شعار الموقع (Our Logo)

 

 

عن جدارة فاز الفيلم الأرجنتيني «الأحضان المفتقدة»، إخراج دانييل بورمان بجائزة لجنة التحكيم الخاصة «الدب الفضي»، في مهرجان برلين السينمائي الدولي الـ 54 كما فاز ممثل الدور الأول فيه دانييل هيندلر بجائزة أحسن ممثل، وبهذا الفوز وضع السينما الأرجنتينية علي خريطة السينما العالمية عام 2004 .

هذا هو الفيلم السادس لمخرجه دانييل بورمان الذي ولد عام 1973 في العاصمة الأرجنتينية بونيس أيرس، وأخرج من قبل ثلاثة أفلام روائية طويلة وفيلمين تسجيليين ففي عام 1993 وهو في العشرين أخرج أول أفلامه الفيلم التسجيلي «المحطة»، وفي عام 1995 أخرج أول أفلامه الروائية الطويلة «انفجارات»، وهو في الثانية والعشرين وعرض الفيلم في افتتاح البانوراما في مهرجان برلين ذلك العام. وفي عام 2000 أخرج فيلمه الروائي الطويل الثاني «في انتظار المسيح»، وفي عام 2002 أخرج الفيلم التسجيلي «7 أيام في ونس»، وفيلمه الروائي الطويل الثالث «كل المديرين يذهبون إلي الجنة»، الذي عرض في بانوراما برلين 2002 أيضا.

وها هو يفوز بجائزتين عن فيلمه الروائي الطويل الرابع، وأول فيلم من إخراجه يعرض في مسابقة الأفلام الطويلة في مهرجان برلين فهو ابن المهرجان ومن اكشتافاته الكبري. دانييل بورمان يهودي يعيش في ضاحية ونس في بونيس أيرس، وفيها أكبر تجمع يهودي في كل أمريكا الجنوبية، ولذلك فليس من الغريب أن يعبر في أربعة من أفلامه الستة عن ثقافته كيهودي أرجنتيني علي نحو مباشر ففيلمه الروائي الطويل الأول عن شاب يهودي يبحث عن قاتل أمه في حرب أهلية خيالية وفيلمه الثاني عن شاب يهودي يسعي إلي التحرر من التقاليد اليهودية الصارمة وفيلمه التسجيلي «7 أيام في ونس»، عن التفجيرات التي وقعت في ذلك الحي عام 1944، أما في «الأحضان المفتقدة»، فيتناول ما يسمي في العالم بالمشكلة اليهودية، وعلاقة اليهود مع دولة إسرائيل التي أقيمت في فلسطين. يختلف «الأحضان المفتقدة»، عن السائد في تناول المشكلة اليهودية اختلافا كبيرا، ولا يصنف ضمن الأفلام الصهيونية، إذ يفرق بين اليهودي والإسرائيلي بوضوح وتبدو موهبة مؤلفه الكبيرة وبراعته في العثور علي المعادل الموضوعي الدرامي الدقيق للتعبير عن هذه الفكرة وهو مؤلف سينمائي يخرج وينتج أفلامه من خلال شركته الصغيرة المستقلة، وقد كتب سيناريو الفيلم مع مارشيليو بيرماجير وأنتجه بالاشتراك مع ثلاث شركات في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، والمعادل الموضوعي الدرامي محور الفيلم عن شاب يهودي من بونيس أيرس في الثلاثين من عمره «ولد عام 1973 مثل المخرج»، تركه والده بعد يوم واحد من مولده وذهب إلي إسرائيل ليشترك في حرب أكتوبر، ولم يعد. وكان أجداده قد هاجروا من لولندا إلي الأرجنتين مع الكثير من اليهود أثناء الحرب العالمية الثانية هربا من حرب الإبادة التي شنها النازي ضد اليهود.

المكان إذن بونيس أيرس والزمان عام 2003 والموضوع الأجيال الثلاثة من اليهود ذوي الأصول الأوروبية في الأرجنتين: جيل الأجداد، وجيل الآباء، وجيل الأبناء، والمضمون وجهة نظر الجيل الثالث من خلال الشخصية الرئيسية آرييل «دانييل هيندلر» فهو متحرر من ذكريات أجداده المريرة وارتباطها بالماضي، بل ومتحرر من كونه يهودي ولا يعتبر ديانته  مصدرا لشعوره بأن له وضعا خاصا بين البشر فهو إنسان أرجنتيني ويهودي ولا يشعر بأن يهوديته مصدرا للفخر أو العار وهو لا يقبل منطق جيل الآباء «أبوه وأمه»، ولا يفهم كيف يتركه والده في المهد رضيعا ويذهب للحرب في إسرائيل وتلك هي «الأحضان المفتقدة»، عنوان الفيلم.

يجري آرييل في الشوارع طوال الفيلم: يريد أن ينطلق وكأنه مختنق في المشهد الأول يعرف بنفسه في مونولوج علي شريط الصوت وهو يسير متجها نحو محل والدته: أنا آرييل ماكاروف أمي سونيا «أدريانا آزيمبرج»، تبيع الملابس الداخلية للنساء في سوق تجاري حافل بأجناس مختلفة من الإيطاليين إلي الكوريين وكل يبيع ما يعرفه بلغته، وأبي إلياس «جورجي دي أليا»، غائب في إسرائيل وأخي الأكبر جوزيف «سيرجيو بوريس»، يتاجر في أشياء كثيرة وهذه فتاتي ريتا «سيلفينا بوسكو»، التي تعمل في المحل المجاور لمحل سونيا ولا أعرف إن كانت ابنة صاحب المحل أم عشيقته.

وبعد هذا الاستهلال الذي يضعنا في قلب الدراما مباشرة ينقسم الفيلم إلي قسمين: في القسم الأول نتابع آرييل وهو يسعي لاستخراج جواز سفر بولندي بحكم أصوله البولندية مثل أرون الذي أصبح فرنسيا وبيدور الذي أصبح إسبانيا كما يقول علي شريط الصوت. فهو مثل كثير من الشباب يحلم بجواز سفر أوروبي. وعندما يذهب إلي جدته ليحصل علي وثائق قديمة تساعده في طلب الجواز البولندي يندهش لقولها كل الأوروبيين يريدون قتل كل اليهود، وعندما تقول له أمه إنه في أوروبا سيكون بالقرب من إسرائيل يندهش أكثر، ويقول لها بل أريد الذهاب إلي أوروبا لأدرس الفن فهو يهوي الرسم. وفي سفارة بولندا يسأله الموظف المسئول هل أنت إسرائيلي فيرد عليه، بل أرجنتيني يهودي والإسرائيلي مواطن دولة إسرائيل، وندرك من حوار آرييل مع والدته سونيا أن والده يتصل من إسرائيل تليفونيا كل شهر، وعندما تسأله لماذا لا يذهب إليه في الكيبوتز يرد وماذا أفعل هناك.. هل أحلب الأبقار معه كيف.. يتركني منذ مولدي من أجل أفكار يراها «مثالية»، ويبدأ القسم الثاني من الفيلم مع إعلان الأم عن عودة الأب وتصل الدراما إلي ذروتها بلا مبالاة آرييل ورفضه لوالده. يقول لجدته: «أريد أن أتحدث معه، ولكني لا أريد أن أراه، ويسخر من «عودة البطل»، الذي فقد ذراعه في الحرب، ويقول له: لقد أنقذت كل يهود العالم ماعدا واحدا هو أنا ويصمت الأب طويلا ولا يكاد ينطق بعد عودته.

نعود إلي المشهد الأول وآرييل في الشارع وتبدو الدائرة وقد أغلقت ولكن الفنان السينمائي يستجمع كل طاقات الأمل وتكون النهاية الأب يقترب من ابنه في الشارع ويلف ذراعه حول كتفيه، وبعد تردد يمد الابن ذراعه بدوره حول كتفي الأب.

حسب «الأيديولوجية الصهيونية»، ونضع الكلمة بين قوسين عن عمد لأنها ليست «أيديولوجية»، بالمعني الاصطلاحي وإنما خليط متنافر من الأفكار والأساطير والخرافات كانت نهاية مثل هذا الفيلم أن يذهب الابن إلي إسرائيل لأنها دولة «كل»، اليهود في العالم ولكنا هنا نري الأب وهو يعود إلي الأرجنتين لأنها بلده، والابن يريد جواز سفر بولندي حتي يذهب إلي أوروبا لدراسة الفن.

ولا ينفصل السيناريو البارع عن أسلوب الإخراج بالطبع، وإنما يلتحمان في وحدة عضوية تامة وقد اتبع دانييل بورمان في إخراج الفيلم أسلوبا واقعيا يستوعب بعمق أساليب الحداثة وما بعد الحداثة من جرنياواي إلي لارس فون ترير والدوجما الدانمركية واستهدف الأسلوب ألا يتحول الفيلم إلي تراجيديا من تراجيديات البحث عن الجذور وإنما فيلم إنساني يجمع بين التراجيدي والكوميدي إلي الفارس في مشاهد آرييل وريتا، وفي المشاهد التي يري فيها آرييل والدته سونيا تبكي لأن صاحب المحل المجاور أوزفالدو باعه فيشك في أن هناك علاقة بينهما بل ويشك في أن أوزفالدو هو والده الحقيقي، ولكنها تؤكد له أن إلياس والده وأنه الذي اشتري المحل من أوزفالدو، وفي مشاهد سونيا وصديقها ماركوس الذي يجده معها في المنزل.

تتباع الكاميرا آرييل منذ المشهد الأول في حركة حرة «كاميرا محمولة علي الكتف»، تتناسب مع وجوده في الشارع سائرا أو راكضا ويتخلق الإيقاع من التناقض بين هذه الحركة الصاخبة، وبين التوقف عن حركة الكاميرا في المشاهد الداخلية. وتقطع الأحداث لافتات مكتوبة «أبيض علي أسود»، تنبه العقل وتحول دون الاندماج وتؤكد الطابع الساخر مثل اللافتة الأولي بعد الاستهلال: أن تكون بولنديا، أو اللافتة الخامسة: إتمام الصفقة، وفيها نري حاخام ونس يعلن أنه ذاهب إلي ميامي في الولايات المتحدة حيث اليهود أكثر والأموال أكثر.

ويستخدم بورمان الفيديو داخل الفيلم مرتين: الأولي فيديو حفل طهارة آرييل وهو رضيع، الذي يستعيده آرييل رغم رداءة الصوت والصورة ليتأمل والده الذي تركه طوال عمره، ومن المعروف أن حفل طهارة الذكور من التقاليد اليهودية المتوارثة والمرة الثانية مشاهد من فيلم ميلودرامي لصوفيا لورين ومارشيليو ماستروياني يثير بكاء الأم كلما شاهدته. كما يستخدم الألوان النقية من دون خلط التي تعكس قوة الحياة في أفراحها وأحزانها علي طريقة آلمودوفار.

ويحفل الفيلم بالعديد من المشاهد الكبري أو «الماستر سين»، في المصطلح السينمائي ولكل منها أسلوب مختلف من حيث العلاقة بين الصوت والصورة ومتكامل مع أسلوب الفيلم ككل في نفس الوقت. المشهد الأول في المسرح اليهودي الذي يدخله آرييل ويري فيه علي الخشبة تجسيد باللقطات القصيرة لرقصة يهودية قديمة، ولا تدري إن كانت علي المسرح فعلا أم في خياله.

والمشهد الثاني صامت تماما ويتم فيه تقطيع لقطات طويلة عندما يري آرييل والده لأول مرة في الشارع أثناء إقامة سوق مفتوح مثل أسواق الجمعة، وتقتصر اللقطات علي تبادل النظرات بين الأب وابنه ثم بين الابن وأخيه يسأله بعينيه هل هذا أبونا، ويرد الأخ، بإيماءة نعم هو. والمشهد الثالث عندما يتهرب آرييل من الحديث عن والده مع والدته قبل أن يلتقي به لأول مرة. وبالطبع يقوم الحوار الدرامي المتقن الرئيسي في هذا المشهد إلي جانب الإلقاء المعبر. كما أن مشهد الجدة وهي تغني في البيت الكبير الذي تقيم فيه وحدها يعتبر من المشاهد الكبري، وتأتي الأغنية عندما يصرح لها آرييل أنه يريد أن يسمع من والده ولكن لا يريد أن يراه فتشعر بالفرحة لعودة الأب والأسي لموقف الابن.

كان قرار لجنة تحكيم مهرجان برلين بمنح جائزة أحسن ممثل إلي دانييل هيندلر عن دوره في هذا الفيلم قرارا صائبا إلي أبعد الحدود، وهو ممثل من أورجواي ولد في العاصمة مونتيفيد عام 1976 ودرس التمثيل ومثل علي المسرح لأول مرة وهو في العشرين عام 1996، ومثل في السينما لأول مرة في فيلم بورمان الثاني «في انتظار المسيح»، عام 2000 كما مثل في فيلمه الثالث «كل المديرين يذهبون إلي الجنة»، وقد فاز هيندلر بالعديد من الجوائز المسرحية والسينمائية في أورجواي والأرجنتين في سنوات قليلة لما يتمتع به من مقدرة فنية عالية وجاء فوزه في مهرجان برلين عن فيلمه الثالث مع بورمان إعلانا عن مولد نجم كبير كما جاء فوز بورمان إعلانا عن مولد مخرج كبير.  

جريدة القاهرة في  9 مارس 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

مي المصري.. اطفال المخيمات اصبحوا يحلمون بالحب والسينما

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

سمير فريد يكتب عن "الأحضان المفتقدة":

الفيلم اليهودي الذي يعترف بشجاعة:

"إسرائيل ليست هي الحل"

سمير فريد