كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما

 

جديد الموقع

 

( 1 )

هذا العنوان ليس صحيحا تماما ! فذاكرتي أتلفت ، الى حد مؤس ، الكثير من دفاترها. لذلك لجأتُ الى عكازات - مصادر تعينني عند تصفح ما بقي هناك. وفكرة التصفح جاء بها العزيز حسن بلاسم في أثناء أحاديثنا الإنترنتية التي صارت من مسرّاتنا اليومية. بالطبع شكوت ً من خيانات الذاكرة التي لا تزال تثابر على المحو... وهكذا كان لابد من العكازات لكنها لمعوّقي الدرجة الثالثة حسب رغم نكوص الذاكرة المعيب ! الغريب في الأمر أن ذاكرتي تستعيد شيئا من عافيتها عند تصفح دفاتر العقود الأولى من الغرام بالفلم حين كنت في مدينتي البصرة ثم بغداد ثم ووج البولندية وبعدها العاصمة وارشو . رغم جوهرية التجارب الأولى أقول وكلي أسف أن القليل من المنجزات الباهرة للسينما كنا قد عشنا معه في البصرة. ولا أعتقد أن الذنب يعود ، مثلا ، الى دار السينما المسماة ( الوطني )، في الواقع كانت هناك داران " صيفية " و " شتوية " كانت موضع دهشتي الدائمة إذ كانت تعرض افلام الدرجة الأولى أيضا بصورة منتظمة. شاهدنا هناك أفلام وايلر وهيوستن وزينيمان ووايلدر وغيرهم من أساتذة الفلم الأميركي في الأربعينات والخمسينات خاصة. وكل ما كنا نفتقده عروض ( أفلام التأسيس ) . مثلا لم أشاهد أفلام غريفيث و دريير و آيزنشتاين وكلير ورينوار وكبار المكتشفين الروس خاصة إلا حين كنت في المدرسة العليا للسينما والمسرح في ووج البولندية. كانت للمدرسة دار عرض خاصة تقيم فيها يوميا هذه ( الولائم الروحية ). وهناك دار اخرى في المدينة كانت تنافسها في إقامة ( ولائم ). ففي هذه الدار شاهدت بصورة منتظمة و لأكثر من مرة ، ( الأفلام – المنعطفات ). كنت اسجل في دفتر ضخم كل تجاربي كمتلق وطامح في الخلق الفلمي آنذاك . ورافقني الدفتر الى نهاية الثمانينات . حينها فقدت اشياء عزيزة كثيرة وبينها هذا الرفيق القديم ...

بالطبع لم أشاهد الأفلام وفق جدولها الزمني أي سنة الإنتاج. ربما كان الإستثناء الأفلام البولندية والسوفييتية وغيرها. كانت الأفلام تعرض في تلك الدارين وفق منهج مدروس . مثلا سنحت لي الفرصة لمشاهدة كل أفلام الواقعية الجديدة الإيطالية والشاعرية الفرنسية و الأخرى من ( الموجة الجديدة ) ، في كلتي الدارين. وفي تلك السنوات التي لم تودع تماما آثار الحرب العالمية الثانية كان تلقي الفلم الإيطالي خاصة يختلف جذريا عن تلقيه في السبعينات وما بعدها. لكن لأبدأ الكلام عما حصل بعد الحرب مباشرة :هذه الثانية كانت تختلف كثيرا عن سابقتها . فهذه المرة كانت الضحايا وليس بين الجنود وحدهم بل كان هناك القصف الوحشي للمدن ، و الإحتلال الذي لا يقل وحشية ، ومعسكرات الموت حيث كان مبرمجا إفناء البشر ناهيكم عن الإفق الكابوسي - إنتصار الشمولية التي توقظ ، دائما ، تلك الغرائز التي تعود وحتى الى ما قبل حقب الكهوف... كانت أفلام السنوات الأولى لما بعد الحرب متنوعة رغم أن الدمار و الذاكرة التي لم تلتئم جروحها بعد ، كانا الواقع اليومي للإنسان الأوربي خاصة. وفي الحقيقة كان الأهم هو التأثير غير المباشر للحرب على فن الفلم. و لم يقتصر هذا التأثير على المضامين الحربية أوعلى ظهور حياة جديدة بعد تجارب الحرب والمقاومة بل خص كامل تاريخ الفلم مما جاء بعواقب بالغة الأهمية بالنسبة لمستقبل السينما. بعبارة أخرى كانت السينما الخارجة من فظائع الحرب قد إكتسبت سمات جادة وصارت تلتفت بإنتباه أكبر الى الواقع الحقيقي ساعية الى خلق بون ليس بالصغير بينها ونزعات ( مصنع الأحلام ) الهوليوودي وغيره . وحتى أنه قبلها ، أي في نهاية الثلاثينات ، بقيت السينما ظاهرةٌ ُمخترَعة أو كما يقال ( أحلاما معلبة ). بالطبع كان ولا يزال المنحى الذي لم يضعف كثيرا ، هو البحث عن الإثارة ومواصلة الأخذ ب( الخارق ) الذي يعرف كيف يزيد من ريع شباك التذاكر ! وجديد ما بعد الحرب كان بروز المنافس لهذا الخارق وهو تناول الحياة كما هي ...

كانت من النتائج المنطقية للحرب أن تولد أفكار جديدة في عالم الفلم . و هناك باحثون يرجعون جزءا منها الى التأثير الهائل الذي كانت قد لقيته النزعة التسجيلية لدى المراسلين الحربيين الذين رافقوا عمليات الحرب و التحرير في كل مكان. وكانت من بين هذه الأفكار تلك التي تفيد : هل على المتفرج أن يبقي دائما الواقع ومشاكله في الخارج قبل دخوله دار السينما ومن ثم الإلتحام بعالم ملون للحكايات المخترَعة تماما ؟ والسؤال التالي الذي يمليه المنطق : هل هناك حقا دائرة واحدة لابد أن ُتحصر داخلها المواضيع والنزاعات التي تتصدرها تلك المثيرة والغرائبية ؟

في سينما ما قبل الحرب كانت تتربع على الشاشة غريتا غاربو التي قطعت كل الصلات مع الواقع ، كان هناك لوريل وهاردي حين فجّرا الضحك الذي صار هنا النقيض لما كان يجري في الواقع الفعلي ( مفهوم ٌ أني لا أستثني هنا المفعول العلاجي للضحك ولا التقليل منه كظاهرة سايكو – فيزيقية ) . إلا أن ما نشأ نتيجة الحرب من منعطفات دفع الفلم الى التفكير بأنها ليست منعطفات شكلية بل بالغة الراديكالية. وكان موطن التفكير الجديد إيطاليا ، وبالضبط جماعات النقاد والسينمائيين الذين نشطوا عند نهاية الحرب بصورة نصف شرعية . كان هؤلاء على إيمان مطلق بأن على الفلم أن يسهم في بناء نظام إجتماعي جديد. وبعد التحرير كان كل شيء لدى هذه الجماعات قد إختمر وحان تنفيذ ما خطط له. إلا أن مدينة السينما في روما ، وعدّت إحدى أكبر هذه المدن في أوربا ، كانت قد تعرضت لقصف طائرات الحلفاء و بعدها كانت تستخدم كثكنات وقاعدة للدبابات البريطانية ثم كمعسكر مؤقت لللاجئين. بهذه الصورة كان رجال الفلم محرومين من قاعدتهم التقنية. وثمة أسطورة تشير الى أن هذا الدمار الذي لحق بالستوديوهات الإيطالية قد أرغم السينمائيين على الخروج الى الشارع و إظهار إيطاليا الحقيقية وعلى خلفيتها تقديم بطل جديد ُمحدَّد تأريخيا. وهذه الظروف التقنية التي جاءت مصادفة ً بالطبع ، لم تفلح في إيضاح ما حصل من إنفجار فلمي : " روما مدينة مفتوحة " ، بيزا " ، " الشمس تشرق " ، " أطفال الشوارع " ، " السباق المفجع " ، " الأرض تهتز " وإلخ. وشأن الكثيرين لا أظن بأن تلك المصادفة قد سببت ظهور ذلك التيار الضخم : الواقعية الجديدة التي غيّرت مجرى تأريخ الفن السابع. إذن ليس الباعث هو تدمير التشينتشينتا Cinecentta بل دفع هذا الفن إلى مهام جديدة وأكثر صعوبة . بالطبع فحقيقة نشوء وعي جديد ذي طموح أكبر لدى السينمائيين صارت الحافز الى مغامرة الواقعية الجديدة ...

لويجي جياريني L. Chiarini أحد خالقي و منظري التيار الجديد كتب فيما بعد عن الإنعطاف الجديد : " هي الحرب وحركة المقاومة قد حفرتا هوة عميقة بين الأمس واليوم. في هذه الهاوية ولد وعي جديد قاد بصورة تلقائية من الطبيعية naturalism الى الواقعية الجديدة... كان الغرض نبذ شتى الإستثناءات والتصنع والفنطزة المتكلفة بالمعنى الإستعراضي ، ورمي مسطرة القصة بمبادئها التقليدية عن تصعيد التوتر والإنعطافات المفاجئة في ( الأكشن ) والأحداث المعقدة... كان هناك تحسس بالحاجة الى مسك الإنسان وليس في العلاقات مع الآخر بل مع كامل المجتمع ، إذ لاينبغي ترك الإنسان وحيدا مع دراماه الفردية ، فهو جزء من المجتمع الذي له دراماه و قضاياه المشتركة ".

رغم كل شيء كانت هذه لغة لم يجر الكلام بها لغاية ذلك الحين في السينما. والحق انها لم تكن مسموعة خارج إيطاليا رغم حالات تأخيرمتفاوتة الطول هنا وهناك. كما أنه ليس في كل مكان نشأت ، مباشرة ، أفلام تحاكي أفلام هذه المدرسة الإيطالية. غير أن التشبع بمبادئها الأساسية كان ملموسا : البطل الشعبي بنزاعاته البسيطة النابعة من حياته اليومية ، الخلفية الصادقة للأحداث التي نقلت من الأتيلييه الى الشارع وغيره ، بإختصار: جرى تقليص الوهم السردي الى الحد الأدنى ، طرد حالات المصادفة العجيبة ، اللجوء الى تقنية محرومة من التفنن فيما يخص تكوين الصورة و التأثيرات الضوئية ، وفي الأخير إختيار ممثلين يقدمون شخصيات عادية تتناقض تماما مع الصورة التقليدية للبطل أو البطلة ( غالبما ما تم إختيار ممثلين غير محترفين يؤدون أدوارهم الحياتية نفسها ).

وطبيعي أن تستعير الأفلام الأخرى ، وخاصة التسلوية – التجارية ، أكثر من واحدة من هذه الصفات إلا أن هذا النقل لم يكن يخلو من السطحية التي لم تتناسق مع الأسس التقليدية لبقية الفلم. وفي الحقيقة حصلت حينها تأثيرات كاريكاتورية. إلا أن كل هذا جاء تأكيدا على أنه بعد قيام الواقعية الجديدة صار من الصعب العودة الى الإنتاج النمطي ل( مصنع الأحلام ).

الظاهرة الأخرى التي أرهصتها أوضاع ما بعد الحرب كانت نشوء صناعات السينما الوطنية ودخولها الأسواق العالمية. أكيد أنها كانت أيضا ضربة موجعة للإحتكار الهوليوودي الذي كان على يقين بأنه قادر على تلبية كافة إحتياجات البشرية في هذا الحقل، وفي أضعف الأحوال ليقم بالمهمة مركز ثان لاغير. وكانت هذه ( العولمة ) المبكرة تفترض أنه يكفي أن تتركز الرساميل وأحدث التقنيات وأكبر المواهب والقابليات من جميع البلدان في مركز فلمي واحد. وقورنت هنا الحالة بصناعة السيارات والتي لايمكن أن تنشا في كل بلد ولذلك من الأنجع إقتصاديا وتقنيا أن لا تنشأ مائة من مصانع السيارات في بلدان متوسطة أو صغيرة .إلا أن عالم الفلم إختط طريقا آخر وليس وفق منطق شكلي زائف بل آخر حقيقي وهو أن للفن أكثر من وطن واحد...

إذن جاء المخاض الأول في السنوات 1945 – 1950 : الواقعية الجديدة ، أولى الإشارات الى ولادة فلم هوليوودي جديد ، أفلام من صناعات وطنية جديدة أو ضعيفة كسبت قوة كافية كي تعلن عن حضورها في عالم الفلم ، الجديد في الفلم السوفييتي كمواصلة لإنجازات الماضي لم تخلو من الطموح أحيانا.

وفي الدفتر التالي سأتكلم عن أفلام هذا المخاض.

 

( 2 )

روما، مدينة مفتوحة Roma Citta Aperta

روبرترو روسيلليني ( 1945 )

شوارع روما مليئة بالجنود الألمان. حشد الجياع يقتحم أحد المخابز . القس بييترو يحمل في كتابٍ مليون ليرة لحاجات لجنة التحرير. السيناريو يتكلم عن ربيع عام 1944 ( وفي أثناء الربيع نفسه ) . كتبه روسيلليني وأميدي Amidei وفيلليني الذي لم يكن معروفا آنذاك . كان هذا أول فلم بعد التحرير وسقوط الفاشية. وهكذا بدأ هذا الفلم حركة فكرية ضخمة في فن السينما قارنها أحد النقاد بإنهيار الفلم الصامت السوفييتي في العشرينات. وأصبح فلم روسيلليني إشارة باهرة لللإندياح الهائل للإتجاه الجديد : الواقعية الجديدة . فقد كانت المهمة آنذاك ردم تلك الهوة المريعة التي تفصل الحياة الحقيقية عن العروض الفلمية المخترَعة ( تمّ تنفيذ الفلم جزئيا فقط في الأتيلييه ). و كان سائدا الإقتناع بأن روسيلليني قال بواسطة هذه اللغة الجديدة والفوتوغرافيا التسجيلية ، وليس حقيقة واحدة فقط بل تلك التي كانت الأهم بالنسبة لإيطاليا المهزومة : الحياة الجديدة تأخذ بدايتها من حركة المقاومة. وفي الواقع كانت تلك الحقيقة أخلاقية قبل كل شيء. فرئيس الغستابو يقول للقس السجين : " تحالفكم مع الشيوعيين هو شيء مرحلي ، فهم سيتوجهون ضدكم ، وليخبرنا القس عن الشيوعيين وحدهم بعدها سيكون مطلق السراح ! ". وفي الفلم هناك مشهد للقس وهو يصلي من أجل شيوعي يحتضر..

صحيح أن إيطاليا خسرت الحرب لكنها فازت في معركة أخرى من أجل فن فلمي للقرن العشرين عركته التجارب وقادته الى إكتشافات جديدة . كان فلم روسيلليني خشنا وضرب بعرض الحائط النهاية التقليدية مما إعتبر من الميزات الإيجابية فيما بعد. وكان هذا المخرج من قال ثلاث كلمات بسيطة : هكذا تبدو الأمور. وبالفعل كانت بعض المشاهد لاتطاق أي كما هي في الحياة...

 
أطفال الشوارع Sciuscia / Shoeshine

فيتوريو دي سيكا ( 1946 )

قال الإيطاليون إن الحرب فرضت على السينمائيين أن يقولوا الحقيقة. وقول الحقيقة فلميا صار يسمى بالواقعية الجديدة التي بدأت بتناول موضوع الحرب نفسه لكنهم سرعان ما أدركوا بأن عواقبها هي الأهم. في فلم ( أطفال الشوارع ) ظهرت شراكة من نوع فريد بين فيتوريو دي سيكا وتشيزاره تسافاتيني

C. Zavattini . الأول كان ممثلا محترفا في البداية. والثاني أصبح آيدولوجي الإتجاه الجديد. قال مرة ً عن أولوية المواضيع المعاصرة : " الإنسان الذي يتعذب أمام أبصارنا يختلف تماما عن ذلك الذي تعذب قبل مائة سنة. ولا يمكن لعبء التقاليد أن يمنعني عن التكرس الكلي لقضية التحرر من عذاب هذا الإنسان المحدد والملموس " . إلا أن هذه الأقوال تكشف بعدا واحدا حسب من أبعاد ( المعجزة ) السينمائية الإيطالية التي يصح مقارنتها بالأفلام الروسية العظيمة من نهاية العشرينات والتي كانت إكتشافا مفاجئا للهوية القومية وتزامنها مع إنطلاقة مواهب الخلق.

في ( أطفال الشوارع ) كانت قضية تسافاتيني آلام صبيين من صباغي أحذية الجنود الأميركان في تلك الفترة الصعبة لما بعد الحرب. كان حلم الصبيين الجميل والساذج إمتلاك حصان أبيض. وبعدها يتهمان بالسرقة ويلقيان في دار لإصلاحية الأحداث. بعبارة أخرى يحطم عالم البالغين عالم الأطفال البريء و يفصم عرى الصداقة بين الصبيين. أحد الصبيين يأخذ بقوانين عالم البالغين و يسبب ، رغم أنه لم يقصد ذلك ، موت الصبي الثاني الذي كان هاربا على ذلك الحصان. وفي نهاية الفلم يبكي الصبي الأول على فقدانه الصديق و بلاد أعوام الطفولة ...

عن هذا الفلم قال أورسون ويلز : " ... الكاميرا إختفت ولم يكن هناك من شيء عدا الحياة ". والناقد الأميركي جيمس أيج J. Agge : هذا أحد الأفلام القلائل المليئة بالحياة والحكمة والتي صنعت لغاية الآن".


العيش بسلام Vivre in pace

لويجي تسامبا ( 1946)

القس بييترو من فلم ( روما مدينة مفتوحة ) كان ألدو فابريتسي ِ A. Fabrizi ذلك الممثل الكوميدي من المسارح الرخيصة. وعندما أعلن الفلم الإيطالي الجديد عن حاجته الى وجه جديد ، وجه الإنسان البسيط الذي أخذ يشغل مكان ( فتيان الشاشة ) من عالم الصالونات المبني من ورق المقوى في الأتيلييه .. .هذه المرة أصبح فابريتسي قرويا مرحا يقطن في كوخ منعزل. وتسامبا أراد أن يقدم فكرة أن حلم الحد الأدنى لدى الإنسان الطبيعي ، أثناء الحرب ،هو محض بطر وترف. لا يمكن ( العيش بسلام ) إذا كان الإنسان صادقا مع نفسه ويسلك بصورة شريفة. ففي كوخ هذا القروي يختبيء أمريكيان هاربان من الأسر الألماني. القوميسار الألماني قروي مرح أيضا . وكان أحد الأسيرين أسود البشرة . وهكذا يعرف القوميسار الآن ( جريمة ) القس . لكن ما العمل ؟ ينفجر ضاحكا ، و الزنجي أيضا ، ولأنه ( إنتهت الحرب ! ) . لكنها ، في الواقع الفعلي ، لم تكن قد إنتهت بعد. إذ سرعان ما تتحول تلك الكوميديا الخفيفة الى تراجيديا على أيد ي عسكريين ألمان غير معروفين ...

وكان قصد لويجي تسامبا إظهار حقيقتين. الأولى عن قوانين الحرب الوحشية ، والأخرى عن عالم آخر يزمع تشييده من كتب عليهم النجاة .  


مطاردة مفجعة Caccia Tragica

جيوسيبي دي سانتز ( 1947 )  

كان هناك مليونا هكتار من الأرض غير المزروعة ، بعد الحرب. جزء منها كان ملغوما لكن أصحاب الأراضي لم يجدوا مصلحة في إزالة الألغام . فزيادة مساحة الأرض المزروعة يعني إنخفاض أسعار الحبوب في إيطاليا الجائعة مما يعني خسارة لهؤلاء والمضاربين . الفلاحون الذين هم بلا أرض يزرعون تلك الأرض المتروكة . رد الفعل كان متوقعا. الإقطاعيون ينظمون هجوما مسلحا كي يترك الفلاحون الأرض وتعاونيتهم التي شكلوها. وفي فلم دي سانتز تبدأ أيضا مطاردة حقيقية لفلول الفاشست الإيطاليين وحلفائهم من رجال الغستابو. وكما قيل حينها كان الفلم يعكس أوضاع إيطاليا جديدة كانت تتعلم الديمقراطية. دي سانتز ، وكان ناقدا قبل أن يقف وراء الكاميرا ، ضخّ بفلمه دماء جديدة في تلك الواقعية الوليدة. وما ميّز هذا الفلم أيضا ، وبالتالي أسلوب دي سانتز ، هو ملاحقة الراهن والميل الى المؤثرات القوية.


سارق الدراجة
The Bicycle Thief

فيتوريو دي سيكا ( 1948 )  

أصبح هذا الفلم يرمز الى ذروة صعود الواقعية الجديدة. قام الفلم على قصة غير مخترعة بل أخرى كان من الممكن قراءتها في الصفحات الأخيرة من الجرائد الإيطالية آنذاك. بالطبع كانت خبرا صغيرا جدا : سرق أحدهم دراجة في وضح النهار...

البطل لاصق إعلانات سرقت دراجته. بدونها يفقد عمله. زوجته و إبنه الصغير و أصدقاؤه يقومون بحملة بحث عن الدراجة المسروقة. وفي الأخير يصلون الى السارق الذي هو أشد بؤسا من المسروق. البطل كي يحصل من المجتمع على ملكيته عليه أن يسرق دراجة لكنه يخجل من أن يكون إبنه شاهدا على يزمع فعله. إلا أن الصبي يشاهد كل شيء : السرقة والقبض على أبيه و ضربه و إذلاله. هذا الطفل الذي كان المعيل الحقيقي لعائلته يفهم الموقف. ويعود الإٌثنان الى البيت بتجربة ناجحة هذه المرة وهي مسكهما بخيط من الثقة المتبادلة. وعن الفلم الذي وضع السيناريو له كتب تسافاتيني : أنا أثق جدا بالوضوح الشاعري والأخلاقي و الإجتماعي للحياة التي أعتبرها العرض spectacle الأكبر... إن كل ساعة من اليوم وكل مكان كل شخص يمكن أن يصبح كل هذا مادة حكائية. لا ينقص ذلك شيء غير الراوية ( السارد ) الذي يعرف المراقبة و إيضاح العلاقة بين جميع الظواهر المعتمدة بعضها على بعض.

بطل الفلم كان عاملا حقيقيا إلا أن السيناريو الناضج الذي إستغل أدوات التحليل النفسي وعمل دي سيكا كمخرج ، جعلا منه نجما تحدى بكل جدارة ، نجوم السينما التقليديين...

الأرض تهتز La terra trema

لوتشينو فيسكونتي ( 1948 )  

ممثل غير محترف يؤدي دوره الحقيقي ، قصة بسيطة منتزعة ، كما يقال عادة ، من صميم الحياة ، وزنٌ للنزاعات الإجتماعية لايمكن الإستخفاف.هذه الميزات للواقعية الجديدة لم تكف فيسكونتي الأرستقراطي الماركسي . فقد وجد أن هذه الواقعية لم ُتظهر الجدة في بناء العمل الفلمي. معروفة هنا كلمته بأن هذه الواقعية شيّدت من طابوق جديد مبان قديمة تسندها أسس تقليدية فيما يخص الدراماتورغيا. ولتنفيذ فلمه ( الأرض تهتز ) إختار فيسكونتي صقلية المتخلفة . توجه الى هناك بدون سيناريو ، بدون حوارات ، بدون ديكورات . لم يكن هناك شيء عدا خطة عامة لكامل الفلم. وكما قال لم يرد أن يضع الكاميرا أمام الحياة بل أن يتلصص عليها ، أن يراقبها من ثقب... و بهذه الصورة جاء فلم من نمط وثائقي خاص أي بدون ممثل وبدون ستوديو وحتى اللغة كانت تلك اللهجة الصقلية التي لا يفهمها معظم الإيطاليين. أكيد أن فسيكونتي كان ( متحيزا ) في وثائقيته هذه. لكنه كان تحيزا عادلا و نزيها أيضا . ففيه كشف الوجه الحقيقي للحياة هناك. رغم ذلك بقي هذا الفلم بحقائقه غير المجَّملة التي كانت ثمرة تلصص الكاميرا ، غير مفهوم الى أمد ، لكن ليس بالطويل. وبعدها إعتبر رائداً ل( السينما – الحقيقة ) الفرنسية وللتيارالمضاد للخلق الدراماتورغي التقليدي .

و كما ذكرت كنت قد شاهدت كل أفلام الواقعية الإيطالية لكني إخترت هذه الأفلام من دفتر الذاكرة لكونها ذات طابع تمثيلي لايحتمل أيّ نقاش مما لا يعني بالطبع أن بقية الأفلام التي لم أتكلم عنها هي محرومة من هذا الطابع. كما لايعني أن لدفتري طموح المؤرخ...

 ( 3 )

في البصرة وبغداد كنا نقرأ الكثير في الخمسينات عن الفلم الفرنسي لكن القليل شاهدناه. فأنا لا أتذكر أفلاما فرنسية عدا بضعة بينها تحفة هنري كلوزو ( ثمن الخوف ) من عام 1953 . وبعيد الحرب كانت هذه السينما تعود ، ككل ، الى نزعاتها القديمة : الإستيتيكية ، فلمنة الأدب ( الأنيق ) خاصة ، الإيغال في ما يمكن تسميته بالتشاؤم الإجتماعي الرهيف أو الشاعرية القانطة. أقول : كلل ، فقد كانت هناك إستثناءات ذكرتنا بالواقعية الجديدة الإيطالية. ولعل النموذج الفرنسي لهذه النزعة كان فلم رينيه كليمنت:


معركة السكك الحديدية ( 1945 )
La bataile du rail

Battle of the Rails

رينيه كلمنت R. Clement  

شأن أفلام الواقعية الجديدة الإيطالية كان ممثلو هذا الفلم غير محترفين . معظمهم من عمال السكك ورجال المقاومة. وهذا الفلم عومل كنتاج تسجيلي متوسط الطول أضيفت إليه فيما بعد مشاهد غير فعلية ، مخترعة fictional مع حوارات كتبتها كوليت أودري C. Audry . الجدير بالذكر هنا أن هنري أليكان H. Alekan كان مصور الفلم . وسبق له أن تعاون مع بيلي وايلدر في فلم ( عطلة في روما ). وكان أليكان سجينا عند الألمان أثناء الحرب لكنه هرب وإلتحق بحركة المقاومة. ومعلوم أنه كان مصوّر فلم جان كوكتو ( الجميلة والوحش) في عا م 1946 . وفي حصيلته الرائعة تصوير أفلام معروفة لجوزيف لوزي وآبيل غانس وفيم فينديرز.

كان فلم ( معركة السكك الحديدية ) مزيجا فلميا مدهشا لنزعتين بالدرجة الرئيسية –التسجيلية والأخرى لأفلام الإثارة التقليدية ( تذكرتُ المونتاج المتقن الذي أصبح فيما بعد ، الصفة المميزة لهذا المخرج ). وبين النقاد من تساءل : أين ولدت الواقعية الجديدة : في إيطاليا أم فرنسا ؟ بالطبع في إيطاليا إذا خص الأمر الإسم والكم أيضا.


أنتوان و أنتوانيت ( 1947 )
Antoine et Antoinette

جاك بيكير J. Becker  

كان يبدو أن تجارب الحرب والإحتلال الكابوسية قد َعدّلت مسار الفن والخلق عامة كي يتجها صوب ... الواقع. بالطبع لكل فنان رد فعله إزاء أحداث العالم الخارجي و إنعكاساته على ما يتفاعل في الجوّانيات. وفي هذا المكان من الصعب القيام بتناول واف لمثل هذه الإشكالية التي تخص، في واقع الحال ، أكثر من فرع للمعرفة ( علم النفس ، علم الجمال ، علوم الطبيعة عامة ). لذلك أجد من الصواب الكلام عن الظاهرة وليس أسبابها المباشرة والأخرى. الحقيقة الثابتة أن السينمائيين الفرنسيين عادوا بعد الحرب الى ماكان قبلها.

قيل عن جاك بيكير بأنه كان طبيعيا naturalist وأكثر من كونه واقعيا . كان هاجسه ، وهو أمر إيجابي بالطبع ، العناية الفائقة بالتفاصيل التي تخص الوسط والمشهد الطبيعي و الديكورات الداخلية. في فلمه ( أنتوان وأنتوانيت ) أفلح في إنتزاع إعجاب المتفرج بفضل ذلك الكشف المؤثر للجمال الخفي في الحياة اليومية. و يتكلم الفلم عن قصة حب بين أنتوان الطبّاع والبائعة أنتوانيت. وهذاالعشق كان غريبا عن الطبعة الرومانسية التي تجيد روايتها المجلات النسوية الرخيصة ،فقد كان يصعد ويهبط في دوامة اليومي ، في صخب الشجارات التي تنفجر لسبب أو بدونه . وفي الحقيقة كانت الأسباب في الفلم كثيرة : مكواة معطوبة ، حلم بشراء دراجة نارية أوفستان جديد ، أو إما الذهاب الى السينما في يوم الأحد وإما مشاهدة مباراة لكرة القدم... كان هذا الفلم نموذجا ل( واقعية جديدة ) لكن على الطراز الفرنسي. ففيه لم يبتعد بيكير عن الحياة اليومية أيضا . ولعل الفارق الوحيد بين فلمه وأفلام الشارع الإيطالي هو أن الماكيير تدخل قبل أن تقف بطلة الفلم كلود مافيC. Maffei أمام الكاميرا.. لكن رغم كل شيء يبقى هذا الفلم تسجيلا صادقا لحياة فعلية لاتخلو من جمال روحي ورقة الناس البسطاء التي لاتتكشف دائما عند أول لمسة...  


الخارج من اللعبة ( 1946 )
Odd Man Out

كارول ريد Carol Reed  

هذا إسم لعبة أطفال أنكليزية . تبدأ بالعد لغرض إستثناء طفل واحد. في الفلم كان ( الخارج من اللعبة ) ثوريا إيرلنديا . إسمه جوني، وجرح أثناء هجوم على أحد المصارف. الفلم يصوّر ( جلجلة ) رجل ينتظره الموت. والكاميرا تتابع إحتضاره والإختفاء التدريجي للأمل في الإنقاذ. واصبح التجوال التراجيدي للبطل رمزا لعبثية قتال كهذا. وكان هناك نقاد أومأوا الى تأثيرات للوجودية الفرنسية في فلم ريد . لكنهم بالغوا في الأمر. فوحدة الإنسان المحاصرقد ُصورّت ، هنا ، من الخارج ، من زاوية ردود فعله الفيزيقية. فقبل كل شيء كان جوني يناضل في تلك ( الجلجلة ) من أجل حياته حسب... ويطرح ريد أكثر من سؤال واحد ، من خلال بطله ، يخص الحياة والغاية من كل هذا القتال. أصحيح أن الجميع يستحقون مثل هذه التضحية. فصاحب المطعم الذي لجأ جوني إليه لا يريد مشاكلا مع البوليس ولا مع رفاق جوني . فنان ( مجنون ) كان غرضه الوحيد تلوين تعابير وجه إنسان مشرف على الموت. أما حبيبة الرجل فتريد ، و بكل ثمن ، تخليصه من الحصار والمطاردة.

إن لهذا الفلم بناءا محكما ومدروسا بشكل متقن للغاية. فكل مشهد نعرف وقته ( البرج ذو الساعة يعلو على المدينة ) وفي أيّ فصل من السنة ( تسيح على وجه الملاك المنحوت قطرات الماء عند الظهر ، و تنجمد في المساء ). الممثل المعروف جيمس ميسن يفلح في العثور على آلاف التعابير لإنطفاء الحياة في جسد هذا الجريح.

لقد أصبح هذا الفلم ( العلامة الفارقة ) لكارول ريد ، سوية مع فلمه الآخر ( الرجل الثالث ) المطارد أيضا و الذي تنتهي حياته في مجاري فيينا هذه المرة ...  

 

أحسن سنوات حياتنا ( 1946 ) The Best Years of Our Life

وليم وايلر William Wyler  

ثلاثة جنود يعودون من الحرب. الأول فريد Fred كان طيارا وعاد الى مهنته السابقة كبارمان. الثاني هو العريف آل Al عاد الى عمله كنائب مدير مصرف إلا أنه يلاحظ الآن كيف يستغل المدير حاجة المحاربين السابقين الى المال. الثالث هو البحار هومير Homer الذي فقد ذراعيه في الحرب ، وخطيبته بعد عودته . فهو لا يريد منها مشاعر الشفقة وحدها. فريد يفقد وظيفته لأنه صفع احدهم حين قال : ( لقد أخطاتم مع هذه الحرب فقد كان ينبغي أن تعملوها ضد الحمر ! ). عامة إنقلب سلم القيم عند رفاق السلاح هؤلاء وصار الدولار في قمته. في الحقيقة تقيّد وايلر بالقاعدة الهوليوودية عن ( الهابي أند ) وحلَّ جميع العقد والمشاكل ( هومير أخذ يثق بنفسه وبحب الفتاة وليس شفقتها، أما فريد فتزوج من إبنة آل ). غير أن الفلم طرح على أميركا السؤال المهم عن الحرب عامة . ووايلر كان جنديا أيضا لثلاث سنوات. قال مرة ً : ( الحرب علمتنا أن نفهم العالم بصورة أفضل . وبعد جثت الموتى من المعسكر في داخاو نحن أناس آخرون . أما هوليوود فهي لا تعكس الأوقات التي عشناها ! ). في الحقيقة بإمكان هذه الجملة أن تصبح مقدمة لأكثر من عشرة أفلام أميركية هي قريبة من الواقعية الجديدة الأوربية. إلا أن النطق بمثل هذه اللغة أصبح أمرا ًغير ممكن بعد عام 1950 حين جاء مكارثي...

أكيد أن من أسهم في نجاح فلم وايلر كان ايضا روبرت شيروود الكاتب الأميركي المعروف . فهو من كتب سيناريوه الذي نال الأوسكار. و قبلها ُمنح شيروود الأوسكار على سيناريو فلم هتشكوك ( ريبيكا). معلوم أن شيروود ، شأن وايلر ، ساهم في الحرب وعرف جيدا ما تعنيه تجاربها.  


المأخوذة ( 1945 )
Spell - bound

ألفريد هتشكوك  

يتفق معظم النقاد بأن هتشكوك أستاذ الإثارة الدرامية هو الممثل الرئيسي للسينما التسلوية التي تريد أن تثير المتفرج و ليس مخاطبة مشاعره وهمومه الأعمق. بالطبع دفع هتشكوك بمشغل الفلم المثير الى حالة شبيهة بالكمال بفضل المونتاج و تصعيد المؤثرات والبناء المتين لكل ( فنون ) الفلم . وكان هو القائل : ( الدراما هي الحياة التي أزيلت منها بقع الضجر ! ). وكان النقد الفرنسي قد بالغ كثيرا حين إعتبر هذا المخرج الإنكليزي – الأميركي فيلسوفا ً ينطق بالرموز... لا أحد ينكر بأن كل سنتمتر من شريط هتشكوك لا يمكن قصّه ! وهذه الحقيقة نلمسها بشكل واضح في ( المأخوذ ة ) الذي إستغل هتشكوك فيه المواضيع التي كانت على الموضة مثل التحليل النفسي الفرويدي و... تصوير سلفادور دالي ! فالإسباني صنع بعض ديكورات الفلم . وكان الإثنان ، هتشكوك و دالي ، قد أرادا للديكور أن يعبّر عن حالة الإنتقال من مستو موضوعي الى آخر ذاتي ليس الغرض منه سبر نوايا البطل فقط بل القيام بطرح حسّي لحالته النفسية التي يصعب التعبيرالدقيق عنها بالصورة غير المباشرة أو أخرى لاتخلو من التعقيد.

في هذا الفلم تمسك هتشكوك أيضا بقاعدة ( النهاية السعيدة ) الهوليوودية . فالبطل ( غريغوري بيك ) يتخلص من عقدته بجهود البطلة الجميلة ( إنغريد برغمان ) أيضا...

 

الزهرة السحرية (1945 )

ألكساندر بتوشكو Alexader Ptoushko  

في تلك الأعوام عاد الإنتاج الفلمي السوفييتي الى مستواه لماقبل الحرب بل تخطاه وخاصة فيما يتعلق بتنوع المواضيع التي كانت في كل الأحوال لا تنحرف إلا قليلا عن التوجيهات العليا. قصة هذا الفلم مأخوذة من نتاج الكاتب الفنتازي بيوتر بازوف الذي عشق أساطير جبال الأورال. وكنتُ قد شاهدت هذا الفلم في إحدى دور السينما البغدادية. الذاكرة لا تسعفني هنا. فكل ما أتذكره هو الأجواء السحرية – الفنتازية لهذا العمل المتميز في تأريخ الفلم السوفييتي . يتحدث الفلم عن نحات شعبي في مقتبل العمر. كان يبحث عن النموذج المثالي للجمال . وقاده البحث الى ( سيدة الجبل النحاسي ) التي تحكم إمبراطورية عالم ماتحت الأرض لشعبين من شعوب الأورال. وإنسحرالنحات بروعة هذه الإمبراطورية ونسي الجمال الأرضي الذي تمثل بتلك الفتاة البسيطة التي عشقته. المخرج بتوشكو المعروف كإختصاصي في الخدع السينمائية والفنتازية إنقاد هذه المرة الى سحر الجمال الواقعي والوحشي لمناطق جبال الأورال – تلك الغابات العذراء والعمارة الخشبية الريفية . وما علق بالذاكرة أيضا أن هذا الفلم كان أول فلم سوفييتي بالألوان. لكن سرعان ما تراجعت الحكايات الخرافية والألوان الفلمية الى مكان صغير في المؤخرة . فهم أرادوا للموشورالفلمي فقر الألوان و مثل هذا البون عن الإنسان والحياة...  


هاملت
Hamlet ) 1948 )

لورنس أوليفييه Laurence Olivier  

( كلمات ، كلمات ، كلمات ! ) يجيب الأمير الدنماركي في هذا المشهد على الجواب الماكر الذي ألقاه بولونيوس عليه عن الكتاب الذي يطالعه. والمخرج يؤدي هنا دور الأمير - الممثل المسرحي الكبير لورنس أوليفييه. ويتفق الكثيرون أن فلمه هذا كان خير جواب لفن الفيلم على السؤال عن إمكانية نقل المسرح الى السينما. كلمات ، كلمات ، كلمات ... إنها تبدو في المسرح ، لكن ظاهريا حسب ، الأقل ( فلمية ) ، غير أن أوليفييه لم ينبذها وحتى أنه لم يسترها، بل كانت في الموقع الأول تماما كما عند شكسبير. إلا أن عادة مسرحية ، وهي بالطبع صارت اليوم ذات صيغ كثيرة ، بقيت لدى أوليفييه ، و أقصد وحدة المكان . فكامل تراجيديا هاملت السينمائية تحدث في مكان واحد ، بين جدران قصر ألسينور ( في الحقيقة لم تكن هناك أبواب مما سهّل عمل الكاميرا وحركتها )، أما مشهد المقبرة فقد نفذه المخرج في الأتيلييه... وكنت قد تلقيت شكسبير ، هنا ، ( فلميا ً ) حقا ًبفضل ذلك التحسس المدهش لدى المخرج بضرورات هذا الفن. و كان هذا الفلم قد حقق نجاحا هائلا في نهاية الأربعينات و الخمسينات .وكما ذكر ناقدٌ كان عدد مشاهدي فلم أوليفييه خلال خمس سنوات أكبر من عدد مشاهدي ( هاملت ) في المسرح طيلة ثلاثة قرون ونصف...  


ماكلوفيا Maclovia ) 1948 )

أميليو فرنانديز Emilio Fernandez  

في تلك الفترة كان هذا الفلم مفاجاة. فمن المكسيك البعيدة جاءت سينما أصيلة مدهشة بطاقتها التشكيلية وتحديدها الدقيق للإهتمامات الإجتماعية. وفي الحقيقة لم تسحرنا هنا المواضيع بعقدها البسيطة التقليدية ( كفاح الفلاحين ضد عالم الإقطاع ) بل تلك التكوينات الفوتوغرافية التي تجعل من المصوّر الفنانَ الأول للفلم ...

يتحدث هذا الفلم عن عاشقين فقيرين لايطلبان الكثير كي يصبحا سعيدين. وهنا يعترض طريقهما ذلك ( الشرير الأبدي ) ، وفي الفلم كان هوعسكريا صغيرا ً يمثل السلطة في قرية للصيادين. أكيد أن ( المدرسة المكسكيكية ) من الأربعينات لم تتخلص من سذاجة الموضوع والتفكير إلا أنه جاءت أفلام كانت الإشارة الأولى لسينما أصيلة تريد أن يعرف العالم أن لها صوتها. وبين هذه الأفلام كان ( ماكلوفيا).  

( 4 )

كانت خمس سنوات قد مرت على إنتهاء الحرب . أوربا تنهض بوتائر مختلفة من كبوتها . السينما كنتاج صناعي - تجاري أكبر من الفني وقفت على قدميها بسرعة. إلا أن العالم كان آخر . ففي كوريا جاءت أول مواجهة بين القطبين . وكان الفزع مبررا في أنه قد تنتهي هذه بمحق نووي جماعي. ولم يبتعد الفلم عن كل هذه الهواجس، إلا أن هوليوود المتمرسة في الجمع بين النقائض ، بين التسلويات و الدعائيات ، إنتشر نتاجها لمابعد الحرب بدينامية أكبر. أكيد أن الأخذ بنهج التعميم هو عادة سيئة عموما ، لكن ليس بمقدورنا تجاهل حقائق أساسية من اجل دفع تهمة التعميم . إذن هناك أكثر من هوليوود واحدة قبل مكارثي و بعده ...

في الخندق الاخر كانت هناك ( هوليوود ) أيضا لكنها أخرى : مؤدلجة إمتطت الفن السابع في سباق محموم و نزعت عنه كل أردية التسلية و حتى الريع المادي. بالطبع وضعوا أكثر من سد أمام البحث الشكلي ، و صارت العملة الفلمية الرائجة التقسيم القالبي الى ( خير ) و ( شر ). اما نزاعات وقضايا الواقع الكونكريتي فكانت محض ( خيال علمي ) و لأن عملية الخلق ، خلق الجنة الموعودة ، قد بدأت و لتبتعد كل الشياطين عنها... و إذا كان الحاضر لا يمكن إخفاء عاهاته فمن المفيد جدا العودة الى الماضي و إقتطاع المناسب من أجزائه كي توضع في المحراب السيليلويدي !

من الأخطار الأخرى التي هددت الفلم كان الهجوم المباغت للتلفزيون. فقد أصاب الفزع الصناعة الفلمية مما دفعها الى إبتكار أكثر من وسيلة تصلح للمنافسة و ترسيخ فتيشية التكنيك. هوليووود إستخلصت من ذلك إستنتاجها ، وكان خصوصيا بالفعل ، : لا شيء ُيبقي المتفرج في صالة العرض غير نتاج لا يقدر التلفزيون على القيام به. في البدء كانت ورقة الرهان الفلم الملون ( كان التلفزيون بالأبيض و الأسود ). وكانت الثانية الأفلام التأريخية الضخمة التي رصدت لها الملايين. كذلك جاء إختراع الشاشة البانورامية التي لم تقدر شاشة التلفزيون على منافستها ( في الحقيقة كان هذا إختراعا قديما لكنهم أحيوه عندما نشأت الحاجة إليه ). وفي حمى المنافسة دُفعت التقنية الى الخط الأمامي مع تضحية نسبية بالبحث الأستيتيكي و تثوير هذا الفن الجديد. بالطبع لا أحد ينكر ثورة الفلم الناطق إلا أن التلفزيون سبّب ، حينها ، هزالا فعليا للفلم كفن ٍ ، في أميركا خاصة.

وشهد عالم الفلم ظاهرة أخرى في الخمسينات. وكانت الفلم الياباني و حضوره المثير في المهرجانات العالمية. لم يكن الأمر يعني تسجيل ظاهرة سينما وطنية أخرى بل نشوء مدرسة ناضجة مكتملة الشكل تستفيد بكل مهارة من تقاليد بلادها الأدبية والمسرحية و التشكيلية مما كان تحديا لفن الغرب و جرّ مخيلته الى عوالم أخرى ليست بالقرب من مركزيته المعروفة... بعبارة أخرى جاء تأكيد آخر على أن فن الفلم لاتحدّ الجغرافيا و لا ثقافات وتقاليد معينة قواعدَه و خطه التطوري. لكن لقائي مع السينما اليابانية حصل في مطلع الستينات أي بعد أكثر من عشر سنوات على تحفة كوروساوا ( راشامون ). قبلها كان عليّ سدّ الثغرة الزمنية التي كانت تفصلني عن السينما الأوربية خاصة. وهكذا لأتابع ما جاء به الإيطاليون من ثمين في تلك الحقبة :

روما الساعة الحادية عشرة ( 1952 ) Rom ore 11

جيوسيبي دي سانتز G. De Santis  

كتب السيناريو تشيزاره تسافاتيني المنظر الرئيسي للواقعية الجديدة. كان ينصح ( لنحرق في السوق ما يسمى بالمواضيع الجيدة ). الفلم يتكلم عن حادث كان مدويا في صحف روما خاصة : تحت ثقل 200 من الفتيات العاطلات عن العمل إنهارت السلالم . هناك قتيلات وجريحات. وكان مدير مكتب صغير قد نشر إعلانا : ( وظيفتان شاغرتان لكاتبتين على الطابعة ). جاءت مائتا مرشحة !

الفلم يروي أكثر من قصة . لوتشانا جاءت لأن زوجها عامل البناء فقد عمله ، و أنجيلينا ضاقت ذرعا بالإهانات في عملها كخادمة ، و سيمونا التي تعيش مع فنان لايقدر على إعالتها، وكاترينا أرادت أن تجرب حظها في عمل آخر غير تلك المهنة الأقدم، وماريا كي تخفف من بؤس أبويها.

إلا أن التحقيق يثبت بأن الجاني هنا ليس المهندس المعماري و لا صاحب العمارة ولا مدير ذلك المكتب و ... لكن من ؟

تبين أنه قبل سنتين كانت هناك 12 مرشحة لمثل هذه الوظيفة لكن جاءت الآن مائتان !

حين يترك قوميسار البوليس مكان الحادث يشاهد فتاة جالسة عند المدخل، وكانت نفس الفتاة التي شاهدناها في بداية الفلم . تجيب على تساؤل القوميسار : لم يقبلوا أية واحدة . يوم غد سأكون أولى المنتظرات !

هكذا كانت الواقعية الجديدة : أبعاد معينة للواقع وتوظيف إجتماعي لكل حدث...

 

معجزة في ميلانو (Miracolo a Milano ( 1950

فيتيوريو دي سيكا V. De Sica  

( كان يا ما كان... ) هكذا تبدأ كل حكاية . وهكذا بدأ فلم ( معجزة في ميلانو ) كمحاولة صوغ أسطورة شعبية معاصرة وفق مباديء الواقعية الجديدة. إذن كان هناك توتو الطيّب الذي ربّته جدته الطيبة ، ويقول لكل واحد : ! boun giorno . بهذه الصورة أصبح قائدا روحيا لمدينة صغيرة للبؤساء. كان يثق بإرادة مالك المدينة ، الطيبة لكنه صدم حين طرد هذا سكانها من أكواخهم الحقيرة بعد أن إكتشفت هناك منابع للنفط. لم يبق أمام توتو من مخرج غير حدوث معجزة. وكانت المعجزة بشكل حمامة بيضاء أرسلتها جدّة توتو من السماء . كان تسافاتيني قد علق على سيناريو الفلم والذي كتبته : يقتنع توتو الطيّب بأن الحلم لا يمكن تحقيقه و يهاجر على مكنسة الى مكان تحت سماء أخرى لاتوجد فيها لوحات مكتوب عليها : " ملكية خاصة ". بهذه الصورة نشاهد عالماساذجا لأحدى الحكايات شأن رسوم الأطفال ، مليئا بالرموز المبتكرة و المسكات الكوميدية مما يعني أن الخروج هو ممكن من دائرة الواقعية الجديدة أو بالأحرى توسيعها كي يكون هناك إدراك آخر للواقع وليس بتلك الحَرفية المعهودة ...

وفي الحقيقة جاء الفلم محاولة للتدليل بأن الواقعية الجديدة ليست أسلوبا فنيا بل حركة إجتماعية وفكرية . إلا أن هذا التفسير لم يقنع الجميع خاصة انه جاء في فترة ولادة الحرب الباردة. الدوغمائيون وجدوا فلم دي سيكا وتسافياتيني أولى محاولات التراجع و تخفيف حدة اللهجة الإجتماعية للواقعية الجديدة ...

أمل بقرشين ( 1952 ) Due soldi di speranza

ريناتو كاستيلاني R. Castellani  

لا أتذكر من قال بأن الواقعية الجديدة الإيطالية فشلت في صنف الكوميديا أو أنها إصطدمت بمحدوديات سبّبتها نزعتها الإجتماعية وتلك اللهجة الجادة. كاستيلاني أراد بفلمه ( أمل بقرشين ) أن يبرهن على العكس. وكانت النتيجة خلطا يصعب إعطاء حكم باتٍ فيه أو كما كتب ناقد إيطالي بأن هذا فلم لا يستفز أحدا كثيرا ف( ففيه قرشان من السعادة و آخران من الدين و ثالثان من السياسة ...).

بالفعل كان الفلم يوحي بمثل هذا النقد . فأحد أبطاله يقول : ( هذا الذي خلقنا عليه ان يقدم المساعدة ). ثم يضيف :( و إلا سنقوم بأنفسنا بعمل ما يلزم ! ) . لكن المسألة إنتهت بالقول فقط. فالنزاعات الحادة ختمت بكلمات من طراز : إن شاء الله...

 

الطريق ( 1954 ) La Strada

فيدريكو فيلليني F. Fellini  

هذا الفلم شاهدته في بغداد . أذكر ذلك النقد الذكي الذي كتبه الراحل نجيب المانع. كما أذكر نتفا من أحاديثنا عن الفلم. في الحقيقة كان ( الطريق ) غلقا نهائيا للواقعية الجديدة أو بالأحرى إنعطافا عنها و طريقا آخر في البحث. كما ذكرت سابقا كان فيلليني سيناريست فلم ( روما مدينة مفتوحة ) لكن فلم ( لاسترادا ) هو نقلة نوعية و فكرية قام بها هذا الفنان الكبير. ففيلليني يتابع ببصره الحاد تقلبات النفس و يواصل السؤال والبحث عن معنى الوجود. في هذا الفلم جاءنا فيلليني آخر صار هاجسه الدائم البحث عن جواب على السؤال الأبدي: من هو الإنسان ...

أما إذا خص الأمر أستيتيكا الفلم فقد تكشفت موهبة فيلليني الكبيرة في ذلك الربط الباهر للصور المعبّرة بالموسيقى ( الشفافة ) و أداء الممثلين الثلاثة ( أنتوني كوين و جوليتا ماسينا و ريتشارد بيزهارت ). للمرة الأولى إنقاد فيلليني تماما ، الى شعر يته و سلوك طريق مثل هذا التعامل الأصيل مع كينونة الإنسان و واقعيه – الداخلي و الخارجي ...

كان هناك نقاد لمّحوا بأن الإيحاء في الفلم كاثوليكي المنشأ. لكنهم لم يقدروا على إتهامه بأنه فلم أملته إحالات دوغمائية...

موقع "القصة العراقية" في 10 يناير 2006

بيير ميريجكوفسكي سينمائيٌّ سريٌّ, وغير شرعيّ

مؤسّس أفلام الجريمة والعقاب,ومهرجان السينما الرديئة والمملّة

صلاح سرميني 

منذ زمنٍ طويل ترك بيير ميريجكوفسكي عمله كموظفٍ في أحد المصارف، وإختار لنفسه طريقاً جديداً أقلّ سيولةً .

يدعوه أصدقاءه بـغودار الدائرة الخامسة عشرة حيث يسكن هناك، وهي تسميةٌ لاعلاقة لها بالتشابه الإبداعيّ مع المخرج المُشاغب جان لوك غودار أحد روّاد الموجة الفرنسية الجديدة، ولكن بالأحرى مع ما يجمعهما مظهرياً، ذقنٌ غير محلوقة جيداً، نظاراتٌ بعدساتٍ مُحدّقة، وملابس مُجعدّة, ومتناقضة الألوان .

ولكن بيير أكثر تسكعاً, ونزقاً، وهو ينجز أفلامه، يُبدعها، يُنتجها، يُخرجها، ويعرضها بنفسه في البيوت، المقاهي، والأماكن المشغولة بالعاطلين عن العمل،...وهي تتغيّر على الدوام، لأنّه لا يريد أن تتحوّل بدورها إلى نوادي سينما مُتخمة .

وكما حال الكثير من السينمائيين المحترفين, والهواة، فإنّ بيير لم يتعلّم حرفيّات السينما, وتقنياتها أكاديميّاً، ومايهمّه في المقام الأول هو المضمون, والصورة .

يقول : لقد إهتمّت السينما كثيراً بالتقنيّات، ولكنّ ما يثيرني في أفلام بيرغمان الجميلة، هو المحتوى, والمضمون الأخلاقيّ للصورة نفسها.

لا تدوم فترة إنجاز فيلمٍ من أفلامه أكثر من يوميّ العطلة الأسبوعية، يُصورها في لقطاتٍ مباشرةٍ, بدون إعادة, أو ماكياج : الحبوب الظاهرة في الوجه، هي جزءٌ من حياتنا، فلماذا نخفيها؟ .

لم تُعرض أفلامه أبداً على شاشات التلفزيونات الرسميّة، ولكنها تجوّلت في مهرجاناتٍ كثيرة، وعُرضت في التلفزيونات المحلية : معها، هناك جيلٌ جديدٌ من المسؤولين، هؤلاء على الأقل لا يرفضون التحدّث معنا في التليفون .

فيما يخصّ نفقاته, ومعيشته، فإنّه يوزّع برنامجه متنقلاً من عنوانٍ إلى آخر راكباً دراجته الهوائية، وبهذا يوفر ثمن 15. طابعاً بريدياً، بينما يقترح مشاركةً ماديةً رمزيةً لمشاهدة أفلامه : إذا شاهد 5.. متفرجٍ أحد أفلامي، فإنني سوف أحصل على 15.. يورو، وبالإضافة للعروض، فإنّه يبيع أفلامه منسوخةً على أشرطة فيديو: يُمكن لي خلال يوميّ العطلة الأسبوعية إنجاز 2.. نسخة من أحد أفلامي، ولن تُكلفني النسخة الواحدة لشريطٍ مدته ساعة أكثر من 2 يورو، بينما أبيع النسخة ب 8 يورو، وهكذا يمكن لي الإستمرار, والبقاء على قيد الحياة .

عندما يُنجز بيير أفلاماً عن نفسه, وعن أصدقائه، فإنّه يُعيد صياغة صدف الحياة، يُجهز اللقاءات مُسبقاً، يدعو المُشاركين، ومن ثمّ تتشكّل العلاقات بين الشخصيات داخل إطار الصورة وفق إرتجالٍ حرّ .

وحول شخصياته, يُعيد صياغة الشروط الضرورية لفعل الصدفة، وهكذا تتشظّى الحواجز مابين التسجيليّ, والروائيّ، وهي ليست أبداً تسجيليّة/روائيّة، ولكنّها أعمالٌ تقترب كثيراً من التجربة الشخصية, و التداعيّات الحرّة .

هو يصنع سينماه على طريقته الخاصّة، لا يهتمّ أبداً بالجوانب الشكليّة, والجماليّة لأفلامه، وأكثر من ذلك، يرفض أن نتحدّث عنه كسينمائيّ تجريبيّ .

ولمشاهدة أعماله، علينا أن ننسىأو نتناسى كلّ ما تعلمناه عن السينما, والتذوّق الفيلميّ، وأن نكون مُتسامحين معها ومعه إلى حدٍّ بعيد، نشاهدها كما نشاهد أفلاماً عائليّة، تلك التي يُصوّرها البعض بكاميرات 8 ملليّ, أوفيديو صغيرة، لأنّها حميميّةٌ، شخصيةٌ، وأنانيّة أحياناً .

أفلامٌ كهذه، تؤسّس ما يُمكن تسميته بـديموقراطية السينما, والوسائل السمعيّة/البصريّة - وقد سبقتني السينمائيّة البلغاريّة التجريبيّة ماريا كوليفا إلى هذه التسمية - ، حيث بإمكان أيّ شخصٍ تصوير مايشاء, ويحلو له، كحال الكتابة، الصورة الفوتوغرافية، أو الرسم،... ولاشك بأنّ إمكانية كلّ واحدٍ منّا على إنجاز صوره الخاصّة, وإمتلاكها، هي أكثر الأساليب ديمقراطيةً لإكتشاف المواهب .

وهو ماحدث بالفعل لكلّ مبدعي الفنون التشكيليّة, والأدب، بينما بقيت الصورة السينمائيّة عسيرة الممارسة, والإنجاز حتى على المُتخصّصين، إذّ تخضع لرقابةٍ سلطويّة صارمة أكثر من أيّ فنٍّ آخر لأنها ببساطةٍ الأكثر جماهيريةً، شعبيةً، وتأثيراً.

كما لايفكر بيير كثيراً بإمكانيات عروضٍ جماهيريّة لأفلامه في أماكن تقليدية صالات السينما، ويكفيه تقديمها لبعض الأصدقاء, والفضوليين في البيوت، المقاهي، والأماكن المشغولة بالمُهمّشين، العاطلين عن العمل، والفنانين المتمرّدين، وأيضاً في التظاهرات السينمائية الهامشيّة، التلفزيونات المحليّة، وتلك الغير شرعية الخاصّة بالأحياء، وكذلك في السجون، المراكز الإجتماعية، مدارس الفنون الجميلة، صالات الفنّ والتجربة، والمكتبات،.. .

ظروف عرضٍ صعبة, ومُتعمّدة، تُحرّض على النقاش, والحوار، مالا تحققه العروض التقليدية المُريحة، المُسليّة، والمُستلِبة .

هو بهذا يُساهم بتشييدٍ متواصلٍ لما يُسمى بـالثقافة المُوازية، ثقاقة تنطلق من القاعدة، تنتشر أفقياً، وتنتقل فاعليّتها من فردٍ إلى آخر . .

هي أفلامٌ فقيرةٌ بإمكانياتها، تحريضيةٌ في توجهّها، مُرتبكةٌ في بنائها، فوضويةٌ في شكلها، وأيضاً ساذجةٌ، متناقضةٌ، مُتردّدةٌ، عاجزةٌ أحياناً ...ولكنها مُستمّرة، تدعم بنياتها التحتيّة يوماً بعد يوم، ولا ينقصها الجرأة, والعزيمة .

ومع رغبتها بأنّ تفرض نفسها، تجاهد ضدّ ماهو قائم، وتقف عنيدةً, ومُتحفزّةً في مواجهة سيطرة رأس المال وجبروته .

وإذّ أكتب اليوم عن تجربة بيير ميريجكوفسكي، فهذا لايعني بأنني مُتيّمٌ بأفلامه، وعاشقٌ لطروحاتها، ولكنّني بالأحرى مُتعاطفٌ مع الأسباب التي دفعته لإنجازها، وأولها التمرّد علىالسينما النمطيّة السائدة، وبالآن، التعريف بأحدّ الجوانب الثريّة للسينما التجريبية، إمكانياتها، إختلافها، وتنوّعها .

ال ـ R M I هي الحياة، مع إشارة تعجبٍ في الآخر !

RMI هي إختصارٌ لـالدخل الأدنى لإعادة الإندماج في المجتمع، وهو مبلغٌ يمنحه صندوق الإعانات البلديّة للفقراء, والمحتاجين الذين لا دخل لهم، ويقترح بيير أن يصل هذا المبلغ إلى 2... يورو بدلاً من 4.. يورو، وذلك لإمكانية الإعتماد على النفس لوقتٍ كاملٍ 8 ساعاتٍ في اليوم، بدلاً من نصف وقت 4 ساعات، وأن يكون ذلك لمدى الحياة، بدلاً من فترةٍ زمنية محدودة يمكن أن تصل إلى عدة سنوات .

فيلمه المُعنوّن بـالـ R M I هي الحياة، مع إشارة تعجبٍ في الآخر!، يرتكز على نصٍّ تهكميٍّ، نستعير جزءاً منه :

يجب تحمّل المسؤولية، علينا أن نتحمّل مسؤولية أنفسنا، يجب أن أتحمّل مسؤولية نفسي، علينا أن نتحمّل جميعاً مسؤولية أنفسنا، لا تمتلك الدولة أيّ سببٍ لتتحمّل مسؤوليتنا، إنّ حرية الرجل, والمرأة تمرّ من خلال إستقلاليتهما، والإستقلالية تعتمد على العمل، إنّ رجلاً , أو إمرأةً لا يعملان، لا يمكن لهما تحمّل مسؤولية أنفسهما، إنّ حضارةً غير قادرة على تحمّل مسؤوليتها لن تعدّ حضارة، حضارة شعبٍ يعتمد على المساعدة لن تعدّ حضارة، فالحضارة ترتكز على حقوقٍ، واجباتٍ، ورابطٍ إجتماعيّ، والحوار هو جوهر هذا الرابط الإجتماعيّ، وغياب الحوار يؤدي إلى إنقطاعه.

الرابط الإجتماعيّ ينسج لُحمة الديمقراطية، والبطالة تؤدي إلى إنقطاع الرابط الإجتماعيّ، لايمكن أن يُدرك نظام المساعدات الدائم في مجتمعٍ لا يتحاور، الحوار هو الشرط الضروريّ للحرية، بدونها، فإنّه من المستحيل العيش في مناخٍ ديموقراطيّ، الديموقراطية هي الملكيّة التي لا تُقدّر بثمن، ويمكن أن تُفتقد ما بين يومٍ وآخر، لا يوجد أيّ شيئٍ يمكن الحصول عليه مُسبقاً ....

أنا مُتهم، إنني مسؤولٌ عن تقيّيد حريتي، أنا لا أعمل، لا أؤدّي مهنةً ما، إنني أعتمد على الآخرين، يجب أن أتحمّل مسؤولية نفسي، حريتي الشخصية تبدأ بإعتمادي الشخصيّ على نفسي، أنا لا أعمل، أنا غير فاقدٍ لحريتي عن طريق قوىً قمعيّة، المجتمع لا يتحكّم بي، حارسة المبنى لا تقمعني، ولا المواطنون الذين حولي، الشرطة السريّة لا تراقبني، إدارات البلدية لا تقمعني ... .

من حقيّ أن أطلب قهوةً بالحليب، أتناول قطعةً من الحلوى، أتناول حساءً ساخناً، أقول أُحبكِ، لم أعدّ أُحبكِ، أستيقظ في الوقت الذي أشاء، أتجوّل بحريةٍ بين مباني الحيّ الذي أقطنه، المدينة التي أسكنها، البلد الذي أعيش فيه، أنا حرٌ، حرٌ بأن أعتمد, أولا أعتمد على نفسي .. .

الصورة في خدمة التحريض

على حين يكتنف فيلمه البطالة أجواء مسرحية، حيث نشاهد أرباب العمل يحتلّون المنصّة، بينما يردّد المناضلون الشعارات، يتدّخل بيير ليقترح الإنتحار الجماعيّ للإدارة، رئيس الجلسة يُهنّئه، وإمرأةٌ وحيدةٌ ترفض التطبيع .

على حين يقذف الأُجراء شعاراتهم في وجوه أصحاب العمل : نحن نرغب بأن نكون عاطلين عن العمل، إنهم يرغبون الإستماع إلينا، يريدون أن نتحدّث، وأن يتحدّثوا معنا، ونحن، .. نحن نريد فقط بأنّ نكون عاطلين عن العمل .

وبهذا يقترب الفيلم من المنشورات النضاليّة، يفقد كلّ عناصره الجماليّة، ويتحوّل إلى مسرحٍ سياسيّ مدرسيٍّ مباشر يهدف إلى تمرير الأفكار، تحريض المتفرج، ودفعه على المشاركة, والحوار .

وفي البيضة, والدجاجة، يحاول بيير إستثمار فكرةٍ ما، بدون أن أنجح في الولوج إليها.

أما كوميديا، حيث يلتقي شابٌ وفتاةٌ في نفقٍ بالقرب من ضفاف نهر السين، هو يصرخ أُحبكِ، وهي تردّ أُقتلني.

والفيلم - كما الكثير من الأفلام التجريبيّة - حيث الشخصيات فيها خرساء، تتأمل، وتنتظر مصيراً مجهولاً، ولكن بيير ينجح هذه المرة في إنجاز عملٍ ذي نكهةٍ موسيقية عن الحبّ, والقطيعة، وفيه يستخدم الصوت من خارج الإطار تفادياً لمشكلة التزامن في توافقٍ, أو تعارضٍ مع الصورة .

وفي فيلم معاً، تكشف لنا الصورة عن أحد المباني المُحتلّة من قِبَلِ مجموعةٍ من المُهمّشين، فنانين، أدباء، شعراء، فقراء، عاطلين عن العمل، ومشرّدين،.. بينما يتكوّن شريط الصوت من عباراتٍ، صراخٍ، ومناقشاتٍ تُلخصّ حالة المكان, وروحه .

نحن نريد نقوداً، لا نريد عملاً

نحن نريد نقوداً، لا نريد عملاً شعارٌ, وفيلمٌ تسجيليٌّ لمُقتطفاتٍ من حياة المخرج نفسه، وأيضاً روائيٌّّ يحكي حكايته، يجمعهما بيانٌ سياسيٌّ يعود بنا إلى حماس الثورة الطلابيّة لعام 68 .

وبيير، كما في كلّ أعماله، يُجسّد قلقاً غريباً، إنّه يبحث عن شيئٍ ما، يفرض نفسه على الصورة, والصوت، يقتحمهما، يتحرك يميناً, وشمالاً، يتراءى لنا أحياناً بأنّه لا يعرف ماذا يريد أن يصوّر، وأحياناً يُظهر لنا عجزه عن الإرتجال، فيترك موقع التصوير, ويمضي .. .

أفلامه – بناءً, وفكراً - تشبهه، إذّ أنها بتعاطفها مع الفقراء, والمُهمّشين تمنحهم الكلمة المُغتصبة، والسينما بالنسبة له، هي وسيلة للتعبير عن أفكاره, وتحريرها، حيث يمكن أن نستغني عن مشاهدة الصورة أحياناً، لأنها ليست الهدف الأساسيّ بالنسبة له، وغالباً ما يفرض حضوره بإجراء اللقاءات نفسها، وفي بعض الأحيان يتحدّث بدلاً من الشخص الذي يلتقي معه .

أهم ما يُميز جماليّات أفلامه أو بشاعتها، كاميرا نزقة، عصبيّة، ومرتجلة، غالباً ما تبدأ وتنتهي بفكرةٍ هُلاميّة، مُضطرّبة، فوضوية، قلقة، وتحريضية .

إنها سينما تبحث عن عناصر بنائها شكلاً, ومضموناً لقطةً وراء الأخرى، وأفلامه هي بمثابة جلسات تحليلٍ نفسيٍّ في عيادة طبيبٍ مُتخصّص، إنها فرصةٌ للتواصل مع نفسه, والعالم المحيط به، وإعادة تركيبٍ لسنوات حياته المُتشظيّة .

هي سينما الضدّ، أو فلنقل ضدّ السينما نفسها، أفلامٌ / SDF بدون عنوانٍ ثابت تبحث عن مستقرٍ لها في الشكل, والمحتوى، وتنتهي بـ إحنا مش عايزين شغل, عايزين فلوس بس .


هوامش

*الجريمة والعقاب : إسم الجمعية التي يُنتج بيير ميريجكوفسكي أفلامه عن طريقها .

*"Le Festival des films chiants"/مهرجان الأفلام الرديئة، المُملّة، والمُزعجة: مهرجانٌ سينمائيٌّ هامشيّ، يتكوّن برنامجه من أفلامٍ, وأشرطة فيديو رفضتها أماكن العروض التقليدية, والتلفزيونات الرسمية، ويعمد بيير إلى تنظيم مهرجانه بدون مؤسّسةٍ داعمة, أو دعايةٍ صحفية، ويمكن القول، بدون ميزانية.

ومن يُتقن اللغة الفرنسية، سوف يُلاحظ بأنني قدّمت ترجمةً مُهذّبة جداً للمعنى المُتعارف عليه للكلمة العاميّة : chiant

 

قائمة أفلامه

*الـ"R M I" هي الحياة، مع إشارة تعجّبٍ في الآخر ! - فيديو، 52 دقيقة، 1998

*الآباء, والأمهات لا يحبون أطفالهم - فيديو، 6 دقائق، 1998

*معاً - 16 مللي، 3 دقائق، 1997

*الحرب الصغيرة - فيديو، 52 دقيقة، 1997

*السينمائيّ، القرية، اليوتوبيّا - فيديو، 52 دقيقة، 1996

*خيار الرسّام - فيديو، 12 دقيقة، 1995

*هواءٌ، هواء - فيديو، 3 دقائق، 1995

*نحن لا نريد أن نعمل - 16 مللي، 6 دقائق، 1995

*إنّه يوم الأحد - فيديو، 26 دقيقة، 1994

*البيضة, والدجاجة - 16 مللي، 3 دقائق، 1995

*مريم، أو تقريرٌ حقيقيٌّ في قلب القديسة روسيا - 16 مللي، 26 دقيقة، 1992

*كوميديا- 16 مللي، 3 دقائق، 1992

IGROK* 16مللي، 6 دقائق، 1987

*مشهدٌ عائليّ عند اليساريين - 16 مللي، 12 دقيقة، 1977

*قضية هورييز- 16 مللي، 27 دقيقة، 1976

موقع "القصة العراقية" في 10 يناير 2006

 

بابلو بيكاسو رؤية سينمائية لسيرة فنان

احمد ثامر جهاد

الفيلم :

يعد فيلم المخرج " جيمس آيفري " (1996 – SURVIVING PICASSO ) واحدا من الأفلام السينمائية عن سيرة الفنان المبدع " بابلو بيكاسـو " إلى جوار أفلام أخرى ، كان أبرزها فلم المخرج الفرنسـي " ألان رينيه " عام 1950 والذي كان بعنوان " غورنيكا " ، أشهر لوحات الفنان .

يقترب " آيفري " كثيرا من المُشاهد في شريطه هذا ، ليقدم رؤية بانورامية متعددة الخطوط في ملحمة عن الحب والحياة عاشها " بيكاسو " . من الزاوية هذه يبدو التناول موفقاً سينمائياً ، واختيار الفترة الزمنية المُوجِزة لعشر سنوات من حياة " بيكاسو " يمكن عده مغرياً وجذاباً لإعادة النظر في حياة هذا الفنان وفنه .

وان لم يذهب المخرج بعيدا في تبنّي البحث عن ما يمكن أن تحققه الأبعاد الجمالية للذهنية التشكيلية في أدنى حالاتها ، إلاّ أننا وجدنا فيما نراه سينمائيا ، أهميته في استنفار الطاقة الجماليةالخلاقة "لبيكاسو " ضمن علاقة صميمية امتازت بالجدل المحتدم بين حياته وفنه . إن تتبع هذه الناحية الدرامية بزواياها الحساسة ومبناها الإيقاعي كفيل بخلق الجو المناسب للمُشاهد في تفسير أي شيء يراه ، ومن ثم كشف الارتباط الحيوي والتصميم الداخلي للفنان الذي يوحي بابتكار الأجواء الرومانسية والعوالم الحُلميّة ، التي وإن اختلفت في وزنها وملمسها فإنها تواصل عمل التأليف الجمالي "للمنظر والتكوين ". وهذه الحالات على بساطتها في الشكل السينمائي المقتَرَح ، تملك وجهة نظرها وانتماءها لروح العصر بشكل يؤكد قوة "الرمز" وتأثيره المساحي . لذلك نـزعَ الفيلـم إلـى التـركيز على المواقف الحياتية وكثافتها الإيجابية أو السلبية بالنسبة للرمز الأساس في التشكيل الصوري" بيكاسو " [ الذي له الكلمة العليا في الفيلم نظراً لكونه فناناً مبدعاً ذا شخصية مسيطرة وقوية وطاغية ]* .

حياة " بيكاسو " هي بمثابة الدليل إلى مفردات التكوين الفيلمي ، وربما نعدها أحد عناصر هذا التكوين ، حيث أن الاتجاه الذي يقود العين بصرياً بشكل منظم ومخطط له ، من نقطة إلى أخرى ، يملك إمكانية التعامل مع الخامة الحياتية ( كون الحيوات خامات ) أو خطوط ، أما أن تكون مستقيمة أو تكون متعرجة ، منحنية أو متقاطعة ، متصلة أو منفصلة …وهذه الحالات وأن اختلفت ، فإنها ألقت بظلها الوافر على حياة " بيكاسو " المترددة بين ثقل الكتلة وقدسية الفراغ ، ناهيك عن رفعته .

إن تصميم المخرج " آيفري " وعزمه على تناول فترة محددة من حياة " بيكاسو" تمتد بين عامي ( 1953 –1943 ) له ما يبرره بمعيار الصعوبة اللازمة التي تواجهها السينما إذا ما أرادت التصدي لحياة العظماء والمشاهير . فغالباً ما يحاول الشريط السينمائي تأكيد جانب حيوي من جوانب ( الشخصية - موضوع الشريط ) له دوره في إضاءة ما يلزم أضاءته من الجوانب الأخرى لتلك الحياة وذلك الفن .

وبشكل عام يُنجز الشكل السينمائي في اتجاهه المتعاظم لتناول حياة الكتاب والفنانين ، تراكما توثيقيا ضروريا لا يخلو من جمال أو احتفاء بحدود تلك الحياة مهما كانت استقلاليتها تجاه فن ( الكاتب أو الفنان ) وشخصيته . وبالطبع يُحدث تناول الشاشة السينمائية لأدبية الحياة نوعا من التوازن المطلوب بين الكلمة المقروءة والصورة المرئية ، ناهيك عن محاولات " الصورة السينمائية " نزع قدسية تلك الحيوات المكتوبة بتصويرها مُجسّدة ، إلى درجة نستمتع فيها بيقين حواسنا حين نطّالع تفاصيل حيوات عدة لـ ( فان كوخ – بيكيت – فرويد – إليوت – لوركا 000) وغيرهم ، معاني طفولتهم ، عشقهم الأول وذنوبهم الصغيرة ، لنشهد بأعيننا نموّ العبقرية فيهم ، فنماثل بين حياة نحسّها وأخرى نتمناها .

أما عن اتجاه تناول الشخصيات التاريخية فيمكن القول أنه يُظهر الدور الحقيقي للشخصية في حياة الناس وأثرها في صنع حوادث التاريخ ، بشكل يَفترض موضوعية التناول – عادة – وعقلانية المشاهدة .

 

المخرج :

في عودة للوراء بحثا عن " بيكاسو " ، أختار " جيمس آيفري " " فرانسواز جيلو " اكثر عاشقات " بيكاسو " تأثيرا عليه ، وهي الوحيدة التي استطاعت النجاة سالمة العقل من مصير الانتحار أو الجنون الذي أقتسمه باقي الأبناء والزوجات . فدونت مذكراتها كاملة في كتابها ( حياتي مع بيكاسو ) الذي اقتُبِست عنه قصة الفيلم . وأشيع عنها عدم تعاونها مع الفيلم ونبذها فكرة إخراج فيلم عن حياة " بيكاسو " ، إلا أن ذلك لم يُثن المخرج " إيفري " عن الاستمرار في مشروعه الذي رصد له ميزانيـة تُقَـدر بـ ( 16 مليون دولار ) ، فأختار " باريس " مكانا لتصوير معظم مشاهد فيلمه السينمائي .

وفي تأكيد أهمية المرأة وتأثيرها في حياة " بيكاسـو " ونتاجه الفني ، يقـول المخرج " آيفري " : [ كل واحدة منهن ملهمة له مدة ثم يهملها . كل واحدة منهن كانت تفقد تأثيرها وسحرها عليه تدريجيا ، وعندما كان حبه لهن يخبو ، كان تأثيرهن عليه يتضاءل ويصبح سلبيا ، وتوضح رسومـه هـذا الشـيء . فقد كـان " بيكاسو " يخلق منطقة انفعالية مدمرَة حوله كما هو معروف ] .

يختلف المخرج " آيفري " في رؤيته لضرورة خلق أفلام ممتعة للمُشاهد تأخذ سِير المبدعين وتركز على حياتهم أكثر من تركيزها على عملية الإبداع والخلق لديهم ، عن المخرج الفرنسي " فرانسوا تروفو " الـذي يـذهب إلـى القول : " لا أريد أن أصنع أفلاما لأناس لا يقرءون " مشيرا بذلك إلى أهمية ثقافة المُشاهد ومعرفته . وحتى نتبين المفهوم الذي يحبذه " آيفري " في هذا النوع من الأفلام فإننا نتساءل عما يشكله فيلم " بيكاسو " من قيمة أو متعة بالنسبة للذين يجهلون معرفة هذا الفنان 000 هل يمكن وصفه من هذه الزاوية بالفيلم الثقيل أو الساذج ؟ هل على " آيفري " أن يفكر في ذلك ؟

لقد وفق " آيفري " إلى حد ما في خلق رواية سينمائية جذابة تُحفِزُ على البحث عن بقايا حياة " بيكاسو " وفنه ، وتُرضي في الوقت نفسه أذواقا مختلفة . عن ذلك يقول " آيفري " : [ كم من المَشاهد يمكن تصويرها للفنان وهو يرسم أو ينحت ! الأمر الممتع هو كيف سارت حياتهم وتأثير ذلك على فنهم ، ثم ما هي الدوافع التي جعلت هذا الفن يكون على هذا النحو ….]

ليس غريبا أن يكون " آيفري " أحد ابرز السينمائيين المولعين بالتعامل مع النصوص الأدبية . خاصة وان السينما دون باقي الفنون ، تميل إلى التكامل الوظيفي في الأسلوب والإيصال والمعالجة الجمالية ، لتساهم بجدارة في خلق القيم التي نعيش بها . لابد من الإشارة هـنا إلى الأداء الرائـع والمتميز للممثلة " ناتاشا ماكلون " والممثل " إنتوني هوبكنز " الذي أضاف بعدا جماليا آخر للفيلم .

جيمس آيفري : مخرج أمريكي مقيم في بريطانيا من مواليد 1930 عُرف عنه تعامله مع النصوص الأدبية المختلفة .من أفلامه نذكر:( أهالي بوسطن – 1984 ) عن رواية لهنري جيمس . ( غرفة ذات منظر – 1985 )و ( موريس -1989 ) و ( نهاية هوارد- 1992) عن ثلاث روايات لـ " أي . أم . فورستر " كذلك فيلمه الشهير ( بقايا النهار – 1993 ) عن رواية للياباني " كازوو إيشغورو " الذي برع فيه الممثل " هوبكنز " والممثلة " أيما تومسون " .

 

  • ما بين الأقواس الكبيرة [ … ] نقلاً عن مقال : بحثاً عن " بيكاسو "

  • ابتسام عبد الله

  • الموقف الثقافي (1 ) و(2 ) / 1996 بغداد .

موقع "القصة العراقية" في 10 يناير 2006

 

سينماتك

 

من دفاتر الذاكرة

عدنان المبارك

 

 

 

 

سينماتك

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك