لماذا السينما الأميركية

نشوء الصورة السينمائية (إعداد)

 
 
 
نشرت هذه الدراسة في مجلة هنا البحرين في أربع حلقات

بتاريخ 16 - 23 - 30 يوليو و 06 أغسطس 2003

 
 
 
 
 
 
 
 
 

ننتخب السينما لأن تكون العامل الهام الذي يساهم في تشكيل وصياغة الوجدان الشعبي.. وأهمية هذا الدور ينبع دوماً من واقع المجتمع الثقافي والاجتماعي نفسه، بمعنى فقدان التأثير المهم للكلمة المكتوبة على الجماهير، التي تعاني من الأمية. لذلك تبقى الغلبة للإذاعة المسموعة (الراديو) والمرئية (السينما والتليفزيون).

والسينما ليست فكر وفن فحسب، ولكنها بالدرجة الأولى صناعة وتجارة.. فالسينما، منذ بدايتها، لم تأخذ على عاتقها مهمة القيام بتوعية الجماهير ورفع مستواها الفكري والثقافي.. ولم يأخذ هذا الهدف حيزاً من أجندة المنتجين. وكانت السينما ولا تزال لدى الغالبية منهم تجارة تدر عليهم الكثير من الأرباح.

إذن، فالإنتاج هو الحجر الأساسي الذي تقوم عليه صناعة السينما.. والمسيطر على عملية الإنتاج هو الذي يحدد هوية هذه السينما. لكن يجب أن نعترف في كل هذه المعطيات بأن عملية الإنتاج ليست عملية سهلة، بل هي محكومة بشبكة من العلاقات لا تقتصر ـ كما في الإنتاج الأدبي على ورق وقلم وتكاليف طباعة، تبقى نسبياً محدودة جداً ـ بل هي عملية تمر عبر آلات ومواد ومؤسسات ورساميل، هي التي تكوِّن ما نقول عنه صناعة سينما.

مما لا شك فيه، بأن الذي يصنع السينما ليس الفنان كما يعتقد الغالبية؛ بل هو التاجر صاحب رأس المال القادر على توصيلها للمتفرج. وهذا بالضبط ما تيقن منه وآمن به رأس المال الأمريكي منذ البداية، عندما جعل من السينما، صناعة تدر الأرباح الخيالية، وتمليء الجيوب بمليارات الدولارات.

الحديث عن السينما الأمريكية.. يعنى الحديث عن السينما في كامل تألقها. فالسينما الأمريكية، بكل ما تحمله من أفكار وتقنية وابتكارات، مهما اختلفنا حولها، هي من دون منازع، الأولى في العالم.. هذا بالرغم من أن كل سينمات العالم، حاولت مجاراتها في أكثر من مرحلة، إلا أن التفوق كان حليفاً  للسينما الأميركية.

لماذا السينما الأمريكية؟ وما أسباب انتشارها في العالم؟ أسئلة تراود الكثيرون.. ويمكن أن يجيب عليها الغالبية، كل بوجهة نظره. ولكننا هنا، سنقوم سوياً، بمناقشة لبعض أهم العناصر الفنية والمحطات التي جعلت من هذه السينما (الأمريكية)، هي السائدة في العالم.

ولكي نكون أكثر دقة في طرح قضية هامة مثل هذه، علينا أولاً القيام برصد موجز وسريع، على مدى ثلاثة أسابيع قادمة، يتناول نشوء السينما الأمريكية، كيف بدأت وتطورت واستمرت إلى هذا اليوم. ونحن بهذا لن نقدم تاريخاً شاملاً لهذه السينما، وإنما سنتحدث عن محطات هامة كونت ما يسمى بـ (السينما الأمريكية).

بالرغم من أن السينما قد بدأت في فرنسا وبريطانيا وألمانيا والنمسا وأمريكا، في نفس الفترة تقريباً (بين عامي 1895 ـ 1900). بل ربما جاءت السينما الأمريكية فيما بعد، إلا أن ذلك لم يمنع من أن تكون أمريكا هي السباقة في مجال فني وشعبي كالسينما. فقد اهتم الأمريكان كثيراً بصالات العرض السينمائي، معتقدين بشكل حازم أنها العنصر الأساسي لإزدهار هذا الجانب الترفيهي والثقافي المهم للناس.

ففي الوقت الذي كانت فيه فرنسا تملك مائتي إلى ثلاثمائة صالة عرض في عام 1909، ولا يملك العالم بأسره سوى ألفين إلى ثلاثة آلاف صالة، كان عدد صالات العرض في أمريكا في نفس الفترة قد تجاوز عددها في العالم بأسره. ففي غضون ثلاث سنوات فقط، ارتفع عدد صالات العرض في أمريكا بشكل خرافي، من عشر صالات فقط إلى عشرة آلاف صالة.

هذا الارتفاع المذهل في عدد صالات العرض، جاء نتيجة لأسباب عديدة ومدروسة، أهمها ثمن تذكرة الدخول البسيط وهو خمس سنتات (نيكل واحد فقط)، ولهذا سميت هذه الصالات بـ (منتديات النيكل). مما خلق رواد السينما في تلك الفترة، فكانوا في مجملهم من المهاجرين الذين بدأوا يتدافعون بشكل هائل إلى أمريكا، بمعدل مليون نسمة سنوياً، ونجاح ذلك أدى باتجاه بناء المزيد من صالات العرض.

إن انتشار صالات العرض بهذا الشكل، قد ساهم بشكل واضح في زيادة الإنتاج السينمائي، وذلك لتلبية حاجة المستهلك (المتفرج)، ودخول الرأسمال الأمريكي هذا المجال بدون أي توجس أو خوف. باعتبار أن إنتاج فيلم واحد بتكلفة مائتي دولار فقط، قادر على جني أرباح تساوي عشرة أضعاف هذا المبلغ.

جاءت الحرب العالمية الأولى عام 1914، لتكون لصالح السينما الأمريكية، تلك السنوات التي شهدت انحساراً واضحاً للسينما الأوروبية. فبينما كانت أوروبا مشغولة بالحرب وأعبائها، كانت أمريكا تصنع تاريخها السينمائي. حيث بدأت استوديوهات هوليوود في إنتاج الكثير من الأفلام التي حظيت بنجاحات متكررة، إن كان في أمريكا أو في بقية دول العالم. إلى أن قام الأمريكي ديفيد جريفيت، بتقديم فيلمه الرائد (مولد أمة).

إن فيلم (مولد أمة) الذي أخرجه جريفيت عام 1915، يعتبر بحق انطلاقة السينما الأمريكية التجارية الحقيقية، وتألق صناعتها، هذا الفيلم الذي أثار ضجة صاخبة، بسبب الاتجاه العنصري والعرقي الذي يتبناه موضوع الفيلم، فقد حدثت ردود فعل دموية لدى المتفرج راح ضحيتها الكثيرون، مما جعل إيراداته تتزايد يوماً بعد يوم. لدرجة أن هذا الفيلم الذي لم يتكلف إنتاجه سوى سبعمائة دولار، قد فاقت مداخيله التصور، بعد أن شاهده ما يقارب المائة مليون نسمة في أمريكا وحدها. وبهذا فقد أحدث هذا الفيلم ثورة في السينما الأمريكية من الناحية التجارية، خالقاً لهوليوود فرصة الشروع فيما بعد بإنتاج أفلام أكثر أهمية وترفاُ.. حيث فتحت الأبواب أمام الإنتاجات الضخمة والأجور الخيالية.

السنوات العشر التي تبعت الحرب العالمية الأولى، بالنسبة للسينما الأمريكية، كانت سنوات رخاء وازدهار، وليست كذلك بالنسبة للسينما الأوروبية، لأسباب موضوعية أهمها حذف الأفلام الأجنبية من برامج عروض عشرين ألف صالة في الولايات المتحدة، هذا إضافة إلى أن الأفلام الأمريكية قد سيطرت في بقية أنحاء العالم على 60% إلى 90% من برامج العروض، كما وخصص مائتا مليون دولار سنوياً لإنتاج سينمائي تجاوز الـ 800 فيلم، مما أدى طرح مليار ونصف من الدولارات للاستثمار إلى تحويل السينما إلى مشروع يشبه، بهذه الرساميل المخصصة له، أكبر الصناعات الأمريكية، كصناعة السيارات والفولاذ والبترول والسجائر. وسيطرت بعض الشركات الكبرى على الإنتاج والاستثمار والتوزيع العالمي أمثال: بارامونت، ولوي، وفوكس، ومترو، ويونيفيرسال، وربطتها علاقات قوية بالشركات المالية الكبرى في حي وول ستريت. هذه الشركات التي لم تعد تعتمد على المخرجين، بعد إخفاقات جريفيت في أفلامه الأخرى، ما بعد (مولد أمة)، بل على النجوم السينمائيين، فأصبح المنتجون هم أسياد الفيلم منذ ذلك الوقت، إذ سيطروا على الصلاحيات السينمائية كافة: كانتخاب موضوعات الأفلام، والنجوم، والتقنيين، وتنمية فكرة النص والموضوع، إلى غيره من العناصر السينمائية.

مع نهاية العقد الثاني من القرن العشرين، ظهر نظام النجوم في هوليوود، الذي استحوذ على نتاج هوليوود فيما بعد، بينما بقى المنتج في الظل. وبذلك احتل النجم واجهة هوليوود، وصار نظام النجوم أساس سيطرة هوليوود العالمية. هنا بدأت هوليوود تستقطب الكثير من السينمائيين في أوروبا والعالم، من فرنسا وألمانيا، والنمسا، والسويد، وغيرها من بلدان العالم، الذين عرفوا بأن العمل في هوليوود سيعطيهم الشهرة التي يريدون.

ومع اكتشاف السينما الناطقة عام 1929، بدا التردد الأمريكي والخوف واضحاً لدى المنتجين، من حرمان هوليوود من تواجدها الخارجي، هذا التردد الذي كان اقتصاديا في الأساس وليس تقنياً. فاتجهت هوليوود لإنتاج الأفلام الغنائية والاستعراضية، التي أخذت نصيباً من النجاح، في محاولة يائسة لتجاوز هذه الأزمة، إلا أن أرقام الإنتاج بدأت في التناقص. فبعد أن كانت السينما الأمريكية تنتج ما يقارب الألف فيلم في العام الواحد، بدأ الرقم يتناقص إلى النصف بعد ظهور السينما الناطقة.

هذا النقص في الأفلام الأمريكية، قابله نشاط إنتاجي في الدول الأوروبية التي احتكرت فيها أمريكا صالات العرض أيام السينما الصامتة. حيث بدأت جماهير تلك الدول تطالب بأفلام تتكلم لغتها. وقد نجحت هوليوود في تجاوز هذا الإشكال من خلال دبلجة الأفلام باللغات الأخرى، وإيجاد حلول أخرى، حيث لم يكن من الصعب على صناع الفيلم الأمريكي، إيجاد حلول لأية أزمة تعترض طريق تدفق ثرواتهم على مدى تاريخ هذه السينما العتيق، لهذا نحن ما نزال نعيش في زمن السينما الأمريكية.

على مدي الثلاث أسابيع الماضية، كان الحديث عن السينما الأميركية، باعتبارها سينما عريقة بكل المقاييس، لنستخلص من هذا الحديث، نتائج هامة نوجزها في التالي: 

  • يجب أن تكون للسينما عجلات إنتاج ومصانع وسوق، وعرض وطلب. وهذا قبل أن نهتم بقضية الموضوع أو الأفكار، هذا إذا أردنا أن تكون هناك سينما حقيقية. فالإنتاج أو رأس المال، في مجال السينما، لابد أن يأخذ على عاتقه التعامل مع السينما كصناعة أولاً، قبل أن يتعامل معها كتجارة أو كفن.

  • وجود صالات العرض مسألة ضرورية لنجاح أي سينما، وأي عجلة إنتاج، لابد لها من سوق للتوزيع والتسويق. وهذا ما عرفناه عن السينما الأمريكية منذ بدأت، حيث أخذت على عاتقها، تكوين بنية أساسية، من معامل وورش ومختبرات، مسخرة تطور التكنلوجيا لمصلحة السينما وخدمتها.. وقبل كل هذا، كانت هناك صالات العرض السينمائي، التي ـ من كثرتها ـ تستطيع أن تغطي مصاريف الفيلم، بل وتأتي بالأرباح الخيالية للمنتج في أمريكا فقط، فكيف بتلك الأرباح الخيالية على مستوى العالم. وهو الأمر الذي جعل من السينما الأمريكية سينما مستقلة بذاتها، بمعنى أنها لا تعتمد تماماً على عروض الأفلام الخارجية.

  • إزدهار فن كتابة السيناريو.. فالسينما الأمريكية فتحت المجال لتناول مواضيع جديدة ومبتكرة، وأعطت حرية كاملة لكاتب السيناريو في تناول مواضيع متنوعة، مهما كانت الصعوبة في تنفيذها.. فقد اعتمدت على الورش والمعامل التي تقدم الجديد دائما في مجال الابتكار التقني.

  • السينما كاستثمار تحقق أرباحاً خيالية إذا آمن بها المنتج، فالمغامرون من المنتجين في السينما الأمريكية، لم ولن يبخلوا على أفلامهم بشيء.. إذ رصدوا ميزانيات بأرقام فلكية.. لأنهم يعلمون جيداً بأن ثمة أرباحاً طائلة ستجنيها أفلامهم.

  • السينما لديها ملكات الإنتشار بدون الإعتماد على اللغة السائدة في العالم، فالإنتشار الذي صاحب مسيرة السينما الأميركية، كان بمعزل عن اللغة، حيث كانت السينما صامتة.. فالفن الجيد مهما تكن لغته سيحضى باهتمام العالم.

وختاماً.. أرى بأن أي مقياس لأي تجربة أو تيار سينمائي في العالم، لا يجب أن يكون عرضة للمقارنة بمثله في السينما الأمريكية.. فهكذا مقارنة ليست في صالح الجميع، باعتبار أن أدوات التقييم أو المقارنة في كلا الطرفين غير متوازية.

 
 
 
 

نشوء الصورة السينمائية

(إعداد)

 
 
 

من السهل أن تحدد بداية تاريخ السينما بيوم الثامن والعشرين من شهر ديسمبر(كانون الأول) سنة ٥٩٨١- ليلة سبت قارسة البرودة تلك التي قدم فيها الأخوان لوميير- من أبناء مدينة ليون- العرض السينمائي الأول لجهازهما المعروف بالسينماتوغراف أمام جمهور بمقابل مادي، في ٤١ شارع كابوسين بباريس. حيث كانا قد استأجرا لهذا الغرض الطابق الأرضي أسفل ''جراند كافيه''، هذا المقهى المتألق بزخارفه الجصية البيضاء والمذهبة. وكان هذا الطابق الأرضي قد استخدم من قبل ديوانا أو قاعة استقبال باسم ''الصالون الهندي''، غير أنه لم يكن يلاقي إقبالا كبيرا، مما سهل على الأخوين لوميير استئجاره وتجهيزه بمائة مقعد من مقاعد المقاهي وتقديم عرضهما، الذي كان في حدود عشرين دقيقة مقابل فرنك من كل مشاهد.

مفيد لا شك، أن يكون لدينا مثل هذا التاريخ لنحتفل به أو نحيي ذكراه، ولكنه تاريخ مضلل، فالسينما ليست اختراعا بقدر ما هي حالة تطور معقد. إن السينما تنطوي على عنصر جمالي وتقني واقتصادي بالإضافة إلى عنصر الجمهور، وهذه العناصر الأربعة سوف تحدد دائما الصورة التي تظهر على الشاشة في أي زمان ومكان. والعناصر، الجمالي والتقني والاقتصادي والجمهور، التي أنتجت في عام ٥٩٨١ الصورة المتحركة كما نعرفها الآن، والتي شكلت السنوات الأولى من عمر هذا الوسيط الفني، كان لها أصول قديمة.. قبل الأخوين لوميير والصالون الهندي بكثير.

منذ الربع الأخير من القرن الثامن عشر كان الجمهور الأوروبي (ومن ثم الأمريكي) قد بدأ يتعرف خبرات المشاهدة البصرية على نحو مضطرد. وكانت معرفة رجل الشارع بالرسم والتصوير قد ازدادت ثراء بحلول الطباعة الرخيصة. فبظهور أول جريدة أسبوعية مصورة كلها في إنجلترا عام ٢٤٨١، ''ذي إلوستراتيد لندن نيوز''، صار الناس أقدر على معرفة العالم من حولهم من خلال الصور. لقد ازدهرت وسائل التسلية البصرية، التي كانت تزداد إتقانا يوما بعد يوم، وازدهارا واضحا خلال القرن السابق على ظهور الصورة المتحركة السينمائية. خيال الظل، والذي غزا الغرب قادما من الشرق مرات عديدة مجهضة أو منقوصة فيما مضى، صار موضة في سبعينيات القرن الثامن عشر، حين أحضر شخص يدعى أمبرويز أو أمبروجيو عرضه إلى لندن، وفي الثمانينات عندما نظم جوته مسرحاً لخيال الظل في تريفورت وافتتح دومينيك سيرافين في باريس سنة ٤٨٧١، ما صار فيما بعد أشهر عروض خيال الظل الفرنسية.

ولقد كان لسيرافين، الذي واصل مسرحه الازدهار حتى عام ٠٧٨١- بعد سبعين عاما من موته- عدداً لا يحصى من المقلدين والمنافسين، وعلى امتداد القرن كان عارضو خيال الظل الجائلين يجوبون معظم أرجاء أوروبا بمسرحياتهم. كما بدأ هنري ريفيير، في رادولف ساليس شات نوار ٧٨٨١، سلسلة مسرحيات وملاحم خيال ظل استمرت لما بعد عرض الأخوين لوميير بعام. بل جرت بعض محاولات الإحياء الفني لهذا الشكل في القرن العشرين، جاءت ذروتها في اتحاد خيال الظل والسينما في أفلام السلويت للوت رينيجر.

لقد أنتج المزاج العقلاني للربع الأخير من القرن الثامن عشر نزوعا إلى العروض المرئية بجميع أنواعها، والتي شاع منها جماهيريا على نحو غير عادي الصور الزيتية ذات المحتوى الدرامي. ففنان مثل بنيامين ويست، على سبيل المثال، كانت لوحاته تقدم دائما بصفتها عرضا جماهيريا تقريبا. وشهدت ثمانينات القرن الثامن عشر محاولتين مهمتين لإضافة خواص مشهدية إلى الطبيعة الساكنة ثنائية الأبعاد للتصوير الزيتي. فقد قدم مصور بورتويه في أدنبره، هو روبرت باركر، فكرة إحاطة المتفرج بصورة زيتية أسطوانية عملاقة وإسقاط ضوء عليها لتعزيز الإيهام بالواقع الحقيقي. وسرعان ما انتشر ولع جنوني في جميع العواصم الأوروبية بهذه ''البانورامات'' كما سمي اختراع باركر الذي سجلت براءته في عام ٧٨٧١. وهكذا واصلت البانوراما الازدهار حتى ستينات وسبعينات القرن التاسع عشر، بل وحتى وقت قريب، حيث تم في موسكو سنة ٠٦٩١ إعادة إنشاء بانوراما قديمة عمرها خمسون عاما تصور معركة بورودينو. وقبل باركر بسنوات، وتحديدا سنة ١٨٧١ في لندن، قام المصور ومصمم المناظر الألزاسي فيليب دي لوثر بورغ بافتتاح ''الأيدوفيوزيكن'' (Eidophusikon)، وهي وسيلة تسلية بصرية يتم فيها تكوين صورة زيتية، على غرار المناظر المسرحية، من عناصر ذات ثلاثة أبعاد، تعزز مؤثرات ضوئية بسيطة رومانسية، ثم جرى تنفيذ أفكار دي لوثر بورغ على يد لويس- جاك ماندي داجير (٩٨٧١- ١٥٨١) الذي افتتح مع كلود- ماري باوتون أول ديوراما (Diorama) له في باريس في يوليو ٢٢٨١، والثانية في ريجانس بارك بلندن في سبتمبر/أيلول ٣٢٨١. وكانت الديوراما تقوم على إضاءة صورة بها أجزاء شبه شفافة من الخلف بطريقة شديدة التعقيد بمجموعة من المصابيح والغوالق لإحداث تأثير بتغيير الإضاءة وتبدل المشاهد. وقد انعكست شعبية الديوراما في إنتاج أجهزة مصغرة منها على هيئة صندوق الدنيا للاستعمال المنزلي. فالقرن التاسع عشر أظهر ميلا كبيرا لدى الناس إلى صندوق الدنيا بجميع أنواعه، وكما سنرى فإن أولى أفلام الصور المتحركة عرضت من خلال جهاز صندوق الدنيا.

 

الفانوس السحري

من بين جميع وسائل التسلية البصرية كان الفانوس السحري هو الأكثر شعبية، والحق أنه مع الفانوس السحري تبدأ تقنية السينما بالمعنى الضيق للكلمة. تقوم نظرية عمل الفانوس السحري على مبدأ أن الجسم المضاء إضاءة قوية وهو موضوع أمام عدسة شيئية أو مكبرة تنعكس صورته مقلوبة، على شاشة في حجرة مظلمة، وتكون هذه الصورة مكبرة وفقاً للمسافات النسبية بين الجسم والعدسة والشاشة والعدسة. ولا يزال هذا المبدأ معمولاً به في جهاز العرض السينمائي: فأفضل أجهزة العرض لا يزال، من حيث المبدأ، فانوساً سحرياً، بينما شريط الفيلم وآليات تحريكه بديل أكثر تعقيداً من شريحة الفانوس القديمة البسيطة.

لقد عرف الفانوس السحري منذ القرن السابع عشر، على أقل تقدير، وكان العارضون الجائلون يطوفون به عبر أوروبا من قرية إلى قرية. كانت عروضه الأولى قطعاً محدودة الإمكانيات، شرائح زجاجية بدائية مطلية بألوان معتمة تضاء إضاءة واهنة باستخدام الشموع، غير أنه مع استحداث وسائل إضاءة أفضل وطرائق أكثر ملاءمة لعمل الشرائح نال الفانوس السحري مكانته وشهرته في القرن التاسع عشر. وعلى الرغم من شعبيته في ألمانيا وفرنسا بشكل خاص، بلغ الفانوس السحري ذروته في إنجلترا.. فالفوانيس الفخمة من النحاس البراق وخشب الماهوجني المصقول التي ابتكرها صناع البصريات الإنجليز لم يكن لها مثيل في أي مكان آخر. وبوساطة أنوار أكسيد الكالسيوم القوية كان بمقدورها أن تقدم صورة رائقة ممتازة في عروض قاعة ألبرت. وكانت هذه الفوانيس في أغلب الأحيان مجهزة بثلاث أو أربع عدسات ولمبات لإحداث تأثيرات متقنة بالاختفاء التدريجي للمشاهد أو مزجها. فبهذه الطريقة كان يمكن لمشغل الفانوس الإيحاء بتبدل المشاهد بكفاءة أكثر ومجهود أقل مما كان يفعله داجير بكل تجهيزات الديوراما. وقد بلغ ذلك أوجه في الفترة بين عامي 1870 و1900، حيث طبعت أعداد لا تحصى من النشرات والكتيبات عن فن استخدام الفانوس السحري.

غير أن عارضي الفانوس السحري، ومنذ البداية، لم يكونوا قانعين بالصورة الثابتة، وكانت هنالك طوال الوقت محاولات مستمرة لتحريك هذه الخيالات على الشاشة. من أكثر هذه المحاولات إتقانا كانت تلك التي قام بها العارض البلجيكي "إيتين روبرتسون" في باريس في تسعينيات القرن الثامن عشر ومن بعده "فلييستال" في لندن في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر. وكان جهازهما المفضل هو الفانتسماغوريا (Phantasmagoria)، وهو جهاز لتحريك الفانوس مقتربا إلى شاشة العرض أو مبتعدا عنها مع تثبيت البؤرة آليا، مما كان يحدث تكبيرا وتصغيرا للصورة على الشاشة بشكل دراماتيكي مناسب لطابع الإثارة القوطية لعروضهما. ثم قام واحد من تلاميذ فليبستال، هو "هنري لانجدن شيلد"، بتطوير التأثيرات التي يمكن الحصول عليها من عرض صورتين متمازجتين أو مركبتين. وكان طبيعيا لاحقا أن تعد الفانتسماغوريا ومناظر شيلد المتمازجة مؤشرات في اتجاه تقنية السينما.

على مدار القرن، كان هنالك قدر كبير من الإبداع للحصول على إحساس بالحركة عن طريق استخدام شرائح فوانيس ميكانيكية، كان بمقدورها، من خلال أذرعة تحريك وسقاطات مسننة وعدد من الشرائح الزجاجية المنزلقة، أن تعطي انطباعا بالرسوم المتحركة. ومن ستينيات القرن التاسع عشر قام الفانوسيون بمحاولات متعددة للوصول إلى هذه التأثيرات بأسلوب أكثر إحكاما. وكانت ظاهرة "بقاء الصورة"، والتي تعد المبدأ الفيزيائي الأساسي الذي تقوم عليه السينما، معروفة بالفعل منذ وقت طويل. حيث عرف أن شبكية العين تحتفظ بصورة الجسم الذي تراه لجزء من الثانية بعد اختفائه. وهكذا، على سبيل المثال (وكما يعرف الأطفال جميعهم) فإن شعلة تحرك دائريا بسرعة في الظلام ستبدو للرائي كما لو كانت دائرة متصلة من الضوء. وقد كانت الظاهرة موضوع أبحاث علمية للفيزيائيين البريطانيين "بيتر مارك روجيه" و"فاراداي" والبلجيكي "جوزيف بلاتو" والنمساوي "سايمون ستامفر". كما أخترع العديد من لعب الأطفال التي توضح هذا المبدأ العلمي. بل إن بلاتو وستامفر ابتكر كل منهما، بمفرده، فكرة قرص ترسم على حافته سلسلة رسومات تمثل المراحل المتعاقبة لفعل محدد ما - بما بشبه الرسوم المتحركة. بحيث يدور القرص على محور وتتم مشاهدة الصور في مرآة عبر فتحات على محيط القرص تسمح برؤية لحظية وساكنة للصور المنفصلة. وكان التأثير الذي يحدث هو دمج هذه الصور المنفصلة بتحريك القرص لخلق انطباع بحركة متصلة.

ثم جاء شكل آخر أكثر ملاءمة لهذا الجهاز البسيط، ابتكره هورنر في عام 1834، هو الزويتروب (Zoetrope). في هذا الجهاز كانت الصور ترتب على شريط أو حزام داخل اسطوانة، ومع دوران الاسطوانة بسرعة تتم مشاهدة الصور عبر فتحات طولية مشقوقة بالنصف الأعلى للاسطوانة في مواجهة كل صورة. وأصبح الزويتروب لعبة لها شعبية بعد عام1860، غير أن المبدأ الذي يقوم عليه عمله تطور تطورا كبيرا على يد "إميل راينو" (1844- 1914) في جهازه العبقري البراكسينوسكوب (Praxinoscope) في عام 1876. فبدلا من الفتحات التي لم تكن تسمح سوى بقدر ضئيل من ضوء الصورة إلى العين، استخدم راينو اسطوانة مضلعة من المرايا تنعكس عليها الصور المرتبة على اسطوانة خارجية أخرى، وعند دوران الجهاز كانت المرايا تقدم للعين متوالية سريعة من الصور تعطي إحساسا واضحا ورائقا بالحركة.

وواصل راينو إدخال التحسينات والتعديلات على جهازه حتى بلغت ذروتها في البراكسينوسكوب العارض. فالصورة هنا شفافة، ينفذ خلالها ضوء شديد، والصورة المنعكسة من المرايا الدوارة يتم تمريرها عبر عدسات عارضة إلى شاشة. وفي عام 1892، قدم راينو في باريس عرضا متقنا أسماه إيمائيات مضيئة، حيث وصل عن طريق عرض شريط متواصل من الصور إلى مرحلة أقرب إلى السينما. فقد انعكست على الشاشة اسكتشات صغيرة تمثل أشخاصا متحركين بطريقة لم تعد مقيدة بفواصل تقسيم الفعل الواحد إلى مراحل. مع الإيمائيات المضيئة كانت السينما قد أزفت. فلم يعد ناقصا سوى عنصر واحد فحسب. فراينود، شأنه شأن صانع أفلام الرسوم المتحركة الحديث، كان عليه أن يرسم صوره كادرا كادرا. والفيلم بالمعنى الضيق للكلمة لابد له من التصوير الفوتوغرافي.

 

الفوتوغرافيا.. الكاميرا المظلمة

ترتبط أصول الكاميرا الفوتوغرافية ارتباطا واضحاً بأصول الفانوس السحري. ففي الفانوس السحري يضاء جسم داخل صندوق ويعرض بانكسار الضوء على شاشة في غرفة مظلمة (خا رج) الصندوق. وفي "الكاميرا المظلمة"، كما وضعت لأول مرة، يضاء منظر إضاءة قوية ويعرض بانكسار الضوء على شاشة (داخل) صندوق مظلم أو غرفة مظلمة. وقد استفاد الفنانون كثيرا، خلال القرن الثامن وكان "نييبس قد اشترك مع داجير عشر وأوائل التاسع عشر، من "الكاميرا المظلمة" باستخدامها لعرض منطر ما مصغرا على شاشة ليقوموا هم بتحديد خطوطه الخارجية بالقلم الرصاص.

وكان من الطبيعي أن يبحثوا عن وسيلة لتثبيت الصورة المعروضة ميكانيكيا أو كيميائيا، للتخلص من عناء تحديد خطوطها يدويا. وانشغل عدد من الكيميائيين بهذه المشكلة، من بينهم الإنجليزي "توماس ويدجوود"، ولكن "جوزيف نييبس" (1765 - 1833) كان على مايبدو اول من نجح في تثبيت صورة على سطح محسس، في عام 1826. وكان نييبس قد اشترك مع داجير (صاحب الديوراما)، واستمرت التجارب خلال ثلاثينيات القرن التاسع عشر وحتى بعد وفاة نييبس في عام 1833. ولكن إتقان التصوير الفوتوغرافي، وكما هي الحال مع السينما ذاتها، كان أقرب إلى سباق لحل مشكلات معروفة منه إلى الاختراع. وفي عام 1839 اشترت الحكومة الفرنسية طريقة داجير للتصوير الفوتوغرافي وذلك بعد أسابيع قليلة من إعلان "هنري فوكس تالبوت" عن طريقة "الكالوتايب (Calo Type). ومع مرور السنين خلال القرن التاسع عشر تم دمج وتطوير مزايا هاتين الطريقتين لزيادة كفاءة وسرعة وحساسية التصوير الفوتوغرافي(Phasmatrope).

في وقت مبكر يرجع إلى عام 1849، كان "بلاتو" قد اقترح استخدام طريقة داجير للتصوير مع جهاز فيناكيستيسكوب (Phenakistiscope)، غير أنه لم ينجح أي من اختراعات وابتكارات ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر في التوصل إلى حل لمشكلة كيفية خلق سلسلة صور فوتوغرافية متتابعة بسرعة تسمح بعرضها كصورة كلية متحركة لحدث ما. فجهاز مثل الفازماتروب (Phasmatrope) الذي ابتكره "هييل" وعرض في فيلادلفيا عام 1870 كان يعتمد على صور فوتوغرافية تم الحصول عليها بطريقة مضنية حيث يصور الحدث مجزأ إلى مراحل يمثلها الموديل مرحلة مرحلة. ثم جاء حل المشكلة في النهاية على يد عدد من العلماء والمصورين ممن لم يكن لهم أدنى اهتمام بتخليق الصور بتتابع يعطي إحساسا بالحركة، بل كانوا ببساطة يبحثون عن وسيلة لتحليل الحركة.

كان إدوارد مايبريدج (1830- 1904) إنجليزيا هاجر إلى الولايات المتحدة في خمسينيات القرن، وبدل هناك اسمه الأصلي الأقرب إلى المألوف، "إدوارد جيمس ماجردج"، واستقر به المقام مصورا فوتوغوافيا. وفي عام 1873 طلب منه حاكم كاليفورنيا عمل بعض صور فوتوغرافية لحظية لواحد من أحب خيول السباق لديه. ورغم ما كان يعانيه مايبريدج من اضطراب في العمل، نظرا لاتهامه وقتها بقتل عشيق زوجته، فإنه واصل مهمته بسلسلة طويلة من التجارب. حتى توصل قبيل عام 1877 إلى حل، عن طريق وضع مجموعة مترابطة من الكاميرات على طول مسار الحصان بحيث يتم تحرير غوالقها واحدا بعد الآخر مع مرور الحصان أمام كل كاميرا ووطئه حبلا على الأرض متصلا بالغالق. كان هدف مايبريدج المبدئي هو الحصول على صور لحظية منفردة، أما كونها متتابعة سريعة فقد جاء عرضاً. وخلال السنوات القليلة التي تلت قام مايبريدج بإنتاج ونشر سلاسل صور فوتوغرافية عديدة لجميع أشكال الحركة لدى الحيوان والإنسان. ثم قام في بداية الثمانينات بخطوة أخرى لإعادة تخليق تحليله للحركة، وذلك بعرض المقاطع الحركية القصيرة التي سجلها مستخدماً فيناكيستيسكوب عارض أسماه الزوأوبركسيسكوب (Zoopraxiscope).

ومن خلال رحلاته الى أوروبا، حيث كان يستقبل استقبال النجوم والمشاهير، التقى مايبريدج بإيتيين ماري (1830 – 1904) الذي كان على اتصال به من خلال الرسائل لسنوات سابقة. وكان إيتيين، بصفته باحثاً فسيولوجياً، مهتماً بالتسجيل الفوتوغرافي للكثير من أنماط السلوك الحيواني، وكان ثمة مشاكل بعينها لا يجد لها حلاً. فهو، على سبيل المثال، كي يسجل حركات طائر بيانياً أثناء الطيران كان قد ابتكر جهازاً دقيقاً نجح بالفعل في تسجيل حركات الطائر ولكنه في الوقت نفسه كان يعيقه ويحد من حركته الطبيعية. وطرح ماري المشكلة على مايبريدج، غير أن الصور الفوتوغرافية للطيور أثناء الطيران التي أحضرها مايبريدج معه الى باريس في 1881 لم تكن مرضية أبداً لما يريده ماري. إلا أن ماري، عقب ذلك مباشرة، استطاع الاستفادة من تجربة للعالم الفلكي جانسن الذي كان قد ابتكر "المسدس الفوتوغرافي" في 1874، وهي كاميرا كان الغرض منها تسجيل مسار كوكب الزهرة بأخذ سلسلة لقطات متتابعة على لوح واحد، حيث يدور اللوح لتنكشف مساحة صغيرة محددة من سطحه المحسس مع كل مرة ينفتح فيها الغالق. وهكذا استحدث ماري، ما بين 1881و1882، ووفقا لمبادئ مشابهة "الغدارة الفوتوغرافية" (Fusiltographique).

وكان هذا الجهاز قادراً على التقاط اثنتي عشرة صورة لحظية متتابعة في الثانية الواحدة. ثم راح ماري بعد هذا يتابع لسنوات خطاً بحثياً آخر، مسجلاً أجساماً متحركة بتركيب لقطات عدة فوق بعضها على لوح واحد ثابت. وبظهور الفيلم الشريط الذي دفعت به الى الأسواق شركة إيستمان كوراك في 1888، تيسر لماري أن يبتكر جهاز الكرونو فوتوغراف (Chrono Photographe)، وهو كاميرا بمقدورها التقاط سلسلة طويلة من الصور المتعاقبة على شريط فيم متصل. وفي عام 1892 اقترح ماري عمل جهاز عرض لإعادة تخليق الحركات التي حللها بالطريقة السابقة. غير أنه قبيل هذا الوقت كان هنالك عدد كبير من المخترعين، أغنياء وفقراء وعلماء وهواة، حالمين وواقعيين، قد تنبأ بإمكان وجود كاميرا يمكنها التقاط صور تفصيلية تحليلية وجهاز عرض يعيد تشكيل الحركة المصورة على الشاشة. من بين هؤلاء كان هناك مساعد ماري نفسه "جورج ديميني"، وفي إنجلترا "وليم جرين" والفرنسي المولد "لويس ليبرنس" الذي كان قد أوشك على حل المشكلات الجوهرية لهذا الموضوع حين اختفى على نحو غامض في العام 1890.

 

ولادة خيط الضوء

في 1888 التقى توماس إديسون (847 1- 1931) بمايبريدج الذي أوحى جهازه الزوأوبواكسيسكوب لإديسون بفكرة ماكينة لتسجيل وإعادة إنتاج الصور كما يفعل جهازه المعروف بالفونوغراف مع الصوت. وعلى الفور كلف إديسون رئيس معمله الإنجليزي المولد "ديكنسون" مهمة تطوير هذه الفكرة، وأصدر التحذير الرسمي الأول، ضمن سلسلة طويلة من التحذيرات، بهدف حماية الأبحاث التجريبية الجارية بمؤسسته في ويست أورانج- نيوجيرسي. وأثناء معرض باريس الدولي 1889 التقى إديسون بماري، ويبدو أنه استمد منه فكرة استخدام الفيلم الشريط. وفي تحذيره الرسمي الرابع في نوفمبر 1889 ظهرت لأول مرة فكرة تخريم الفيلم لضمات دقة تسجيل الصورة كادرا بكادر. (وكانت هذه مشكلة طالما أعاقت ماري وديميني). وقبيل خريف 1890 نجح ديكنسون في التقاط مجموعات من الصور سريعة التعاقب (حتى 40 كادرا في الثانية) باستخدام جهاز الكاينتوغراف (Kinetograph)، الذي سجل إديسون براءة اختراعه في يوليو 1891، وهو عبارة عن جهاز صندوق دنيا لمشاهدة صور الكاينتوسكوب متحركة.

من هذه النقطة يؤرخ لبدء إنتاج (وليس عرض) أفلام الرسوم المتحركة. كما تم في فبراير 1893 بناء استوديو غريب الشكل في أراضي معمل إديسون. وكان هذا الاستوديو، الذي عرف باسم (Black Maria)، عبارة عن كوخ من الورق المقطرن بسقف يفتح لدخول الشمس، وهو مركب على محور يسمح بدورانه ليمكنه الاستفادة من ضوء الشمس قي أي وقت من النهار. وبالداخل نصبت في طرف كاميرا كاينتوغراف نقيلة وفي الطرف المقابل كانت مجموعة من الموسيقيين وفناني السيرك تؤدي مقتطفات مختصرة من عروضها. وهكذا كان فنانو سيرك بافللو بيل ضمن أوائل النجوم في أول استوديو سينمائي في التاريخ.

وفي أغسطس عام 1894، تأسست شركة كاينتوسكوب كومباني على يد "راف وجامون" لاستثمار هذه الأعجوبة الجديدة نيابة عن معامل إديسون، غير أنه قبل هذا التاريخ، وتحديدا في أبريل 1894، كان قد تم في برودواي افتتاح أولى قاعات الكاينتوسكوب التي توالت بكثرة فيما بعد. وكان أوائل جمهور الفيلم هم رواد الملاهي وأماكن التسلية الرخيصة (ذات البنس الواحد)- بداية في مدن الولايات المتحدة الأمريكية ثم في أوروبا بعد فترة وجيزة- حيث كان هؤلاء الزبائن يضعون العملات المعدنية الصغيرة بجهاز صندوق الدنيا ليحدقوا عبر فتحات عدساته لمشاهدة أفلام لم يكن الواحد منها يستغرق أكثر من أربعين أو خمسين ثانية.

لقد كان المال دائما، وبشكل جوهري، هو أقوى الدوافع أثرا في تطوير السينما. فحماس الجمهور الذي اقترن برنين العملات المعدنية قبل أي شيء آخر، أعطى القوة الدافعة للمرحلة الأخيرة في السباق لإنتاج جهاز يمكنه عرض صورة متحركة. كانت إيرادات الكاينتوسكوبات محددة نظرا لحقيقة أنه لا يمكن لأكثر من مشاهد واحد استخدام الكاينتوسكوب في وقت واحد. وجرت محاولة لحل هذه المشكلة عن طريق الفوتوزوتروب (Photozotrope)، الذي ابتكره "هنري جولي"، حيث كانت الماكينة تحتوي على أربع فتحات للمشاهدة وتعرض فيلمين، غير أن الحل الحقيقي، وبوضوح تام، كان هو العرض بجهاز عرض.

من الناحية الفنية، وكما رأينا، فإن الأخوين لوميير هما من فاز في هذا السباق للوصول إلى طريقة لدمج مبدأ عمل الكاينتوسكوب مع الفانوس السحري القديم. ولعلها مسألة حظ، ربما، أنهما كانا يتمتعان ببعض المزايا مقارنة بالكثير من منافسيهما، نظرا لكونهما رجال صناعة أثرياء ولديهما المصادر الاقتصادية اللازمة لتطوير وحماية واستثمار اكتشافاتهما. وكان لويس لوميير (1864- 1948) وأوجست لوميير (1862- 1954) قد انخرطا في العمل بمصنع أبيهما الفوتوغرافي في ليون في عام 1882، حيث كان الأول في الثامنة عشرة والثاني في العشرين، واستطاعا تعديل الموقف المالي المتداعي لشركتهما من خلال نجاحهما في تصنيع الألواح الفوتوغرافية.

وبحثا عن طريق لمزيد من التوسع، يقال إن أباهما أنطوان لوميير اقترح القيام بتصنيع أفلام الكاينتوسكوب إديسون. ثم بدأ الأخوان في محاولة ابتكار كاميرا، وقبل فبراير 1895 تمكنا من تسجيل براءة اختراع جهاز يقوم بتصوير الأفلام وعرضها على السواء. وفي مارس سجلا تطويرا إضافيا على الجهاز، الذي عرف باسم السينماتوغراف (Cinematographe) وكان عبارة عن ماكينة دقيقة الصنع من الماهوجني والنحاس. لا تزال إلى الآن معجزة في الإتقان والجمال.

خلال بقية عام 6895 انشغل الأخوان لوميير في تقديم عروض دعائية مدروسة بعناية لجمعيات التصوير الفوتوغرافي. كما قاما بتصوير أعضاء الجمعية الفرنسية للتصوير الفوتوغرافي أثناء اجتماعهم في شهر يونيو. وفي أكتوبر قرر الأخوان أنه قد آن الأوان لاستثمار اكتشافهما في عروض عامة. وأجريا مفاوضات مع (Grevin Musee) ومع (The Folies Bergers) غير أنها لم تصل إلى شيئ، كما تقدما بعرض لاستئجار غرفة فوق مسرح روبرت هاودن – الذي سرعان ما سيلعب دوراً بارزاً في تطور السينما – ولم يثمر هو الآخر. وأخيراً استقر الأخوان لوميير على قاعة الصالون الهندي، وفي 28 ديسمبر 1895 قدم أول عرض سينمائي في التاريخ. الحدث، من الناحية العملية، مر دون أن يلاحظ. فالصحفيون الذين تمت دعوتهم إلى العرض كان لديهم جميعاً أشياء أفضل يقضونها ليلة السبت هذه، وهكذا لم ترد إشارة بجرائد باريس في الصباح التالي لهذا العرض. بل الواقع أن بلدية باريس حين أرادت في 1924 تخليد هذه الذكرى بوضع لوحة تذكارية مكان مبتى الجراند كافيه، الذي كان قد اختفى قبل عام، لم يستطع أحد أن يتذكر بدقة تاريخ عرض الأخوين لوميير، ولكن جمهور 1895، من الناحية الأخرى، لم يتردد كثيراً في الإقبال على هذه البدعة، ففي يناير كانت هناك طوابير من راغبي مشاهدة تلك العروض، ذات الدقائق العشرين، أمام قاعة الصالون الهندي.

وفي غضون أسابيع من عرض الأخوين لوميير نجح المخترعان الإنجليزيان "بيرت أكريس" (1854- 1918) وروبرت وليم بول (1870 - 1943) في تقديم عروض سينمائية. كان بول صانع أجهزة علمية، وفي عام 1894 اتصل به يونانيان وطلبا منه أن يقلد لهما كاينماتوغراف إديسون. وسرعان ما راح بول ينتج أعدادا كبيرة من هذه الماكينات المزيفة لحسابه الخاص، وعندما رد إديسون على هذا رافضا بيع أفلام التصوير لغير أصحاب ماكيناته الأصلية شرع بول في صناعة كاميرا بالتعاون مع أكريس. وفي مايو 1895 سجلا براءة اختراع كاميرا وبدآ تصوير أفلام بالفعل. وقبيل انتهاء السنة نفسها كانا يعرضان هذه الأفلام، وبدأ تقديم عروض منتظمة ضمن برنامج قاعة الهمبرا الموسيقية بعد أسبوعين فقط من دخول السينماتوغراف إلى الإمبراطورية على يد مندوب لوميير، فنان الخدع البصرية السابق "فيليسين تريوي".

وفي ألمانيا، كان ماكس سكلادانوفسكي (1863 - 1939)، وهو من عائلة تخصصت لوقت طويل في عروض التسلية البحرية بمختلف أنواعها، يجرب في اتجاهات مستقلة بمفرده. وفي الحقيقة أن عرضه الجماهيري الأول بجهازه البايسكوب (Bioskop) في وينترجارتن ببرلين كان أسبق زمنيا من العرض الأول بالصالون الهندي. وكانت ماكينته، دقيقة الصنع، التي استخدمها تعمل بشريطي فيلم متوازيين وعدستين، ولذا يصعب اعتبارها جهاز عرض بالمعنى المفهوم.

وقي أمريكا قام "توماس أرمات وسي جنكينز" بتطوير جهاز عرض، هو الفانتوسكوب (Phantoscope)، قادر على تقديم عروض تجريبية قبل نهاية عام 1895. تم حصل إديسون على حق استغلال اختراعات أرمات وجنكينز وقدم جهاز عرض أطلق عليه فيتاسكوب إديسون. وجرت أولى العروض الجماهيرية للفيتاسكوب في قاعة كوستر وبيال الموسيقية، في الشارع الرابع والثلاثين في نيويورك، قبل أكثر من شهرين من ظهور سينماتوغراف لوميير في أمريكا بقاعة بي. إف. كيث الموسيقية.

وقبل نهاية عام 1896 كانت السينما قد انتشرت عبر أوروبا وأمريكا من خلال توكيلات أصحاب القاعات الموسيقية والمغامرين من محترفي العروض بأراضي المعارض الكبرى.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004