كان ذلك في الرابع من شهر أبريل عام 1981، عندما عرض فيلم (عمر
المختار ـ 1980) عرضه العالمي الأول في الكويت. هذا الفيلم
الذي حققه الفنان
العالمي مصطفى العقاد، والذي يعتبر بحق فيلماً تاريخياً صادقاً عن
نضال الشعب
الليبي ضد الإحتلال الإيطالي الغاشم. ونحن هنا في موضوعنا هذا، لن
نقوم بسرد
الأحداث كما جاءت في الفيلم، بل سنقوم بتناول هذا الفيلم من
جوانب أخرى، نعتقد
بأنها أهم من سرد الأحداث، بإعتبار أن المتفرج العربي في كافة
أنحاء الوطن العربي
كان حريصاً على مشاهدة هذا الفيلم الذي يقدم كفاح شعب عربي ضد
الإحتلال بصدق
وواقعية.
في البدء، وقبل الحديث عن الفيلم، لابد لنا من الحديث عن مبدعه
مصطفى العقاد. فهو فنان سوري المولد درس السينما في الولايات
المتحدة ، وحصل على
الماجستير في العلوم السينمائية من جامعة ساوترن كاليفورنيا، وحصل
على الجنسية
الأمريكية وإستقر هناك. كان عاشقاً للسينما الأمريكية، وكان ذلك
سبباً في توجهه
الى هوليوود، حيث عمل في صناعة السينما هناك. في البداية
مساعداً للإخراج في عدد
من الأفلام، حيث عمل مع المخرج المتميز سام بكنباه، ثم كمنتج ومخرج
لأفلام
ومسلسلات عن موضوعات متنوعة للسينما والتليفزيون هناك
.
وبعد أن تمكن من بعض
المال، أدرك مصطفى العقاد بأنه كفنان موضوعه عربي ومكان إبداعه
الأراضي العربية. فقدم في مطلع السبعينات مشروعه السينمائي الكبير
عن السيرة النبوية الشريفة، وكان
فيلم (الرسالة ـ 1976). هذا الفيلم الذي إستغرق العقاد في الإعداد
له أكثر من
عامين، ونحو عام كامل في التصوير، وآخر في المونتاج والإعداد
الفني. و(الرسالة) هو الفيلم الأول من نوعه في تاريخ السينما
العالمية الذي تصور لقطاته مرتين في
المكان والزمان نفسه.. مرة باللغة العربية وأخرى باللغة
الإنجليزية، وبممثلين
مختلفين. وكانت تجربة مبتكرة حقاً، جعلت الممثل العربي مجالاً
للمقارنة بالممثل الغربي، وأثبتت بأن في العالم العربي ممثلين
يمتلكون مواهب قادرة وقديرة تقف صفاً
مع عمالقة التمثيل في العالم، بل وتتفوق في أحيان كثيرة.
وبالرغم من أن فيلم
الرسالة يعتبر أهم وأفضل فيلم ظهر حتى الآن عن الدعوة الإسلامية،
إلا أن أبرز وأهم
أبطاله لا يسمح بتجسيدهم على الشاشة. وبالتالي كان مصطفى العقاد
محاصراً في نطاق
ضيق، لم يستطع أن يبرز كافة قدراته الفنية. أما في تجربته
الثانية (عمر المختار) فقد بدا العقاد أكثر تماسكاً وإبداعاً، وفيه
بدت قدراته وأثبت أنه أحد كبار
المخرجين في السينما العالمية.
ثم لا بد لنا أن نشير الى أن مصطفى العقاد في
فيلميه (الرسالة ـ عمر المختار) يقدم سينما الإنتاج الضخم، حيث
تجاوزت ميزانية
فيلم (الرسالة) الـ 15 مليون دولار، ووصلت ميزانية فيلم (عمر
المختار) الـ 30
مليون دولار. فكما فعل في فيلم (الرسالة)، إستغرق العقاد نحو
خمس سنوات في
إنتاج وإخراج فيلمه الثاني (عمر المختار). فإستغرق الإعداد
والتحضير ثلاثة أعوام، وبدأ التصوير في الرابع من مارس عام 1979 في
منطقة صحراوية تبعد أربعين ميلاً عن
بنغازي، وإنتهى في الثاني من أكتوبر من نفس العام، بعد تصوير
المناظر الداخلية في روما. وفي أبريل 1981 بدأ العرض في الولايات
الأمريكية والعالم. وقد إشترك في
الفيلم ما يقارب الـ 250 ممثلاً (من الولايات المتحدة ـ
بريطانيا ـ أستراليا ـ
فرنسا ـ ألمانيا ـ إيطاليا ـ اليونان ـ يوغسلافيا ـ أسبانيا ـ
مالطا ـ مصر ـ لبنان
ـ تونس ـ السودان ـ ليبيا ـ سيلان)، هذا إضافة الى أكثر من 5 آلاف
من الكومبارس. ولابد أن نذكر فريق العمل الفني العالمي الذي إختاره
العقاد، والذي يتكون من كاتب
السيناريو »هاري كريج«، ومدير التصوير »جاك هيلديارد« الذي فاز
باأوسكار عن فيلم (جسر على نهر كواي)، ومؤلف الموسيقى »موريس جار«
الذي فاز بالأوسكار مرتين عن
فيلمي (لورنس العرب ـ دكتور زيفاجو).
تحدثنا سابقاً عن المخرج مصطفى العقاد وإنتاجه السينمائي الضخم.
أما بالنسبة لسيناريو فيلم (عمر المختار)، فقد وفق السيناريست الى
حد كبير في أنه قد تحاشى الوقوع في
مطب البطولة الأسطورية ـ بإعتبار أن حياة عمر المختار تعطي
للسيناريست مادة خصبة
وثرية للتعامل معه كبطل فرد ـ بل قدم عمر المختار كنموذج
إنساني يعبر عن روح شعب. وبالتالي لم يقدم السيناريست سيرة ذاتية
لشخصية عمر المختار، بل إنه قد جعل من المختار رمزاً للنضال، وأبرز
دور الجماهير الشعبية في الثورة. ففي أول ظهور
للمختار على الشاشة، يقدمه السيناريو في مشهد مليء بالدلالات، حيث
نراه بلباسه
البدوي ولحيته البيضاء ونظارته التي ستلعب دوراً كبيراً في
الأحداث. يظهره عجوز
طاعن في السن يفسر القرآن للأطفال، نلمح على وجهه الصافي
إبتسامة مفعمة بالحب والرضا والحنان. وهو نفسه قائد الثورة القوي،
الذي تكمن قوته في ضعفه، عندما
يقرر أن يحيي الجنرال الإيطالي الجديد، ويشن على قواته هجوماً
ساحقاً يكبدهم فيه
خسائر جسيمة في الأرواح والعتاد .
كما يؤكد السيناريو على تعريب القضية المطروحة، وتحويلها من قضية
تتعلق بنضال الشعب الليبي الى هم عربي حقيقي، والى ممارسة
فعلية للنضال العربي. كما إستطاع أن يستخرج منها دروساً تاريخية
حاسمة تجزم بحتمية
الإنتصار وإن صالت سنوات الكفاح. ففي مشهد النهاية، يزداد هذا
التأكيد، عندما
يجري الطفل الصغير الذي أعدموا والديه، ليلتقط نظارة الشيخ
الشهيد حين سقطت من بين
يديه بعد شنقه، يمسك الطفل بالنظارة ويجري بها في الأفق. إن هذه
النظارة هي رمز
المعرفة التي كان يمثلها عمر المختار، وها هي المعرفة والراية
تنتقل الى جيل جديد
.
وقد تجنب السيناريو السقوط في هوة شوفينية عنصرية عقيمة، بل إتسم
برحابة
الأفق وعمق الفهم. حيث قدم نماذج إنسانية صادقة ذات رؤية حضارية
شاملة للتاريخ،
من كلا طرفي الصراع. فهو عندما أدان العسكرية الفاشية
الإيطالية، أكد أيضاً على
وجود العديد من الإيطاليين الذين يرفضون سياسة العدو الفاشية. كما
أنه لم يبالغ في
حجم القوة العربية، وقدم نماذج أخرى لبعض الليبيين المتعاونين مع
سلطات الإحتلال
.
لقد كان العقاد يعي تماماً بأنه يتوجه لجمهور عالمي، يعرف التاريخ
ويحترم
الصدق، فخاطبه بلغة راقية، سواء على مستوى المضمون أو الشكل
السينمائي، فقدم له
عملاً بالغ الثراء والموضوعية، مستفيداً من أسلوب وإمكانيات
السينما الأمريكية،
سواء في تنفيذ المعارك أو في بناء الشخصيات. وبذلك نجح في كسب
التعاطف والإحترام
من المتفرج الغربي تجاه شخصياته وقضيتهم العادلة التي يدافعون عنها
.
وبالرغم من
أن فيلم (عمر المختار) يحمل الجنسية الأمريكية كإنتاج، إلا أنه
فيلماً عربي
التوجه والقضية، فيلماً يتصدى للتعبير عن الإنسان العربي
ويستلهم التاريخ العربي
المعاصر.