بعيداً عن كل هذا الحديث، والذي يتناول التركيب الفني لفيلم (امرأة
الملازم الفرنسي ـ 1981) من بناء وشكل وأسلوب، هناك القضية التي
يتناولها الفيلم، والتي تتركز حول شخصية محورية هي شخصية "سارة
وودروف"، التي رغم تعقيدها الشديد فقد استطاع كاتب السيناريو رسمها
وتحليلها كأفضل ما يكون.
ولكي تتوضح لنا هذه الشخصية ونستطيع أن نفهمها، لابد لنا أن نفهم
البيئة والعصر الذي تعيش فيه، حيث تعكس هذه الشخصية عصراً كاملاً
ورؤية واضحة لما كان يحدث في ذلك الوقت في إنجلترا، من صراع بين
مجتمع راسخ له قيمه وتقاليده القوية المتسلطة وبين رياح التغيير
التي بدأت تطرح أفكاراً جديدة لابد أن تُقاوَم بعنف حتى لا تنسف
أعمدة هذا المجتمع التقليدي.
هذه الشخصية هي تلخيص ذكي لهذا العصر ولهذا الصراع، فهي عندما تقول
بأنها كانت تبحث عن حريتها في نهاية الفيلم، لم تكن تعني بالطبع
الحرية بالمعنى الفردي وإنما بما هو أكثر عمقاً وشمولاً.. كانت
تعني البحث عن الذات وعن أسلوب جديد للحياة في هذا المجتمع
المغلق.. هذا حتى ولو لم تكن "سارة" مدركة لذلك لفرط انهماكها في
مأساتها الشخصية. إننا هنا نعيش فترة العصر الفكتوري، حيث التحول
الصناعي في بريطانيا يصل إلى قمته في الثلث الأخير من القرن التاسع
عشر (زمن الفيلم) ويصحبه نشاط تجاري كبير بين بريطانيا وأرجاء
إمبراطوريتها المترامية الأطراف.. ونرى كيف أن الفيلم استطاع أن
يجسد هذا العصر، في شخصية واحدة، بكل ملامحه من تزمت وجمود فكري
وأخلاقي وتمسك بتعاليم الكنيسة في مجالات التفكير والسلوك العلمي
والعملي، حيث يبدو كل ذلك واضحاً في شخصية السيدة "بولتيني" التي
سمحت لـ"سارة" بأن تعمل لديها ولكن بعد إرشادات ونصائح وأوامر
أصدرتها لكي تلتزم بها.
وفي الجانب الآخر هناك شخصية "شارلز" الذي يمكن أن نعتبره النموذج
المناقض لهذا المجتمع التقليدي الراسخ، فهو عالم حفريات شاب جاء
إلى قرية "لايم" يبحث عن رواسب الصوان.. وهو أيضاً يعكس طموح
الشباب والخروج من إطار هذا المجتمع على المستوى العملي من ناحية،
ومن ناحية أخرى يشير إلى تيارات العلم الجديدة التي بدأت تفرض
نفسها على قيم أوروبا الراسخة في تلك الفترة الحاسمة.. ويمكن
اعتباره إلى حد ما شخصاً متمرداً على العصر الفكتوري هذا، وإن لم
يكن بنفس قدر تمرد "سارة" نفسها على هذا العصر.
وسط كل هذه الظروف المعقدة، وفي ظل هذا المجتمع المغلق، توجد
"سارة".. هذه الفتاة الجميلة الرقيقة الحالمة، والتي تبدو وكأنما
وجدت في غير عالمها أو في غير موعدها، فهي فتاة متعلمة ومثقفة تعرف
اللغة الفرنسية، حيث يبدو هذا في مظهرها وفي أدق إيماءاتها
الرقيقة، رغم ظروفها التعسة.. إنها نبات برِّي غريب وشديد الجمال
في غابة وحشية.. وهي، بالطبع، نموذج لشخصيات أخرى كثيرة لابد أنها
موجودة في ظل هكذا ظروف، وتطمح إلى الحب والحرية والحق في
السعادة.. ويمكن أن تكون "سارة" هذا النموذج حينما نضعها في إطار
الجو العام الذي يرسمه الفيلم، لتكون رمزاً للصراع بين عالمين
متناقضين، القديم الذي يتشبث بقيمه وقوانينه والجديد الذي يحاول أن
يجد لنفسه مكاناً ويؤكد ذاته ويحصل على حرياته.