برتولوتشي: لقاء |
"كازابلانكا"
ابراهيم العريس |
حينما عرض فيلم "كازابلانكا" في الكثير من مدن العالم, وسط معمعة الحرب العالمية الثانية, في العام 1943, صفق له الجمهور العريض ونال على الفور حظوة لدى النقاد وأهل السينما, ولكن من دون ان يصل أحدهم الى اعتباره فيلماً كبيراً بالمعنى الفني والتاريخي للكلمة: اعتبروه فيلماً جديداً, خدم مخرجه موضوعه في شكل جيد, وتضافرت ظروف وإمكانات متنوعة ومتشعبة لتعطيه مكانة لا بأس بها في تاريخ فن السينما. وزاد من أهمية هذا الفيلم, التاريخية في ذلك الحين, ان إنزال قوات الحلفاء في مناطق الشمال الافريقي بدأ بعد أيام قليلة من بدء عرضه, ما جعل موضوعه وأجواءه راهنة, إذ نعرف, وكما يدل عنوان الفيلم ان احداثه تدور في المغرب, وتحديداً في مدينة الدار البيضاء (كازابلانكا). وعلى هذا النحو تضافرت كما أشرنا كل عناصر النجاح لفيلم لم يكن يريد لنفسه أول الأمر ان يكون أكثر من شريط تجسسي - عاطفي, يستفيد من غرابة مسرح احداثه والسحر الذي تمارسه مدن "الشرق" على المتفرجين الغربيين, ناهيك باستفادته من ممثلين كبار, أميركيين وأوروبيين لعبوا أدواره الرئىسة, ومن بينهم هامفري بوغارت الذي كان أشبه بالنجم / الاسطورة في ذلك الحين, وأنغريد برغمان في ذروة مجدها وتألقها. اذاً, كان من الطبيعي ان يرضي الفيلم كل الناس... لكن الذي حدث هو ان الفرنسيين وحدهم, من دون خلق الله أجمعين, كرهوا الفيلم. والسبب واضح في رأيهم: ما هكذا كان في الامكان تصوير المقاومة الفرنسية والصراعات الفرنسية / الفرنسية في فيلم يصور في مدينة تابعة لهم. وهكذا ما إن عرض الفيلم حتى انهالت عليه هجمات الفرنسيين, ذات اليمين وذات اليسار. واحتاج الفرنسيون الى انتظار عشرين سنة قبل ان يستسيغوا الفيلم ويتسللوا الى ثنايا مضمونه - على رغم بساطته - فيكرسونه واحداً من أجمل الافلام في تاريخ سينما التجسس وسينما العواطف. والفرنسيون إذ فعلوا هذا, لم يتجاوزوا ركوب موجة كانت سبقتهم منذ زمن بعيد. وعلى هذا النحو, ومن دون ان يكون فيلماً كبيراً, كان "كازابلانكا" ولا يزال فيلماً ساحراً, غريباً, يندر ان تجد محباً للسينما لم يشاهده مرات ومرات. وثمة من بين الطائفة العريضة لمحبي "كازابلانكا" كثر يحفظون مشاهده وأغانيه بحذافيرها. بل إن أهل السينما أنفسهم لم يتوانوا عن محاكاته, او استخدام بعض اجزائه, او جعله مرجعية سينمائية لهم: وودي آلن سمى واحداً من أول سيناريواته "اعزفها ثانية يا سام" انطلاقاً من جملة شهيرة يقولها هامفري بوغارت لعازف الجاز ومغنيه في النادي الليلي الذي يملكه في كازابلانكا... وشركة وارنر ضبطت اول انتاجها التلفزيوني الكبير على ايقاع أغنية في الفيلم عنوانها "فيما يمر الزمن". والايطالي فرانشيسكو نوتي حقق فيلماً له عنوانه: "كازابلانكا... كازابلانكا" يحاكي فيلمنا هذا ويسخر منه. كما ان مايكل كورتيس نفسه, مخرج "كازابلانكا" حاول تحقيق تتمة له, لم ينجح بالطبع, تحت عنوان "ممر الى مرسيليا". ولسنا في حاجة هنا الى التذكير بالملايين من المتفرجين الذيت لا تزال تفتنهم حتى اليوم عبارة: "أعتقد اننا نعيش الآن بداية صداقة طويلة" التي بها يختتم المشهد الاخير من الفيلم, ويدور عند فجر يوم ضبابي في مطار غادرته للتو طائرة تنقل الزوجين الهاربين (فيكتور لازلو وزوجته إلسا), وبقي فيه ريكي (هامفري بوغارت) مع الضابط الفرنسي, التابع اصلاً لقوات فيشي, لكنه لم يتردد في مساعدة ريكي على تهريب الزوجين بعيداً من أعين النازيين وسطوتهم. ان جزءاً كبيراً وأساسياً من سحر الفيلم يكمن في هذا المشهد... لكن الفيلم كله في الوقت نفسه يحمل كل آيات السحر السينمائي. وذلك بدءاً - كما أشرنا - من مكان احداثه, الدار البيضاء, تلك المدينة التي كانت في ذلك الحين بعيدة من الغرب على مقدار قربها منه: غامضة, ساحرة, قاسية وتشكل في الوقت نفسه بحسب الفيلم طبعاً, مركزاً لتهريب من يطاردهم النازيون الى آفاق الحرية, اذ يختلط فيها النازيون بالأميركيين, بشتى أنواع الفرنسيين (ديغوليين وفيشيين - اي من أنصار النازيين), مع وجود للعرب من أهل المدينة, ما كان من شأنه ان يرضي العرب لو كانوا واعين حقاً في ذلك الحين! المهم, ان كازابلانكا, التي كانت تعيش كل هذا الزخم في ذلك الوقت العصيب من أزمنة الحرب العالمية الثانية, كانت مركز تجمع للتناقضات ومركز صراعات خفية. وسوف يقول لنا الفيلم كم ان "كافيه أميركان" النادي الليلي الذي يملكه ريكي في الفيلم, هو المكان الذي يتجلى فيه أكبر قدر من تلك الصراعات... خصوصاً اننا سندرك بالتدريج ان هذا النادي, اضافة الى مهمته الترفيهية عن كل الاطراف من دون تمييز, يستخدم ايضاً لأغراض خفية أهمها المساعدة على تهريب مطاردي النازية, مؤمناً لهم السفر والاوراق الثبوتية وما شابه, وذلك خفية عن النازيين, لا سيما عن الضابط الفرنسي النقيب رينو الذي يتبع حكم فيشي, كما هي حال معظم الفرنسيين الرسميين في المدينة. ذات يوم اذاً, ووسط ذلك المناخ, والى ذلك المكان يصل واحد من مقاومي النازية (فيكتور لازلو) وزوجته أملاً في التمكن من الحصول على عون النادي وصاحبه للهرب... وسرعان ما نعرف ان الزوجة إلسا (انغريد برغمان) كانت ذات يوم في باريس عشيقة ريكي... وان هذا - على ما يبدو - لم يتوقف عن الهيام بها والعيش على ذكراها. وهكذا تبدو الامور على وشك ان تتعقد, خصوصاً أن إلسا لا تزال هي الاخرى مغرمة بريكي. وهذا الاخير, يحاول بالطبع استعادة حب إلسا له, من دون ان يتوانى عن السعي الى مساعدة فيكتور في الحصول على أوراق وإمكانات تمكنه من السفر. وعلى هذا النحو تختلط الاحداث, ويبدأ الفيلم بالتأرجح بين سماته كفيلم تجسس وكفيلم عاطفي بل ميلودرامي, بخاصة ان ما يدور في الخفاء, كما بعض العلن, يحرك فضول الضابط الألماني النازي المسؤول عن الأمن في المدينة, كما فضول حليفه الفرنسي. وقد لا نكون في حاجة هنا الى القول إن ريكي - الذي يظل يأمل حتى اللحظات الاخيرة بأن تستنكف إلسا عن مرافقة زوجها في هربه للبقاء معه واعادة احياء حبهما القديم - سيتمكن في نهاية الامر, عبر تحييد القائد الألماني, والوصول الى الحصول على تواطؤ الضابط الفرنسي, من تأمين الطائرة والهرب... حتى وإن كان سيصدمه عاطفياً انتهاء المغامرة على تغليب إلسا واجبها الزوجي على عاطفتها فتسافر معه عند الفجر تاركة ريكي والضابط الفرنسي يبدآن تلك الصداقة الطويلة بينهما. "كازابلانكا" المأخوذ اصلاً من مسرحية عنوانها "كل شخص يأتي الى عند ريكي"... لا يزال يعتبر الى اليوم - كما أشرنا - واحداً من اكثر الافلام سحراً في تاريخ السينما. وهو أمن لمخرجه المجري الاصل, الأميركي الجنسية مايكل كورتيس "مكانة لائقة في تاريخ السينما, الى درجة يخيل معها الى كثر ان كورتيس (1888-1962) لم يحقق خلال مساره المهني الطويل, غير هذا الفيلم, مع ان لائحة أفلامه طويلة جداً, هو الذي خاض في شتى الانواع السينمائية من فيلم التجسس الى السينما الميلودرامية, ومن افلام المغامرة الى السينما التاريخية... الى البوليسية التشويقية... وهي انواع نكاد نجدها مجتمعة في "كازابلانكا" الذي يتوسط مسيرة كورتيس الذي يمكننا ان نذكر من افلامه ايضاً, العشرات, من بينها: "ميلدرد بيرس" و"المصري" و"نقطة الحسم" و"ملائكة بوجوه قذرة" و"روبن هود", اما آخر أفلامه فكان "قصة هيلين مورغن" (1957). الحياة اللبنانية في 12 نوفمبر 2004 |