أحد لم يدعُ هذه المحطة او تلك لكي تخرج الى العلن وتبدأ نشاطاتها. لم يوجه الإنسان العربي رسالة واحدة الى اي مسؤول اعلامي او سياسي يقول له فيها: “الرجاء إنشاء محطة ستالايت جديدة”. انشاء محطة ستالايت جديدة كان خيار أصحابها ومسؤوليها. لذلك حين يقول مسؤول عن إحدى المحطات ان البرامج المسفّة هي مطلب الجمهور العربي وإنه لو كان مطلبه برامج ثقافية لاستجاب، فإنه يكذب. لأنه ليس مستعدا لفعل الشيء الآخر. ولا يعرف كيف يحقق الشيء الآخر. يعرف تماما كيف ينزل ولا يعرف كيف يصعد وليس في نيته مطلقا أن يصعد. هو ينزل والمشاهدون ينزلون معه وكما الحال في كل حال سقوط فإن الانجراف والسقوط أسهل وأكثر انتشارا. كل محطة تلفزيون لديها كلفة انشاء ثم كلفة مواصلة. والعملية تبدو بالفعل منطقية: لكي تسترد المحطة تكاليفها وتحقق أرباحا عليها الاعتماد على الإعلانات. هذه الإعلانات تأتي حسب نسبة المشاهدين للبرنامج المعيّن. اذا تبيّن للمعلنين أن برنامجا عن عالم الكتب يجذب 50 في المائة وما فوق من المشاهدين أعلنت فيه ليس لديها اي مشكلة. اذا ما وجدت أن برنامجا من نوع “الأخ الأكبر” يجذب هذه النسبة وما فوق أعلنت فيه ايضا ليس لديها مشكلة. التلفزيونات العربية المستثمرة في الغث والرداءة والإسفاف القائم لم تقم بدورها أولا في تثقيف الناس ولا أدت رسالتها في توفير أسباب الترفيه الجيدة وأسباب التثقيف وأسباب العلم ولا لعبت اي دور في توحيد الأسرة وجذب الشبيبة والارتقاء بحياة الفرد، بل سعت الى أن تبدي مصلحتها التجارية على اي مصلحة أخرى. ومصلحتها التجارية هي هدم للأمة التي تبث اليها وتتوجه صوبها. لا أحد دعاها لأن تتكبّد مئات ملايين الدولارات ثم تشكو من أن البرامج الغثة هي الوحيدة التي من شأنها أن تنجح في تحقيق الأرباح وسد العجز. لقد كانت الكلفة واضحة واحتمالات الخسارة والربح بيّنة منذ البداية. لِمَ لمْ نر مسؤولا يغلق قناته لأنها تخسر عوض أن يلزم نفسه بالانحدار الى الدرك وشد المشاهدين المدمنين معه؟ لِمَ لمْ نر مسؤولا يقول “هذه المحطة عليها مسؤولية كبيرة في هذه المرحلة بالذات وستتحملها مهما كانت التضحيات” ثم يقرن القول بالفعل؟ انه من السهل القاء اللوم دائما على الغرب واتهامه بمحاولة استبدال قيمنا بقيمه. لكن هل بتنا من الغباء الى درجة أننا لا نرى ما نفعله نحن في هذا الشأن وننجح فيه أكثر من غيرنا؟ ماذا تعتقد أن الدلع والهيافة والإغراء والميوعة وهيفاء وهبي تعبير عن؟ ماذا تعتقد أن “الأخ الأكبر” يدعو اليه؟ كيف ترى غياب البرامج الثقافية والعلمية والفنية وتفسره؟ ماذا تقول في أخطاء تتكرر في كل برنامج ونشرة أخبار وفي إسفاف يقع في كل يوم وفي تجاهل تام لواقع الإنسان العربي الا عبر محطات متخصصة هي بدورها لا تؤدي المطلوب منها الا بالقطّارة؟ أقول لكم من أين أنا قادم. ما منطلقي. لقد شاهدت في يومين صورتين: صورة امرأة فلسطينية تلوّح بعلم أبيض أمام جرافة “اسرائيلية” تقتلعها. وصورة مغنية عربية كشفت عن ثديها وهي ترقص. لقد فكرت في حالتين: مخرج بريطاني يحقق فيلما عن الفلسطينيين وتقتله رصاصة “اسرائيلية” ورئيس محطة تلفزيونية يوقع على ميزانية برنامج آخر شرط وجوده الوحيد هو أن يكون أكثر سرقة لروح الإنسان العربي من البرنامج السابق. لقد أغمضتُ عينيّ على مشهدين: شعب يموج في الحاجة والفقر والمرض والأمية وينوء تحت أعباء حياة آمن يوما أنها ستكون أفضل، ومجموعة من التلفزيونيين اللاهين والمترفين الذين يمضون نهاراتهم ولياليهم في ارتكاب جريمة إبقاء الإنسان العربي أميا، مسلوبا من الثقافة والعلم والفن والقدرة على الإبداع. وبيننا، لم يكن هناك مجال كبير للحيرة. انا مع المرأة الفلسطينية التي اعتقدت أنها ستربح قلب سائق الجرافة. مشكلتها ومشكلتي أنها لم تربح قلب إنسان عربي. مع المواطن غير القادر والذي يمد يده في كل اتجاه ينتظر من يساعده. وكل يد تمتد اليه هي ايضا بحاجة لمن يساعدها. الأيدي غير الممتدة هي تلك التي تستطيع المساعدة. فأين أنت؟ جريدة الخليج في 15 فبراير 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
تليفزيون أين أنت؟ محمد رضا |
|