الحلقة الثانية:
إيناس الدغيدي:
الفكر هو الأساس
عودة المرأة من جديد إلى عالم الإخراج السينمائي جاءت كضرورة ملحة
لطرح قضايا المرأة المعاصرة .. ويبقى السؤال: هل
استطاعت المرأة المخرجة أن تساهم في إبراز قضايا
المرأة الملحة من خلال الأفلام التي قدمتها؟
(عفواً أيها القانون)
صرخة إحتجاج ضد قانون العقوبات المصري، أطلقتها
المخرجة الجريئة (إيناس الدغيدي)، في فيلمها الذي
يحمل نفس الإسم. وقد أثار هذا الفيلم ضجة كبيرة
عند عرضه، بين مؤيد ورافض للفكرة التي طرحها، ولكن
الكل إتفق على أن المخرجة قد نجحت في إثبات وجودها
في مجال الإخراج السينمائي، وإستطاعت أن تجد لها
مكاناً مرموقاً بجانب أساتذتها في الإخراج.
فإذا كانت نادية حمزة قد طرحت إسمها بشكل تجاري مباشر في فيلمها
(بحر الأوهام)، ونادية سالم قد أشارت إلى موقفها
الإيجابي من الثقافة الوطنية في فيلمها (صاحب
الإدارة بواب العمارة)، فإن إيناس الدغيدي قد قدمت
نفسها بشكل ملفت للنظر لجرأة الموضوع الذي تناولته.
بداية إتصال المخرجة بعالم السينما كان عام 1971، حيث دخلت معهد
السينما وتخرجت منه في 1975، إلتحفت في البداية
بقسم الإنتاج، ثم تحولت إلى قسم الإخراج. وأثناء
دراستها في المعهد زاولت العمل في السينما، حيث
عملت كمساعدة مخرج مع كبار المخرجين أمثال صلاح
أبوسيف في (الكذاب، الساقامات)، وهنري بركات في
(أفواه وأرانب).. كما عملت مع عدد كبير من
المخرجين الشباب كمساعدة أيضاً لمدة عشر سنوات،
آخرها كان مع المخرج يوسف فرنسيس في فيلم (عصفور
من الشرق). وعندما أحست أنها قد إستفادت من خبرة
هؤلاء المخرجين الكبار، مما يؤهلها لخوض أولى
تجاربها في الإخراج السينمائي، باشرت في الإعداد
لفيلمها (عفواً أيها القانون) إنتاج عام 1984،
والذي عثرت على فكرته بالصدفة، أثناء قراءتها
لكتاب صغير لضابط شرطة إسمه (نبيل مكاوي).
وعندما علمت أن
القصة حقيقية، أصرت على تطويرها وتقديمها في أول
أفلامها.
ومن ثم بدأت مرحلة
التحضير الأولى مع السيناريست (إبراهيم الموجي).
أثناء مراحل التحضير تحدثت إيناس الدغيدي مع بعض أساتذة القانون
للإستشارة، فوجدت البعض يعترض على هذا القانون
ويطالب بتغييره، مما أعطاها دافعاً قوياً
للإستمرار في تنفيذ الفيلم، بعد أن كانت خائفة
ومترددة قليلاً.
(...وجدت أن وراء القصة
قانون لم أكن أعرفه، تماماً مثلما لا تعرفه ملايين
النساء مثلي، لقد كان الموضوع كله مفاجأة لي،
فأردت أن أفاجيء به الجميع، كي يعرفوا أن هناك
قانوناً ينتمي إلى محاكم التفتيش التي تم إلغاؤها
منذ عهود بعيدة، المهم أنني شعرت بالظلم بالكبير
الواقع تجاه المرأة، فأردت تصحيح الأوضاع
المائلة...). # ملحق جريدة القبس الكويتية
13/01/1986
وبعد أن تم تجهيز الفيلم على الورق تقدمت به المخرجة إلى المنتج
(واصف فايز) الذي وافق بدون تردد في إنتاج الفيلم
مع علمه أن المخرج إمرأة تمارس الإخراج لأول مرة.
(...لا أعتقد أن السبب
عائد إلى جمالي، كما تناهى إلى مسمعي، فأنا أولاً
وحسب إعتقادي لست جميلة، ومن ينظر إليّ مثل هذه
النظرة فإنما ينظر للمرأة من زاوية متخلفة، إذ لا
يعقل أن يدفع منتج ربع مليون جنيه من أجل شكل
إمرأة أو جمالها، المنتج يدفع فلوساً حتى يكسب
فلوساً.. وتلك حقيقة..)# مجلة ألوان 24/01/1986
يبدأ الفيلم بحفل زفاف عليّ (محمود عبدالعزيز) وهدى (نجلاء فتحي)
وهما إستاذان في الجامعة.. تفاجأ هدى في ليلة
الزفاف أن زوجها عاجز جنسياً، لكنها تتحمل الصدمة
لأنها تحبه وتعرف مدى حبه لها. في النصف الأول من
الفيلم تسعى هدى، بمساعدة الطبيب إلى علاج زوجها
وإكتشاف العقدة النفسية التي يحملها، وتهتدي إلى
أن خيانة زوجة والده وقتل الأب لها مع عشيقها أمام
عينيه وهو مازال طفلاً، هو السبب فيما أصابه،
وهكذا تستطيع تخليصه من هذه العقدة.
ولكن ذلك يترتب عليه محاولة الزوج تعويض مراهقته الماضية في البحث
عن علاقات نسائية جديدة، هنا يبدأ النصف الثاني من
الفيلم. في حفلة إقامها الزوجان لأصدقائهما، يتعرف
الزوج على زوجة صديقه صلاح (هياتم) التي تحاول
جذبه إليها، فيقيم معها علاقة جنسية تصل إلى حد
إصطحابها إلى منزله. حيث يضع الفيلم الزوجة في
الموقف نفسه، الذي وضع فيه والد زوجها، حين تفاجيء
بمشهد الخيانة الزوجية لها وفي منزلها وفوق
فراشها، فتطلق النار عليهما وهي في حالة غير
طبيعية من هول الصدمة. يموت الزوج في المستشفى
بينما تنجو العشيقة من الموت، وتبدأ النيابة في
التحقيق وتوجه إلى الزوجة تهمة القتل المتعمد.
ورغم محاولات المحامية (ليلى طاهر) المستميتة
لإثبات براءة الزوجة من هذه التهمة، إلا أن الحكم
يصدر عليها بالسجن خمسة عشر عاماً مع الشغل
والنفاذ.
لقد نجح الفيلم في إبراز التناقض في القوانين الوضعية التي تحكم
مجمل العلاقات الإجتماعية، من خلال التفريق في
الحكم بين الرجل والمرأة. ففي قضية معينة يصدر
الحكم على المرأة بالسجن خمسة عشر عاماً مع الشغل
والنفاذ وإعتبارها جناية، بينما يكون الحكم في نفس
القضية على الرجل شهر مع إيقاف التنفيذ وإعتبارها
جنحة.
وتكمن أهمية الموضوع، الذي طرحه الفيلم، ليس من منطلق الدعوات
السطحية بمساواة المرأة بالرجل، بل من منطلق
التشريع الإسلامي، وهو لا يهدف إلى المساواة فقط،
بقدر ما يهدف إلى محاربة الجريمة ذاتها، وحماية
المجتمع من أضرارها، بغض النظر إن كان المجرم
رجلاً أو إمرأة.
تفول المحرجة في هذا الصدد: (...في الشرع لا تفرقة بين الرجل
والمرأة في الخيانة.. كلاهما يقع في جريمة الزنا،
لكن القانون يقف مع الرجل ولا يساند المرأة.. أنا
لا أطالب بحرية الخيانة للمرأة، لكنني أطالب
بالمساواة..
بإحترام المجتمع
لأحاسيس المرأة، التي مازالت مظلومة في المجتمع...). # مجلة الفيديو العربي أبريل 1985
إن المخرجة التي شاركت في كتابة الرؤية السينمائية، والسيناريست
إبراهيم الموجي، قد إتبعا عدة وسائل للوصول إلى
الهدف الذي يرمي إليه الفيلم، لكنهما لم ينظرا
بعين الإعتبار لبعض الأخطاء الواضحة التي حملها
السيناريو، وأهمها هو إعتراف الزانية بواقعة الزنا
علناً في المحكمة، والملابس الداخلية التي أحضرتها
النيابة لزوجها، وهما دليل إثبات قوي لم يستعملهما
السيناريست في الدفاع عن المتهمة، وذلك دون
إعطاءنا مبررات مقنعة.
لقد نجح السيناريو في تقديم نموذج الرجل الشرقي الجاهل والغير مثقف
(بدور فريد شوقي)، والذي يحمل في أعماقه مفاهيم
وموروثات دينية ودنيوية خاطئة.
غير أنه لم ينجح في
إنهاء الفيلم بشكل مناسب، حيث أن الفيلم إنتهى
فعلاً بعد النطق بالحكم في المحكمة، وبعد خلوها
إلا من المحامية المحبطة أمام خسارتها لقضيتها.
فالمشاهد التي تلت ذلك لم تعط أي إضافة لفكرة
الفيلم الرئيسية.
ومثلما نجح الفيلم، نجحت المخرجة في قيادة فريق العمل من فنانين
وفنيين بشكل موفق. وقدمت فيلماً جيداً يطرح قضية
جريئة جداً من خلال الصراع بين الشريعة والفانون
والمجتمع. ورغم أن الفيلم يعالج قضية الزنا، إلا
أن المخرجة إبتعدت عن الإسفاف والإبتذال، وقدمت
مشاهد الفراش بين الزوجين في لقطات قصيرة وعابرة،
كذلك لقطات الجنس بين الزوج والعشيقة كانت سريعة.
إلا أن المتفرج إستطاع أن يستخرج المقصود في كل
لقطة وكل مشهد، دون الحاجة إلى مشاهد جنسية مبتذلة.
إن المخرجة إيناس الدغيدي في فيلمها الأول، إستطاعت تفادي أخطاء
فنية، كثيراً ما يقع فيها المخرج في أول أعماله.
وقدمت أسلوب بسيط في التقنية وتجنبت إبراز تكنيك
جديد قد يخدم العمل بشكل أكبر.
فعن إستخدامها للأسلوب السينمائي، تقول المخرجة: (...أعتقد أن الفكر
يجب أن يكون هو الإساس، أما التكنيك السينمائي
فسأتخذ الأسلوب العادي والتقليدي، لكن بطريقة خاصة
بي، إنما كشكل غير عادي ـ مثل أشكال يوسف شاهين
مثلاً ـ فلا أظن أنني سأنحو إلى هذا الشكل..
بالرغم من أنه إتجاه وشكل متقدم ومبهر، إلا أنني
أريد أن أصل إلى الناس أولاً وبسهولة (...) وأعتقد
أن أفلامي في البداية ستكون كلها عن المرأة
وحقوقها، لأنني أعتقد أن هناك أشياء كثيرة جداً عن
المرأة لم تناقشها السينما حتى الآن...). # ملحق
جريدة القبس الكويتية 13/09/1983
ولقد تأثرت المخرجة بثلاث إتجاهات سينمائية، عايشتها وتفاعلت معها
أثناء عمله الطويل كمساعدة مخرج. لذلك ليس من
الصعب أن نلاحظ في أولى تجاربها الإخراجية ملامح
من واقعية صلاح أبوسيف في مشهد تهجين الثور
والبقرة في الريف، ومن رومانسية بركات في المشاهد
الغرامية، كذلك تأثرت بإيقاعية ورشاقة كمال الشيخ
في مشاهد إطلاق الرصاص والإنتقال إلى المستشفى.
والتأثر بمن سبقونا ليس عيباً، وإنما كان على المخرجة أن تتخذ
لفيلمها أسلوباً محدداً تنفرد به، لإبراز شخصيتها
السينمائية المستقلة. |