شعار الموقع (Our Logo)

 

 

أعتقد أن فيلم "صايع بحر" كتبه السيناريست بلال فضل قبل فيلميه الآخرين "حرامية فى كى جى تو" و"الباشا تلميذ"، ربما لأن فيه طموحا فنيا راقيا وموهبة فاتنة ورغبة عارمة فى المزج بين الكوميديا ـ التى أصبحت شرطا أساسيا للتواجد فى سوق لا يرحم ـ وبين مضمون إنسانى رفيع. والحقيقة.. إن هذا الفيلم مختلف تماما عن فيلميه الآخرين واللذين ـ وأرجو ألا يغضب ـ خضع فيهما تقريبا بالكامل للسوق وأصبح هدفه الوحيد فيهما هو الإضحاك ومزيد من الإضحاك فقط.

ففى "صايع بحر" هناك جهد كبير وإبداع خلاق فى رسم شخصيات، فكان لها ملامح متفردة وبعضها فيما أظن جديد على السينما المصرية. أضف إلى ذلك السعى لتقديم بانوراما حانية وصادقة وحارة لقطاع واسع من المهمشين، ليس هدفهم منافسة باقى القطاعات المتسيدة، المجتمع ولكن القتال من أجل تأمين تواجدهم على الحافة وخارج تروس عملاقة لبلد لا يرحم.

الشخصية التى قدمها الفنان الكبير احمد راتب جديدة، فهو أستاذ جامعى اختار لسبب غير واضح بشكل كاف أن يترك مكانته المتميزة كترس فى آلة ضخمة ليعيش على الهامش، حياة تقترب من البوهيمية مع الأموات، وهو ما يمنحه قدرة ما على الرؤية من بعيد، رؤية التعاسة ومحاولة القبض على لحظات صدق وفرح.

فالحقيقة.. إن بلال كان مشغولا بخلق شخصيات لها مذاق مختلف، مثل الأم التى قدمتها سعاد نصر ببساطة وتلقائية، وكان همها الأكبر هو الحصول على أكبر قدر من نقود ابنها أحمد حلمى. فعلاقتهما ليست هى العلاقة التى اعتادت السينما أو الفن عموما أن يقدمها، ولكن فيها خشونة، خشونة الفقر والحاجة والخوف.. ونفس الأمر نجده فى شخصية الأب التى قدمها الفنان الكبير ـ كبير بجد ـ محمد درديرى، الذى يجمعه هو وابنه ندية ما فى التعامل ورصيف واحد لبيع سلع صغيرة من اجل لقمة العيش ويلعبان معا كرة القدم. كما أن الأب يستخدم كل الحيل كما نفعل جميعا بشكل أو بآخر لنعيش، فهو يطلق لحيته ويمسك بالسبحة أحيانا لأنه يبيع الأعشاب التى تعالج كل شيء وأى شيء، ويرتدى الجينز عندما يقرر أن يبيع المجلات الملونة شبه الجنسية.

وهذا ينطبق على العديد من الشخصيات وأهمها تلك التى أدتها ببراعة ياسمين عبد العزيز، فهى فتاة واضحة وصريحة وفيها حدة محببة وتعرف ماذا تريد بالضبط، ولذلك أحبت احمد حلمى رغم فقره الشديد وجعلته يذهب إلى خطبتها. وأمها خيرية احمد حادة مثلها ولكنها طيبة القلب وتريد لأبنتها الستر.

وهناك شخصيات لم يهتم بها بلال رغم أنها مهمة، مثل "ريكو" الذى لم نعرف عنه أى شيء، ولا صديقهما الثالث محمود عبد المغنى الذى نراه فقط فى عديد من المشاهد وهو يضطر لبيع أشعاره دون أن يكون عليها اسمه من أجل الفلوس، فمثلا لا نعرف تفاصيل علاقته بزميلته فى الكافيتريا التى يعمل بها.. ومع ذلك فإن طريقة تفاعله مع الأحداث نجحت فى رسم ملامحه النفسية. وهذا ينطبق على فؤاد خليل العجوز الذى لا نعرف لماذا يريد الانتحار ولماذا كان موجودا فى المشهد الأخير للفيلم.

أما الشخصية الرئيسية التى بذل احمد حلمى جهدا رهيبا فى تقديمها، فيمكننا القول إنها تحاول أن تتكيف مع أى شروط وتتسم بالطيبة وسعة الحيلة لمواجهة واقع صعب. والحكم على الشخصيات فى "صايع بحر" ليس بأخلاقياتها من عدمها ولكن بمدى صدقها الفنى والإنسانى. بمعنى أنه لا يمكننا الحكم عليها بقياسات خارجية تستند إلى تصورنا المسبق ولكن من خلال الفيلم نفسه وفى سياقه ومن النتيجة الإجمالية التى يريد الفيلم توصيلها لنا.

ولكن وبشكل عام طبيعة البناء الدرامى للفيلم ظلمت العديد من الشخصيات، فالقماشة التى اختارها المؤلف بلال فضل أظن أنها كانت تحتاج إلى دراما عرضية توازن بين كل شخصيات العمل ـ وخاصة الأصدقاء الثلاثة ـ حتى تعطيها أبعادها كاملة وتصب فى المجرى الرئيس للفيلم، كما كان يحتاج إلى جسارة حذف بعض الشخصيات. وأظن ـ وليس كل الظن إثما ـ أنه فضل أو اضطر لأن يفرد مساحة أكبر لبطل العمل أحمد حلمى بسبب شروط السوق التى تفضل النجم الأوحد بدلا من البطولة الجماعية. وهذا أدى إلى عدم وضوح مبررات بعض الشخصيات فى انتقالاتها، مثل خيرية أحمد التى دفعت ابنتها إلى الزواج من شخص آخر، ولكن فجأة نراها تصفق لزواج احمد حلمى منها. أو شخصية أحمد راتب الأستاذ الجامعى الذى ترك كل شيء واكتفى المؤلف بمشهد واحد وغير واضح لتبرير ذلك. أضف إلى ذلك الوقوع أحيانا فى فخ الإضحاك بأى شكل، مثل مشاهد عيادة أمراض النساء التى بدأ بها الفيلم وكانت طويلة أكثر من اللازم، رغم أنها لا تعطى إلا ملمحا واحدا للشخصية وتكررت مرة بصياغة أخرى فى المشهد الذى ادعى فيه أحمد حلمى وصديقاه أن هناك امرأة تلد فى الكابينة.

ولكن ورغم هذه العيوب فقد نجح الفيلم فى أن يخلق حالة شجن وتعاطف هائل مع شخصياته ومع مضمونه، وقد ساعده على ذلك موهبة استثنائية للمخرج على رجب، فاختياره لأماكن التصوير كان مبهرا ومفيدا للدراما وجمال الصورة، مثل المكان الذى يعزم فيه احمد حلمى خطيبته ياسمين عبد العزيز على سمك بحضور صديقيه محمود عبد المغنى و"ريكو"، وطريقة تقطيع اللقطات للمونتيرة داليا الناصر والتى يختمها بالانتقال الناعم من جلستهم على شاطئ البحر - والكاميرا تصور من أعلي- إلى البحر اللامتناهى مع الحفاظ على صوتهم الذى يخفت تدريجيا. والمشهد الذى يقف فيه احمد حلمى تحت بلكونة البنت المصرية التى كان يظن أنها يونانية ونراها عندما تخرج لتشاهده من وجهة نظره، فى حركة بطيئة وممتعة بتقطيع متكرر فيصلنا إحساسه المنبهر بها. إن قدرة على رجب على اختيار المكان أضافت الكثير من الدلالات للفيلم، كما أنها منحته مذاقا يختلف تماما عن الإسكندرية التى رأيناها مئات المرات فى أفلام السينما المصرية.

كما استخدم التقطيع المتوازى أحيانا وخاصة فى المشهد الافتتاحى للفيلم، فهو يمزج بين حركة احمد حلمى وهو يركب العجلة فى الشوارع وبين حركة طائر النورس على شاطئ البحر، فيمنحنا فرصة معرفة الشخصية بدون كلام أو بطريقة يصعب شرحها فى جمل حوارية. أضف إلى ذلك النعومة الشديدة فى المشاهد التى تجمع الأصدقاء الثلاثة على شاطئ البحر أو فى الغروب، وهنا تبرز موهبة مدير التصوير محمد شفيق الذى يعرف جيدا كيف يوظف الضوء والظل فى وزاوية التصوير، وفى مشاهد الشرب التى تجمعهم مع أحمد راتب وطريقة حركة الكاميرا التى جعلتنا نراهم من خلال قبر رجل ميت، وساعد ديكور حمدى عبد الرحمن وملابس داليا يوسف على منح المشاهد ليس فقط واقعية ولكن عمق درامى. لقد استطاع على رجب أن يوظف بحرفية ومهارة كل هذه المواهب فى فريق الفيلم، ولم يقع فى الفخ الشهير وهو الاعتقاد بأن دوره فقط هو نقل الحوار للمتفرج من خلال صورة مهما كانت، ولكنه تعامل على انه كمخرج دوره تأليف العمل من جديد ليمنحه روحه وموهبته.

فيلم "صايع بحر" يملك مؤلفه بلال فضل ومخرجه على رجب طموحا فنيا وموهبة استثنائية، وأتمنى ألا نفقدهما فى الزحام، زحام الفن والحياة.

العربي المصرية في  7 مارس 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

مي المصري.. اطفال المخيمات اصبحوا يحلمون بالحب والسينما

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

في فيلم "صايع بحر":

بانوراما حانية لبشر يقاتلون لمجرد البقاء على قيد الحياة

سعيد شعيب