تمثل الواقعية الإيطالية في السينما أهم التيارات التي طلعت من رماد الحرب العالمية الثانية، في موازاة الموجة الفرنسية الجديدة، وكان الجيل الأول فيها هو جيل المعاناة والإنجاز معاً، حيث حمل إلى المشاهدين في كل أنحاء العالم روائع الأفلام التي ارتبطت بأسماء المخرجين والكتاب والمصورين الذين تركوا تأثيراً واضحاً في أجيال من السينمائيين في العالم، ولم تنته الواقعية الإيطالية، بغياب الجيل الأول، فهي تمتد إلى اليوم في ممثليها من الجيل الثالث. بين الجيلين الأول والثالث اختلفت ملامح الموضوعات والتقنيات والأساليب ووجوه الممثلين، وهذا ما يرصده الناقد والكاتب العراقي المقيم في روما موسى الخميسي، في كتابه «الموجة الثالثة في السينما الواقعية الإيطالية» (دمشق، سلسلة الفن السابع) من خلال متابعة أهم الأعمال التي قدمها نحو ثلاثين مخرجاً سينمائياً مع ملاحظة بعض التداخل بين الأجيال، حيث استمر بعض المخرجين المخضرمين في تقديم أعمالهم، مثل فرانكو زيفيريلي والأخوين تافياني وفرانشيسكو روزي. وصولاً الى الراهن ضم الكتاب مقدمتين، الأولى للسينمائي العراقي قاسم حول، والثانية للمؤلف نفسه، وفيهما استذكار لبدايات الواقعية الإيطالية والمراحل التي مرت بها وصولاً إلى صورتها الراهنة التي تتميز بمواكبة التحولات السياسية والاجتماعية التي جرت في إيطاليا منذ تسعينات القرن الماضي، وتبرز فيها حكايات وفضائح ووقائع تحمل التشويق والإثارة والجرأة في الكشف عن عالم المافيا وما يتصل به من صدمات هزت المجتمع الإيطالي، وصار من الشائع في أدبيات السينما الإيطالية في هذه المرحلة تصنيف أكثر الأفلام تحت اسمين واضحين هم:، «سينما المافيا» و «السينما السياسية»، مع أن هذين النوعين من الأفلام ليسا جديدين، لأن لهما جذوراً متينة تعود إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث ولدت الواقعية الإيطالية الأم. على غرار فيلم «ألف وتسعمئة» لبرتولوتشي قدم المخرج ماركو توليو جوردانا فيلم «من الأفضل شباباً» في ست ساعات يرصد فيها حياة عائلة على مدى السنوات الأربعين الأخيرة، كصورة مصغرة عن إيطاليا، في تحولاتها وأحداثها، صعوداً وهبوطاً، بما فيها من انهيارات اقتصادية نتيجة التحول من الزراعة إلى الصناعة الزائفة، والفضائح التي تكشفت عن تورط رموز الحزب الحاكم مع الحركات المتطرفة بعد أحداث الثورة الطالبية في نهاية الستينات وتمثلت في الألوية الحمراء التي طلعت من جامعة تورينو، في الشمال الإيطالي. وفي كوميديا ساخرة قدم روبرتو بنيني فيلم «الحياة حلوة» الذي يعتمد على سرعة البديهة في مخاطبة الجمهور عن التناقضات التي تحفل بها حياة رجال السياسة من خلال اسكتشات مرتجلة. ملفات ويعود المخرج المخضرم فرانشيسكوروزي إلى صقلية ليصور «نسيان باليرمو» حيث انكشفت الأمور في عاصمة المافيا، عن فظائع المافيا، تلك الملفات التي كانت تصل إلى طرق مسدودة وتحمل قضايا لها صفة «قضاء وقدر» أو تسجل «ضد مجهول» خوفاً من سطوة المافيا وجرائمها المنظمة التي كانت تستخدم للضغط على الحكومات المتوالية في إيطاليا وتمتد إلى حكومات الولايات المتحدة الأميركية، كما تمتد الجرائم نفسها إلى الخارج ومنها جريمة اغتيال الصحافية الإيطالية اليسارية الشابة ايلاريا البي مع زميلها المصور الصحافي، في الصومال، ربيع عام 1994، وأخذ فيلم المخرج فرديناندو فيجتيني اسمها، معتمداً على سلسلة من التحقيقات الناقصة والخيوط الخفية في هذه الجريمة، إضافة إلى مشاهد تلفزيونية سويسرية وأميركية. والواضح في هذا الفيلم أن الصحافية الضحية كانت تعرف أكثر مما يجب عن الفضائح التي كانت تقوم بها القوات المظلية الإيطالية المشاركة في قوات حفظ السلام الدولية في الصومال، وتشمل عمليات مشبوهة في بيع أسلحة إلى المليشيات المتحاربة وممارسة قتل أبرياء وعمليات اغتصاب وتعذيب سجناء وتهديم بيوت، وتهريب مخلفات نووية ودفنها في الأرض الصومالية. وكان عدد من الصحافيين الإيطاليين البارزين قتلوا في ظروف غامضة في الجبهات الساخنة، منذ خمس سنوات حتى اليوم، وتظل جرائم القتل الغامضة موضوعاً ساخناً في الأفلام الإيطالية الجديدة، كما هي في فيلم «مئة خطوة» للمخرج ماركو توليو جوردانا، الذي قدم فيلماً عن مقتل الشخصية القيادية الملتبسة «جوزيبي رازيزي»، وفيلماً سابقاً عن مصرع السينمائي الشاعر بازوليني. مهاجرون وتأخذ موضوعات المهاجرين الأفارقة اهتماماً خاصاً لدى المخرج الممثل ميكيله بلا جدو في فيلم «بامورو» الذي يكشف العنصرية لدى أرباب العمل في علاقتهم بالعمال المهاجرين، حيث تحولت هذه العلاقة من مرحلة تطابق المصالح إلى مرحلة تصادمها، وهذا هو الموضوع الذي تناوله ايتوري سكولا، أيضاً، في فيلمه، «منافسة خسيسة». ويسجل ناني موريتي في أفلامه، مخرجاً وممثلاً، رسائل مختلفة، تحمل نقداً لاذعاً وشعوراً بالمرارة، موجهاً إلى رجال السياسة والإعلام والفساد الإداري، ورسائل أخرى إلى العائلة والأفراد، في مواجهة مصائرهم. إن التجديد في الشكل والموضوع والجرأة والسخرية اللاذعة أعطت للموجة الثالثة في السينما الواقعية الإيطالية فرصة للعودة إلى واجهة النشاطات الثقافية مرة أخرى، كما كانت في الستينات والسبعينات، حيث نقلت هموم الشارع الإيطالي، وصورت ما كان يقال همساً، لتقوله بصوت عال، في الموضوعات الأكثر تأثيراً في الحياة، العامة والخاصة: الفساد السياسي والمافيا والعنصرية. الحياة اللبنانية في 10 فبراير 2006
القاهرة - محمد الشرقاوي بعد أن سيطرت قصص السيرة الذاتية لمشاهير السياسة والفن على ساحة الأعمال الدرامية التلفزيونية في الفترة الأخيرة انتقل الأمر إلى الساحة السينمائية والتي تشهد حالياً التحضير لغير فيلم جديد يستعرض بعضاً من سير هؤلاء المشاهير. فالمخرج سمير سيف يعقد حالياً جلسات عمل مكثفة مع المؤلف وحيد حامد للاتفاق على الخطوط العريضة للفيلم السينمائي الجديد «فاروق ملكاً» والمنتظر تصويره مطلع آذار (مارس) المقبل. سيف أكد لـ «الحياة» أن الفيلم يستعرض السيرة الذاتية لآخر ملوك مصر فاروق الأول والذي أطاحت ثورة 23 تموز (يوليو) بحكمه عام 1952، وتابع: «ويرصد الفيلم للمرة الأولى في تاريخ الفن المصري فترة حكم هذا الملك بإيجابياته وسلبياته في حيادية تامة». وأضاف ان الفنان الشاب تامر عبدالمنعم - نجل الكاتب الصحافي محمد عبدالمنعم المستشار الاسبق للرئيس مبارك - هو المرشح للعب شخصية الملك فاروق للتشابة الكبير في ملامح الوجه بينهما، كما رشح الفنان هشام سليم لتجسيد شخصية احمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي آنذاك. وخلال الايام المقبلة سينتهي سيف من اختيار بقية الفنانين المرشحين للعب الأدوار الرئيسية في العمل. جدير بالذكر ان فكرة تقديم عمل عن الملك فاروق من تأليف زوجته لميس جابر كانت تداعب الفنان الكبير يحيى الفخراني لتقديمها في عمل تلفزيوني، تعذر إنتاجه اكثر من مرة لرفض جهات الإنتاج الحكومية في مصر («صوت القاهرة»، و «مدينة الإنتاج الإعلامي»، و «قطاع الإنتاج في التلفزيون») إنتاج عمل يتطرق لإنجازات هذا الملك الذي سعت جميع أجهزة الدولة بعد قيام ثورة تموز الى ذكر مساوئه فقط، وغرامياته النسائية بعد قيام ثورة، لدرجة ان اقترن اسمه دوماً بلقب الملك الفاسد. وأمام ذلك الرفض تخلى الفخراني عن الفكرة وانشغل بأعمال فنية أخرى تتناسب مع المرحلة العمرية التي يعيشها حالياً، الطريف ان الفخراني مرشح لبطولة فيلم «محمد علي الكبير» والذي ينتمي لصناعة السيرة الذاتية المنتشرة حالياً اذ يستعرض العمل قصة حياة والي مصر محمد علي باشا الذي جاء الى الحكم قبل ما يزيد على 200 عام وقام بعدد من الإنجازات لدرجة انه يوصف في كتب التاريخ بباني مصر الحديثة. وهذا الفيلم من إنتاج شركة «غود نيوز» التي يديرها الإعلامي عماد الدين أديب ورصدت له موازنة أولية تتجاوز 20 مليون جنيه مصري. وهناك فيلم آخر للجهة نفسها عن أسامة بن لادن، وتنظيم القاعدة، يجري التحضير له حالياً سيقوم ببطولته محمود عبدالعزيز. هذا الى جانب فيلم «حليم... حكاية شعب» الذي انتهى المخرج شريف عرفة خيراً من تصوير وتوليف أحداثه، وتحدد مطلع شهر تموز المقبل موعداً لعرضه للجمهور. الفيلم من بطولة النجم الراحل احمد زكي ونجله هيثم - في أول مشاركة فنية له - والفنان السوري جمال سليمان وسلاف فواخرجي وهو من تأليف محفوظ عبدالرحمن. وكانت السينما المصرية قد شهدت عبر سنواتها تقديم أفلام كثيرة تتعرض لحياة مشاهير الفن، والسياسة، والأدب أبرزها «عنترة بن شداد» بطولة الراحل فريد شوقي، وفيلم عن موسيقار الشعب «سيد درويش» في فيلم يحمل اسمه ولعب بطولته الفنان الراحل كرم مطاوع، وفيلم «قاهر الظلام» عن عميد الأدب العربي طه حسين لعب بطولته محمود ياسين، وهناك فيلم «كوكب الشرق» عن المطربة الكبيرة الراحلة ام كلثوم ولعبت بطولته الفنانة فردوس عبدالحميد، وفيلما «ناصر 56» من إخراج محمد فاضل ، و «جمال عبدالناصر» للمخرج السوري أنور القوادري وكلاهما رصد بعضاً من سيرة الرئيس المصري الراحل، كما رصد فيلم المخرج الكبير محمد خان «أيام السادات» سيرة الرئيس الراحل محمد أنور السادات. الحياة اللبنانية في 10 فبراير 2006 |
المخرج هينر سليم يتحدث عن طفولته في العراق وغربته: لا يربطني بالأرض سوى حذائي وذاكرتي الكردية بيضاء باستثناء لباس والدتي الأسود ريما المسمار هينر سليم مخرج كردي الأصل، اشتهر العام الفائت بفيلم "فودكا ليمون" وألحقه أوائل العام بعمل ثانٍ هو "الكيلومتر صفر" الذي عُرض في مهرجان كان السينمائي امام "فودكا ليمون"، نقف حائرين كيف نصنفه؟ فالاخير أُنجز بإنتاج فرنسي وصُوِّر في قريتين كرديتين في ارمينيا وكتبه وأخرجه مخرج كردي، عاش بين كردستان العراق وايطاليا وفرنسا. لعل "فودكا ليمون" تذكير ضروري بين فترة واخرى بمعنى السينما. انه "درس السينما" اذا جاز التعبير، ليس من موقعه الفني بقدر ما هو من موقع اكتنازه لمعنى حرية السينما وتفلتها من اي تصنيف مسبق. لعل هذه المقدمة لم تكن لتصبح ذات أهمية لولا طبيعة العمل نفسه، إذ يحار المتفرج ايهما استعارة للآخر: الحياة الانسانية ام السينما. في معنى آخر، هل السينما اختزال للحالة الانسانية وتعميم كوني لها اينما وُجدت؟ أم ان تلك الحياة تمنح من جوهرها معنىً للسينما؟ في ذلك المكان الذي يضع سليم فيه شخصياته وأحداثه، تنتفي الجنسيات واللغات والحدود، فلا يعود اي منها هو الهوية او التعريف عن المحيط. فقط تلك التجربة الانسانية التي تحياها الشخصيات تصبح هي الخيط الذي يربطها بالحياة ويربطنا بالسينما. والمخرج لا يفعل شيئاً سوى تحسس الحياة من حول اولئك حتى عندما تبدو الاخيرة معدومة. تلاحم عجيب بين إصرار الشخصيات على الحياة وقدرة السينما على الخروج من شرايين تلك الحياة. تفاصيل صغرى تربط شخصيات الفيلم بالحياة كلها بعيدة غير ملموسة: ذكرى حبيب رحل عن الدنيا، مراسلات عزيز بعيد، ذكريات من زمن مضى... إنه الأمل. الأمل بالحياة رغم كل شيء. الامل البعيد غير المحسوس والغامض والمجهول الذي يقوم عليه كنه الوجود الانساني. وكاميرا سليم المتابعة بدون تدخل او كلمة او تعليق تلك الحيوات المعلقة على آمال ورغبات صغرى تقول في نهاية المطاف ان الحياة ليست سوى الشغف بها. فهي، الكاميرا، تطرح باستمرار أسئلة تصب في نهاية المطاف حول العيش والحياة. فهي إذ تتابع الرجل المسن في زيارته اليومية قبر زوجته والمرأة المتوسطة في قطعها المسافة عينها في الصقيع والثلوج من مكان عملها في كشك لبيع الفودكا وحتى المقبرة ذهاباً وإياباً كل يوم والرجل في قطعه مسافة طويلة لاستلام رسالة من ولده.. فهي انما تؤكد ان الرابط بالحياة شيء مجهول غير مدرك ولكنه هناك في داخلنا. من هنا ربما تتلاحم تجربة المخرج بتجربة شخصياته. فهو إذ يحاول استعادة بداية تشكل علاقته بالسينما يتذكر مرحلة قضاها في الكهوف وبين الجبال، يرويها في حديث الى "المستقبل" قائلاً: "أعتقد علاقتي بالسينما وُلِدت في الطفولة من دون ان اكون واعياً لذلك. عندما هربنا، عائلتي وأنا، من الجيش العراقي من مدينتنا عقرة، استقرينا في الجبال وعشنا لبعض الوقت في الكهوف. كان والدي مفتوناً بالشعر، فكان يقرأ لنا كل ليلة من الشعر الكردي الكلاسيكي. لم أكن آبه كثيراً بذلك حينها الى ان فتح امامي ذات يوم كتاب شعر يتضمن لوحات فنية وكانت تلك المرة الاولى التي ارى الرسم فيها. وشرح لي والدي ان الشعر ألهم تلك الرسوم التي مازلت أذكر انها لنساء جميلات بلباسهن الملون. بدأت أسمع الشعر بينما انظر الى الصور وأحفظ. وثم بعد عودتنا الى المدينة، تعرّفت الى التلفزيون للمرة الاولى ايضاً الذي كان خالي قد اشتراه في اوائل السبعينات على ما أذكر. كانت كل الصور المبثوثة تمجيداً لصدام حسين وأحمد حسن البكر وأغاني القومية العربية. عندما انتهت صدمة الصورة الاولى، صرت أسأل نفسي: لماذا هذا الجهاز يتكلم العربية فقط بينما انا في كردستان؟ والواقع ان الفكرة الاولى التي خطرت لي هي اختراع صندوق، اي جهاز، يتكلم الكردية ويتحدث الى اهلي. ربما فكرت ان علي ان ادرس الكهرباء او ان أصير مغنياً ينشد أغانيه بالكردية على التلفزيون... اي ان فكرة السينما لم تكن واضحة ولكن كل تلك الافكار والأسئلة، اكتشفت لاحقاً، تصب فيها." برغم ذلك، لم يدخل سليم السينما الا آواخر التسعينات بعد ان كتب السيناريو الاول له عام 1997. "في الفترة الاولى، مارست الرسم" يقول ويكمل "بعض الجامعات في العراق لم يكن يقبل بالاكراد بسهولة لذلك هربت مطلع الثمانينات الى ايطاليا حيث درست هناك ولكن ليس السينما ومن ثم انتقلت الى فرنسا." اذا كان "فودكا ليمون" بما يحمله من تجربة انسانية عميقة هو تعبير عن الحياة في اشكالها كافة، فإن المخرج يؤكد "لا املك أية فلسفة اريد تمريرها من خلال السينما. افلامي تبدأ بجملة او بصورة وليس من شيء ذهني او رأي فكري. وأقولها لك بصراحة، أبدأ الكتابة ولا أعرف الى أين سأصل او عن ماذا اكتب وذلك لا يتغير حتى بعد اكتمال السيناريو. فأنا الى الآن لا اعرف عن ماذا يحكي فودكا ليمون!" أقول له انه يحكي عن الحياة وتواصل التجربة الانسانية بصرف النظر عن المكان والجنسية. يطرق مفكراً ثم يقول "لست موضوعياً ابداً. اي ان اختيار ارمينيا لتصوير الفيلم ليس محاولة واعية تماماً لمحاولة نفي الحدود والهويات. أحياناً أنسى من هي شخصياتي ومن اين تأتي. وفي أحيانٍ اخرى اكون واعياً تماماً الى انها كردية." في تقديمه الفيلم ليلة الختام، قال سليم جملة واحدة: "في كل مرة أبدأ بكتابة سيناريو، اقول لنفسي سأصوره في كردستان وفي كل مرة اكتشف من جديد استحالة ذلك." لماذا تكرر ذلك وانت تدرك في العمق انه غير ممكن؟ أسأله. "أحتاج الى خداع نفسي" يجيب. "أحياناً تكون هذه الفكرة الوهمية هي التي تحركني لأكتب. هناك دائماً طاقة إيجابية، تدفعني تثيرني فأبدأ من الملموس، كردستان ربما، وأبحر بعد ذلك لا أعرف الى اين." برغم تحرر الفيلم من الانتماء الى مكان محدد او افكار معينة، لا يسع قارئه سوى البحث عن ملامح دالة على رموز ذات صلة بمكان او بثقافة او بجنسية والسؤال: الى اي حد يشبه اولئك شخصيات عرفها المخرج في طفولته؟ ما هي الصور التي يحملها من كردستان ويكررها في افلامه؟ "ذكرياتي عن كردستان كلها بيضاء باستثناء لباس والدتي الاسود." هل يقصد بـ"بيضاء" الفرح؟ ام الضبابية؟ لا يجيب يكتفي بالقول "الاسود هو كل ما اورثنا إياه نظام العراق." لعل من هذا الكلام، ينطلق الفيلم بمزيج من الفكاهة الساخرة والدراما. الاولى تنبع من الموقف او من طبيعة بعض الشخصيات اللاذعة والثانية من مصير الشابة التي تمتهن البغاء وتشكل صدمة الفيلم غير المتوقعة: "أحتاج الى قليل من الفكاهة الساخرة لأنها من آداب اليأس. كما انها تعكس نظرتي الى الحياة والسينما. اما عن الصدمة الدرامية كما اسميتها، فهي جزء من طريقة كتابتي السيناريو بحيث لا أكشف كل العناصر المتعلقة بالشخصيات او بالأحداث. أضيفي الى ذلك ان سيناريو فودكا ليمون ليس كلاسيكي التركيبة. فهناك شخصيات تظهر ونلاحقها لبعض الوقت ثم تختفي لنعود اليها لاحقاً. أعتبر ذلك ممارسة حريتي في كتابة موضوعي بالطريقة التي اريد وليس بالاسلوب الذي يفرضه شباك التذاكر او الصناعة." لا يستغرب المخرج ان يجد دائماً الطريق الى انتاج افلامه كما يريدها هو "فلنقل انني محظوظ. استطيع عمل افلامي بالطريقة التي اريد وان اعمل في البلد الذي ارغب." ويشير الى ذلك التنوع في جنسيته وجنسية افلامه بانه "فخر لأوروبا ان تنفتح على الفن والثقافة بما هو نقص كبير لبلداننا." على ان ذلك الكلام على الجنسية والهوية يقلق سليم بعض الشيء لجهة تبسيطه الامور: "الاعلام ينظر الى موضوع جنسيتي وجنسية افلامي من منظار تبسيطي يحد من افق السينما. انا كردي مثلما هذا ماء وذلك هواء. اي ان ليس في الموضوع إيجابية او سلبية. استطيع ان اعمل فيلماً عن الرياضة او الموسيقى او عن قصة في اليابان. لم أقل لنفسي يوماً ان كرديتي تحتم عليّ معالجة القضايا الكردية. الآخرون يذكرونني بأنني كردي بنظرة ربما او بموقف كأن أُمنع من دخول تركيا مثلاً. لا أحمل أية رسالة حول هذا الموضوع ولا أهرب من كرديتي كما انني لا أركض نحوها." يؤكد المخرج انتماء سينماه الى الحالة الانسانية "التي تهمني بصرف النظر عن الحالة الكردية. في أرمينيا، رأيت اشياء هزت مشاعري وهذا ليس نتاج حالة فكرية او ذهنية. احياناً يمكن فتاة ترقص في الملهى ان تهزني وتدفعني الى الكتابة. أقصد ان السينما عندي هي تعبير عن كل اتجاهات الانسان ليس الفكرية فقط." يوافق سليم على علاقة السينما بالمكان وعلى ضرورة ان تحمل خاصيته. "فودكا ليمون" هو في احدى حالاته التحام مع ذلك المكان الخارج منه، سواء أهو ارمينيا ام القرية الكردية فيها ام الناس المزيج من اكراد وارمن وروس. على ان ذلك الالتحام يأتي من دون ادعاء. فهو أقرب الى نقل رائحة المكان اي كنهه الذي يصعب وصفه بكلمات ولكنه يضرب عميقاً في الاحساس. يبدو غريباً ذلك الاحساس في ظل جهل المتفرج بالمكان وغربة المخرج عنه كذلك. كيف نشعر بتلك الخاصية بينما نحن لا نعرف القرية ولا أهلها؟ وما ادرانا انها بالفعل خاصية المكان؟ كيف يشيد المخرج احساسه ذلك بالمحيط من دون ان تبدو نظرته خارجية او مقحمة؟ وفي المقابل من دون ان يدعي المعرفة؟ هل هو الاحساس الاولي الذي يقوده؟ "لا أسأل نفسي اي سؤال" يقول مجيباً "من شأنه ان يحدد رؤيتي او احساسي بحسب مقاييس جاهزة. لا أنظر بعين الغريب الى اي مكان ولكنني أدرك في اعماقي انني غريب في كل مكان حتى في بيتي. في داخلي منبّه. أحياناً يصح الشعور الاول وأحياناً لا. اباشر العمل عندما أشعر انني فهمت شيئاً، التقطته وأستطيع قوله بعيداً من اي تحليل سوسيولوجي او سيكولوجي. أحكي عن الانسان في كل مكان." من هنا ربما، وُصِف الفيلم في صحف عدة بأنه افضل تعبير عن ارمينيا بعد الشيوعية. وكتب أحدهم في البرازيل، انه كان ليظن أحداث الفيلم وشخصياته برازيلية لولا الثلوج التي تغطي المكان. "الفقر عامل مشترك بين مناطق كثيرة في العالم والظرف الانساني في ظله يبدو موضوعاً كونياً. ولكن هذا لا يمنع إضافة خصائص المكان حيث تجري الأحداث." بالعودة الى السؤال الاساسي الذي يمكن استشفافه من الفيلم حول درة السينما على التحول استعارة لحياة بكاملها، يبرز سؤالاً آخرآً جوهرياً: أيهما كان دافع المخرج الى سينما من هذا النوع؟ هل هو ترحاله الدائم ام هي نظرته الى السينما كفنٍ يحتوي العالم؟ "أعتقد ان هذه السينما نابعة من إحساسي بأن ما يربطني بالارض هو فقط حذائي. عدم الاستقرار والمنفى وبمحاذاتهما السينما هي مكونات حياتي والسينما التي أصنعها." توقف الحديث مع هينر سليم هنا. كان على اهبة الاستعداد للحاق بطائرته الى فرنسا. ولولا ذلك، كان يمكن ان يطول لساعات حول آرائه الطازجة غير المسبقة والصريحة. فهو إذ يهم مغادراً، يكتب لي عنوانه الالكتروني راجياً ان ارسل اليه المقالة. ثم يعترف بهروبه في مرات كثيرة من المقابلات والأسئلة "لأن الإجابة تتطلب أحياناً ساعات او لأنني أخاف ان افتح نفسي وأقول الحقيقة. لا أعرف كيف أقول الحقيقة ولا أريد قولها. ليست عندي اية مقولة او رسالة او حتى نموذج لعالم افضل أقدمه الى غيري. أعيش في الفوضى التي يعيش الانسان فيها منذ ملايين السنين...." ولعل من جماليات "فودكا ليمون" انه غارق في تلك الفوضى الجميلة التي برغم عبثيتها أحياناً تبدو حقيقية ومفهومة وقريبة من الاحساس بعيداً من اي ادعاء. المستقبل اللبنانية في 10 فبراير 2006
|
الموجة الثالثة في الواقعية الإيطالية: الملفات السرية للمافيا والسياسة دمشق - بندر عبدالحميد |