جديد الموقع

كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما.. كتبوا في السينما

 

سينماتك

 

 

 

أمينة محمد...

عبثية أدمنت إحراق المراحل

القاهرة - إبراهيم فرغلي

 

 

سينماتك

عندما سُئلت الفنانة الكبيرة الراحلة أمينة رزق عن خالتها الفنانة أمينة محمدً التي كانت تماثلها في العمر قالت:سأمينة محمد شخصية غريبة، منهم من يصفها بالجنون ومنهم من لا يستطيع تأطيرها، ومنهم من يعجب بها لأنها شخصية دون كيشوتية وعبثية، وكانت سابقة لزمانها، أدمنت إحراق المراحل وتجاوز مجتمعها في خيارات بدت حينها مجنونة، فذهبت ضحية جموحها وخياراتها وأرادت أن تسبق حلمها وحين يضيق فضاء هذا الحلم كانت تشد الرحال نحو آفاق اوسع مشرعة نفسها لعواصف النقد ورياح الهزائم والانتصارات·

ولدت أمينة محمد في 25 مارس 1908 في اسرة فقيرة بين أب وأم لايربطهما رابط فعاشت الطفلة لا تشعر بوجودها ولا يشعر بها أحد، ودرست زالأمينتانس في مدرسة للبنات في طنطا، واعتادتا الذهاب لمشاهدة التمثيل كلما زارت بلدتهما فرقة قاهرية أو فرقة صغيرة من التي تتجول في الأرياف·

وفي احد الاحاديث الصحفية كشفت امينة محمد عن ذكرياتها في تلك الفترة قائلة:سكنت في الثامنة من عمري، أشاهد مع مجموعة من الاطفال في طنطا رواية زالأخرسس من بطولة عزيز عيد وروز اليوسف وقد اختارني عزيز عيد من بين الاطفال لأن الدور يتطلب أن يحمل طفله على ظهره، لم أنطق بكلمة أو حرف، لحظة تصفيق الجمهور كانت لحظة لن أنساها ما حييتز·

هذه اللحظة، إذن هي التي فتحت عيني الصغيرة المهمشة على عالم الاضواء وألهبت هذه المشاهد المسرحية خيالها، ونزحت أمينة محمد من طنطا الى القاهرة مع أمها وأختها وابنة اختها امينة رزق واستقرت العائلة في حي روض الفرج·

صندوق الدنيا

كانت منطقة روض الفرج -كما تصفها امينة رزق- في أواخر العشرينات عروس المصايف وصندوق الدنيا، فيها المسارح والصالات والفرق المتنافسة، ومع طغيان التمثيل على الغناء في مسارح روض الفرج زاد اقبال الجمهور من جميع الطبقات،ومع يوسف وهبي -أيضا- وعن طريق مسرح رمسيس الذي كان يطلب وجوها جديدة في عام 1924 جاءت الفرصة لأمينة محمد التي تغلبت على مخاوفها وعلى الافكار التي كانت تتردد عن أن الشخص الذي يحترف الفن لابد أن يكون من عائلة كبيرة·

كان عمرها وعمر ابنة اختها 14 عاما وذهبتا سويا لمقابلة يوسف وهبي الذي اختبرهما على مضض فتحمس لأمينة رزق فبكت أمينة محمد خالتها فقال لها يوسف وهبي: لا تبكي وقرر ان تقوم كل منهما بالدور يوما بعد يوم بالتناوب·

وبدأ المشوار الطويل الذي كثيرا ما صادف حصولها فيه على الأدوارالثانوية بسبب جمال امينة رزق والتي كانت تقسو عليها بسبب شعورها بالظلم، وتسافر الى بيروت لتقيم مع صديقتها اديل ليفي المغنية والراقصة وبطلة مذابح الغرام في شارع عماد الدين·

وكان زواجها سببا لتعاستها، فقد تزوجت من شخص من عائلة كبيرة وأحبته بصدق وأخلصت له، وضحت بالفن من أجله، وكان زوجها يسمح لها بالعودة للتمثيل حسب ظروفهما المادية، ثم وصلها يوما خبر زواج زوجها من ابنة عمه بعد أن ربح قضية مكنته من الحصول على ميراثه،وحاولت الانتحار، ثم استمعت لنصيحة بديعة مصابني التي أوحت لها بأن تقوم بالرقص في الصالات لتغيظ زوجها وتنتقم منه، وكانت تفعل ذلك وهي تبكي لأن حزنها كان اكبر من انتقامها! ثم ذهبت الى الاسكندرية وانضمت الى ملهى للراقصات الاجنبيات وتفوقت عليهن وتقدم اسمها عليهن·

وفي السينما قدمت أمينة محمد مجموعة من الأفلام هي: زليلة في العمرس 1934 وسشبح الماضيس 1934 وسالدكتور فرحاتز 1935 وسالبحارس 1935 وسجوهرةس 1943 وكانت ترقص في الفيلم الذي قام ببطولته يوسف وهبي ونور الهديس أما أشهر افلامها والذي حقق لها المجد واصبح الناس يعرفونها باسمه فهو زتيتا وونجس عام 1937 ودخلت تجربة الانتاج من أجل أن يخرج بأي شكل بل وقامت بإخراجه أيضا·

رقصة الثعبان

وفي كتابها سلطانات الشاشة تلتقط منى غندور بعضا من ذكريات أمينة محمد عن بداياتها في الرقص والسينما وفيها تقول: زذهبت مرة لزيارة احدى صديقاتي، وكانت من نجوم فرقة الريحاني وفوجئت بها تقول: أنا محتاجة إلى واحدة في جسمك ترقص في الأوبريت، ووافقت دون تفكير، وخضعت لمدرب الرقص وكنت أول راقصة مصرية تؤدي رقصة الثعبان، وقد أحضرت ثعبانا ورحت أتابع حركاته، ونجحت في تقليده ، وعندما بدأت أقدم هذه الرقصة أمام الجمهور كنت أرتدي بذلة رقص في لون جلد الثعبان، وقد أطلق عليّ في حينها لقب أمينة حنش !

أما عن بدايتها السينمائية فتقول: بدايتي السينمائية كانت في الإسكندرية عندما التقيت بالمصور محمد بيومي الذي كان يقوم بتصوير الأفلام القصيرة، واتفقت معه على عمل فيلم لا تزيد نفقاته على العشرين جنيها، قمت بتأليف قصته وبدور البطولة فيه، لكنه لم يخرج للنور لتفاهته!

وبين أوراق محمد بيومي نفسه شهادة عن هذا الفيلم فيها ما يلي: زاتفق محمد بيومي مع أمينة محمد الراقصة الشهيرة بملهى زالجليرونس بالإسكندرية وقتها على تصوير واخراج فيلم زليلة في العمرس 1934 وبدأ العمل في الفيلم وشارك فيه الممثل الكوميدي أحمد فريد في دور زعوفس كما قام أيضا بكتابة السيناريو، والقصة عن فلاحة يربح خطيبها الجائزة الأولى في يانصيب جمعية المواساة، وينزلان إلى المدينة حيث يتعرضان لمواقف ومفارقات كوميدية مختلفة نتيجة لعدم خبرتهما بحياة المدينة·

وتحدثت الصحف عن هذا الفيلم وتابعت أخباره باهتمام بسبب ما عرف عن أمينة محمد من مغامرات مثيرة وبدا الفيلم في نظر البعض وكأنه احدى هذه المغامرات لكن بعد انتهاء الفيلم لم تدفع أمينة محمد لبيومي بقية تكاليف الفيلم الذي قام بانتاجه لحسابها مما اضطره لانذارها باتخاذ الإجراءات القانونية ضدها حفظا لحقوقه·

وبعد فيلمين آخرين هما ز100 ألف جنيهس عام 1936 مع توجو مزراحي، وسالحب الموريستانيس 1937 قررت تأسيس شركة انتاج زأمينة فيلمز وبدأت التحضير لفيلم تيتاوونج وهو الفيلم الذي صالحها مع السينما ونقلها من مصاف ممثلات المسرح الثانويات وممثلة ادوار الخادمات في فرقة فاطمة رشدي إلى مصاف البطلات·

وعندما اجتهدت لعمل هذا الفيلم لم تكن تعرف انها ستدخل ذاكرة السينما من أوسع أبوابها وتسجل نفسها في قائمة الرائدات مع عزيزة أمير وفاطمة رشدي وزميلاتها بهيجة حافظ وآسيا داغر وماري كويني·

مولد نجم

وفي هذه المغامرة المدهشة كتبت أمينة محمد قصة الفيلم ووضعت له سيناريو ثم ساهمت في المونتاج والديكور وتصميم الملابس والاخراج بمساعدة مجموعة من الهواة الذين لبوا النداء حبا للسينما، ونشرت اعلانا بالاهرام تطلب وجوها جديدة، وبعد الاختبارات اختارت أمينة محمد ممثلا ثانويا هو زحسين صدقيس الذي كتب بذلك الفيلم تاريخ ولادته كفتى أول في سينما الأربعينات من خلال تيتاوونج ، ومن بين الهواة الذين تخرجوا من مغامرة تيتاوونج أحمد كامل مرسي وصلاح أبوسيف وحلمي حليم والسيد بدير ويوسف معلوف، فقد ساهم أحمد كامل مرسي في السيناريو واشترك السيد بدير مع الناقد السيد حسن جمعة في كتابة الحوار·

وبما ان أمينة محمد لا تملك أموالا تمكنها من التصوير في زستوديو مصرس قررت ان تحول سطح العمارة التي تقع فيها شركتها في شارع إبراهيم باشا إلى مكان سينمائي حيث قام الفنان التشكيلي عبدالسلام شريف بعبقريته بتحويله إلى ملهى صيني آية في الذوق كما شارك بأداء دور مهم في الفيلم كممثل، وصورت في زاستوديو كاتساروسس وفي الحدائق اليابانية بحلوان، اما المصور الفرنسي كورنيل فقد قدم الفيلم الخام ولم يأخذ اجرا على التصوير·

وتقول منى غندور: استلهمت أمينة محمد شكل الشخصية واسم زوونجس من ممثلة أميركية من أصل صيني هي آنا هاي وونج التي كانت نجمة سينما الثلاثينات في هوليوود·

وكان دور أمينة محمد في الفيلم لفتاة صينية تعيش في مصر وتعمل راقصة في احدى الصالات، ويعترض عمها على عملها الذي يسيء للعائلة ويهدد شرفها وحين ييأس من اعادتها للحياة الشريفة يحاول قتلها لكنه يُقتل هو بالخطأ وتتهم تيتا بقتله وتدخل السجن، ولعب حسين صدقي دور المحامي الموكل بالدفاع عنها ويقع في حبها ويتزوجها بعد ان ينجح في اثبات براءتها ويبارك الأب زحسن جمعةس هذا الزواج وقد لعبت حكمت فهمي دور الشاهدة على جريمة القتل·

وهكذا تضافرت جهود تلك الشخصيات الموهوبة، المسكونة بحب السينما في سبيل انجاح تلك الورشة التجريبية من غير ادعاء تقودهم في ذلك موهبتهم وتعطشهم لفرصة حقيقية كالتي تبحث عنها أمينة محمد· جمالها الأسمر الذي لم تعترف به سينما الأمس لأنه خارج مقاييس ذلك الزمن أغلق أدوار البطولة في وجهها وجعلها أسيرة دائرة لا تستطيع منها فكاكا، لكنها حررت هذا الجمال وجعلته نقطة قوتها ومحور حكايتها بدورها كفتاة صينية في ذلك الفيلم·

وحقق الفيلم نجاحا نقديا كبيرا اشاد بدور أمينة محمد كممثلة ومهندسة ديكور، ثم سافرت أمينة إلى بيروت لحضور العرض الأول للفيلم هناك، لكن الإيرادات لم تكن بمثل النقد، فلم تحصد أمينة من الإيرادات ما يسمح لها بمواصلة الطريق، وبعد فترة تراكمت عليها الديون فقررت ان تغادر مصر·

وفكرت في الذهاب إلى اثينا، وهناك قدمت نفسها لصاحب ملهى على انها راقصة محترفة، لكن الرقص الشرقي بالنسبة لصاحب الملهى بدا كأنه حركات عشوائية، ولم تيأس بل حرضها ذلك على السفر إلى أوروبا لتجربة حظها وتنقلت من اليونان إلى بولونيا ثم النمسا والمجروإيطاليا وفرنسا، دون ان تعرف لغة أجنبية معتمدة فقط على سحرها الشرقي وخفة دمها وخطوات راقصة اتقنتها بذكاء وأصبحت أول راقصة عربية على المسارح الأوروبية قبل ان تغزوها حكمت فهمي وسامية جمال وتحية كاريوكا في مرحلة لاحقة·

لكن اندلاع الحرب العالمية الثانية كان سببا في عودتها إلى مصر مرة أخرى حيث رقصت في ملهى زالكيت كاتز لكن ادارة المكان ارادت ان تجعلها تناوم الزبائن، فرفضت وتركت المكان مترحمة على مسؤولي مسارح أوروبا الذين كانوا لا يخلطون الرقص بمجالسة الزبائن·

وشاركت بأدوار صغيرة في فيلمين هما زامرأة خطرةس لأحمد جلال عام 1941 وسجوهرةس ليوسف وهبي عام 1943 وأدت فيه مشهدا راقصا، ثم شاركت في فيلم زتاكسي حنطورس 1945 وسضحايا المدينةس ·1946وسافرت إلى دمشق ومنها إلى حلب، ثم عادت إلى مصر وعملت كمساعدة مخرج في فيلم زفتوات الحسينيةس 1954 مع نيازي مصطفى، وفي نفس الفترة استعان بها المخرج العالمي سيسيل دي ميل أثناء تصوير زالوصايا العشرس في مصر لاجادتها اللغة الإنجليزية بعد سفرها الطويل، ولمعرفتها السينمائية، وانتقلت بعد ذلك إلى أسوان حيث افتتحت كافتيريا في مطار أسوان ثم قررت الانتقال إلى بيروت مرة أخرى حيث افتتحت مركزا للتجميل،وفي أواخر الستينات افتتحت مشروعا سياحيا في جبل عتاقة بالسويس وتحول إلى مطعم في أواخر أيامها، وفي السبعينات ذهبت إلى زليبيرياس وافتتحت اتيليه لتصميم الأزياء، وتوفيت عام 1985 بعد حياة حافلة بالمغامرات، ورصيد من السينما، ربما لم يبق منه سوى تجربة تيتا وونج ·

الإتحاد الإماراتية في 24 ديسمبر 2005

 

الجنة الآن... جحيم أرضي

دبي ـ إبراهيم الملا: 

يبدو أن الاحتفاء الكبير الذي حظي به فيلم ''الجنة الآن'' في افتتاح مهرجان دبي السينمائي الثاني، لم يكن سببه المباشر حفل الافتتاح وما يحيط به من بهرجة صاخبة وحضور لافت وانتباه نقدي وتغطيات إعلامية، بل إن أهمية هذا الفيلم إنما نبعت من الدعاية الذاتية التي صنعها لنفسه، ومن قوة موضوعه المتطرق لقضية ساخنة ومتجددة، وهي قضية الإرهاب والعمليات الانتحارية، وما يصاحبها من فرضيات أحادية واتهامات مباشرة ونظريات تناقش الظواهر السياسية والاجتماعية بما يشبه التعامل مع القشور، دون الولوج إلى اللب وما يعتمل فيه من صراعات وأسرار وخفايا، هذه الصراعات التي لا يصاحبها عادة أي نقاش أو جدل محايد في ظل الهياج الموتور وضجيج الحرب الإعلامية والسياسية القادمة من كل اتجاه، وأيضا من دون أي تتبع لخيوط هذه المآسي البشرية التي يعيشها الفلسطينيون داخل قوقعة مغلقة من النسيان والتهميش الدولي·

ومن هنا أتى فيلم المخرج الفلسطيني :''هاني أسعد''، كي يزيح هذه القشور الإعلامية، وكي يتغلغل بكاميرته وحواراته ومونولوجاته في دواخل ونفسيات الشبان الانتحاريين، وكي يجول بعدسته الكاشفة والمقربة في أعماق المخيمات البائسة وفي أحشاء الضواحي الخلفية الفقيرة والمعدمة، وذلك من خلال شخصيتي سعيد ''قيس ناشف'' وخالد ''علي سليمان'' اللذين يعملان في مرآب لتصليح السيارات، حيث نراهما بعد الاستراحة من العمل وهما يدخنان الأرجيلة على تل مرتفع وينظران للمستوطنات المتهالكة والمعدمة في السفح، كما لو كانا ينظران للمستقبل بعيون قاحلة وخيالات سوداء وقلوب مسمومة، وفي مشهد تمهيدي آخر نرى الفتاة سهى ''لبنى الزبال'' وهي تقف بغضب أمام أحد الحواجز الإسرائيلية ومن دون قدرة على الاحتجاج سوى من خلال نظرتها القوية والمتحدية·

سهى ورغم أنها آتية من الخارج وتتحدث بلكنة مغاربية إلا أنها سرعان ما تكتشف جذورها وتتأقلم مع الوضع وتنشأ بينها وبين سعيد علاقة شبيهة بالشرارات الخاطفة من الألفة والتودد بحكم العلاقات القديمة التي جمعت عائلتيهما·

تبدأ نقطة الصراع الأولى في الفيلم عندما يتم إخطار خالد وسعيد من قِبل خلية جهادية باختيارهما لتنفيذ عملية استشهادية في قلب إسرائيل، رغم أن صفات وتصرفات كل من خالد وسعيد لا تنم عن أي توجهات دينية متشددة ''وهي نقطة مربكة ومحسوبة على الفيلم وعلى السيناريو الخاص بتأسيس الشخصيات''، ولكن يبدو أن رغبة المخرج الواضحة وإصراره على عدم الزج بالتوجهات الدينية والخطابية في المسار الفني للعمل هو الذي صنع هذا الإرباك وهذه المفارقة، حاول المخرج القفز على هذا الخلل التشخيصي بالتركيز على الأبعاد النفسية والسيكولوجية لشخصية ''سعيد''، والتعريج أيضا على حالة الإحباط والضجر التي يعيشها صديقه ''خالد'' من خلال ضغط الظروف الخارجية وليس من خلال الآلام والشروخ الداخلية وحدها·

التحليل النفسي للذاكرة

لم يلجأ ''أبو أسعد'' عند التعبير عن الوجع الفلسطيني للأسلوب التقليدي والإنشائي عند التعامل مع القضايا الوطنية الثقيلة والمتحركة ببطء نحو الحل النهائي والشامل، كما أنه لم يلجأ للأساليب البصرية الصادمة التي عادة ما نراها في الأعمال التسجيلية التي عالجت نفس الموضوع، نتذكر هنا فيلمي: ''جنين جنين'' وكأننا عشرون مستحيلا التسجيليين الذين حاولا رصد الفظائع الإسرائيلية بعريها الكامل، ومن دون البحث عن بدائل فنية وتحليلية للحدث، وعوضا عن نقل وتثبيت الحالة العامة كما هي، لجأ مخرج ''الجنة الآن'' لاستدعاء الحالة الخاصة والسيكولوجية لأبطال الفيلم، خصوصا عندما قام بالتركيز على الشخصية الكئيبة والغامضة والسوداوية للشاب الكتوم ''سعيد'' والتي استطاعت الكاميرا من خلال اللقطات المقربة أن ترصد غضبه الصامت وهياجه المدفون، والذي كشف لنا من خلال حواره مع سهى عن حالة الغليان الداخلي الذي يعيشه بمرارة وألم، تعرف ''سعيد'' على خيوط هذه المأساة الشخصية منذ أن كان في السادسة من عمره، عندما تم إعدام والده على يد الفصائل الفلسطينية بعد اكتشاف عمالته للعدو، لقد وضعته هذه الحادثة وسط حالة مدمرة من التوهان الروحي والصدمة الوجودية الهائلة، فأصبحت المشاركة في العمليات الانتحارية هدفه الوحيد لتكفير ذنب والده ولجم أفواه الآخرين اللذين عايروه بـ''ابن الخائن''، والذين حولوا أهله إلى فئة منبوذة بشكل غير مباشر، ووسط مجتمع هائج ومنفعل سياسيا ودينيا وقوميا·

ورغم أن المخرج لم يستعن ''بالفلاش باك'' أو ''اللقطات الاسترجاعية'' كي يشرح حالة الغليان وعقدة الذنب الاجتماعية التي يعيشها ''سعيد'' منذ طفولته وحتى الآن، إلا أنه وفق في توظيف الشخصية وملئها بالشحنات التعبيرية القادرة على تعويض اللحظات الطفولية المغيبة في سيناريو الصورة·

''التحليل الواقعي للمكان''

الحزام الناسف الذي نطوق به أجسادنا يجعلنا نعيش الحياة بشكل مضاعف، إنه يجعلنا نتلمس حياتنا كما نتلمس جلودنا، فالموت انتحارا مرهون بالغيبيات والغموض، وبموت الآخرين الذين لا نعرف عنهم شيئا سوى أنهم كائنات بشرية مثلنا تضج بالحب والحياة والحلم''·

يمكن لهذا المدخل الذي افترضناه هنا أن يكون تشخيصا لرأي ''خالد'' ولصوت العقل والضمير الذي جعله يتراجع عن عمليته الانتحارية، ويحاول جاهدا إقناع صديقه ''سعيد'' أيضا للاستماع لهذا الصوت الآخر الذي شكّل انعطافة في مسار الفيلم، ورافقه حتى نهايته الغامضة والمفتوحة على عدة تأويلات·

لم تظهر شخصية ''خالد'' في الفيلم بذات التركيبة المعقدة التي ظهر عليها ''سعيد''، لذلك فإن غضبه الكبير كان مصدره خارجيا ومعبرا عن حالة النبذ والتهميش واللاجدوى في التغيير، كما أن ''خالد'' خصوصا كان ميالا للوضوح في تعامله مع فكرة الانتحار وكان أكثر إحساسا بتبعات هذه الفكرة، حيث رأيناه في أحد المشاهد الحوارية وهو يدافع عن عائلات المتعاونين مع إسرائيل، لأنه لا يحق إدانتهم وتجريمهم ومعاقبتهم لذنب لم يرتكبوه بشكل مباشر وفعلي·

لا شك أن فيلم مثل ''الجنة الآن'' رغم معالجته لموضوع العمليات الانتحارية بطرح مختلف وبأسلوب موضوعي وأيديولوجي مغاير، إلا أنه لم يخل أيضا من الإخلاص الفني للصورة السينمائية ولقدراتها الخاصة في نقل الانفعالات المبثوثة في السيناريو المكتوب، وترجمة الحالات العامة من خلال تكثيفها واختزالها في حوادث وظروف إنسانية بالغة الخصوصية، ومنتمية للبحث فيما وراء الظاهر لتحليل وتشريح والمطمور في القصص الفردية لأناس عاديين ومسالمين، ولكنهم يحملون في دواخلهم أسئلة متفجرة وأحاسيس أشبه بالندوب العميقة وبالشظايا المنفلتة في الروح·

في إحدى أجمل لقطات الفيلم وأكثرها عمقها وصدمة ''وهي لقطة النهاية بالذات''، يقوم المخرج بتصوير الملامح الباردة جدا لسعيد وهو جالس على مقعده في الحافلة وسط الجنود الإسرائيليين وفي قلب تل أبيب، ثم يقوم تدريجيا بتقريب اللقطة على وجه سعيد حتى يصل بتركيز كامل وبلقطة شاملة على العينين، تستمر اللقطة بهدوء مُحفّز ومُعذّب وخطر، فلا شيء يمكن توقعه في هذه اللحظة، وفجأة تتحول الشاشة إلى اللون الأبيض الكامل، ولك أن تفسر دلالات هذا اللون، ما بين التعبير عن الهدنة والسلام ونبذ العنف، وما بين الانفجار الكبير والموت والجثامين النائمة في أكفانها !

الإتحاد الإماراتية في 24 ديسمبر 2005

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك