الخبز الحافى وأحلام ودنيا الغضب فى المهرجان سينما الطابور الخامس بين التمويل والإنتاج المشترك صفاء الليثي |
من القضايا الساخنة التى فجرتها دورة مهرجان القاهرة لهذا العام تلك العبارة المطاطة: الإساءة إلى سمعة مصر وهى التهمة التى وجهت لمخرجة فيلم دنيا وأبطاله، وأرى أن طرح الحوار بهذا الشكل يجعلنا نخسر القضية والتى هى أوضح وأشمل من كون المخرجة غير مصرية وأنها تعمدت من خلال الصورة والأحداث تشويه صورة مصر. هذا النوع من الأعمال هو امتداد للأجندة الأوربية التى تضع بنودا بعينها، وتجعل طابورها الخامس فى العالم الثالث سواء فى مصر أو المغرب العربى أو فى الهند وباكستان يتاولونها فى أنشطتهم. وبالطبع لا تُحل قضايا العنف ولا الختان التى -فى تصوري- ستنتهى من تلقاء نفسها إذا ارتفع مستوى معيشة الأفراد وتحسن تعليمهم . عملت جوسلين صعب طويلا فى هذه المجالات، والتى تسمى أحيانا نشاطات حقوق الإنسان كما ذكر عنها فى كتالوج المهرجان، وما يهمنا كسينمائيين هل نحن أمام عمل فنى يستحق المناقشة؟ وهل تاريخ المخرجة وسجلها الفنى يستحق التكريم؟ هل وضعت القضايا التى اختارتها فى سياق درامى مقنع وعبر شخصيات حية كاملة البناء؟ فى فيلمها الذى يتهته كحديثها جمعت عددا من الحكايات والتى يبحثون عنها بملقاط، لجيران يتدخلون فى شئون السكان، وعن سيدة تقود سيارة أجرة، وعن فتاة جامعية أمها راقصة، وعن مفكر يتعرض لحادث إرهابى، وعن سيدة تلقن ابنتها دروسا فى العهر لتمارسه على زوجها. أجندة ضخمة كلما اتسعت ازدادت قيمة التمويل، سائقة التاكسى التى قدمها الفيلم -عايدة رياض- امرأة متفجرة الأنوثة مثيرة جدا ومستمتعة بالحياة خلافا للواقع، فمن يريد التعرف على سائقة تاكسى حقيقية، فليشاهد فيلم تاكسى من إنتاج شركة سمات، ومن الطبيعى أن تكون سيدة جدعة تفرض عليها طبيعة عملها فى الشوارع وسط الرجال هذا، وليس كما ظهرت فى دنيا. ولنأت إلى سياق فيلم دنيا الذى يمكن اختصاره إلى نصف الساعة دون أن يفقد شيئا، حيث تكررت مشاهد دنيا مع مدرب الرقص -الذى يتهته بشكل منفر- ثم مع المبشر والمفكر الذى يخطب بشكل مباشر ويعيد ويزيد فى شعارات التحرر، ثم مشاهد مع الحبيب الشاب أو مع الأسرة وهكذا 1، 2 ، 3، وكأنه إيقاع راقص يهتز ليس طربا ولكن فقرا فنيا وإفلاسا فكريا، لا أعرف لماذا يؤرق المخرجة عدم استمتاعنا الجنسى، ولماذا لا تطلب من داعميها أن يردوا لمصر ما نهبوه فى فترة الاستعمار، ولماذا لا يعيدون لنا ما نهبوه من القطن المصرى الذى تصنع منه البفتة والدمور الذى ربطته حول وسطها فى حركة استعراضية لإظهار كيف تحب مصر؟! وإمعانا فى المتاجرة زجت باسم السيدة سوزان مبارك فى حديثها عن المجلس القومى للمرأة ومناهضة الختان، وهل تتصور أنها بعملها الذى لن يشاهده إلا القلة المثقفة تقدم دعما لمناهضة مشكلة الختان؟ حتى فى أنشطة الجمعيات الأهلية يتحدثون عن الفئة المستهدفة ، فأى فئة يستهدفها الفيلم؟ يشعر المشاهد المصرى العادى وكثير من المثقفين -وليس جميعهم- بالغضب إزاء الأعمال التى تدين العرب والمسلمين وتتناسى الأطراف الأخرى، أو تتعامل برقة شديدة معها، ويزداد الغضب بشكل مطرد كلما كان هناك اهتمام بأصحاب هذه الأعمال، ويخف الغضب حتى يكاد يكتم فى الصدور عندما نجد أنفسنا إزاء عمل جيد، ولن نقول ممتاز، ونسعد عندما ينجح الفنان فى استخدام أموال التمويل دون أن يتنازل عن قضيته، وهو ما وضح فى الخبز الحافى لمخرجه الجزائرى رشيد بن حاج، وهو إنتاج إيطاليا وفرنسا والمغرب، وعرض فى القسم الرسمى خارج المسابقة لمهرجان القاهرة السينمائى الدولى التاسع والعشرين، وكان عرضه فى اليوم الأول للعروض، وشهد حضورا مكثفا نظرا لشعبية الرواية ومنع تداولها فى أكثر من بلد عربى. ويبدأ الفيلم قاسيا كالرواية وأشد، ومع تقدم البطل الصبى تختفى القسوة تدريجيا وتصبح الحياة معادلة يمكن العيش معها، فى مراهقته ومع عمله فى مقهى، تمر عليه مرارات وعذابات وأيضا تجارب حياتية، يجرب كل شيء، مخدرات وممارسات جنسية، يحس المراهق بقدر من الشبع وتنتهى مرحلة المراهقة عند موت صديقه الوحيد -عامل المقهي- بين ذراعيه برصاصة طائشة من جندى من جنود الاحتلال كان يطارد ناشطا سياسيا، يختصر الفيلم عدة سنوات مع محمد وقد أصبح شابا يافعا يعيش فى بيت الغوانى، يحلم بالسفر والحرية، تنشب مظاهرة يتابعها محمد فى اهتمام وخلالها يتعرف على رجل يأخذه معه حيث أسرته الغريبة، يلتقى بمحظية للرجل تحلم بالحرية رأسها حليقة، سنعرف بعد ذلك أن الرجل فعل بها ذلك حتى لا تخرج، تكتمل تجارب محمد ويقيم علاقة عشق مع المرأة التى تحلم بالحرية، يتطلع محمد من النافذة للبحر ويفكر فى حريته ويتحدث عن أحلامه، يتورط فى تصريف مسروقات ويتم القبض عليه ويودع السجن وهناك يلتقى سجينا سياسيا يعلمه الكتابة فى مشهد بديع حيث ترتسم حروف الكتابة وكأنها الخلاص، المناضل يحفر الكتابة على الحائط وبعده محمد، بعدها نشاهده رجلا يعلم أطفالا صغارا بينهم عدد من البنات نفس الدرس الذى تعلمه فى السجن: ألف باء.. أب ، لينتهى الفيلم بشكل يذكرنا بالواقعية الاشتراكية حيث حلم الحرية الفردية مرتبط بتحقق أحلام الوطن، وحيث الرومانسية الثورية التى تنتصر فى النهاية على سلطة الأب وقهر الاستعمار، لم تكن خطايا الأفراد فى الفيلم لأنهم أشرار وكفى، بل ظهرت الخلفيات السياسية وواقع الاحتلال والقهر العام أسبابا كافيا للفقر والعجز، ولم يتركنا الفيلم دون إظهار المقاومة المشروعة والنضال الحقيقى ضد الظلم وربطه بالعلم والمعرفه، لقطة تسجيلية فى نهاية الفيلم للكاتب محمد شكرى ثم شاهد قبره، ليكون الفيلم أعظم تحية لكاتب عصامى تعلم على كبر، ولكن كان لديه مخزون من الموهبة ظهرت بعد التعلم وخاصة فى رواية السيرة الذاتية الخبز الحافى الفريدة فى الأدب العربى بقوة شخصياتها وتصويرها شديد الواقعية لأحوال فقراء فى بلد تحت الاحتلال، ونقلها الفيلم بتفاصيل مدروسة بعناية، دون مشاهد مجانية أو فولكلور مرفوض، ورغم وجود عناصر الأجندة: عمالة الأطفال، والعنف ضد المرأة، فإن الفيلم يحللها ويدين أسبابها الكامنة فى المناخ العام والاستعمار. العربي المصرية في 18 ديسمبر 2005
على عكس ما يدعى صناعه فيلم الحياة منتهى اللذة.. منتهى الموت أحمد يوسف يتصور الفنان أحيانا أن عظمة عمله الفنى تأتى من تعقيده وأنه يقول كل حاجة عن كل حاجة، برغم أن كل الأعمال الفنية الناضجة دون استثناء يمكن تلخيصها فى سطرين أو ثلاثة لا فرق فى ذلك بين الإلياذة والأوديسة وملاحم أبى زيد الهلالى وعلى الزيبق، وحتى ساتيريكون فيللينى وكل هذا الجاز لبوب فوسى، فكلها تدور حول تيمة رئيسية بسيطة تقوم التيمات الفرعية بدور التنويعات عليها، أو فلتقل إن لها بؤرة واحدة تتجه لها كل الشخصيات والأحداث وتفريعات الحبكة الدرامية. تنتمى الأعمال الفنية التى تتعسف التعقيد إلى نوع من المراهقة الفنية أحيانا، أو إلى الرغبة فى زغللة أعين النقاد الذين يقعون فى مأزق الخوف من الاعتراف بعدم فهم الفيلم، فلا يجدون حلا إلا الإشادة التى تظل تتضخم مثل كرة الثلج فى انتقالها من قلم إلى آخر، لكننى أعترف لك بأننى لا أفهم ذلك النوع من الأعمال المراهقة أو العبقرية أو العبقرية المراهقة إن شئت الدقة، لذلك عجزت عن فهم فيلم المخرجة الجديدة منال الصيفى الحياة منتهى اللذة، الذى تشير عناوينه إلى أنه قصة وسيناريو وحوار شهيرة سلام، رغم أنه كان يحدونى الأمل أن تحمل المخرجة وهى ابنة المخرج الشعبى الراحل حسن الصيفى بعض الطموح لتروى حكايات بسيطة مثل أفلام أبيها، وإن كان من حقها وواجبها أيضا أن تطور هذه الحكايات وتمضى بها إلى عوالم أكثر جدية وعمقا. المفارقة الطريفة أن منتجة الفيلم تضع لوحة للبداية: إلى أبى، وهى تقصد المطرب الشعبى أيضا عبد العزيز محمود، الذى كانت أفلامه الغنائية الكوميدية هى أول الأفلام التى رآها كاتب هذه السطور فى طفولته ودخل معها إلى عالم السينما، لكن هذا الإهداء يمكن أن يمتد إلى المخرجة أيضا، لكن الأطرف هو أن الفيلم يحكى من بين حكايات عديدة عن الفتاة التى تعشق ذكرى أبيها الراحل إلى درجة أن المتفرجين -وأنا واحد منهم- لم يعرفوا إن كان ذلك وفاء أو مرضا، وحتى تدرك سبب هذه الحيرة أيها القارئ العزيز فلا حيلة لنا إلا أن نحاول وهى محاولة مضنية بحق تلخيص حواديت الفيلم المتشابكة، وليتوقف هنا عن القراءة من يريد أن يعرف هذه الحواديت بنفسه عندما يرى الفيلم. شوف ياسيدى: هناك ثلاثة أصدقاء يلخص الفيلم شخصياتهم كما يفعل مع كل الشخصيات الأخرى فى ملامح مسطحة أو غير مستديرة كما يقول نقاد الدراما، الأول هو أحمد مجدى كامل أستاذ الجامعة الذى يدرس الأخلاق فلابد إذن أنه أخلاقى جدا، أما الثانى فهو شريف يورى مرقدى الذى يمتلك محلا لبيع الملابس وأدوات الزينة، وسوف تعرف فيما بعد لماذا اختار له الفيلم هذه التجارة تحديدا، أما الثالث فهو عمرو فهمى أشرف مصيلحى الذى ليس له أى لازمة فى الفيلم لكنهم يقولون عنه إنه مخرج أغنيات فيديو كليب، لذلك يتم استدعاؤه للحدوتة بين حين وآخر لكى نسمع ونرى ما لذ وطاب من وجهة نظر صناع الفيلم من بعض فواصل الأغنيات والرقص. سوف تسألنى ما لهم هؤلاء الثلاثة؟ سأجيبك: ولا حاجة، سوى أن الأول والثانى لقد قلت لك إن الثالث ليس له لازمة يعانى كل منهما من مشكلة عائلية، فالأول أستاذ الجامعة يكتشف أن زوجته منى منة شلبى التى تزوجته بلا حب تقضى لياليها أمام الكومبيوتر لتتبادل الدردشة مع حبيب قديم، والثانى صاحب المحل يعانى من أن زوجته حنان حنان ترك لاتزال تعيش فى ذكرى ابيها طيب الذكر حتى إنها تهمل زوجها. طيب ماذا يفعل الأول الأخلاقى جدا أمام خيانة زوجته؟ يطلقها ويأخذ سجادة الصلاة ليصلى فوق هضبة المقطم فى نفس المكان السينمائى الذى كان آخر ظهوره فى فيلم جاى فى السريع حيث أخذت انتصار خطيبها ماجد الكدوانى ليكتشف هناك أنها غير أخلاقية على الإطلاق! الآن ماذا يفعل الثانى أمام تجاهل زوجته لطلباته؟ يخونها بالطبع، لكن المشكلة مع من وأين؟ محلولة، فهناك عائلة فقيرة مكونة من الأم الشغالة سعاد نصر والأب المدمن أحمد راتب وابنتهما طالبة الثانوى غادة زينة، ولأن الأب المتوحش يقسو على عائلته فإن الحواديت تدفع الابنة لكى تبيت فى محل شريف دون أن يعلم، حيث تتزين وترتدى الملابس الفاتنة الفاخرة هل عرفت الآن فائدة المحل؟، ولسبب ما لا أتذكره يذهب شريف بالصدفة فى نفس الليلة للمحل بعد إغلاقه، حيث يرى الفتاة على هذه الحالة التى لا يمكن مقاومتها خاصة أنه محروم من حنان حنان، المهم أنه يغلط مع الفتاة المسكينة ويفقدها أعز ما تملك بعملة أيام زمان. تعقدت الحواديت وتشابكت بحيث قد يصعب على أى كاتب سيناريو أو مخرج أن يجد لها حلا، لأنه وضع كل المآسى التى تشبه حواديت البرنامج الإذاعى من الحياة فى سلة واحدة، لكن مهلا! فالحل سهل على طريقة من الحياة أيضا، فأبو الفتاة يسعى للثأر لكرامته، ويطلق النار فيصيب حنان فى مقتل، وتصعد روحها حرفيا أمامك على الشاشة، وقبل أن تشفق عليها سوف تقول لك إن ما حدث هو عز الطلب، فقد حققت رغبتها فى لقاء أبيها الراحل، وتترك ويترك معها صناع الفيلم بقية الخطوط الدرامية معلقة فى الهواء!! المشكلة فى الحقيقة ليست فى الخطوط الدرامية بقدر ما هى فى أن صناع الفيلم قد يتصورون أنهم يقدمون نصائح لربات البيوت اللاتى ليس لديهن مشكلات حقيقية فى تدبير أمور الحياة لكى تحافظن على أزواجهن، لكن لن تتخيل أن من بين اكتشافات الفيلم هو أن الموت منتهى اللذة، وهذه هى الجملة الأخيرة التى ينتهى بها الفيلم على عكس عنوانه... ألم أقل لك إننى لم أفهم أى حاجة؟! العربي المصرية في 18 ديسمبر 2005 |
ضوء... أمواج تتصارع في محيط السينما عدنان مدانات من الظواهر الشائعة في مسيرة السينما في العالم بروز فترات تسود وتسيطر على أسواق العرض السينمائي فيها أنماط معينة من الأفلام تتعاقب على شكل اصطلح على تسميته بالموجة السينمائية. تستمر الموجة عادة بضع سنوات قبل أن تصل الى نهايتها وتخفت، بعد ذلك تحل فترة أخرى فتصحبها موجة جديدة من الأفلام، وهكذا دواليك. يمكن تقسيم الأمواج السينمائية إلى فئتين لكل منهما منطلق وهدف مختلفان. وفي حين تنتمي الأمواج السينمائية الأكثر شيوعا وشعبية إلى عالم السينما التجارية الترفيهية وتهدف إلى جذب المزيد من المشاهدين نحو شباك التذاكر، فإن الأمواج الأخرى تنتمي إلى حقل المواقف العقائدية، الفكرية والجمالية، من السينما وعلاقتها بالواقع والمشاهدين، كما تهدف، من ناحية ثانية، إلى تمتين علاقة السينما بالواقع الذي تعبر عنه والرقي بالوعي والحس الجمالي لدى عامة جماهير السينما. من نماذج الأمواج المتلاحقة التي شاعت بشكل خاص منذ الثلث الأخير من القرن العشرين، موجة أفلام الرعب التي تصور المخلوقات المتوحشة والحشرات التي تهاجم الناس، موجة أفلام “الزومبي” التي ينهض فيها الأموات من القبور، موجة أفلام الكاراتيه والتي تلتها لاحقا موجة أفلام “النينجا” بأبطالها الأسطوريين من اليابانيين ذوي القدرات الخارقة، موجة أفلام الخيال العلمي، موجة أفلام المافيا، الموجة الكوميدية الخاصة بالزنوج، وحتى الموجة الرومانسية التي تحتاجها صناعة السينما كي تساعد المشاهدين بين حين وآخر على التخلص من وطأة الأفلام المليئة بالأهوال، وغيرها من الموجات التي تنتمي إلى السينما التجارية الترفيهية مع تفاوت في المستوى الفني والتقني، والتي يصل الإسفاف ببعضها إلى أقصى درجاته. أما الأمواج العقائدية، إن صحت هذه التسمية، فتمثلها مجموعات الأفلام التي تشكل مدرسة سينمائية ما في زمن محدد، مثل الموجة الجديدة في السينما الفرنسية، والواقعية الإيطالية الجديدة، وموجة السينما السياسية، وموجة “السينما نوفو”، السينما الجديدة، أو السينما الفقيرة التي انطلقت الدعوة لها من السينمائيين اليساريين في دول أمريكا اللاتينية، وموجة أفلام “الدوغما” التي انطلقت قبل بضع سنوات من الدنمارك، وغيرها من المدارس التي تؤسس بأشكال مختلفة لأفلام ترتبط بالواقع أو تعكس الإمكانيات الإبداعية الكامنة في الجوهر الجمالي للسينما. وفي حين تتسم كل من الأمواج الترفيهية على حدة بصفة المنتَج ذي الصلاحية المحددة الزمن نسبيا وتؤدي وظيفتها ضمن تلك الفترة لتتراجع بعدها لمصلحة الموجة التالية، دون أن تترك وراءها أثرا يذكر في المستقبل، فإن موجات الأفلام العقائدية تتفاعل فيما بينها وتتكامل وتتسبب في تراكم الخبرات، ولا تفقد معظم أفلامها قيمتها على الرغم من تقادم الزمن عليها. وفي حين ان الأمواج التجارية ترتبط بجنسيات وبمصالح صناعة سينمائية محددة وتقتصر عليها، تعبر الأمواج العقائدية القارات فتنتشر عبر سينمات أقطار مختلفة من العالم. تستمد الأمواج السينمائية التجارية الشعبية دماءها وتتغذى بواسطة التقنيات المتطورة ويتعاظم فيها دور الفنيين والتقنيين والممثلين على حساب دور المخرج وكاتب السيناريو، أما الأمواج العقائدية المقابلة، والتي هي، للأسف الشديد، الأقل انتشارا وشعبية على المستوى الجماهيري العام فتبحث عن قوة الفكرة وعمق المضمون وغنى الموضوع وذكاء الحكاية وبراعة السرد وجماليات الشكل وبلاغة التعبير وتميز الخصوصية الأسلوبية، ويتعاظم فيها دور المخرج وصولا إلى درجة اعتباره مؤلفا للفيلم، وليس فقط مخرجا له، انطلاقا من أن مفهوم “المؤلف” أشمل وأرفع قيمة من مفهوم “المخرج”. ترفع الموجات السينمائية الشعبية شعار: السينما صناعة وترفيه. وترفع السينما العقائدية شعار: السينما فكر وفن. في الواقع، لا تقتصر الأمواج السينمائية، أو بتعبير أدق، لم تعد تقتصر على هاتين الفئتين المتقابلتين من الأمواج السينمائية اللتين ظلتا لسنوات طويلة تشكلان أحد أشكال التطورات والحركات الرئيسية في مسيرة السينما العالمية، فقد بدأت تبرز منذ بداية الربع الأخير من القرن المنصرم ظاهرة جديدة نوعا ما في عالم الأمواج السينمائية تتمثل في انتماء كل موجة على حدة لبلد معين. هكذا صار يجري الحديث بشكل خاص عن موجات سينمائية، ومن اللافت أنها آسيوية المنشأ حتى الآن، مثل موجة الأفلام الإيرانية وموجة الأفلام الصينية وموجة الأفلام الكورية الجنوبية، حيث أصبحت أفلام تلك الدول تحظى باهتمام واسع في المهرجانات السينمائية الدولية، تحصل على أهم الجوائز السينمائية، بما فيها جائزة الأوسكار الأمريكية التي في الأغلب ما رشحت ومنحت جائزة أفضل فيلم أجنبي لأفلام من تلك الدول، كما أن أفلام تلك الدول عامة، وليس فقط أفلام أي مخرج يثبت تميز موهبته، تلاقي هوى شديدا لدى نقاد السينما وهواة فن السينما الراقية (هذا مع ملاحظة أنه لا يمكن أن تكون كل الأفلام المنتجة في بلد معين من ذات السوية الفكرية العميقة والفنية الرفيعة، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار وجود سينما محلية تجارية ترفيهية صرف في كل البلدان). ما يبعث على الاهتمام والإعجاب بأفلام تلك الدول هو أنها تقدم نموذجا فذا للقدرة على بناء الحكايات المدهشة على الرغم من بساطتها الظاهرية، الحكايات المستمدة من تفاصيل صغيرة من الواقع اليومي لحياة بسطاء الناس، تفاصيل يبدو للوهلة الأولى أنها لا تصلح لبناء حكاية متكاملة ومشوقة ولا تتضمن شحنات درامية تستحوذ على عواطف المشاهدين، غير أن المشاهدين يجدون أنفسهم مشدودين، بحبل سحري سري ربما، إلى ما يحصل أمامهم على الشاشة. ونذكر كمثال، من بين عشرات الأمثلة على هذه القدرة، حكاية الفيلم الإيراني الذي لفت انتباه نقاد السينما إلى تميز وموهبة مخرجه عباس كياروستمي “أين بيت صديقي؟” (عام 1983) الذي تقوم حبكته على سعي طفل قروي للعثور على بيت زميل له في الصف، يقطن في قرية مجاورة، لكي يسلمه دفتر الواجبات المنزلية، من أجل إنقاذه من توبيخ المدرسٍ له في اليوم التالي فيما لو جاء إلى المدرسة من دون حل الواجب في الدفتر، فقد استطاع كياروستمي أن يصنع من هذه الحكاية البسيطة الخالية من الحبكة المعقدة ومن الأحداث المثيرة التي تمتلىء بالمغامرات والصراعات والتناقضات على مختلف أنواعها بين الخير والشر، الخالية من الانتصارات والهزائم، الخالية من أفعال البطولة، دراما مؤثرة مشبعة بالعمق الحياتي. الخليج الإماراتية في 19 ديسمبر 2005 |