الرواية والفيلم.. جدل لن ينتهي
 
 
 

نشرت هذه الدراسة في مجلة هنا البحرين في ثلاث حلقات

بتاريخ 09 - 16 - 23 يوليو 2008

 
 
 
 
 
 
 
 
 

الرواية والفيلم.. عنواناً هاماً ومثيراً ومتجدداً على الدوام.. وبقدر ما هو هام، فهو أيضاً محوراً لجدل قديم وطويل لم ولن ينتهي..!!

فالعلاقة بين الرواية والفيلم علاقة تاريخية وثيقة ومتشابكة، بدأت مع السنوات الأولى لظهور السينما، حيث تلك الأفلام التي اعتمدت على روايات عالمية مشهورة، وحققت نجاحاً كبيراً حينها، وأبرز تلك الروايات، "أوليفر تويست" لتشارلز ديكنز، و"الجريمة العقاب" لديستوفسكي، و"العجوز والبحر" لهمنغواي.. وعلى المستوى العربي، هناك "دعاء الكروان" لطه حسين، و"قنديل أم هاشم" ليحيي حقي، و"الثلاثية" لنجيب محفوظ، وآخرها كانت رواية "عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني.

وبالرغم من أن هذه العلاقة تعد وثيقة ومتشابكة، إلا أن هناك العديد من السينمائيين الذين طالبو بضرورة فصل السينما تماماً عن الأدب، والتأكيد على ضرورة الكشف عن العلاقات التي تربطها بالأشكال الفنية الأخرى وإظهار الفروقات الجوهرية بينها، والبحث عن شكل فني وماهية خاصة لطبيعة السينما.. باعتبار أن للسينما لغتها الخاصة وجوهرها التعبيري المختلف، التي لا يزال البحث جاري عنها.. حيث ذكر العبقري الروسي الراحل تاركوفسكي بأن السينما ما تزال تبحث عن لغتها، وقد بدأت الآن فقط تقترب من إمكانية الإمساك بهذه اللغة.

الجدل فيما بين صناع السينما وصناع الأدب.. كما أشرنا سابقاً.. قديماً ومتجدداً، ومازال مستمراً.. ما بين رافض تماماً لتدخل صانع الفيلم، في تغييره لما تقوم عليه الرواية.. وبين روائي يمنح المخرج حق التصرف في روايته، بل ويعطيه مطلق الحربة في الاختيار والحذف.

أكثر الأمثلة على ذلك، هي صرخة همنغواي: (إنها ليست روايتي..!!).. في المقابل نرى بأن نجيب محفوظ لا يحب التدخل في أي سيناريو مأخوذ عن رواياته، رغم تمكنه من كتابة السيناريو، لأنه أدرك بأن هناك مبدعاً آخر هو صاحب الفيلم.

لكل من الرواية والفيلم، عالمه الخاص في التعبير السردي.. فالرواية تتخذ من اللغة وسيلة لتصوير مفردات الواقع.. والفيلم يتخذ من الصورة لغتها البصرية والسمعية للتعبير عن الواقع أيضاً.. ولكن بقدر ما تأثرت السينما كثيراً بالأدب من رواية وقصة وشعر، كذلك تأثرت الرواية بالسينما ـ خصوصاً الجديدة منها ـ من خلال نظريات المونتاج وسرد الحدث الدرامي التصويري، والمزج واللقطة الكبيرة والحركة الاستعراضية للكاميرا.

فالمخرج، عندما يبدأ في قراءة أي سيناريو، فهو يشاهد الشخصيات والأحداث برؤية بصرية، أي يراها بعين الكاميرا والعناصر الفنية الأخرى.. ثم يبدأ بتحويل كل شيء مكتوب على الورق إلى تكوينات بصرية، يوظف فيها إمكانيات الضوء والظل والنسق اللوني، كما يعالجها وفق تجربته وإدراكه وعاطفته وحساسيته الجمالية والفكرية.. وكل هذا يعني أن العمل السينمائي يحمل اسم مبدع آخر.. ألا وهو المخرج السينمائي.

في بحثه القيم حول الرواية والفيلم، يحدد الناقد الصديق أمين صالح، المشكلات التي تعترض المخرج في معالجته للرواية.. ولكن قبل ذلك، يتحدث عن الفروقات بين الوسطين: الرواية والفيلم.

فالرواية تحلل بينما الفيلم يرصد، الرواية داخلية أما الفيلم فيصور الخارج، الرواية هي عن ما تفكر فيه الشخصيات الفيلم هو عما تفعله الشخصيات - الفيلم يتعامل مع الجوهر بدرجة أقل ومع التفاصيل بدرجة أكبر.

الفيلم بخلاف الأدب لا يملك لغة ذات قوانين منسقة وقواعد وعلم نحو وصرف وبناء الجمل الفيلم - كما يرى بازوليني - فعال في تعبيره عن الرؤية أكثر من كونه وسطاً لتوصيل أفكار مركبة. الأدب الذي هو مرتبط ببنى وتراكيب من القواعد اللغوية منذ مئات السنين هو وسط متجانس وملائم أكثر لتلك الأفكار.

الرواية تعتمد على نظام من الإشارات اللفظية بينما الفيلم يعتمد على البصري والسمعي واللفظي. اللغة الأدبية حافلة بالمجازات والرموز والتشبيهات والصورة الأدبية - كما تقول فرجينيا وولف - تستدعي العديد من الإيحاءات ليست الإيحاءات البصرية إلا واحدة منها وترى فرجينيا وولف إن نتائج تحويل التعبير اللغوي إلى صور مرئية تكون خطيرة بالنسبة لهما معاً فالخلاف بينهما على قدر من الاتساع لا يمكن تجاوزه فاللغة لها قوانينها الخاصة ولا يمكن فصل الشخصيات الأدبية عن اللغة التي تشكلها.

اللغة الأدبية تقوم على الحروف والكلمات أما السينما فسمعية ومرئية تعتمد على الكاميرا والإضاءة والمونتاج والصوت والموسيقى والألوان والملابس في تمديد وإثراء وتعميق المنظور أو المادة. وبالتالي فإن الوصف اللفظي للشخصيات والأمكنة والأفكار لا يمكن نقلها إلى وسط آخر لا يعتمد على اللفظ. أما الرمز فيوجد في الفيلم كفكرة أكثر منه كصورة.

السينما تقدم صورا متتابعة والتي تفرض نفسها على المتفرج بماديتها وليس باحتكامها إلى التجريد. إن تعاقب الصورة يخلق الحس الخاص بها والذي هو مستقل تماماً عن التراكيب المنطقية حتى عندما تحاول الأفلام أن تقدم قصة منطقية فإن الصور تتجلى في سرعة هائلة إلى حد أن المتفرج بالكاد يجاري ما يفسر منطق الصور.

وأهم المشكلات التي تعترض المخرج في تعامله مع الرواية، كما حددها الناقد أمين صالح، هي: قبل كل شيء أن يكون أمينا لأي شيء بالضبط: للفكرة، للمضمون، للشخوص، للإصلاح، للحوار، للأمكنة، للأزمنة؟ كيف يمكن تحقيق المصداقية أو الموثوقية بشأن التفاصيل الدقيقة في عمل تاريخي مثلا؟

الأمانة الحرفية غير ممكنة لاستحالة أن يكون الفيلم ترجمة بصرية دقيقة، وبسبب صعوبة إيجاد مرادفات بصرية لكل ما هو لفظي في النص الأدبي. وحتى الزعم بأن الفيلم أمين لروح أو جوهر النص هو أمر مشكوك فيه لأنها عملية ترتبط بقراءة النص وتأويله الذي يختلف من شخص إلى آخر.

هناك أفلام التزمت بالنص الأدبي إلى حد كبير، وكمثال: فإن المخرج جون هيوستون في تحويله لرواية داشيل هاميت «الصقر المالطي» قد التزم بالحبكة والحوار سطراً سطراُ تقريبا. ومايك نيكولز مع مسرحية إدوارد ألبي «من يخاف فرجينيا وولف» أضاف تسع كلمات إلى النص الأصلي. والمخرج البرتغالي مانويل دي اوليفيرا اخرج «الحب الملعون» عن رواية شهيرة كتبها كاميلوا كاستيللو برانكو في القرن التاسع عشر.. وعلى مدى أربع ساعات ونصف الساعة نقل اوليفيرا كل صفحة من الكتاب إلى الشاشة ولم يسبق في تاريخ السينما أن صور عمل أدبي بمثل هذه الأمانة والدقة.. لكن وفقا لرأي النقاد فإن هذا الفيلم الذي يبدأ كعمل أدبي ينتهي بأن يكون سينما نقية خالصة. إذ هو ليس توضيحا للرواية بل بحثا في طبيعة السرد، في التوتر المستمر بين الصوت والصورة، بين السرد خارج الشاشة والأحداث التي تدور على الشاشة.

إذن ليس ثمة مبادئ أو قواعد ترشد السينمائي عند إعداده لنص أدبي، وليست هناك شروط محددة تحكم علاقة السينمائي بالمصدر الأصلي. لكن يجب التوكيد على أن فكرة الإعداد نموذج مثالي للتقارب أو التفاعل بين الفنون وفق مفهوم النقد الحديث بشأن التناص.

 

لقد ساهمت السينما إلى حد كبير في رواج الأعمال الأدبية الكلاسيكية والمعاصرة عند جمهور من المتفرجين لم يقرأ الرواية، أو لم تكن لديهم فكرة عنها، وبذلك كانت السينما الوسيط السهل في توسيع نطاق جمهور الأدب.

هذا، إضافة إلى أن الرواية الجديدة قد تأثرت بتقنيات السينما، من خلال الإيقاع السريع، الانتقالات المفاجئة، الاعتماد على الأحداث لا الأفكار، الحبكة الواضحة المباشرة بل أن بعض كتاب القصص البوليسية يكتبون ببناء وبأسلوب السيناريو.

 

إذن لابد، في ختام حديثنا، التأكيد على أن العلاقة بين السينما والأدب علاقة وثيقة ومتشابكة، وأن النقاش حول هذه العلاقة، هو مسألة خلافية لم تحسم بعد، وربما لأنها ليست للحسم، بل ستظل كذلك مع كل تحويل لعمل أدبي إلى الشاشة.

 
 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004