في وادي إيلاه: حزن.. هدوء وإدانة..!!
من يشاهد فيلم (في وادي إيلاه)،
لابد أنه سيتعاطف كثيراً مع بطله، ويخرج من الصالة
وهو في حالة حزينة لما آل إليه الوضع بالنسبة
للبطل المتحمس لحب وطنه، إلى أن أصبح يستنجد ويعلن
بأن أمريكا أمة منكوبة، وفي حالة خطر.. بالفعل هذه
هي المقولة التي يصل إليها الفيلم.. يقولها بشكل
هادئ وحزين، دون صخب أو مباشرة..!! حيث يقدم لنا
المخرج بول هاجيس إدانة للحكومة الأمريكية.. وشجب
لقرارها بقيامها بالحرب على العراق..!!
كما يعلن المخرج الكندي هاجيس بأنه
فكر في تصوير الفيلم بعد مشاهدته للقطات فيديو على
الإنترنت حول الحرب على العراق، تلك التي تصور
عددا من القتلى في صفوف المدنيين في مشاهد تهز
المشاعر. لذا فقد قرر الغوص في هذا الموضوع بسبب
غياب التقارير حول هذه الحرب في وسائل الإعلام
الرسمية، ويؤكد المخرج الحائز على ثلاث أوسكارات
في 2005 عن فيلمه (كراش)، خلافاً للحرب في فيتنام،
فأن وسائل الإعلام تطبق تعليمات الحكومة في عدم
نشر صور القتلى في هذه الحرب الجديدة. وهو بذلك قد
قدم رسالة من خلال فيلمه تطرح أسئلة صعبة ليتمكن
الجميع من مناقشتها وإيجاد أجوبة لها.
يتناول الفيلم قصة الرجل العجوز
هانك ديرفيلد (توم لي جونز)، المحارب القديم في
فيتنام، والشرطي السابق، والذي يصدم باختفاء ابنه
مايك، بعد عودته من حرب العراق، إثر مكالمة من
ثكنة الجيش تخبره باختفاء أو هروب الابن وتطلب منه
إخبارهم عن مكان وجوده.. هنا تبدأ رحلة العجوز في
البحث عن ابنه ومعرفة مصيره، تاركاً وراءه الأم
المكلومة جوان (سوزان ساراندون).. وحتى بعد معرفته
بمقتله محترقاً، إلا أنه يقرر الاستمرار في معرفة
السر وراء هذه الجريمة.. ومن خلال بحثه هذا ، لا
يجد من يقف معه إلا محققة الشرطة الشابة إيميلي (تشارليز
ثيرون).. حيث يواجه سلسلة طويلة من التقاعس تارة
والتواطؤ تارة أخرى، في الكشف عن ملابسات الحادث
وكشف الحقائق المفزعة التي تفسر أسرار الجريمة
البشعة.. جريمة تعرض لها الابن ومثل بجثته ببشاعة
مفزعة، وبالرغم من ادعاء الجيش بأن الشاب قتل على
يد عصابات تجار المخدرات المكسيك، إلا أن إصرار
الأب على الدفاع عن سمعة ولده يفضي إلى كشف
الحقيقة المرة، وهي أنه قتل على يد أقرب الناس
إليه، وبتصفيته أراد القتلة إخفاء إحدى بشاعات
الحرب الأخلاقية والنفسية.. إضافة إلى الآثار
الجانبية التي أحدثتها الإدارة الأمريكية على
المجتمع بأكمله.
في وادي إيلاه: جروح.. دمار وعذاب
نفسي..!!
عرفنا حكاية فيلم (في وادي إيلاه)،
ولكن ما علاقة هذه الحكاية بعنوان الفيلم..؟!..
وهي القصة التي رواها العجوز لابن المحققة الصغير،
يخبره فيها عن هزيمة العملاق الطاغية على يد جندي
ضعيف.. قصة وردت في العهد القديم عن الشاب داود
الذي صارع العملاق حوليات في وادي إيلاه، حين خلع
درعه وتخلى عن خوفه ليواجه هذا العملاق المدجج
بالسلاح، ويصرعه بضربه بحجر بين عينيه، ليتهادى
على إثرها صريعاً.. نلاحظ بأن ملامح العجوز وهو
يروي القصة لا تنم عن فرح بانتصار داود، بل أنها
تعبر عن الأسى الذي يعانيه في مواجهة كان من
الممكن تجنبها، حيث تلك المعاناة التي تعرض لها
وابنه بعد عودته من الحرب ليواجه مصيراً مروعاً،
يجسده الفيلم وكأنه جحيم حقيقي.
عموماً.. فالفيلم يقول بأن العملاق
حوليات هو (الولايات المتحدة الأمريكية)، بكل
آلاتها العسكرية والسياسية، أما داود فنحده يتجسد
أولاً في المقاومة العراقية للاحتلال الأمريكي،
وثانياً، في رجل عجوز يحاول معرفة السر وراء
اختفاء ابنه ومقتله، ليكتشف من خلال رحلة طويلة
مليئة بالألم والمعاناة، بأن الإدارة الأمريكية لم
تفشل فقط في حربها على العراق، بل إنها قد تركت
المجتمع الأمريكي بأكمله يعاني من جروح وآثار
نفسية ستدوم طويلاً.
في فيلمه (في وادي إيلاه)، نجح
الكاتب والمخرج بول هاجيس في الاقتراب من بعض
النتائج والآثار التي خلفتها الحرب في العراق على
جيل الشباب الأمريكي، وتحدث بهدوء عن تلك
التغييرات التي دمرت شخصية المحارب النفسية
والأخلاقية.. وتكمن قوة الفيلم في ذلك السرد
الدرامي ومتابعة تحولات الشخصية الرئيسية النفسية،
فبعد أن كانت شخصية البطل تتسم بنزعة وطنية
متحمسة، فهو مثل الملايين من الأمريكيين، يعارضون
الحرب لكنهم يؤيدون الوطن في مثل هذه المواقف، إلا
أن حقيقة ما صنعته هذه الحرب يغير من موقف الرجل
العجوز ورؤيته إلى النقيض.. حيث يتبدى ذلك في أحد
المشاهد الأولى، عندما يتوقف عند صارية للعلم
الأمريكي ويقوم بتعديل العلم المقلوب، معلناً بأن
الراية المقلوبة تعني الاستغاثة وطلب النجدة..
بالمقابل يصر هذا الرجل في المشهد الأخير من
الفيلم على رفع العلم الذي تركه له ابنه على
الصارية وهو مقلوب وممزق، معلناً بأن كل شيء أصبح
مقلوباً، وأن التمزق هو ما صنعته الإدارة
الأمريكية في العالم من صراع وحروب، امتدت آثارها
على المجتمع والفرد الأمريكي..!!
في (في وادي إيلاه) نحن أمام فيلم
مؤثر وصادق، يتألق فيه الممثل توم لي جونز في دور
مهم، يستحق عنه الترشيح الذي حصل عليه في أوسكار
هذا العام.. هذا إضافة إلى أداء سوزان ساراندون
المذهل في التعبير عن اللوعة والفقد إثر مقتل
ابنها.. أما تشارليز ثيرون فقد نجحت في تقديم أداء
جيد بعيداً عن تأثير جمالها الأخاذ.
|