اذا كان الجنس بوصفه هبة عامة ممنوحة لكل انسان، مشتركا في وسائله وادواته وربما في طرائقه وغاياته بينهم فانه مختلف بقدر اختلاف حقول التعبير عنه واساليب هذا التعبير، فالجنس من حيث هو فعل حيوي انساني، يتأسس اصالة على وفق البنى الاجتماعية والحضارية وتأثيرات المحيط البيئي والثقافي، وماينشأ عن هذا المحيط من قيم وعادات تلقي بظلالها على الفعل الانساني عامة، وعلى الفعل الجنسي خاصة، ولكن الجنس من حيث هو معطى فني يختلف في صورته الحياتية، بالرغم من اعتماده عليها وذلك بسبب طبيعة الفن من جهة واختلاف الحقول التعبيرية من جهة اخرى وبحسب وعي المبدع واسلوبه ووسائله، فضلا عن التفاوت المتأصل بين المبدعين في تدرجات سلم القيم عند كل منهم واولوياته، وفي وعيهم بهذه القيم ومكانها في رؤيتهم الخلاقة. وليس من شك في ان الفن السينمائي هو اكثر الحقول خحطورة في هذا الجانب، لاعتماده البصري على المماهاة مع الواقع مهما اختلفت الاتجاهات والاساليب والرؤى التعبيرية، لان بنية الصورة التي تؤسس ماهية السينما تجعل من الفعل واقعا موازيا للواقع الخارجي، وذلك بالتجسيم المرئي للفعل ومكوناته ومحيطه الامر الذي يعطي الاشارة الايروتيكية، مهما كان نوعها وطريقة توظيفها، قدرا لايستهان به من الاثارة والشهوية ولفت الانظار، ومايتبع ذلك من خرق لتدرجات سلم القيم ولو على المستوى المعرفي المحض. لأن الاعتقاد بواقعية الواقع السينمائي يعني ضمنا الايمان بامكان وجوده في الواقع، وهذا الايمان يجعل من السهل تحويل المتخيل البصري الى خبرة ممكنة الحصول في الحياة، وهنا تتولد خطورة التجسيم ولو على وفق رؤية ذهنية خالصة. فالصورة تفضح الخيال من خلال تجسيمه، وتحد من حركته الخلاقة من جهة، وتكشف خفاياه وظلماته حين تفرض نموذجا ثابتا له ومسارا تعبيريا مفردا يقلل من امكانية المتلقي ولكنه يوسع افاق الخطر والاثارة من جهة اخرى. وهذه الطبيعة المتأصلة في السينما هي السبب في الحذر الشديد، رقابيا وفنيا، في التعامل مع معطيات الاشارة الايروتيكية وتوظيفها، لان هذا التعامل مهما كان هدفه وطريقة توظيفه لابد ان يقود الى اعادة صياغة الواقع البديل الذي هو تزويق او تشويه او حرف للواقع الفعلي، ولكنه يمتلك قوة ومصدلقية في وعي المتلقي تفوق قوة الواقع الاصيل ومصداقيته. والجنس في السينما جنسان لكل واحد منهما ادواته ووسائله التعبيرية وعناصره التكوينية وقبل ذلك الرؤية العميقة والوعي الذي يبنى عليه هذا التعبير وامكاناته: النوع الاول: الجنس الايمائي: وهو جنس صامت وغير متحقق بالوسائل المألوفة، اذ يستثمر معطيات الايماءات والرموز اللغوية والبصرية وانماط الاشارات المختلفة للتعبير عن ذاته، مبقيا منطقة الفعل وآلياته، غائمة ومكشوفة في آن معا، فهذا الجنس يعري الافعال وانماط السلوك والمحيط ولايعري الاجساد لان تعرية اولئك تشير ضمنا الى غايتها التي هي تعرية تعرية الاجساد، وهو يكشف السر الكامل في الفعل الجنسي لاتقنيات الفعل ذاته او تعبيريته، عندما يحترم خصوصية الفعل وعمومية الكشف عن اثره الحياتي والانساني، لا لأن الرقابة تمنع الكشف العاري بل لان المبدع في هذا النوع يمنح متلقيه فرصة القراءة المثمرة من اجل تأسيس التفاهم اللازم للاشتراك في صياغة النتيجة النهائية التي هي الفيلم، فهذا النوع، حتى في حالة استثماره لمعطيات الجنس الصريح (كالعري والملامسة والحركة الجنسية وتصوير الممارسة الفعلية) يظل مختلفا وبعيدا عن السقوط في حمى الاثارة المكشوفة، لانه يوظف هذه المعطيات وفقا لوعيه ورؤيته ويستثمر لكسر قوتهاالاثارية وسائله الفنية/ الجمالية كالزمن وحركة الكاميرا وزوايا التصوير والاشارات المرافقة سمعيا وبصريا، وهو ما من شأنه ان يمنع انسراب مياه الشهوة في جسد المتلقي، او في منع تحول الفن السينمائي الى استعراض استنائي ينحط بالوعي الانساني الى درك مقيت. ان هذا النوع من الجنس جمالية على مستوى عال من الابداع التعبيري، ويعيد الاعتبار للمالوف باثا ً فيه طاقة ادهاش جديدة عبر الوسيط السينمائي، وهو مايثري معرفة الانسان بذاته، كما يعينه على تحمل عبء الواقع وثقل رتابته، ويؤسس لاكتشاف امكانات اخرى في الحوار الجسدي بافاق الانسانية الرحبة، معيدا الثقة في الجنس، لابوصفه حاجة طارئة الحدوث والزوال، وانما بوصفه قدرة خلاقة على الحياة واضفاء المعنى على المحيط، ومنحه طابعا منفردا. واما النوع الثاني: فهو الجنس الصريح وهو الذي يتجاوز الافق الاشاري الى التعبير الصريح المماهي للواقع فيوسائله وادواته، ان كان الوعي القائم به قد وظفه توظيفا قصديا بحسب مايريد. وهذا يعني ان الصراحة الايروتيكية التي تقتضي الجرأة وتثير المشاكل الرقابية وتضع بنية الشهوي على محك خطر، انما هي وعي مختلف يبقى في اتجاهين مختلفين، بالرغم من تشابههما الظاهري، تجاه الوعي الخلاق الذي يسعى الى توظيف واع للجنس الصريح في تحقيق رؤاه الجمالية والفنية واغراضه السياسية والاجتماعية والحضارية، وهو في سعيه هذا يتخلص بمهارة من الطابع الاثاري لهذه الصراحة ويقلل من قدرتهما على حرف الاشارة الى غير مايريد، أي ان يقيد الايروتيكية فنيا بما يقلل من قدرتهما الكامنة على قيادة المعنى صوب دلالة جنسية خالية من الوعي ومليئة بالاثارة. وأما الاتجاه الثاني فهو السينما السائدة التي تسعى اصلا الى اعلاء الشهوية وتوظيفها في التجارة والدعاية والتأثير سياسيا ً واجتماعيا ً وفق لاهافها المشبوهة وهي بقصد، او بعدم قدرة، تعمل على تهميش الفني وتأسيس الاثاري من خلال عملية التعبير الصريح وتكثيف حضوره وتهيئة العناصر المساعدة على توجيهه صوب الاستعراضية الجنسية واثارة غرائز المتلقي ضمانا للتقبل والتأثير من خلال جعل الجنس جزءا ً من خلطة سحرية التي تروجها السياسة السينمائية التجارية ، فالجنس هنا هو الفعل المبتذل المجاني الحاضر في كل شيء بوصفههدفا يسعى اليه الجميع، وصورة للبطل الوهمي وثمرة للفحولة والوسامة عندما تقدمه السينما التجارية كما تقدم الطعام، بوصفه سلعة ونمطا استهلاكيا لا قيمة له بذاته وغير قادر على انتاج المعنى الا من خلال تشيؤه وتسليعه، وتقديمه باستسهال واضح وكأن اللقاء الجسدي هو نفسه اللقاء في الباص او في المكتبة العامة، في الحاح وتضخيم للاشارات البصرية المؤدية الى الفعل، لما يلتقي رجل وامرأة حتى تتكاثف الاشارات والايماءات البصرية والسمعية وصولا الى السرير وتحقق اللقاء الذي يصور تصويرا شهويا هو الاخر، ولااحد يدري، مطلقا لماذا تتعرى النساء في هذه الافلام وهن يسرن في شققهن والنوافذ مفتوحة والغرف مضاءة ملقيات بقطع الملابس كيفما اتفق. ان وراء هذا الابتذال ذي الصور اللامعة المذوقة المليئة بالحلمية والابهار والتي تتقدم على درجات محسوبة بطريقة فكرية وسياسية واجتماعية مقصودة تخدم غايات لاتخفى لاهي ولا خطورتها منها. 1 تسويق الفكر الاباحي في الداخل والخارج من خلال تسليع جسد واعلاء مبدأ اللذة وجعل الجانب الشهوي هو الغاية لذاته واهمية هذا التسويق في الداخل هو العمل على تفتيت عناصر الثورة الاجتماعية وتهميشها وتغيير اولويات القيم لاجل اشغال هذه العناصر بالآني الزائل وخلق الوعي الاستهلاكي وتنمية في سلوكها ووعيها واهدافها من خلال جعلها موضوعا للفعل الجنسي ثقافيا ونفسيا مع ايهامها بأهمية هذا الفعل في كينونتها الزائفة وتقدمها اجتماعيا. واما في الخارج فأن تسويق الفكر الاباحي من خلال الصورة المشوهة للجنس في السينما يهدف الى تهيئة الاخر لاستقبال ملحقات هذا الفكر فضلا عنه هو نفسه، فالى جانب الاباحية الجنسية سيستقبل المتلقي الخارجي اباحية سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية وهو مايعرف تأدبا بالعولمة في سعي الى اخفاء وجهه القبيح. 2 تصدير النموذج الغرب( الامريكي) تصديرا جسديا يتبعه التصدير قيميا، وهو مايعني هيمنة صورة الغرب على ذات المتلقي حتى على مستوى المقاييس الجمالية التي تنبني على الاختلاف والنسبية، وذلك من خلال النموذج الشهوي الذكوري والانثوي الذي تزوقه المؤسسة اعلاميا، مهيئة الى مايتبعه من عناصر تكوينية لهذا الطابع الشهوي من ملابس وتسريحات ونمط حياة واسلوب وتصوف وسلبوك، وهو مايعني ان النموذج لم يعد شهويا فحسب بل هو نموذج للغزو الشامل والغاء اختلاف المتلقي. 3 تهميش الاختلاف بأبعاده عن الصور السينمائية، حتى طرق الممارسة الجنسية وتوجيه الى نمطية وحيدة تلغي وجود الاخر المختلف من خلال صورة موحدة نموذجية، تتطابق مع الصورة الغربية لكل شيء حتى الجنس. 4 خلق الاغتراب من خلال تدعيم الغريزي وتقويته والايهام بتوافره، داخل وجدان المتلقي مما يهيء للغزو الشامل للرؤيا الاستعمارية، بدون استعمار فعلي، فالتبعية ستكون متأصلة، ومقنعة من خلال وهم الوعي بها وتحليلها وفقا لآلية التحليل الغربي الصانعة لهذا الوهم. 5 كسر الحواجز والداعات النفسية والدينية والسياسية والاجتماعية للاخر واحداث الاضطرابات في بنية العقل مما يقوده الى خربه الذاتي واستقباله غير المشروط لارتهانات الرؤيا الغازية دون نقدها وتمحيصها وتوجيه قرائتها. ان هذه الرؤيا السائدة للجنس، تلك التي تصر عليها السينما المهيمنة لاتمثل رؤية الفكر الغربي ولاتقدمه تقديما سليما بكل اطرافه واتجاهاته، وانما تحاول اختصاره واختزاله في رؤيا بعينها جاعلة منه نموذجا مشوها يجب الاحتذاء به من قبل الرؤى غير الغربية، بحكم مركزية الوعي وهيمنته المفرطة التي تنبني عليها الرؤيا الغربية للاخر. لان المختلف الضد، مهمش ومسحوق ومزورة رؤاه حتى في الفكر الغربي نفسه فهو لايقدَم الا في الاطار السلطوي الساحق الذي تريده الفوقية الغربية. موقع "إيلاف" في 16 فبراير 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
الجنس والوعي دلالات الجنس في السينما فراس عبد الجليل الشاروط * |
* ناقد ومخرج سينمائي من العراق، حاصل على شهادة الماجستير في الفنون السينمائية عن رسالته" توظيف الوعي الايروتيكي في بنية الفيلم الروائي ودلالاته السينمائية". يقيم في مدينة الديوانية – العراق
|