يستمرّ النشاط السينمائي ل<<مسرح المدينة>> (سارولا، الحمرا)، للأسبوع الثاني على التوالي. فبعد تنظيم الأيام الخاصّة بالأفلام اللبنانية، التي انتهت مساء الأحد الفائت، انطلقت، مساء الاثنين في الثالث والعشرين من كانون الثاني الجاري، أيام يوسف شاهين، احتفاء بعيد ميلاده الثمانين، الذي صادف يوم أمس الأربعاء، وذلك بعرض مختارات من أفضل أفلامه الروائية، التي تُغطّي مراحل مختلفة من تاريخه المهني والشخصي. في الأيام الثلاثة الأولى، عُرضت الأفلام التالية: <<بابا أمين>> و<<باب الحديد>> و<<الأرض>>، في حين أن الأفلام الأخرى تُعرض يومياً وفقاً للبرنامج التالي: الثامنة مساء اليوم: <<العصفور>>، السادسة مساء غد: <<إسكندرية ليه>>، ثم التاسعة مساء اليوم نفسه <<إسكندريه كمان وكمان>>. الثامنة مساء بعد غد السبت: <<المصير>>. في حين أن الاحتفال به يُقام عند الثامنة مساء الأحد، ويتضمّن كلمات حبّ وعرض فيلم بعنوان <<عوالم شاهين>> (52 دقيقة) لآن أندرو، عند التاسعة مساء. يستحقّ يوسف شاهين التفاتة لبنانية كهذه: دعوته إلى بيروت للمُشاركة في احتفال ثقافي وفني يُقام بمناسبة عيد ميلاده الثمانين. وتستحقّ بيروت أيضاً هذا النوع من الاحتفال بفنان بدا، وهو في الثمانين من عمره، كأنه لا يزال في بداية مساره المهني، أو في اللحظة الأولى التي اكتشف فيها شغفه بالسينما. ذلك أن ما يجمع شاهين ببيروت ليس مجرّد علاقة عادية، بل حبّاً مختلفاً يتجدّد في كل يوم، ويتّخذ ألف شكل وحكاية. إذاً، وبمناسبة بلوغه الثمانين من عمره، أمس الأربعاء، يأتي يوسف شاهين إلى بيروت (يُفترض به أن يصل إليها بعد غد السبت) كي يُجدّد عهداً بحبّه لها، وكي تقول له، مرّة أخرى، أنها على العهد باقية. ثم إن الدعوة طالعةٌ من عمق المدينة، ومن مسرحها الذاهب إلى تطوير حضوره ولغته بقوة وثبات، وإن ببطء وتواضع جميلين، كي يواجه الموت بالحياة، وكي يُعلن الانتصار على هذا الخراب العظيم الذي يلفّ المدينة وناسها وفضاءها العربي. فالاحتفال البيروتي هذا بابن الإسكندرية يكشف حقيقة أخرى، بتأكيده على عمق التواصل الثقافي المنفتح على الآخر، بين مدينتين عرفتا، في تاريخهما العريق، معنى أن تكون الجغرافيا حاضنة التاريخ، وأن يكون المكان عنواناً للإبداع والمشترك في الثقافات المتنوّعة والحضارات المختلفة، المقيمة في جذوره، والمسيّجة حضوره بألف كلمة ووردة. واللقاء المنتظر (على أمل أن يُشارك فيه المعنيون بالثقافة النقدية والفكر السجالي والإبداع المُسائِل) يحاول أن يرسم في أفق المدينة معنى أن يكون المرء عربياً، من دون ادّعاء أو تنظير، بل بممارسة يومية تغرف من الحياة قوة عيش، وتصنع من الكلمات فرح المواجهة والتحدّي. التفاتة بيروتية يحتفل <<مسرح المدينة>>، في خلال هذا الأسبوع كلّه، بالعيد الثمانين لميلاد يوسف شاهين. إنه حدث مهم، والالتفاتة البيروتية إزاء هذا الفنان العربي جميلة، كونها لا تكتفي بتكريم و<<كلمات حب>> وابتسامات أمام كاميرا من هنا وأحبّة من هناك، بل تتجاوز <<الأضواء>> إلى العرض السينمائي، الذي يعيد تقديم المخرج كما هو: فنان مبدع وصدامي وسجالي، أثار، ولا يزال يثير كمّاً من الأسئلة المتعلّقة بالفرد والواقع والتاريخ والجماليات الفنية والتقنية، التي (أي الجماليات هذه، تحديداً) تتفرّد بطرح سؤال المسار الإبداعي لشاهين، لانتقالها من <<حدّة>> المُعالجة والتصوير والتوليف ورسم الشخصيات وتفصيل العلاقات، إلى تبسيطٍ تجاوز مسألة جذب الجمهور كلّه إلى عالمه، كي يتحوّل إلى تكرار (أو ما يُشبه التكرار الشكلي)، خصوصاً في المرحلة الزمنية التي بدأت، تقريباً، مع <<المهاجر>>، أي منذ مطلع التسعينيات المنصرمة. بمعنى آخر، فإن الأفلام التي أنجزها شاهين منذ <<المهاجر>> باتت أكثر جماهيرية، لما تضمّنته من بساطة في اختيار مواضيع لا تخلو من ترجمة ما لموقف شخصي خاصّ به في السياسة والفكر والثقافة، وفي أسلوب المعالجة، في حين أن بعض أبرز أفلامه القديمة (ومنها ما عُرض ويُعرض في الاحتفال البيروتي به) أثارت سجالاً نقدياً حادّاً في مواقفها وطريقة تنفيذها وكيفية نسج حكاياتها وفضاءاتها الدرامية والإنسانية. من ناحية أخرى، فإن اختيار هذه الأفلام (تحديداً) لعرضها في الاحتفال البيروتي يستحقّ، بدوره، شيئاً من الالتفاتة الاحتفالية: إذ إنه ضمّ عناوين تعكس بعضاً من التجارب المختلفة، في الفكر والسياسة والثقافة والفن، التي عاشها المخرج منذ بدايته السينمائية، حين أنجز فيلمه الروائي الأول <<بابا أمين>> في العام 1950، الذي عُرض مساء الاثنين الفائت في افتتاح الأسبوع المذكور: فإلى <<بابا أمين>>، هناك <<باب الحديد>> و<<العصفور>> و<<الأرض>>، التي تُعتبر، إلى عناوين أخرى قليلة (ك<<الاختيار>> و<<عودة الابن الضال>>، مثلاً) من <<أجمل>> أفلامه وأكثرها إثارة للسجال النقدي المتنوّع، بالإضافة إلى اثنين من ثلاثيته الخاصّة بسيرته الذاتية: <<إسكندريه ليه>> و<<إسكندريه كمان وكمان>>. بمعنى آخر، تُقدّم هذه العناوين (ينتهي الأسبوع بعرض <<المصير>>) ملامح عدّة من سيرة رجل أراد أن يجعل الصورة السينمائية شهادة إنسانية للتحوّلات المختلفة في مصر والعالم العربي، ساعياً بها إلى تأريخ فني للواقع والجماعة، وإن تغلّبت مضامينها الفكرية على أشكالها البصرية، غالباً. أنماط لا شكّ في أن مشاهدة <<بابا أمين>> أتاحت فرصة قيّمة لاكتشاف الأدوات الأولى التي استخدمها يوسف شاهين في صناعة الصورة. فعلى الرغم من واقعية الموضوع (الفقر وما يولّده من بؤس وشقاء، وغياب الوعي والطمع وما يُسبّبانه من تدمير للعائلة) وبساطة المعالجة الدرامية، إلاّ أن التقنيات المستخدمة في عملية التصوير كشفت تطوراً مهماً ولافتاً للنظر عرفته السينما المصرية حينها (أي في منتصف القرن المنصرم): شيءٌ من الخيال العلمي أضيف على واقعية اجتماعية وأخلاقية صارمة، وجرأة في التقاط نبض العلاقة المتأزمّة بين المرء والموت، من خلال رفض المرء للموت وبقائه بين أفراد عائلته لمعاينة أفعالهم وتصرّفاتهم. ذلك أن الأب (حسين رياض) انتزع من عائلته ما يملكه من مال لتوظيفه في مشروع ما، وتعرّض لأزمة قلبية أودت بحياته. لكنه أصرّ على متابعة يومياته، من دون أن يقدر على مساعدة زوجته (ماري منيب) وابنته (فاتن حمامة) وولده الصغير (عصام)، فإذا بهؤلاء يتمزّقون ويتألمون ويسقطون في جحيم اليومي. لكن النهاية كوميدية وجميلة، إذ لم يكن هذا كلّه إلاّ مجرّد حلم عاشه الأب للحظات أفضت به إلى مغايرة الواقع، وإلى السعي إلى تحقيق رغبات أفراد عائلته جميعهم، وإلى التنبّه إلى ضرورة تأمين مستلزمات عيش كريم، من دون طمع أو جشع. لا تختلف الواقعية القاسية في <<باب الحديد>> عن المآزق الإنسانية في البؤس الاجتماعي، كما في <<بابا أمين>>، على الرغم من أن <<باب الحديد>> يُعتبر، بسبب جمالياته الدرامية والفنية، الفيلم <<الأول>> والأهم ليوسف شاهين، الذي أسسّ به رؤيته الخاصّة بالحياة والمجتمع والتفاصيل الإنسانية والأخلاقية، علماً أنه أضاف إلى هذه اللائحة اهتمامه بالنفس البشرية، فحاول اختراقها والبحث في شجونها وآلامها وتمزّقاتها. كما أن هذا الفيلم الجميل قدّم صاحبه في حلّة الممثل، التي لم يرتدها لاحقاً إلاّ في مناسبات قليلة للغاية. إنه قنّاوي، المأزوم نفسياً واجتماعياً، في عالم امتزجت فيه حالات الحب والكبت والجنس والفقر والقرف والخيبات والقهر. تماماً كما حصل في <<الأرض>>، حين غاص شاهين في بؤرة الصراع الدائم بين الفقر والسلطة الحاكمة، من خلال تصوير دقيق لمسار تراجيدي مؤلم عاشه فلاّحو الأرض وصانعو خيراتها الكثيرة، لحساب إقطاعيّ لا شكّ في أنه خير ممثّل للسياسي والاقتصاديّ والقامع. ففي <<الأرض>>، نقد سياسي واجتماعي وثقافي قاس، أعاده شاهين، وإن باختلاف في الموضوع والمعالجة، في <<العصفور>>. بينما ترجم لاحقاً مقتطفات من سيرته الذاتية في ثلاثية رسمت جوانب من التحوّلات الخاصّة والعامة في وقت واحد. أما <<المصير>>، فهو شهادة متواضعة، فنياً وتقنياً وجمالياً، للصراع بين الظلام والنور، وبين الفكر النقدي والسلطة القامعة، من خلال سيرة الفيلسوف العربيّ المتنوّر ابن رشد. بهذه العناوين المختلفة، يُمكن للمرء أن يُعيد اكتشاف جماليات شاهين في سينما وسمت التاريخ الثقافي والفني المصري والعربي بشيء من إبداعه السوي. السفير اللبنانية في 26 يناير 2006
يوسف شاهين في عيد ميلاده الثمانين: أمام هذا الحب.. أنا فخور بأنني مصري المشاركة السياسية ضرورة.. والصدق يجدد شباب السينما حسام حافظ هذه هي المرة الثانية التي أحتفل فيها بعيد ميلادي الأربعين".. هكذا قال المخرج الكبير يوسف شاهين وهو يطفئ شمعة تورتة عيد ميلاده الثمانين في الحفل الذي أقامته جمعية النقاد مع جمع غفير من زملاء وتلاميذ المخرج العالمي. الذي جاء للحفل أنيقاً حريصاً علي مظهر الشباب الدائم. طالما ظل قادراً علي الوقوف خلف الكاميرا. وهذا سر حيوية يوسف شاهين واستمرار تألقه. اختار النقاد صورة "قناوي" بطل فيلم "باب الحديد" لكي تكون علي تورتة عيد الميلاد. وعلي الفور أمسك يوسف شاهين بالسكين بنفس الطريقة التي أمسك بها قناوي عندما بدأ التفكير في قتل "هنومة" نظر شاهين إلي د. صبحي شفيق رئيس الجمعية علي يمينه وإلي أحمد الحضري عضو مجلس الإدارة الواقف علي يساره وسأل: "مفيش بنت حلوة تقطع لي التورتة" وضحك الجميع. وهذا سر آخر من أسرار يوسف شاهين. انه يعشق الابتسامة. يسخر من كل شيء ويحب أن ينتزع الضحكات ويعلق دائماً بنكتة طازجة تشيع جواً من البهجة والفرح علي كل المحيطين به. تحدث في البداية الناقد الدكتور صبحي شفيق وقال: إن يوسف شاهين أستاذ الجيل الماضي وأستاذ الجيل الحاضر أيضاً. وان تاريخ السينما في مصر والعالم لا يمكن أن يتجاهل تجربة يوسف شاهين في الإبداع. وإنه من زاوية أخري يمثل لقاء وتفاهم الحضارات بين أوروبا والشرق وبين الشمال والجنوب. لذلك منحت جمعية النقاد درعها التذكاري لشاهين في عيد ميلاده الثمانين. وقال المؤرخ والناقد السينمائي أحمد الحضري: إن تورتة يوسف شاهين كان يجب أن نضع فيها 36 شمعة بعدد الأفلام السينمائية الجميلة التي أخرجها. ومعني ذلك أنه يظل دائماً في "عز شبابه" وتمني له دوام الصحة والنجاح. هي فوضي وبدأ يوسف شاهين حديثه بشكر جميع الحاضرين وقال: "لازم أقول لكم ألف مرة شكراً أنكم افتكرتوني في عيد ميلادي" وتحدث عن التطورات التي شهدتها الساحة السياسية في مصر خلال العام الماضي. وقال: إنه تأثر بذلك كثيراً. ومن هنا بدأت فكرة كتابة وإعداد سيناريو فيلم "هي فوضي" الذي يضع عليه حالياً اللمسات الأخيرة. وقال شاهين إن الأحداث السياسية تضغط أحياناً بقوة علي المبدع. وحدث له ذلك من قبل في الفترة التي أخرج خلالها فيلمي "العصفور" و"عودة الابن الضال" وقال: إن الفنان في حاجة إلي أن يقول كلمة. ويجب أن نعطي له الفرصة لكي يقول تلك الكلمة بصدق ودون تزييف. وقال: إنه يسأل نفسه يومياً الكثير من الأسئلة الصعبة حول المستقبل. وأكد علي أهمية مشاركة الجميع في صياغة هذا المستقبل. لأن السلبية وعدم المشاركة قد تدفع بالمجتمع كله إلي "حالة الأزمة". كل هذا الحب وأعرب شاهين عن سعادته بمجموعة الشباب المشاركين معه في فيلمه الجديد. وقال: إن المشاكل مع الرقابة لم تبدأ بعد. وهو دائماً ينصح الشباب بالابتعاد عن الخوف وضرورة التعبير الدرامي عن الاحساس الحقيقي دون حاجة إلي ارتداء الأقنعة. وأضاف شاهين أنه يحب جمعية النقاد ويحب قاعة العرض الصغيرة في مركز الثقافة السينمائية. وانها تذكرة بأيام جميلة وأصدقاء أعزاء. وإنه يكون سعيداً عندما يشعر بحب الناس له. وهو أمام هذا الحب يحس بالفخر بأنه مصري. قواعد السينما وتحدث المونتير الكبير كمال أبو العلا. وقال: إن شاهين نصحه عام 1950 بعدم ذكر سنهما الحقيقي حتي يستطيعا الحصول علي عمل!! وأضاف أن بعودة شاهين من بعثته الدراسية انتقلت السينما المصرية من مرحلة العشوائية إلي مرحلة استخدام قواعد اللغة السينمائية الصحيحة. وأن ذلك كان مصدر إعجاب السينمائيين أنفسهم قبل الجمهور. لذلك فإن أعمال يوسف شاهين لها مذاق خاص وتتميز من حيث الموضوع واللغة والإيقاع. وقالت الدكتورة مني الصبان أستاذة السينما بالمعهد: إنها كانت تدرس بالجامعة وقت تصوير يوسف شاهين لفيلم "القاهرة منورة بناسها" واندهشت من تكوين شاهين للقطة واحدة تعبر عن غضب الطلبة. حيث طلب من كل واحد فيهم النظر إلي نقطة غير التي ينظر إليها زميله. وجاءت النتيجة معبرة تماماً عن الغضب!! واختتمت الناقدة السينمائية صفاء الليثي حفل التكريم بدعوة المخرج يوسف شاهين لعرض فيلمه الجديد علي النقاد. وعبرت عن استعداد الجمعية لعمل حلقات بحث حول المراحل المختلفة لمسيرة إبداع يوسف شاهين. وأهم المحطات الفنية في حياته. كما أصدرت جمعية نقاد السينما المصريين نشرة خاصة بهذه المناسبة بعنوان: "يوسف شاهين.. المخرج الذي صنع التاريخ" ضمت مقالات للنقاد: أحمد يوسف وصفاء الليثي وضياء حسني. الجمهورية المصرية في 26 يناير 2006 |
مصطفي محرم يكتب: «الجريمة الثقافية» التي ارتكبها يوسف شاهين في فيلم «حدوتة مصرية»! * استعان شاهين بمجموعة ممتازة لتمثيل الفيلم.. وربما كان المطرب محمد منير هو النغمة النشاز الوحيدة في التمثيل مر الوقت أثناء مشاهدة الفيلم دون أن أشعر به. لم أتململ في مقعدي كما يحدث لي كثيرا وأنا أشاهد «حدوتة مصرية» رغم أنني لا أتابع قصة تقليدية لها بداية ووسط ونهاية بشكل منتظم هو أقرب إلي التداعيات التي تقتضي أن يكون الإيقاع سريعا.. لاهثا وتنبض المشاهد بالحياة تذكرت أنني مررت بهذه التجربة نفسها وأنا أشاهد فيلم «كل هذا الجاز» لبوب فوس كان الأمر أشبه بحلم.. وعندما أفقت إلي نفسي في النهاية بدأت أفكر وأتساءل أين الترابط وأين البناء وأين الحبكة؟ تماما مثلما يقرأ المرء رواية للإنجليزي تشارلز ديكنز حيث تأخذه سطورها وهو مبهور بما يقرأ حتي النهاية وعندما يغلق الكتاب ويتركه يدرك شيئا مهما وهو أن الرواية تنقصها الحبكة والأصول الفنية، ولكن ديكنز مازال يعيش ويقبل الناس علي قراءته بشغف ومات من هم أكثر منه مهارة ودقة في الالتزام بالأصول في كتابة الرواية وأصبحت أعمالهم لا يقرأها سوي الدارسين. كنت أفيق إلي نفسي عندما تقتحم الفيلم مشاهد الأبيض والأسود الوثائقية لم يكن هناك ضرورة لها.. كان يريد بها أن يحدد الزمن ويؤكده كان يريد أن يحدد المكان ويؤكده لأنه لا يستطيع أن يعيد تمثيل الماضي، ولكن يوسف شاهين لم يكن يدري أنه كان يمكن أن يستغني عن اللقطات الوثائقية لأنه استطاع أن يوهمنا بمهرجان «كان» دون هذه اللقطات وكان عليه أن يدرك أنه نجح أكثر بالإيهام بمهرجان موسكو.. ربما استعانته ببطلة فيلم «جميلة» الحقيقية وهي الممثلة ماجدة كان من العوامل القوية الذي جعلنا نقتنع بذلك الوهم السينمائي.. وبالطبع باستخدامه للكادرات الضيقة والمزدحمة بالأشخاص تفاديا للكشف عن المكان خاصة اللقطات الخارجية وذلك في المشاهد الخاصة بمهرجان كان ومهرجان موسكو. يري سمير فريد كما يري غيره من النقاد بأن كل عمل فني في العالم في تاريخ كل الفنون هو تعبير عن ذات الفنان الذي يصنعه يستوي في هذا الفنان الذي يعبر عن قضايا المجتمع اليومية مع الفنان الذي يعبر عن أكثر الأفكار التجريدية، بل إن الفن يكون أصيلا بقدر ما يكون ذاتيا.. وربما يكون الخلاف شكليا في هذه القضية ويدور حول السؤال الآتي: هل الفن هو تعبير أم إبداع؟ وعندئذ يصبح الخلاف هنا تفسير كلمة «تعبير». وتتعقد الأمور أكثر عندما نلحق به جملة ذات الفنان ولكننا نحاول التوفيق بما يجمع بين الأمرين وذلك بطرح هذا السؤال أيضا: كيف يعبر الفنان عن ذاته؟ لأن الأمر ليس مجرد تعبير، فالإنسان في الحياة يعبر عن نفسه دون ضابط أو رابط وأحيانا دون معني معين أو حتي بمعني ولكن هذا المعني لا يخص سواه. وهذا يعني أن التعبير عن ذات الفنان يختلف عن التعبير عن ذات أي شخص.. وفي الحقيقة فإن هذا ما قصده كروتشه وسبق أن ذكرناه عندما قال إن الفن تعبير ولكن ليس كل تعبير فنا. فإلي أي مدي حقق يوسف شاهين هذا في فيلمه الثاني من رباعيته السينمائية وهو فيلم «حدوتة مصرية»؟ مع الأخذ في الاعتبار بأن يوسف شاهين سبق وأن أعلن بأنه أصبح يكره الحكايات وليس عنده حكايات يقولها. ويعدد سمير فراج في كتابه عن يوسف شاهين ويقول: «إننا نعرف أدب الاعترافات وها هو يوسف شاهين يضع أيضا ما يمكن أن نطلق عليه سينما الاعترافات، وأنا أيضا أتساءل هل هناك من شك في أن الفن عامة مادام يراه الكثير من النقاد هو تعبير عن الذات إذن فهو في حقيقة الأمر اعترافات؟ هل يستطيع أحد أن ينكر أن مجرد رؤية الفنان لقضية ما هو اعتراف منه بصحتها أو خطئها؟ حتي ولو كانت هذه القضية بعيدة كل البعد عن حياته الشخصية ولا تمت إليه بصلة قرابة، وإذا كان الاعتراف يتطلب الشجاعة فإن الشجاعة هي جزء لا يتجزأ من وظيفة أي فنان جاد ويحترم فنه.. فهو علي الأقل يقول ما لا يستطيع غيره أن يقوله. كتب كثير من النقاد عن فيلم «حدوتة مصرية» وقيل عنه ما هو أكثر من الفيلم نفسه بحيث أثاروا البلبلة عند القارئ أو الجمهور المسكين الذي شاهد الفيلم ومن المضحكات ما كتب عن الفيلم يثير قضية علي جانب كبير من الأهمية والخطورة فيما يتعلق بازدواجية الثقافة وتناقضات المثقف والفنان المصري المعاصر وأن المؤثرات الثقافية الغربية، الوافدة بدأت تتصارع مع الجذور التراثية المصرية، وتهدد بزوال الهوية والتكوين الروحي والعقائدي. ومن يريد قراءة بعض ما كتب عليه أن يرجع إلي نشرة نادي السينما في النصف الثاني من العام الخامس عشر.. وتمادي أحد النقاد قائلا إن هذه القضية تطرح نفسها بحدة في فيلم «حدوتة مصرية» حيث يبدو يوسف شاهين شديد التأثر بنمط الحضارة الغربية وفكرها وثقافتها.. وكأن هذه الثقافة التي نطمح كلنا إلي التزود منها بأكبر قدر هي جريمة ارتكبها يوسف شاهين في حق نفسه، وكان عليه أن يقنع بالثقافة المصرية.. هل هناك شوفونية أكثر تطرفا من هذا التفكير الساذج؟ تدور أحداث الفيلم في القفص الصدري للمخرج يحيي مراد أثناء إجراء عملية القلب المفتوح وقد وضح تأثر يوسف شاهين بفيلم «كل هذا الجاز» عندما أدار الأحداث داخل القفص الصدري حيث تجري المحاكمة التي عقدها لمحاكمة كل من عرفهم في مسيرة حياتهم.. وقد أشار الكثير من النقاد إلي ذلك فيقول عاطف فتحي في نشرة نادي السينما: «ويبدو يوسف شاهين متأثرا أسلوبه في «حدوتة مصرية» بفيلم «كل هذا الجاز» لبوب فوس إلي حد كبير خصوصا في مشاهد العملية الجراحية وتداخل الأزمنة معا، وأسلوب التداعي.. ولكن ربما كانت مصادفة، ويقول الناقد حسين عبدالعليم في نفس النشرة: «الديكور تصميم فخري الليثي» فالمنصة منصوبة والمقاعد الطولية مصفوفة وقفص الاتهام إلي اليمين والقضاة جالسون ويحتاج المشهد أنابيب يضخ فيها الدم «أوردة وشرايين» وبالونات ملونة «كرات دم حمراء وبيضاء وهياكل عظام القفص الصدري» وهو تكوين في عمومه وتفصيله يذكرنا بفيلم بوب فوس «كل هذا الجاز» خاصة الاستعراض الأخير: «رقصة المستشفي»، وبالطبع لم يجرؤ النقاد الذين أجروا مع يوسف شاهين أحاديث أن يذكروا له هذه الملاحظة المهمة. «الطفل هو والد الإنسان» وهذه المقولة للشاعر الإنجليزي وليم وردزووث، ومن الواضح أن يوسف شاهين حاول الاستفادة من هذه المقولة وهو يفكر في صنع هذا الفيلم فالطفل هو الذي يقوم بمحاكمة يحيي مراد الذي بدوره يلقي التهم علي أقربائه، وقد قدم يوسف شاهين هذه المحاكمة وهذه التهم بشكل خاص جدا لم ينعكس بالشكل الكافي علي شخصية يحيي بحيث أصبح الفيلم هو مجرد سرد أحداث ووقائع لا تهم أحدا أي أنها لم تخرج من الخاص إلي العام كأي عمل فني جيد. وقد يشعر البعض بالغموض والارتباك من ترتيب الأحداث وربطها بينها وبين بعضها زمنيا.. ولكن الزمن في فيلم «حدوتة مصرية» هو ليس الزمن الذي يعتمد علي ترتيب الأحداث، فرغم أن الأحداث تختلف زمنيا إلا أنها فنيا تخضع لزمن واحد وهو زمن العملية الجراحية أو بمعني أدق زمن الحدث الكلي الذي يدور داخل القفص الصدري وهذا هو الزمن الفني الذي يستعصي التعبير عنه عند كثير من المبدعين. زمن يخلط الماضي بالحاضر بل وأحيانا بالمستقبل ويصبح كله حاضرا.. وربما يتضح ذلك في المشهد السينمائي البليغ عندما يقفز يحيي من النافذة علي لقطات عامة لناطحات السحاب في أمريكا وهي مضاءة ليلا ليعبر عما يحلم به أو يتوقع حدوتة.. رغم أنني لا أذكر أين شاهدت هذه اللقطة في أي فيلم أجنبي إلا أنها كانت في مكانها في هذا الفيلم. وتقطيع يوسف شاهين للمشاهد ينم عن بلاغة سينمائية فهو لا يضع الميزانسين الذي من أجل الحركة فقط ولكن الميزانسين مع الديكوباج وهو وضع الكاميرا وحركتها ويعتمد ديكوباج المشهد بدوره علي ما يريد أن يبرزه يوسف شاهين في المشهد.. والانتقال من لقطة إلي أخري ليس مجرد انتقال مخرج يقوم بتنفيذ قواعد الإخراج أو قواعد اللغة السينمائية فقط ولكنه انتقال درامي داخل المشهد معتمدا علي ثقافته السينمائية والدرامية، فهو يري أن لكل لقطة بطلها وأنه يجب أن يكون وضع هذا البطل بالنسبة للكاميرا هو الوضع الصحيح دون الاستغناء في نفس الوقت عن الجماليات والمحافظة علي إيقاع اللقطة مع الإيقاع العام للمشهد.. ولذلك فأنت تري المشهد في حد ذاته رائعا من الناحية السينمائية ولكن الغريب أن هذا المشهد الرائع في التحامه بالمشاهد الأخري يثير البلبلة والغموض. ويحدث هذا كثيرا في حالة عدم وجود سيناريو متكامل قام بكتابته شخص يجيد هذا الفن وقادر علي التعبير عن أفكار يوسف شاهين بشكل سليم وهذا كما يبدو مطلب في غاية الصعوبة.
استعان
يوسف شاهين في فيلم «حدوتة مصرية».. بمجموعة ممتازة من الممثلين استطاع أن
يفجر ما في داخلهم من إبداع رغم قصر أدوار الكثير منهم وربما كان المطرب
محمد منير هو النغمة النشاز في التمثيل رغم أنه كان النغمة العذبة في
الغناء.. كان اختيار نور الشريف لدور يحيي اختيارا موفقا بل أقول إن نور
الشريف هو خير من قام بدور يحيي في رباعية يوسف شاهين السينمائية، ومما
يلفت النظر أن يوسف شاهين لم يستطع أن يفرض أداءه التمثيلي علي نور الشريف
ولم يحاول نور الشريف أن يقلد يوسف شاهين التقليد الأعمي خاصة وأن تقليد
شخصية يوسف شاهين في غاية السهولة ولكنه استطاع أن يقدم لنا الشخصية وهذا
هو الفرق بين التمثيل والتقليد وهذا هو الخطأ الذي كان يرتكبه الممثل أحمد
زكي عندما قام بدور عبدالناصر ودور السادات يجب علي الممثل أن يهتم بجوهر
الشخصية وليس بمظهرها فقط. تقول الباحثة سعاد شوقي في كتابها عن يوسف شاهين: وفي فيلم «حدوتة مصرية»، نستطيع منذ أن نري تترات الفيلم أن نستشف أنه فيلم يحمل ملامح السيرة الذاتية ليوسف شاهين فمن بداية الفيلم ومن خلال اسم الفيلم المكتوب باللغة المصرية، «حدوتة مصرية» نلاحظ وجود ترجمة لهذا الاسم باللغة الفرنسية وهي ليست ترجمة فعلية لاسم الفيلم وإنما ترجمة كلمة تعني الذكريات، وفي الواقع فإن هذه الملاحظة لا يستطيع أن ينكرها ناقد يتقن وظيفته ويبدو أن يوسف شاهين الآخر كان يعي ذلك تماما ويدركه.. إن ما شاهدناه هو مجرد ذكريات لا تلاحم بينها إلا رغبة االمخرج في أن يعبر عنها بأي شكل من الأشكال وقد نتقبل كمشاهدين مصريين أو عرب هذه الذكريات التي تتميز بالبلاغة السينمائية لما فيها من أحداث تاريخية نعرفها جيدا ولكن بالنسبة للمتفرج الأجنبي فإن هذا الفيلم قد لا يعني له شيئا فهو لا يعرف هذه الأحداث الخاصة، ولا يري فيها ما يجعلها أحداثا إنسانية شاملة ولا يري فيها عملا فنيا متماسكا مثل فيلم «كل هذا الجاز» الذي لم نكن نعلم عن مخرجه إلا القليل ولكننا وجدناه عملا فنيا يعني الكثير. جريدة القاهرة في 24 يناير 2006 |
7 أفلام ليوسف شاهين في احتفال ثمانينيته في "مسرح المدينة" صُوَر الفنان شاباً إلى الأبد نديم جرجوره |