مرة أخري يعود بنا المخرج وائل إحسان والكاتب بلال فضل إلي الفترة السينمائية القاتمة التي اعتقدنا من خلال بضعة أفلام شابة أننا قد تجاوزناها.. ولكن ها هو الواقع المرير يطل علينا برأسه مرة أخري ليعيدنا إلي أفلام نعجب كيف تمت كتابتتها وكيف تم تمثيلها وكيف تم تصويرها. مجموعة من الاسكتشات المتنافرة التي لا تربط بينها أية صلة درامية وعلاقات لا يحكمها منطق.. وحوار يصل أحيانا إلي درجة من الابتذال غير المقبول. المؤسف في هذا الخليط البعيد عن الانسجام.. أن يذهب ضحيته ممثلون شبان كنا نأمل لهم مستقبلا أكثر حرارة.. ووجودا أشد عمقا. «الباشا تلميذ» يقدم لنا شخصية ضابط شاب.. توكل إليه مهمات صعبة.. ولكنه في حماسه الشبابي.. ورغبته بأن يسلي نفسه.. يضع الأمور عاليها سافلها.. كما يحدث في العشر دقائق الأولي من الفيلم.. حيث يسبب عن قصد معركة في حفل زفاف ريفي بين أهل العروس والعريس.. ويقف كمعلقي الكرة، يشهد المعركة الدامية ويعلق عليها!! ولكن رغم هذه التصرفات يوكل إليه رئيسه مهمة أكثر صعوبة مستغلا شبابه ونضارته بأن يدفعه للالتحاق بإحدي الجامعات الخاصة التي يشك في أنها مركز لتوزيع المخدرات من خلال مجموعة فاسدة من الطلبة.. وتواطؤ مريب من الأساتذة والمشرفين. ويدخل الضابط الشاب.. ليقيم علاقات متعددة مع هذه المجموعة المريبة.. التي لا تفعل شيئا في هذه الجامعة الخاصة إلا الرقص.. والهزء بالأساتذة.. وتنظيم الحفلات الصاخبة، مجموعة من الطلبة ذكرتنا بالمجموعة السالفة الذكر التي رأيناها قبل ثلاثين عاما أو يزيد في «مدرسة المشاغبين».. مع الفارق الكبير أنها لا تتمتع بخفة ظلها التي أنجبت عددا من كبار ممثلي الكوميديا في مصر.. وإن كانت تشابهها في حمقها ونشاز سلوكها وابتعادها الكامل عن أي مفهوم أخلاقي محترم. وبالطبع كان لابد لضابطنا المتنكر في هيئة تلميذ أن يتظاهر أنه وقع في حب قائدة هذه المجموعة.. وهي فتاة ثرية مدللة.. تقيم الحفلات الصاخبة في فيلتها الأنيقة بمباركة أمها التي لا تحاول أن تمنعها وهي تذهب بالشباب الذين يعجبونها إلي غرفة نومها!!.. لكن المؤكد أن الفتاة قد وقعت في حبه من أول نظرة.. ومن خلال انتصاره بالضربة القاضية علي صديقها الذي يفترض أن يكون هو أيضا.. رئيس مجموعة هؤلاء الشباب «الفاقدين». وهناك أيضا كالعادة الفتاة البدينة التي تلقي بنفسها علي أي رجل تصادفه حتي لو كان في سن أبيها...! وشخصيات أخري جانبية لم يحاول السيناريو أن يعطيها أية صفة محددة وإنما أبقاها في الظل.. لتتحرك حسب ما يحرك الموج.. أبطال الفيلم. الكل يحب أو لا يحب.. يدخن.. ثم يتصرف.. وكأنه لم يدخن في حياته أية سيجارة مريبة أو يشرب أي كأس خمر.. كما هي حال بطلتنا مثلا، التي تبدو لنا وكأن كل خطايا الدنيا قد ركبتها ثم نكتشف شيئا فشيئا.. إنها طاهرة بريئة وبيضاء كالياسمين. وضابطنا التلميذ.. يعيش حياة الطلبة ويرتكب الأخطاء ويقع في المحظور.. ورئيسه الذي تتراوح شخصيته بين الغباء الكامل.. وبين الانضباط الشديد.. يخضع لنزواته وينقذه من الحرج الذي تسببه تصرفاته.. لأن أخ زوجته يشفع له دائما (وهو أيضا ضابط بوليس). يحار المرء حقا كيف يلخص موضوع هذا الفيلم العجيب.. الذي لا يحكمه أي منطق ولا تحركه أية أحداث معقولة، هل هو اتهام لجهاز الشرطة الذي يصوره الفيلم بصورة كاريكاتورية قاسية.. أم هو اتهام للجامعات الخاصة التي تتخذ من التعليم ستارا لأعمال إجرامية أهمها توزيع المخدرات ونشرها.. أم هو أخيرا تصوير لطبقة فاسدة من الشباب تمضي أيامها باللهو والعبث.. ولياليها ببيوت الدعارة والكازينوهات.. ولا مانع أيضا من فتح أبواب بيوتها الفخمة عريضة واسعة.. لكي يفعل بها هؤلاء الشباب ما يريدون أن يفعلوا دون رقيب أو محظور؟ وأخيرا ما سر هذه الشخصية التي زرعها الفيلم.. ولم نفهم طبيعتها الدرامية الحقة، وهي خادمة تعمل بهذه الجامعة الخاصة.. وتسرق الكتب من صناديق الطلبة لكي تراجع بها دروسها.. لأنها اضطرت للعمل كخادمة كي تستطيع دفع أقساط تعليمها.. ثم توافق علي أن تكون عينا للضابط في المدرسة تختفي مرة.. وتظهر مرات.. دون أن ينجح المتفرج في الإمساك بأي خيط درامي لها.. أو أن يفهم سر وجودها.. والرسالة التي تحملها إلينا!! لا شك أن صانعي «الباشا تلميذ».. قد أرادوا أن يسايروا الموجة الشبابية التي أدرت علي أصحابها الملايين.. وأن يمسكوا بآخر عربة في القطار قبل أن يرحل.. ولكنهم علي ما يظهر قد نسوا أن جمهور السينما هو أيضا سريع الملل، شديد التقلب، وأن «الطعام البائت» لا يرضيه، وأنه مهما بلغت سذاجته فإنه سرعان ما يكتشفه ويرميه وراء ظهره. الضحية الكبيرة لهذا الفيلم الذي يبدو أن أصحابه كانوا علي عجل من أمرهم ليحصدوا ما يمكنهم أن يحصدوه من أرباح ومكاسب.. كان نجومه الشباب أنفسهم. كريم عبدالعزيز الذي خطا منذ ظهوره الأول خطوات أثارت الكثير من الأمل في نفوسنا يبدو هنا في أسوأ حالاته.. إنه أراد أن يكون ميل جيبسون أو جورج كلوني.. ولكن طبيعة جسده ورقة وجهه.. تمنعه تماما من أن يكون هذا أو ذاك. إن طبيعة تكوين كريم عبدالعزيز.. تفتح له الأبواب ليكون نجما رومانسيا من الطراز الأول.. وليس نجم معارك ومطاردات وملاكمة كما أراد له الفيلم أن يكون. إن السينما المصرية تلهث الآن وراء الوجه الرومانسي وتفتقده بشدة، (وهذا ما يفسر هذا الانطلاق المدهش لـ«أحمد عز».. والإعجاب المجنون الذي أحاطه منذ ظهوره الأول). ولا أدري كيف يحاول كريم عبدالعزيز.. أن يبتعد عن هذا اللون المرغوب الذي تساعده علي أن يبرع فيه.. ملامح وجهه الطفولي.. وجسده الرشيق وتكوينه العام. غادة عادل.. وجه جميل.. لم تعط الفرصة لكي تقول أو تمثل أو تقنع.. لأن شخصيتها رسمت بطريقة خاطئة.. بين الظل والنور، بين الواقع واللاواقع، متأرجحة في تلال اللامنطق دون أن تجد حبلا صغيرا واحدا.. يمنعها من الانزلاق إلي الأسفل. محمد لطفي.. وحسن حسني..وضعا نفسيهما في أسر الشخصية الواحدة ذات الطابع النمطي فأصبح من الصعب الحكم عليهما وعلي ما يفعلانه. هذه النمطية التي بدأت تطارد أيضا النجمة الشابة التي لعبت دور الفتاة البدينة والتي تدفعنا إلي الضحك عليها.. أكثر مما نضحك منها، خصوصا عندما يجعلها السيناريو تتصرف كما كانت تتصرف العبقرية زينات صدقي، دون أن تكون لها موهبتها وحضورها. رجلان فقط.. خرجا من هذا الطوفان الفاجع الذي أغرق الجميع.. هما خالد الصاوي الذي يثبت بتنوع أدواره وقدرته علي التلوين أنه قادر علي إثارة الإعجاب والمتابعة. ورامز جلال الممثل الشاب الذي لعب دور قائد مجموعة الطلاب الفاسدين.. وخصم كريم عبدالعزيز في قلب محبوبته، الذي ينقلب فجأة إلي إنسان عاقل يساعد في إنقاذ الكلية من هؤلاء الذين يمتصون دماء شبابها دون أن نفهم السبب أو نجد العذر، لقد لعب هذا الممثل علي ما أذكر أدوارا مشابهة قبل ذلك، ولكني أحس أنه يملك طاقة تمثيل حقيقية تنتظر الدور المناسب والإطار المناسب. بقيت كلمة أخيرة حول الحوار في الفيلم الذي هبط إلي مستوي مؤلم ومثير للخجل، وكأن أصحابه قد نسوا تماما الفرق بين حرية التعبير والإسفاف اللفظي.. وأكاد لا أصدق أن بلال فضل الذي كتب حوارا مدهشا لفيلم «صايع بحر» هو الذي كتبه.. بل إن دهشتي تمتد إلي أبعد من ذلك.. وتدفعني إلي التساؤل كيف يمكن لمن كتب «صايع بحر» بهذه الرهافة والحس الدرامي السليم والعمق التأثيري أن يكون هو نفسه من كتب «الباشا تلميذ». «الباشا تلميذ».. عودة مؤسفة لهذا النوع من الأفلام الذي ألقي بظله الكئيب خلال موسمين ماضيين علي سينمانا.. واعتقدنا متفاءلين أن موجته قد انحسرت، ولكن ها هو يعود إلينا بكل عنفوانه وقد ازداد ضراوة وابتذالا.. ويحرق في مسيرته كل أمل واعد، وكل موهبة تتفتح. جريدة القاهرة في 17 فبراير 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
فيلم "الباشا تلميد": عودة مؤسفة إلى السينما الهابطة د. رفيق الصبان |
|