شعار الموقع (Our Logo)

 

 

السينما هي فن العصر بامتياز، إذ بإمكان كل الفنون أن تتجلى عبرها، رغم أنـها تظل تتميز عن جميع الفنون بلغتها وعوالمها الخاصة، وكمثال، ففي العمل السينمائي كما هو الحال في المادة التشكيلية، تصبح النزعة الأدبية مرفوضة، ذلك إن لكل فن إيقاعه وصيرورته أي لغته الخاصة، وهي التي تميزه عن سواه، وهذا التمييز أصبح ضرورياً ولازماً رغم أن كل شيء تقريباً بدأ من الأدب.

وإذا كان الشعر هو الأسبق في خلق العوالم والتحولات التشكيلية المستمرة، فان الرواية وعلى يد ديستوفسكي بشكل أشمل من سواه، شهدت ما يمكن تسميته بالتبشير المبكر بالعوالم والمتخيلات السينمائية، فروايات ديستوفيسكي من حيث بناء المشاهد وإدارة الحوارات تضعنا في أجواء بصرية متواصلة الحركة والإيحاء، حيث يجد المشاهد نفسه داخل الرواية وكأنه في عالم سينمائي، إذ فعل الروائي الروسي المعروف ذلك قبل أن يسمع أحد بالسينما بعدة عقود.

على إن هذا لا يلغي كون الفكرة السينمائية أنتجتها شروط وضرورات خاصة بـها، وهي كظاهرة جاءت نتيجة لتطور التقنيات فأصبحت إحدى علامات الحياة الإنسانية الحديثة معبرةً عن الرقي النوعي في الوعي الفني، فالمادة السينمائية هي خيار حاسم بالنسبة للإنسان المعاصر، ليست كبديل عن الأدب، لكن كاستمرار خلاق للفنون الأخرى جميعها، حيث كان لا بد من فن بـهذه السعة ينسجم مع حياته الجديدة، فلم يعد بوسع كل إنسان بالضرورة إنفاق أيام وأسابيع لقراءة رواية، فكان لا بد أن يراها على الشاشة خلال ساعتين.

إن أي متابع يرى بوضوح، بأن ارتفاع وتيرة الإنتاج السينمائي خلال العقود الأخيرة، كماً ونوعاً، إنما انعكس سلبياً لناحية الاهتمام بالشعر إنتاجاً وتلقياً، فقد دخل الشعر خلال الفترة ذاتـها، امتحاناً صعباً، الأمر الذي دفع إلى تجديد أساليب الكتابة الشعرية، والى تطور الاهتمام باللغة البصرية عموماً. فقد أصبح على النص الشعري أن يقاوم على أكثر من صعيد، وهو إن تعززت مفاهيمه الجمالية مع سقوط طغيان الأيديولوجيا، فقد ظل عليه أن يقاوم طغيان النزعة الاستهلاكية، بان يـملك قدرة الحضور أمام النجاحات الكبيرة والإنجازات الباهرة للسينما.

وإذا كان توقف الشعر سيعني حتماً جفاف شيء مهم في الذاكرة الإنسانية، فأن تكييف الكتابة القصصية أو الروائية بشكل مقصود لكي تصبح مادة صالحة للسينما، وكذلك دعوة الكتاب الشباب للتركيز على كتابة الدراما التلفزيونية، هي دعوة تثير شيئاً من التحفظ، فهي دعوة ذات نزعة نفعية بالمعنى التجاري الذي لا ينسجم مع مشروع له علاقة حميمة بالمشاعر والوجدان كالكتابة الإبداعية.

فالقصة لا بد لها من أن تبقى قصة، أي أن لا يتم تكييفها لناحيتي التقنية والموضوع بـما يكفل تحويلها لاحقاً الى سيناريو، لأنـها ببساطة ستفقد هويتها ومبررات تسميتها قصة، في حين بإمكان القاص أن يتحول الى سيناريست إذا كان يـملك حاسة السيناريست ومخيلته كما يفعل البعض بجدارة، وإلا عليه أن يترك لهذا الأخير مهمة تحويل قصصه الى سيناريوهات إذا كانت تصلح لذلك، فليس بإمكان أي قاص مهما كان مبدعاً أن يصبح سيناريست بالضرورة، وليس بإمكان أي سيناريست أن يكتب قصصاً، فليس بوسع نجيب محفوظ وأسامة أنور عكاشة أن يتبادلا المواقع، لأن لكل منهما مكانته التي يحددها اختصاصه، فالتجربة هي التي تؤكد صدقية الكاتب وأهميته وليست الرغبة أو حاجة السوق.

وفي ذات الوقت، لم يعد بوسع القصة والرواية أن تُكتب بعيداً عن حميمية الشعر وأجواء السينما، لم يعد بإمكانـها الابتعاد عن اللغة البصرية المنطوية على روح التشكيل أيضاً، وهذا ما عزز منذ البداية الأعمال القصصية والروائية المعروفة، أي منذ غوغول وديستوفسكي، هذا إذا لم نقل بأن ملحمة جلجامش ذاتـها هي نص سينمائي جاهز إذا ما توفرت الإمكانيات التقنية لإنتاجه، دون أن يفقد قيمته الأدبية كملحمة وذلك بسبب أستثنائيته المعروفة.

وإزاء كل هذا التداخل فان الفن يحيلنا الى التجربة الإنسانية، والتجربة في المحصلة (لغة) بالمعنيين التفصيلي والجوهري، فالمبدع يجب أن يمتلك لغته الخاصة النابعة من تجربته هو، أي أن لا يستعير لغات الآخرين أو يخضع لسطوتـها، فالموهبة الحقيقية تقود صاحبها الى لغته الخاصة، أي الى جرحه الإنساني الخاص.

قبل أيام قرأت رواية لكاتب عربي مشغولة بشكل جيد، لكن أجواءها تحيلنا الى روايات أمريكا اللاتينية! هذا يعني أن الكاتب فاقد الإحساس بمكانه الخاص وتجربته الإنسانية الخاصة، وهنا يكمن الفرق بين المقلد وبين المبدع، فليس بوسع المرء أن يتصور أية أهمية للسياب أو لوركا بعيداً عن محليتهما، وهذا ينطبق على كل تجربة إبداعية، لكن الأمر ذاته قد ينطوي على بعض الإلتباسات التي قد تُنتج أسئلة لا مبرر لها، فقد قرأت ذات مرة تساؤلاً لشاعر لبناني زار القاهرة وكان قبل ذلك قد زار البصرة ورأى (جيكور) قرية السياب، والتساؤل مفاده : لماذا لم يكتب الشعراء المصريون قصيدة رائعة عن النيل، هذا النهر العظيم، في حين كتب السياب "النهر والموت" قصيدته الرائعة وهي تدور حول (بويب) وهو نـهير صغير لا يعرفه أحد؟!

هل يمتلك هذا التساؤل مبرراً ؟! لا أعتقد ذلك. إذ يمكن القول أن المكان بذاته لا يخلق مبدعاً بالضرورة مهما كان ذلك المكان عظيماً، إنما التجربة الروحية للمبدع، أي حساسيته وطريقة استقباله للمكان بما ينطوي عليه من حياة مرئية وغير مرئية، هي التي تُعيد ابتكار المكان داخل النص، فلولا روح السياب المرهفة والمسكونة بالخوف الخرافي من الغرق ورحيل الموتى في أعماق الأنـهار، لما سمع أحد ب(بويب)، ولو ولد السياب قرب نـهر آخر لحل أسمه محل بويب لأن السياب كان قد أسقط مخاوفه عليه وغمره بروحه الشعرية المرهفة. أن يكتب شاعر ما، السياب أو سواه، قصيدة جميلة عن نـهر معين، فهذا لا يعني أن تستعاد التجربة نفسها لدى شعراء آخرين حول أنـهار أخرى، علماً بأن النيل ذاته قد ألهم جميع المبدعين المصريين وهو دائم الجريان في قصائدهم وقصصهم وأيامهم، وما دمنا قد بدأنا حديثنا عن السينما، أليس فلم الراحل صلاح أبو سيف "السقا مات" هو قصيدة رائعة عن الحب والموت على ضفاف النيل الخالدة؟! تمكن إعادة ابتكار المكان إبداعياً، لكن لا يمكن تقليد المبتكرين. 

Karimabid7@yahoo.co.uk
 

موقع "إيلاف" في  4 مارس 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

مي المصري.. اطفال المخيمات اصبحوا يحلمون بالحب والسينما

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

السينما والخيال الخلاق:

إعادة إبتكار المكان

كريم عبد