال مستمرا ومعالجته ليست بالعنف، ولذلك كان يمكن للشرطة ان تلقي القبض على الارهابي، لكنها استخدمت معه العنف العشوائي فكانت الضحية الفتاة البريئة وهرب المتطرف لينعم بالحياة، وقد لجأ وحيد حامد إلى تلك الفتاة وهي ''الغزال'' ليجعل منها طعما تستخدمه الشرطة للايقاع بالإرهابي لكنها فشلت· ويؤكد نور ان كلمات ''جابر عميش'' قبل وفاته كانت بمثابة كلمة الوداع وجابر اكتشف مبكرا انه سيموت، ولذلك لم يركز جيدا في واقعة النصب الأخيرة، فألقى بنفسه على السيارة ليفقد حياته، وليؤكد لمن حوله انه مواطن عشوائي لم يكن يعرف طوال حياته ماذا يريد؟! ويرى نور ان شخصية عايدة رياض في الفيلم ليست مهمشة، لكنها تبرز جانبا مهما من شخصية ''جابر عميش'' التي كتبها وحيد حامد فجاءت أقرب إلى الطيف، حتى انه مات قبل نهاية الفيلم بسبع دقائق، وأرى ان جابر عميش بمثابة صياغة شعرية لشخص محب للحياة وهذا ما استهواني· ويضيف: كنت أتمنى تجسيد الشخصية التي جسدها صلاح عبدالله في الفيلم، لكن وحيد حامد ومحمد ياسين مخرج الفيلم نصحاني بشخصية جابر عميش· وحول تجسيده لشخصية المناضل الفلسطيني الراحل الشيخ أحمد ياسين قال نور الشريف: عكفت منذ ثمانية شهور على جمع المادة التاريخية للشيخ أحمد ياسين لأقدم فيلما عنه وأتمنى ان يظهر هذا الفيلم للنور· وحول ظهور موجة الاعمال الفنية الهابطة وتقبل الجمهور لها قال نور: الجمهور المصري مازال بخير، والدليل ان مسرحيتي ''الملك لير'' و''لن تسقط القدس'' حققتا أعلى الإيرادات· قال نور: الجيل الحالي لم يقصد التخلي عن الجيل القديم، لكن السيناريوهات التي يقدمها الكُتاب لا تتضمن ادوارا للكبار، وربما كان الفنان حسن حسني الاستثناء الوحيد، حيث يشارك في أغلب أفلام الشباب· الإتحاد الإماراتية في 16 فبراير 2006
بعد فيلم ويجا : المشايخ يعترضون علي أغنية تفاحة آدم
القاهرة ـ من وليد طوغان: اعترض بعض أعضاء مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة بشدة علي ألبوم المطرب كريم أبو زيد تفاحة آدم الذي صدر مؤخرا وأذاعت أغانيه قناة مزيكا الفضائية وسط مطالبة مج موعة من المشايخ بضرورة سحبه من السوق فورا لتعرض كلمات أغانيه للدين الإسلامي. بينما طالب آخرون بتشكيل لجنة استماع أو فحص للوقوف علي حقيقة ما نسب للمطرب والبومه الجديد من تهم الطعن في الإسلام والاستخفاف بالعقيدة. مشكلة تفاحة آدم هي الثانية من نوعها بعد جدل مشابه الأسبوع قبل الماضي كان بطله خالد يوسف مخرج الفيلم السينمائي ويجا الذي اتهمه بعض المشايخ أيضا بتقديم مشاهد سينمائية في فيلمه لا تتلاءم مع جلال العقيدة الإسلامية ولا تصلح لإذاعتها علي المسلمين. فيلم ويجا الذي تعرض لانتقادات مشابهة الأسبوع قبل الماضي أثار المشايخ لارتداء منة شلبي الخمار في أحد مشاهده لتسهيل مقابلاتها لصديقها، الأمر الذي اعتبره الغاضبون استعمالا لأمور تمت للدين الإسلامي في غير محلها . ورغم أن مشكلة فيلم ويجا ما زالت قائمة جاءت قضية كريم ابو زيد لتصب مزيدا من النار وسط تخوف المراقبين من ازدياد انتقادات رجال الدين وتدخلاتهم المستمرة والزائدة في الأمور الفنية وحرية الإبداع. علمت القدس العربي أن بعض أعضاء مجمع البحوث الإسلامي طلبوا تشكيل لجنة استماع لتحديد الموقف من الأغنية المطروحة بالأسواق منذ فترة. وفي حين نفي الشيخ ماهر الحداد مدير الإدارة الفنية بالمجمع في تصريحاته لـ القدس العربي علمه بوقت أو موضوع تلك اللجنة قال مصدر رفض ذكر اسمه أن طلب تشكيل لجنة الاستماع قدمه بالفعل بعض المشايخ منذ ساعات لكنه أكد: أن مسألة تشكيل اللجنة ما زالت حتي الآن مجهولة التوقيت، وما إذا كان سيتم تشكيلها بالفعل أم لا . اعتراض أعضاء مجمع البحوث الإسلامية بسبب تطاول مطربها كريم أبو زيد علي العقيدة الإسلامية انطلق من كلمات الأغنية التي تقول: سبتيني ومشيتي وروحتي ولا جيتي غير انا ليه نختار دوبت في غرامك آه أسمع كلامك لا، خليتينا ليه نحتار، افتكري تفاحة آدم اللي خلت كل العالم ينزل م السما للأرض ويعيش ما بين جنة ونار . وهي الكلمات التي اعتبرها أساتذة العقيدة الإسلامية وأعضاء المجلس مخالفة صريحة لنص الآيات القرآنية التي تشير إلي أن سيدنا أدم أبو البشر كان مخلوقا لتعمير الأرض وأن قصة الشجرة القرآنية لم تكن السبب الأساسي لهبوطه وخروجه للأرض، إنما كانت فقط اختبارا من المولي سبحانه. وهو الأمر الذي لم تنفه الأغنية فقط إنما تلاعبت به ولم تعطه الاحترام الواجب حسب د. رأفت عثمان عضو مجمع البحوث الإسلامية . د. عثمان قال للقدس العربي أن: إدخال أمور العقائد في اغاني الحب والهيام ليس مقبولا . مشيرا إلي أن اعتراضه الشخصي لتعرض المطرب للقصص الدينية علي أساس انها يمكن لأي شخص الخوض فيها . وأضاف د. رأفت: طفح الكيل فلم نعد نواجه أغنية فاضحة ومثيرة للغرائز إنما انتهي الأمر بالتعرض للدين أيضا . وحول الإجراءات التي يتصور د. رأفت اتخاذها من قبل مجمع البحوث قال د. رأفت للقدس العربي: لا أعلن حتي تفاصيل، نحن نسجل اعتراضنا الشديد . ثورة المشايخ علي مثل تلك القضايا عادة ما تجابه بتساؤلات من المثقفين علي الجانب الآخر حول: جدوي افتعال قضايا من لا شيء!؟ فيما يؤكد البعض الآخر: أن معظم القضايا الأخيرة محل الخلاف لم يقصد بها أحد الإساءة للإسلام، خصوصا وأن أبطالها سواء كريم أبو زيد أو أبطال فيلم ويجا من المسلمين ما ينفي تدبير الأمور للطعن في الدين حسب وجهة نظر بعض المشايخ. ويري كثير من المثقفين أن جميع أشكال التعبير عن وجهات النظر أو الفنون مكفولة بينما تري د. أميمة نصير أستاذ الفلسفة الإسلامية وعضو المجلس الأعلي للشؤون الإسلامية أن حرية التعبير لا تعني أبدا الطعن في الدين، وازدراء العقائد أمر مخالف لكل لغات وثقافات الحوار . د. آمنة نصير العشرة أيام الأخيرة كانت أحد أبطال جبهة الهجوم علي فيلم ويجا وهي التي وصفت مشهد ارتداء منة شلبي الحجاب لوصال حبيبها في علاقة محرمة بالمشين والمثير للاشمئزاز من المنطلق نفسه أعربت د. آمنة للقدس العربي عن قلقها من تصاعد نبرة عدم مراعاة الشعور الديني واللعب بأسس العقيدة الإسلامية بدعوي الثقافة والتحضر ووصفت التجاوزات ضد الإسلام بالموضة التي يلجأ لها الصغار للشهرة والكبار لمزيد من الظهور . أضافت د. آمنة: لا أعتقد أن الزج بثوابت الدين من بعيد في الرقص والتمايل يمكن أن يسميه البعض حرية تعبير . متوقع خلال الأيام القادمة تعالي نبرة وحدة الجدل بين المشايخ والمثقفين خصوصا وأن اعتراضات رجال الدين خلال الفترة الأخيرة لم تتسم فقط بالعنف إنما وصفت بعضها بالافتعال دون داعي . وهو ما أكده المطرب كريم أبو زيد للصحف المصرية أول من أمس واضاف في تصريحاته للقدس العربي أنه لم يخطر بباله أن يساء فهم كلمات أغنيته وأن يحملها البعض علي هذا المحمل خصوصا وأنه معني لم يخطر علي بالي ولا علي بال باقي فريق العمل . وأضاف كريم انا مسلم أيضا واخترت قصة سيدنا آدم لشرح وجهة نظري والذين قالوا غير ذلك لا يفهمون بالتأكيد ما قصدته . القدس العربي في 16 فبراير 2006 |
"كاشيه" لميكاييل هانيكه القلق يصنع الفيلم ولا تسألوني كيف! جيرار سليمان الفيلم ما قبل العاشر للمخرج النمسوي ميكاييل هانيكه المولود في المانيا، والذي اختار فرنسا موطئ قدم لسينماه، واحد من الاعمال التي تناقض المفاهيم السينمائية البليدة وتزعزع كيانها. أسئلة كبيرة يطرحها قارئ هذه الصور على نفسه، بدءاً من الافتتاحية حتى "جنريك" النهاية، ولن تؤدي أي منها الى جواب كلاسيكي، متوقع، باهت. في "كاشيه"، يلتزم هانيكه نصيحة هيتشكوك: "أفضل ان تبدأ فيلمك بكليشيه من أن تختتمه به". لذا، بكرات طويلة من المادة البصرية الخامة تمر على مرأى من المُشاهد، ولا نعرف من هو ملتقطها، المخرج او احد الذين سيقتفي الفيلم خطاهم الى الابد، أي حتى خارج الكادر الذي تجري ضمنه الحوادث وتتبلور على الوتيرة الجديرة بـ"معلم التشويق" في ذروة ألقه. ماذا قرر ان يروي صاحب الرسائل المناهضة للعنف في المجتمع الاوروبي الحديث؟ ماذا قرر ان يبرهن (ما دام هذا ما يفعله دوماً) علماً ان ما أخفاه علينا في "كاشيه"، كان الاكثر تعبيراً عن مقاصده ورؤيته لعالم متأزم؟ على أي حال، منذ "رمز مجهول" (2000) تعززت علاقة هانيكه بالبيئة الفرنسية، وهذا ما يتضح من خلال هذا الفيلم. جورج لوارن، مقدم برامج (دانيال اوتوي)، تُرسَل الى منزله شرائط تكشف أشياء خاصة متصلة بحياته. وهي عبارة عن مَشاهد لمنزله من الخارج، وامور اخرى ليست على قدر كبير من الاهمية. يرافق الـ"كاسيت" رسم غريب أشبه بتهديد. بيد ان طبيعة الرسائل لا تمنح جورج أي اشارة تتعلق بهوية الطرف الذي يريد عرقلة مسار حياته الهادىء. هل يقدر ان يتحمل التهديدات الغامضة التي يتلقاها، وخصوصاً انها ستوقظ مجدداً ذكريات من زمن طفولته؟ من يريد له شراً؟ ماذا فعل جورج في حياة سابقة كي يستحق هذا العقاب؟ وهل ثمة فعلاً عقاب في مقابل خطيئة او جريمة ارتكبها؟ لا تعذّبوا أنفسكم: لن يمنحكم هانيكه، المدرك تأثير الصور على المتلقي، أي مَخرج من المأزق الذي سيضعكم فيه. ولن يعطيكم مفاتيح الدخول الى الجنة السرية الا تدريجاً. ما يهمه ليس القصة بقدر اهتمامه بتوريط المُشاهد في لعبة الـ"بازل" السادي ليركّب اجزاء هذه القصة المبعثرة التي تمضي على دروب سبق ان سلكها ديفيد لينش في "الاوتوستراد الضائع". يحفل "كاشيه" بمكوّنات الفيلم البسيكولوجي المتقوقع على نفسه، على خلفية سيناريو شديد التعقيد: قلق. عزلة بغضاء. تمزق نفسي. معاناة. يجعل هانيكه الخوف شبحاً طاغياً على امتداد الشريط، ويقودنا الى المجهول، ليرينا مدى صعوبة ان نمشي وعيوننا مغمضة. تلك الاضطرابات كلها ستنتج من التوتر العالي الذي يشيعه هانيكه بما يملكه من موارد سينمائية، ومن دون نوتة موسيقية واحدة، على مدار 115 دقيقة. الصمت هنا يبوح بأسرار جهنمية، الصمت أيضاً يجهش بالبكاء، ويقود الفيلم الى قول الكثير من الامور، اولاً عن نفسه، وثانياً عن حياة شخصية، أو بالاحرى عن جزء منها كان في امكانه ان يبقى خارج الشاشة. لا ينزل هانيكه هنا الى مستوى الخطاب الاخلاقي المباشر احياناً الذي التصق ببعض اعماله السابقة. ويسجل في موازاة ذلك عودة الى هواجس سينماه في مرحلتها النمسوية: ما تخفيه الصورة من معان ودلالات، وما تقوم عليه البورجوازية من قيم ومبادىء. طموحه في هذا الفيلم البارد: الارتقاء الى أشياء غير ملموسة، تكاد تصبح شفافة قبالة كاميراته التي تختار الكادرات الانيقة والجامدة، لغة للتأطير. "ممَّ أخاف؟"، هو السؤال الذي يعود ليتكرر في ذهن البطل المضاد، ويجتاز مراراً عقل المُشاهد. ولعل اللحظة المحورية في "كاشيه" هي عندما يدرك هذا البطل المضاد انه يملك معطيات اكثر مما يملك المُشاهد ـــ المتلصص على هذا النزول الى الجحيم. عامل القلق في هذا الفيلم هو العين التي تسهر علينا جميعاً: عين الله او عين الضمير. ثمة الف طريقة لانجاز فيلم والامساك بيد المُشاهد لادخاله مكاناً مظلماً كقاعة الاستيهامات. طريقة هانيكه هي اكثر الطرائق مجاراة لما اسمّيه ذهنية السينما الحديثة والكبيرة والمزعجة والمتطرفة والميالة الى الاستفزاز والحاقدة على انماط اخرى، وخصوصاً النمط التقليدي. تتبدى هذه النقطة الاخيرة في رفضه القاطع لاستخدام الموسيقى، أي نوع من الموسيقى. ولا ضير اذا بدونا سذّجاً في قولنا ان هانيكه يقطع كل نوع من التدخل الصوتي بين اذن المُشاهد ودقات قلب دانيال اوتوي. مخرج "عازفة البيانو" يسعى الى اقصاء كليشيهات الثريللر التقليدي، بل حتى يقدم على تعطيلها من منطلق "ممنوع الدخول لمن ليس له عمل" في سينما ذات هموم محورها تجسيد الواقع الخام. ليست قضية العنف المنزلي وليدة اليوم في عمل هانيكه. نتذكر له "فيديو بيني" وتأثير الصور العنيفة في ذهن مراهق. وايضاً "ألاعيب مضحكة" حيث الادانة تتعايش واساليب تصويرية من وحي "معلم التشويق". وله ايضاً في الخط المناهض لمختلف انواع العنف، "عازفة البيانو" حيث يقحمنا في عالم العذابات النفسية المؤلمة لامرأة تنزلق في مقبرة محفورة على قياسها. وما يتبقى له من افلام ليس بعيداً عن جماليات القهر الاجتماعي وما يثقل كاهل الانسان الحديث من مشقات، يجرده من سماته الانسانية ويحوله وحشاً قبيحاً مستعداً لكل الاعمال المؤذية. هنا، في سعيه الى كشف "القطبة المخفية"، يطارد هانيكه الوجه المستتر للشغب، والذي يأتي عبر التهديد. ماذا لو ظهر فجأة في حياتنا ليقيم شرخاً؟ ماذا لو اعاد فتح جروح خلناها التأمت؟ تماماً كما فعل كروننبرغ في فيلمه الصادم، "تاريخ العنف"، يقدم هانيكه على زعزعة استقرار عائلة من البورجوازية الفرنسية الصغيرة (دانيال اوتوي وجوليات بينوش في افضل دور لهما منذ زمن بعيد)، ليعود بنا، مدعوماً بفرويد وبونويل، الى طفولة تنطوي على التفاصيل المزعجة. ويدخلنا في متاهات الضمير متخلياً عن خطابه المباشر والفظ عن الاخلاق. تتصاعد نبرة التوتر! لكن خلافاً لما نتوقعه، لا تبلغ البتة نقطة اللاعودة. بل تبقى على الحد الفاصل بين الواقع والمتخيل. نكاد نلمس بها سطح الفيلم الرقيق وتضاريسه العالية في الحين نفسه. مع كل شريط جديد يتلقاه جورج، تتعقد الامور أكثر فأكثر، وتزاد حدة التوتر. ذات مرحلة، يخيّل الينا ان ما نراه ليس الا هلوسات. لكن براعة الاخراج والاجواء التي يشيعها هانيكه، وحرفيته في الامساك بزمام الامور، تجعلاننا نصدق ان ما يحصل للبطل المضاد ليس الا واقعاً ملموساً. لا تسألوني كيف. هذا السؤال وحده هانيكه يستطيع الاجابة عنه. ما طبيعة الانطباع الذي يتركه "كاشيه" على المُشاهد؟ الارباك؟ القلق على فيلم لم يخرج بنتائج مرضية بالنسبة الى المُشاهد المعتاد ان تلقمه الفيلم المعطيات كلها بالملعقة، كما لو ان الحياة عبارة عن اجوبة جاهزة وواضحة؟ أكثر من مجرد دعابة لاقحامنا في عقل مشوش، يعبث هانيكه بوكر الدبابير. ولا يتوقف الامر عند هذا الحد. اذ ما نستطيع وصفه بثريللر آخر من النوع الذي يتعذر تصنيفه، هو كذلك استعارة عن آلام حرب لا تزال تطارد نتائجها المجتمع الفرنسي الى اليوم. وليس أي حرب. حرب الجزائر المفجعة. مثل كلود سوتيه في "ماكس وعمال الخردة"، يزعج هانيكه الطبقة البورجوازية. يسخر منها وينهال عليها ويرميها بالضغائن والعقوبات، التي، لا (ولن) نعرف من أي سماء ستنزل. واخيراً يضعهم في مواجهة جرائمهم التي ربما لما ارتكبوها، لكن هذا لا يهم، اذ ان المهم عنده هو انه يضعنا في مقام البطل المضاد، للقول اننا لسنا بعيدين من ان نقع في ورطة شبيهة بورطته. مع لعبة التيه في دهاليز القلق الوجودي والاحساس بالذنب، يأتينا هانيكه بشريط يحلق سينمائياً، وكان متوقعاً ان ينال "السعفة الذهبية" في "كان" في ايار الماضي، وانتهى به الأمر باقتناص "جائزة الاخراج". منذ زمن بعيد لم نشهد هذا القدر من الاسلوبية الانيقة والبحث في مجال اللغة السينمائية، للكلام على امور كثيراً ما نجهلها عن انفسنا. من وحي مجتمعات هادئة لكنها غارقة في احزانها وعذاباتها. "كاشيه" يصوّر القلق الانساني بقلق أكبر، ويرينا الجانب الآخر للميدالية: ما كنا نعتقده نجم الشاشة تسحره الاضواء ويثقف جمهوره، ليس الا رجلاً عادياً وممزقاً. النهار اللبنانية في 16 فبراير 2006 |
وحيد حـامد: لن أتخلى عن دراما الإرهاب القاهرة ــ جميل حسن: |