ملفات خاصة

 
 
 

بشير الديك.. ظل المحارب

ناهد صلاح

عن رحيل الكاتب المبدع

بشير الديك

   
 
 
 
 
 
 

حسن، واحد من هؤلاء الذين يطلون علينا كحراس لآدميتنا المهدورة، يحرسوننا حتى من أنفسنا، لديه هذا المزيج الأخاذ من الوجع المستغيث واللطف القاسي من فرط رقته، سواق الأتوبيس المُترع بالحب، أُرغم على الصراخ والكراهية التي فُرضت عليه في مجتمع لم يكن عادلًا، فيشعرك أن صراخه وكراهيته شكل من أشكال الدفاع والمواجهة، فقد زاد الضغط على الوتر المشدود بينه وبين الواقع، هكذا رسم بشير الديك الخطوط الرئيسية لبطل فيلمه الشهير "سواق الأتوبيس" (1982)، الفيلم الذي دشن لرهافة المشروع المشترك مع المخرج عاطف الطيب وأعلن عن كاتب يتمتّع بملاحة الإبداع وبهاء الحكاية الإنسانية، بهذا المعنى، شكّل هذا المشروع حالة مهمة في المشهد الفني المصري، وكشف عن مخرج وكاتب تمتّعا بميزات حرفية لافتة للانتباه، بشير الديك كما عاطف الطيب ومحمد خان الشريك في كتابة القصة وصناعة الفيلم، ومعهم نور الشريف ممثلًا ومنتجًا.. الأربعة بدرجة ما يشبهون "حسن" المحارب المنتصر على عدوه الصهيوني في حرب أكتوبر، والإنسان المهزوم، المجروح على يد خصوم ومناوئين كُثر، أفسدوا الحياة وحولوها إلى بقعة مفتوحة على الجنون والخيبات وهلوسات وهم الثراء السريع بكل نسقه الاستهلاكي، أبرز سمات مرحلة السبعينيات التي تركت ندوبها وآثارها في وجدان صناع الفيلم.

نحو أكثر من 60 عملًا خرجت من جرابه المُتْرَع والزاخر بالحواديت، وتقاسمتها السينما مع المسرح والدراما التليفزيونية، لكن يظل حسن هو النموذج والتجسيد المثالي لـ بشير الديك ورفاقه الموزعين على فضاءات الحلم، الشخصية العصية على النسيان أو الإغفال، حضورها قوي لدرجة أنه برحيل كاتبها عن عمر يناهز 80 عامًا، يظهر حسن "سواق الأتوبيس" ليتصدر أغلب التقارير الصحفية التي تنعي بشير الديك، ويؤكد أنه صورة لجيل عانى الخذلان وعاشه، صورة لهذا الكاتب المولود في في 27 يوليو 1944 بقرية صغيرة تقع على شاطئ البحر بمحافظة دمياط، عرف فيها حكايات البحر وأساطيره، فصارت شريعته في الخيال، هذا غير روايات الأسلاف من رموز الأدب المصري والعالمي، ما ساعده كي يتخطى دراسته في كلية التجارة مرغمًا بضغط من والده، وينشر القصة القصيرة في المجلات الثقافية المصرية والعربية، ثم ينضم إلى جماعة جاليري 68 الأدبية التي أسسها إبراهيم أصلان مع جميل عطية إبراهيم ومحمود الورداني، قبل أن يتجه إلى السينما بخطوته الاستهلالية "مع سبق الإصرار" (1978) إخراج أشرف فهمي، أول أفلامه التي توالت بعد ذلك لتزيد عن الأربعين فيلمًا وضعته في مساحة خاصة على خريطة السينما، بينما إنسل "سواق الأتوبيس" فيلمه الذي لامس القلب، كنقطة نور جسورة أضاءت الدرب وجعلتنا كمشاهدين نحدق جيدًا في أثر العابرين، وندرك التحولات التي أصابتنا تاريخيًا وجغرافيًا.

جاء هذا الفيلم تحديدًا ليكون منعطفًا مفصليًا في السينما والواقع، به استهل بشير الديك وعاطف الطيب تعاونهما الذي أسفر لاحقًا عن أفلام مثل: ضربة معلم ( 1987)، الهروب (1991)،  ضد الحكومة (1992)، وناجي العلي في نفس العام، جبر الخواطر (1998)، كان الاثنان يكملان بعضهما، إنه ما عبر عنه بشير الديك في أكثر من حوار وتصريح صحفي حين وصف الطيب بأنه "توأم روحه"، لقد قاما سويًا بالخوض في واقع تغمره الأحزان والانكسارات، وتتخلله الرغبة في النجاة.

"حسن" واحد من فرسان هذا العصر، يمضي في براري لا نهاية لها بين هاويتين: هاوية الحرب الذي خلُص منها وصعد ظافرًا بالنصر والعبور، وهاوية المجتمع المتسرب من جذوره والذي كان يسعى فيه ليعيد تكوين المسافات، كي تفيض الحياة بصورتها الدافئة، الودودة كما في تكوينه الأصلي، الشاب الذي خاض أربعة حروب: اليمن، 67، الاستنزاف، أكتوبر 73، يرد في حواره بالفيلم: " كنت في الجيش أخرج من حرب وأدخل حرب"، لكنه حين عاد إلى مجتمعه المدني، لم يجد أمامه غير الانكسار، قلة الحيلة، العجز، الخذلان.. في البداية إنطوى على ظله المهجور، واكتفى بدوره كمواطن، ترس، يدور في عجلة العمل المتواصل، ليهبط على ظله مرة أخرى بالفتات، زوج وأب وسائق أتوبيس يستيقظ فجرًا ليبدأ مهمته اليومية، لا وقت حوله للكلام العاطفي، يقوم بسرعة في يوم شتوي، يشد الغطاء بحركة ديناميكية على زوجته النائمة بجواره، يغسل وجهه ورأسه بماء بارد، يمر على غرفة طفله الصغير، يرمقه بنظرة حانية ويشد عليه الغطاء ثم يكمل ارتداء ملابسه وينطلق.

يجوب شوارع القاهرة بأتوبيسه الذي يزدحم بالناس والحكايات المعجونة بالوجع، ترافقها نغمات الناي الجالب للشجن في تماهي مع الزحام واللهاث وراء الأتوبيس وسقوط إحدى السيدات على الرصيف بقوة التدافع أثناء نزولها، تفاصيل إلتقطتها نغمات الموسيقار كمال بكير، فارس آخر من فرسان الإبداع في هذه الحقبة، كان جسر التواصل الموسيقي في أفلام الثمانينيات بتوجهها المختلف نحو الموضوعات الإنسانية، حيث وضع الموسيقى التصويرية لحوالي عشرة أفلام منها ثمانية مع المخرج محمد خان، ناي كمال بكير في "سواق الأتوبيس" بطلًا رئيسيًا يلازم البطل والناس، كذلك تنويعاته على موسيقى تراثية خالدة، فنجده استهل الفيلم بتنويعة على "الحلوة دي قامت تعجن في البدرية" عند إنطلاق حسن بأتوبيسه، ونشيد "بلادي بلادي لك حبي وفؤادي" في مواضع أخرى، فقد عبرت موسيقى كمال بكير بآلاته الشرقية في هذا الفيلم عن شجون محارب منتصر، عاد إلى الواقع ليصبح بطلًا مهزومًا..

في هذه اللحظة الاستهلالية يلازم نايه المهمشين، المهملين، اليائسين، المحشورين في أتوبيس، حتى يأتي لص ويسرق محفظة امرأة كانت تحكي منذ قليل عن سلع استهلاكية في الجمعية، تدخل الطبلة مع الناي كخفقان قلب، حين ينتبه حسن في المرآة إلى اللص ويغلق أبواب الخروج، فيقفز اللص من النافذة ويهرب، فيهم حسن بمطاردته ثم يتراجع مستسلمًا وهو يصرخ في السيارات التي أطلقت نفيرها حوله:" طيب طيب إنتو روخرين" وينصرف مكملًا طريقه. هذا المشهد الاستهلالي يختصر حالة هذا السائق الذي إنحدرت حياته إلى منزلق صعب، ولتأكيد المعنى جعل بشير الديك وعاطف الطيب مشهد النهاية مغايرًا، إنه نفسه فعل السرقة وصراخ امرأة فقدت راتبها الشهري، لكن حسن لم يعد كما في البداية، فيقفز من مقعده ليطارد اللص بضراوة، دون أن تفزعه المطواة التي يشهرها اللص في وجهه، يواجه هزيمته  وإحباطه وينقض على اللص فيما يطلق صيحته الغاضبة: "يا أولاد الكلب .. يا أولاد الكلب"، كيف حدث هذا التحول لسائق الأتوبيس؟ إنه ما فعله بشير الديك في سيناريو بوعي، كشف عن تغير يعتري المجتمع كله ويعريه في لحظة لم تتسع للحالمين، الصابرين الذين أجهضت أحلامهم. هنا تختلط أصوات الناي والطبلة والكمان لتشارك في المرثية، الحكاية التي كتبها بشير الديك راصدًا الفراغ الآدمي الذي حاصر المجتمع بعد حرب أكتوبر 1973، هذا الفراغ الذي أفسد الحياة وظهر سُعاره في العلاقات التي ضاقت بالقيم النبيلة.

حسن ابن الحاج سلطان صاحب ورشة الخشب، الأب النموذجي والقدوة له، يُصارع وحده وحشة واقعه التي استحوذت على كل شيء، وانغلقت على سواد الطمع وتكديس الأموال والتفكك العائلي، يعمل سائقًا لأتوبيس نهارًا ولتاكسي ليلاً، يعاني مع زوجته التي تتمرد على سوء حالته المادية، ويكافح من أجل الحفاظ على ورشة أبيه التي يتخلى عنها الجميع في خضم الجشع والنهم الذي استشرى وتسلط حتى على شقيقاته وأزواجهن الشرهين، الورشة هنا هي رمز للشرف والكرامة وربما للبلد التي خذلوها، إلا حسن ورفاقه من المحاربين، شلة القروانة، جيل الحرب الذي دفع ضريبة التغيير بفداحة، لم يقدم الفيلم صورًا لبطولاتهم على الجبهة، بل كثف إغترابهم عن المجتمع الجديد، كما في هذا المشهد الذي يجتمعون فيه تحت سفح الهرم في ليلة يكتمل فيها القمر، ليتسلل توزيع جديد لنشيد "بلادي بلادي" بإيقاع مفعم بالشجن، بينما يستدعي رفاق السلاح ذكرى الحرب، ويتذكرون رفيقهم صادق الذي استشهد..

صورة عبد الناصر منزوية في ركن بعيد بالورشة، والحاج سلطان يتوارى في منزله متجرعًا مرارة الضعف والخذلان، ثم يقرر في لحظة حاسمة أن يودع ورشته الشاهدة على قوته القديمة، يتأمل تفاصيلها كأنها ترمم أوجاعه، يحكي لابنه الذي يشعر بأحاسيس الخيبة التي تستشري في شرايين وأوصال والده، عن البدايات والكفاح بشرف في زمن مضى قبل الزمن الجديد المتخم بقبح المتآمرين وانتهازيي الفرص، آنين كمان كمال بكير يتسلل كصوت بشري يضج بوليمة الخراب التي استفحلت، في الورشة التي تتابع لقطات مدير التصوير سعيد شيمي لتسجيلها، وتسكينها في الذاكرة حتى لا يفوتنا شيئًا، الأب وابنه في خلاء المكان، يطرق الأب الماضي ويحاول الابن أن يجمع شظايا الحاضر.

هذا المشهد كان الأخير للفنان عماد حمدي في مشواره السينمائي وكذلك في الفيلم قبل أن يستسلم للموت كحصن يلوذ به من حسرته، البطل المهزوم مأواه هو الرحيل، البطولة المهزومة أورثها أيضًا لابنه، حسن هو الامتداد لوالده "سلطان" الخارج من أزمنة أخرى، ناضل وقت الاحتلال الانجليزي، تعارك مع ضابط إنجليزي ثم هرب إلى القاهرة وافتتح ورشته للنجارة وصار "الأسطى" الذي يطلب الجميع وده، حتى جاء هذا الزمن الذي يتهافت المستغلون الجدد لسرقة الورشة وتحويلها إلى بوتيكات تناسب عصر الانفتاح.

لقد تمرس بشير الديك في السيناريو بحالات شتى، تنبع من حقيقة ساطعة تخص جيله الذي تكبد آلام السبعينيات وحملها إلى الثمانينيات، طوَقها وحولها إلى صور إبداعية، تأملية تقطع الطريق إلى آخره، علها تجد أجوبة أو خيط أمل يوحي بأن كل شيء سوف يبدأ من جديد، إنه واقعي ويعرف أن عبور الحاضر الغليظ أصعب من عبور خط بارليف، لكنه يصدق أحلامه ويكتب عن أمثاله الذين يشعرون بالحنين إلى أشياء غامضة فرت من أيامهم وصنعت ما يشبه القطيعة بين الأمس والغد. من هذه النقطة أتقن رسم شخصياته، سواء من أقرانه الذين يقفون على ضفته أو الآخرين المناقضين على الضفة الأخرى، واختيار الحوار المناسب لها، فإن الفيلم عمومًا تكثفت فيه هذه الحالة الفنية المتماسكة والمفعمة بالأسى والنبل، التي صنعت من سواق الأتوبيس مثالًا لحالة إبداعية متكاملة على مستوى الكتابة والإخراج والتصوير والموسيقى والأداء التمثيلي، كان كافيًا للفيلم الذي عُرض أول مرة في مهرجان الإسكندرية السينمائي الدولي، وحصل على جائزة العمل الأول لمخرجه في مهرجان أيام قرطاج السينمائية بتونس، كذلك فاز نور الشريف بجائزة أفضل ممثل في مهرجان نيودلهي، ليحصل على الترتيب الثامن في قائمة أهم مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية، وذلك ضمن استفتاء مهرجان القاهرة السينمائي الدولي لعام 1996، بمناسبة مائة عام سينما، والمركز الـ 33 ضمن قائمة أفضل مائة فيلم فى تاريخ السينما المصرية والعربية خلال استفتاء نظمه مهرجان دبى السينمائى الدولى عام 2013.

 

اليوم السابع المصرية في

02.01.2025

 
 
 
 
 

«أحد نُساك السينما»..

وداعًا بشير الديك.. «حرّيف» الكتابة

كتب: محمود مجدي

لم تأب ٢٠٢٤ أن ترحل دون أن تخطف معها أحد أهم كتاب السينما والدراما فى مصر والعالم العربى، الكاتب الكبير بشير الديك، الذى شيع جثمانه أمس الأول من قرية «الخياطة»، مسقط رأسه بدمياط.

وسط أسرته وأقاربه وحزن شديد خيّم برحيله، عن عُمر يناهز الـ٨٠ عامًا، داخل العناية المركزة بأحد المستشفيات بعد صراع مع المرض، ليرحل أحد نُساك السينما، صاحب أشهر الأفلام التى اهتمت بالقضايا الاجتماعية والسياسية، وسلطت الضوء على مشاكل رجل الشارع البسيط.. ونستعرض فى هذا الملف سطورًا من سيرة ومشوار الراحل بشير الديك.

«سواق الأتوبيس» و«ضد الحكومة».. كواليس صناعة أهم أعمال كاتب زاده السينما

بشير الديك من أهم كتاب السيناريو فى تاريخ مصر، فقد شكل مع زملائه وحيد حامد وأسامة أنور عكاشة جيلًا ذهبيًا لكتاب السيناريو امتازوا بالموهبة والثقافة وعزة النفس، فكانوا أصحاب مشروع بحق، وسجلوا أسماءهم فى تاريخ العملية الفنية.

قدم بشير الديك أعمالًا سينمائية كثيرة ومتنوعة، كان من أهمها «سواق الأوتوبيس»، و«ضد الحكومة»، و«الحريف».

فلو تحدثنا عن كواليس صناعته لفيلم «سواق الأوتوبيس»، فالفيلم بدأ بفكرة لمحمد خان عن سائق تاكسى يشعر بالغيظ والضيق، وأمام ذلك يشعل النار فى سيارته التاكسى ويتركها، وكان الفيلم اسمه «حطمت قيودى»، وعايشت مشهدًا واقعيًا، حيث مجموعة من الشباب يشتمون سائق تاكسى شتيمة قبيحة، فتخيلت لو أن هذا السائق خدم فى الجيش وله ورشة وحياة كاملة، وبدأت البذرة من هنا. ثم استحضرت شخصيات دمياطية عاصرتها أثناء معيشتى هناك، منهم الحاج سلطان أبوالعلا، صاحب ورشة النجارة الميكانيكية، والذى جسده الفنان الراحل عماد حمدى، وهو شخصية حقيقية، وهو والد صديقى الراحل جمعة سلطان الذى كانت وفاته غريبة، حيث مات من الضحك أثناء حديثه مع بعض أصدقائه.

قام نور الشريف بشخصية حسن، وهو الشاب الذى أنهى خدمته فى الجيش ويعمل سائقًا للأوتوبيس، وهى شخصية تمثل جيل شباب ١٩٧٣، الذين يتميزون بـ«الدم الحامي»، وكان معروفًا عنهم حرصهم على تجميل كابينة الأتوبيس الذى يقودونه، وكان يعجبنى فى هذا النموذج كفاحه. وبالفعل أعطى محمد خان السيناريو لعاطف الطيب، وهو من أبناء منطقة شعبية وهى بولاق الدكرور، وأدى خدمته فى الجيش، مما جعله أقرب للواقع وأبرز من يستطيع التعبير عنه أمام الكاميرات. عرض الفيلم بالفعل وحقق نجاحًا كبيرًا.

فيلم «الحريف» قدم نموذج فارس «اللامنتمى» وغير المثقف، الذى أراد لعب كرة القدم فقط. وحين يسأله ابنه فى النهاية «ألن تلعب مرة أخرى؟!» يجيبه قائلًا: «زمن اللعب راح يا بكر»، والمقصود به زمن البراءة والمتعة، واللعب فى الشارع بين الناس، حيث اتجه عوضًا عن اللعب إلى العمل فى تهريب السيارات، فى إشارة واضحة إلى مرحلة الانفتاح، حيث انهيار المجتمع. وظهر عدم انتمائه للمكان الذى يعيش فيه، حيث اخترنا أن يكون فوق السطح وتحته إعلانات مدينة القاهرة. وفى رأيى أن نجاح «الحريف» وانتشاره حاليًا، بسبب أن الجيل الحالى جيل غير تقليدى، ثورى، متمرد، والفيلم كذلك. فالفيلم ثورى وغير تقليدى من كل النواحى، رسم الشخصيات، والحبكة غير القائمة على صراع تقليدى. الصراع فى الفيلم كان جديدًا ومختلفًا، ليس صراعًا مع أشخاص أو كيانات، بل هو صراع مع الحياة. فـ«فارس» طوال الفيلم كان يصارع الحياة، واستسلم لها ولقوانينها الجديدة فى النهاية.

رشح أحمد زكى لفيلم «الحريف» منذ البداية، لكن كان هناك خلاف بين أحمد زكى ومحمد خان فى «موعد على العشاء»، لأنه كان له تصور ما للشخصية من ناحية المظهر. محمد خان لم يعجبه ذلك التصور فتشاجرا سويًا. نفس الأمر حدث فى فيلم «الحريف»، عرضنا الموضوع فى البداية على أحمد زكى، واختلف مع محمد خان بسبب «فورمة» الشعر المناسبة للشخصية، فقال له خان ذات مرة: «ما تيجى نجيب عادل إمام»، فوافق، وتم اختيار عادل إمام للدور، مع أن رؤية بشير الديك الفنية كانت ترى زكى مناسبًا فى البداية، لكن عادل كان اختيارًا مميزًا.

عرض «الحريف»، لكنه لم يحقق نجاحًا تجاريًا، مما تسبب فى عدم قبول وحب عادل إمام للفيلم لسنوات طويلة. والسبب أن عادل إمام نجم جماهيرى كبير، وكان معتادًا على تقديم أعمال من نوعية «المتسول» و«رجب فوق صفيح ساخن» وغيرهما من الأعمال الكوميدية الخفيفة ذات البعد الاجتماعى البسيط فى ذلك الوقت، التى تحقق إيرادات خرافية. فعندما قدم هذا العمل ولم يحقق النجاح الجماهيرى المنتظر، صدم الجمهور فى عادل لأنه ظهر فى شكل غير معتاد عليه فى أغلب أعماله فى ذلك الوقت. لذلك كانت ذكرى غير جيدة له فى الفشل التجارى. لكن مع السنوات عاش فيلم «الحريف» وأصبح من أهم أفلام عادل إمام.

فيلم «ضد الحكومة» جاءت فكرته من قصة حقيقية للكاتب الصحفى وجيه أبو ذكرى، حين قتل ٢٢ طفلًا تحت عجلات أحد القطارات. فوظف بشير الديك الحادث، وجمع التفاصيل المتناثرة، ووضعها فى السياق. أراد أن يقدم من خلال الفيلم مرثية للزمن الفائت وفترة الزهو القومى، بعدما جاء الانفتاح و«اتباع» كل شىء.

فيلم «ناجى العلي» قدمه الراحل مع نور الشريف وعاطف الطيب، وتم الهجوم عليهم بسبب هذا الفيلم. شنت مؤسسة صحفية حكومية هجومًا كبيرًا عليهم لدرجة أن نور الشريف فكر فى اعتزال التمثيل والهجرة إلى لندن. وتم اتهامهم بأنهم تلقوا حفنة دولارات من الخارج، وطالب البعض بإسقاط الجنسية عنهم. إلى أن هدأت العاصفة، وتم عرض الفيلم واستبيان حقيقته، وأنه من أهم الأفلام التى تناولت القضية الفلسطينية.

اعتبر نفسه صانع عمل وليس صانع سيناريو.. كتابة أقرب للصوفية.. لها مذاق وسحر وطقوس روحية تشعره بالتطهر

كانت الكتابة لدى بشير الديك أقرب للصوفية، واعتبر نفسه صانع عمل وليس صانع سيناريو، فلم تكن الكتابة لديه «فلوس حلوة»، وأهم شىء حرص عليه فى أى سيناريو هو «اللوج لاين»، فقد كان «بشير» ابن السينما ولولا تغير السوق السينمائية بعد فيلم «إسماعيلية رايح جاى» ما ترك السينما واتجه للتليفزيون.

لم يكتب بشير الديك لنجم سوى للراحل أحمد زكى، ولم يكن الأمر بناء على اتفاق مسبق بينهما، فهناك نوعان من الكتابة، الكتابة بالحرفة والكتابة بالموهبة، فنشاهد كتّابا يتمتعون بالموهبة، يكتبون من خلال إحساسهم، والكتابة تتدفق من خيالهم، لا يقومون بكتابة المعالجة أو التخطيط للمشاهد أولا، وهناك كتاب آخرون يتمتعون بالحرفة والصنعة، يكتبون أى فكرة تعرض عليهم سواء كانت رومانسية أو كوميدية، ويهتمون بالمعالجة ورسم الشخصيات، ويقومون ببناء السيناريو كأنما يخططان لمشروع حقيقى.

بشير الديك جمع بين الأسلوبين، تمتع بموهبة شديدة الأصالة بجانب حرفة، أطالت عمره ككاتب سيناريو، وجعلته يكتب أعمالا من روحه وخياله مثل «الحريف» و«سواق الأتوبيس»، وأعمالا أخرى للفنانة نادية الجندى لم يكن هو صاحب فكرتها الأساسية.

بشير الديك لم يكن يتوقف عن العمل، كان يكتب كل يوم بانتظام، الكتابة اليومية جعلت منتجه الفنى غزير للغاية، وكان يحب الكتابة فى مكتبه، يبدأ كتابة فى الصباح الباكر ولمدة ساعات طويلة، ومن أهم الأشياء التى يحرص عليها فى السيناريو أن يفاجئ المتفرج دائما بـ«تويستات» ومفاجآت حتى يسيطر على المشاهد ولا ينصرف عن العمل بجانب أن السيناريو لديه يحمل رسالة ما يريد توصيله للمشاهد بشكل شاعرى ورومانسى.

كما أن السيناريو لديه يكون صادقا وبسيطا، فالصدق هو أقرب طريقة للتأثير فى وجدان المتفرج، ومن خلال كتابته للسيناريو هو الذى يقود المتفرج من خلال كتابته، بمعنى أنه يجذبه لما يريد أن يقوله ويطرحه، فهو الذى يقود المتفرج وليس هو الذى يقوده. أهم شىء بالنسبة لبشير الديك عند كتابته لأى سيناريو كان «اللوج لاين»، حيث يجب أن يعرف الحدث المفجر الذى ستنطلق منه الأحداث، إذا عرفه يسير معه ويطلق الحرية التامة لشخصياته بأن تعبر عن نفسها كما تريد، وكل دوره أن يوفر لها الحيز الذى ستدور وتنطلق فيه، وليس مهما بالنسبة إليه أن يحدد نهاية السيناريو منذ النهاية فهى تأتى معه على حسب طريقة سرد الموضوع.

بشير الديك لم يكن موظفا، بمعنى أن الفن بالنسبة له لم يكن سبوبة أو أنه يقدم أعمالا لمجرد الوجود، فلابد أن تكون هناك أشياء تلح عليه كى يكتب، فهو كان يبكى عند كتابة أى مشهد مؤثر، وكان يبكى كذلك عند مشاهدة أعماله، فهو يتوحد مع شخصياته وعوالمه فهى جزء من روحه ولا تنفصل عنه أبدا.

الكتابة لديه عمرها ما كانت «فلوس حلوة» فهو لم يكن شغوفا بالمال فبعد كل عقد يوقعه، كان يحتفظ بالعربون فى منزله ولا يصرفه، تحسبا لإعادته فى حال عدم استمراره فى العمل لأى سبب من الأسباب، فالكتابة لديه أقرب للصوفية، لها وجد ومذاق وسحر وعشق وطقوس روحية خاصة للغاية، فهو يشعر بالتطهر والسمو كلما مسك القلم وكتب. لم يكتب بشير الديك فى حياته لنجم سوى للراحل أحمد زكى، فعند كتابته لأى عمل كان يدور فى ذهنه أن يكون هو، ولم يكن الأمر بناء على اتفاق مسبق بينهما، فقد كان زكى أو «زكاوة» كما يطلق عليه المقربون منه فى تلك الفترة فتى الشاشة الأول، وعقب انتهائه من الكتابة يجده أصلح ممثل للدور (لو كان الدور شابا)، وباستثناء «زكاوة» لم يكتب لأحد بعينه، فهو يكتب العمل، ثم بعده يبحث عن بطل مناسب للعمل وليس العكس.

«الطيب والديك» ثنائى فنى وإنسانى لن يتكرر فى تاريخ السينما

عاطف الطيب وبشير الديك من أهم الثنائيات الفنية فى تاريخنا الفنى، صنعا سويا أهم الأعمال فى تاريخ السينما، نتحدث عن «سواق الأتوبيس» و«ضد الحكومة» و«ضربة معلم» و«ليلة ساخنة» وأعمال أخرى.

وهما لم يكونا ثنائيا فنيا فقط بل شكلا ثنائيا إنسانيا كذلك، فكانا لا يفترقان تقريبا، واشتركا سويا فى تجربة إنتاجية بعنوان الصحبة، ومعهما المونتيرة نادية شكرى، وأنتجا أهم وأعذب أعمال السينما المصرية فيلم «الحريف».

بشير الديك تعرف على عاطف الطيب، عندما شاهده بالصدفة وهو يقوم بتصوير فيلم «الغيرة القاتلة» فى أوائل الثمانينات لكن تعرفا على بعض بشكل جاد عن طريق المخرج محمد خان أثناء صناعة فيلم «سواق الأتوبيس».

محمد خان جاءته فكرة سواق تاكسى يضجر من ثرثرة راكب معه، فيقوم بحرق التاكسى بالبنزين فقط هكذا جاءت الفكرة لـ محمد خان عرضها على بشير الديك لكتابته فأضفى على الفيلم روحا جديدة حيث استحضر شخصيات دمياطية عاصرها أثناء معيشته هناك منهم الحاج سلطان أبوالعلا صاحب ورشة النجارة الميكانيكية والذى جسد شخصيته الفنان عماد حمدى وهو شخصية حقيقية كما أنه كتب شخصية حسن التى تمثل جيل شباب ١٩٧٣ والذى يمتاز بالدم الحامى وكان معروفا عنهم حرصهم على تجميل كابينة الأتوبيس الذى يقودونه.

محمد خان لم يجد نفسه فى هذا السيناريو فقدمه لعاطف الطيب وهو من أبناء منطقة شعبية وهى بولاق الدكرور وأدى خدمته فى الجيش، مما جعله أبرز من يستطيع التعبير عن السيناريو، ومن خلال سواق الأتوبيس تعرف الثنائى على بعضهما البعض وبدأت رحلتهما الفنية والإنسانية.

خلال فترة توهجهما الفنى فى فترة الثمانينات من القرن الماضى، كانا سعداء للغاية فأهم نجوم مصر كانا يريدان العمل معهما، فاتن حمامة طلبتهما بعد سواق الأتوبيس وكانا سيقدما مشروعا سينمائيا معها لكنه توقف لأسباب إنتاجية، وكانا سيقدما مسرحية ميوزيكال مع نادية الجندى، لكن المشروع توقف بسبب مرض عاطف الطيب، عادل إمام كان كلما شاهدهما فى مناسبة ما، كان يقول لهما:« يا جماعة كل زمايلكم بيكسبوا من ورايا أنتوا مش عايزين تكسبوا ليه؟!».

الثنائى كان «شغيلة» يعشقان العمل، الطيب كان يعمل لمدة ١٦ ساعة رغم مرضه بالقلب، وأخفى مرضه على الجميع وأولهم بشير الديك لمدة أربع سنوات حتى يتمكن من العمل ولا يستبعده المنتجون بسبب مرضه، ورغم كل هذا الاحتفاء والتحقق كانا يشعران أنها فترة مؤقتة ولو لم ينفذا كل مشاريعهما التى يحلمان بها فى تلك الفترة، لن تتاح لهما الفرصة لكى ينفذوها مستقبلا.

من شدة قرب الثنائى سويا، كان بشير الديك مستشار عاطف الطيب الفنى، يعرض عليه كل السيناريوهات التى ينفذها مع مؤلفين آخرين، وكان بشير الديك يتدخل بالرأى والنصيحة كما حدث فى فيلم دماء على الأسفلت لأسامة أنور عكاشة حيث نصح الديك بحذف ٥٠ مشهد للحفاظ على إيقاع الفيلم.

وفاة عاطف الطيب بلورت علاقته مع الموت فالموت خطف ابن بشير الديك وهو لم يتجاوز الثالثة من عمره، وكانت وفاته مفاجأة شديدة وقاسية بالنسبة له، ونفس الأمر تكرر مع عاطف، ففى اليوم السابق لوفاته، كان يجلسان مع منتج للاتفاق على تفاصيل فيلم نزوة، وأخبره بأنه سيسافر فى رحلة عمل وسيعود بعدها لحضور تصوير الفيلم، وأخذا يضحكان سويا، وطلب منه إحضار هدايا له من الخارج وطمأنه على العملية التى سيجريها فى قلبه، وأكد له أنها ستنهى أزمة قلبه نهائيًا وكان فى قمة انسجامه وتألقه يومها.

يأتى يوم العملية ويفاجأ أثناء جلوسه فى الطيارة بخبر وفاته، علم بوفاته مثل بقية أفراد الشعب وأغلبهم عرف بخبر وفاته قبله بالتأكيد، لم يكن بجواره فى لحظاته الأخيرة كما كانا دائمًا.

منذ لحظة علمه بوفاة الطيب، تأكد أن الموت يحبه بشدة وأنه ضيف مفاجئ لو لم يفاجئه ويخطفه شخصيا، فسيفاجئه بأخذ أقرب المقربين إليه، كما حدث مع ابنه وصديقه مهندس الديكور الراحل رشدى حامد.

بشير الديك ومخرجو الواقعية الجديدة.. صحبة أمتعت السينما بأهم الأفلام

عمل بشير الديك مع أهم مخرجى جيل الواقعية الجديدة وهما عاطف الطيب ومحمد خان، وكان الثلاثى بمثابة صحبة أمتعت السينما بأهم الأفلام وهما فيلما «الحريف» و«سواق الأتوبيس».

بالتأكيد، بشير الديك مع الثنائى ليس هو فى الحالتين، هناك اختلاف على الرغم من أن الكاتب واحد. فبشير الديك مع عاطف الطيب كان قريباً منه من الناحية الفكرية والإنسانية والاجتماعية، بينما مع محمد خان كان يراه «خواجة» بعض الشيء، لكن كان يستطيع أن يصل معه إلى نقاط اتفاق، وهو ما حدث فى أفلامهما سويًا: «طائر على الطريق»، و«موعد على العشاء»، و«الحريف».

أبطال عاطف الطيب وبشير الديك أحرار بالفعل، يحاولون القفز ضد أى عائق يعوقهم. وأكبر مثال على ذلك مشهد محاكمة منتصر فى فيلم «الهروب».

أما أبطال خان، فيشعرون بالقيود التى يتحركون فيها ويحاولون القفز فوق أسوار العادات والتقاليد والقانون لأنهم يشعرون بوطأة تلك العوائق على أنفسهم. فـ«فارس» فى فيلم «طائر على الطريق» يترك عصمت، الفتاة الجميلة التى تحبه، من أجل أن يحظى بـ«فوزية»، المرأة المتزوجة.

وهذا هو الفارق؛ فمنتصر فى فيلم «الهروب» يقفز فوق الأسوار ويتحدى القانون الذى يعوقه عن تقبل عزاء أمه، بينما فارس فى «طائر على الطريق» متهور ومهووس بفكرة إنسانية بحتة.

استمر تعاون بشير الديك مع عاطف الطيب حتى وفاة الأخير، بينما لم يتعاون مع خان بعد فيلم «الحريف». ويرجع سبب ذلك إلى أن خان كان متعجلًا طوال الوقت، والديك يحب أخذ وقته فى الكتابة. فبعد فيلم «الحريف» زار خان الديك فى منزله وطلب منه كتابة سيناريو عن بنتين تحبان بعضهما البعض وترغبان فى الذهاب إلى الإسكندرية، وفى نهاية الفيلم تحققان حلمهما وتذهبان إلى الإسكندرية. فسأله الديك: «بس كده؟»، فأجابه بالإيجاب. تهرب منه الديك وأخبره أنه مشغول بكتابة فيلم آخر، وإذا كان يحب أن يعملا سويًا فى فيلم جديد، عليه أن ينتظر حتى ينتهى منه. تعجب خان، وأصر بعد هذا الموقف على العمل مع مؤلف آخر، وهو ما حدث بالفعل.

بشير الديك لم يكن مؤلفًا مع عاطف الطيب فقط، بل كان بمثابة مستشاره الفنى.

فقد كان عاطف يقرأ له أى عمل ينفذه مع مؤلف آخر، وكذلك بشير كان يقرأ له أى سيناريو ينفذه مع مخرج آخر. وتدخل بشير الديك بالنصيحة فى فيلم «دماء على الأسفلت» للسيناريست أسامة أنور عكاشة، حيث طالب بحذف ٥٠ مشهدًا من الفيلم للحفاظ على إيقاعه. كما كانت له نصيحة درامية للكاتب وحيد حامد فى فيلم «كشف المستور»، الذى نفذه مع عاطف الطيب.

ومن المواقف المهمة والمؤثرة فى مسيرة بشير الديك والتى تدل على نبله، موقفه فى فيلم «الهروب».

الفيلم كتبه مصطفى محرم فى البداية، لكنه لم يعجب عاطف الطيب، فأرسله لبشير الديك وطلب منه كتابته مرة أخرى. سعد أحمد زكى بهذا الاختيار، وكتب بشير الديك الفيلم مرة أخرى، واختار الموسيقى التصويرية للعمل. لكن عندما عاد مصطفى محرم من السفر وفوجئ أن بشير الديك كتب نسخة من العمل، اعترض بشدة وحدثت أزمة بينه وبين عاطف الطيب ومدحت الشريف، منتج العمل.

احترامًا لصداقة بشير الديك ومصطفى محرم ودوره فى اكتشافه فى بداية مشواره، تنازل «الديك» عن وضع اسمه على العمل. أصر على موقفه رغم اعتراضات عاطف الطيب وأحمد زكى. فى النهاية، تنازل بشير الديك عن وضع اسمه على التتر كسيناريست للعمل. بكى عاطف الطيب بسبب هذا الموقف النبيل، الذى أظهر أخلاق بشير الديك العالية.

رفض أن يكون «ترزيًا» لعادل إمام.. تمسك بموقفه أمام محمود ياسين بسبب مشهد فى «مع سبق الإصرار»

خاض الراحل بشير الديك رحلة فنية طويلة، احتك وارتبط وصادق العديد من النجوم، نتحدث عن سعاد حسنى وعادل إمام وأحمد زكى ومحمود ياسين ونور الشريف وآخرين، ولكل منهم قصة وحكاية مع بشير الديك.

البداية كانت مع النجم محمود ياسين فى كواليس فيلم «مع سبق الإصرار» حيث كان أولى تجارب بشير الديك فى الكتابة للسينما مع الكاتب مصطفى محرم الذى اشترك فى الكتابة معه فى نفس الفيلم وهو من أعطاه الفرصة للكتابة معه كذلك، وكان من المفترض أن يتم اغتصاب زوجة محمود ياسين فى نهاية الفيلم على يد الشخصية التى يلعبها الفنان نور الشريف فى العمل، فعندما علم بذلك ياسين رفض بشدة، معللًا أن الجمهور سيحزن منه بسبب هذا الأمر، صمت مصطفى محرم وأشرف فهمى، وتحدث بشير الديك بمنتهى القوة وقال له إن هذه هى النهاية الطبيعية للأحداث ولن تتغير، ونفذ كلام بشير الديك فى النهاية ورؤيته للمشهد أعطت للفيلم عمقًا وبعدًا جعله مستمرًا ومتداولًا إلى الآن.

تعاون بشير الديك مع سعاد حسنى فى فيلم «موعد مع العشاء» وعندما عرض السيناريو عليها سعدت به جدًا على الرغم من أن النهاية حزينة، وقبل تصوير نهاية الفيلم بيوم، عدلت النهاية داخل السيناريو حيث كان من المفترض أن تضع له السم فى الطعام، فاقترحت أن يسألها لماذا لا تأكل؟ ولكى تدفعه للأكل تضطر لأن تأكل معه فشرحت لبشير الديك أن هذا الشخص واثق من نفسه أكثر مما ينبغى وعلاقته بها كعلاقة السيد بالعبد، فهى من الممكن أن تضحى بنفسها من أجل إجباره على تناول السم وهكذا غيرت سعاد حسنى باقتراحها نهاية الفيلم لتجعل الفيلم من أهم الأفلام فى تاريخ السينما.

تعاون بشير الديك مع عادل إمام فى فيلم «الحريف» وأعجب بكتابته للفيلم كما أنه كان معجبًا بالسينما التى يقدمها الثنائى عاطف الطيب وبشير الديك وعرض الثنائى فيلم «سواق الأوتوبيس» عليه فى البداية، ورفض لأنه رأى أن الشخصية سلبية ولم يتعاون الثنائى سوى فى فيلم «الحريف»، ولكنهما كانا سيتعاونان فى فيلم آخر.

أثناء عودة المخرج محمد عبدالعزيز والمنتج محمد السبكى والفنان محمد هنيدى من جلسة مناقشة فيلم «حلق حوش» فى الساحل الشمالى، شاهدوا عادل إمام فى استراحة الطريق فعاد بسيارته للسلام عليهم ومعرفة سر اجتماع هذه المجموعة سويًا، وبعدها حدث بشير الديك تليفونيًا وأخبره برغبته فى قراءة سيناريو «حلق حوش»، فأرسله له، وبعدما انتهى من قراءته، أخبره أنه لم يضحك منذ فترة طويلة مثلما ضحك فى هذا السيناريو، لكنه سأله «أين دورى؟»، فاعتذر له بشير الديك لأنه طوال حياته لا يحب تفصيل سيناريو على مقاس النجم.

عمل بشير الديك مع نادية الجندى التى كانت نجمة الجماهير فى ذلك الوقت نتحدث عن ثمانينات وتسعينات القرن الماضى، بداية عملهما سويا كانت حين عرض المنتج محمد مختار زوج نادية الجندى فى ذلك الوقت رواية للكاتبة حسن شاه بعنوان «الضائعة»، والتى شهدت تحولًا هائلًا فى التناول النقدى غير المسبوق إزاء أعمال نادية الجندى فى ذلك الوقت، وكان أسلوب عمل بشير الديك مع نادية الجندى أن يقدم أعمالا جيدة قد لا ترقى لمستوى الحلم الذى كان يبغيه، لكنها فى ذات الوقت ليست أعمالًا غير مقبولة، ونجح بالفعل فى نقل «نادية» إلى مناطق درامية جديدة عليها تمامًا.

علاقة بشير الديك وأحمد زكى كانت مثالية فقد كان الثنائى أصدقاء، وكان أحمد زكى هو البطل المثالى لبشير الديك، حينما ينتهى من كتابة أعماله لو الدور شاب يرشح أحمد زكى وكان يراه يعيش هو وسعاد حسنى داخل الشخصية حيث يتقمصان الشخصيات التى جسداها بشكل كامل.

قراءة الجرائد والكتب.. كواليس السنوات الأخيرة فى حياة بشير الديك

يعد الكاتب الراحل بشير الديك من المفكرين الذين كتبوا للسينما، وعلى الرغم من إنتاجه الغزير وكتابته لأعمال متنوعة فى السينما والتلفزيون إلا أنه ابتعد عن الساحة الفنية منذ ١٥ عاما، وهذا ما يدفعنا للسؤال: كيف كان شكل حياته ونمطها وهو بعيد عن محبوبته الأولى السينما؟!

بشير الديك اعتاد فى سنواته الأخيرة أن يبدأ يومه بقراءة الجرائد وحل الكلمات المتقاطعة والبحث داخل مكتبته الكبيرة على الكتب التى لم يقرأها فيقوم بفراءتها بجانب القراءة فى كتب الصوفية.

بشير الديك كان متابعا جيدا للشأن العام على الساحة الفنية والسياسية، ففيلم «الحريفة» الجزء الأول نال إعجابه كما نال إعجابه أيضا مسلسل مسار إجبارى الذى عرض فى رمضان الماضى، بجانب متابعته للشأن العام ومن أكثر الأشياء التى نالت دهشته فى المجتمع حاليا أنه تغير عن زمان نهائيًا فى كل مجالات الحياة، فأصبح مجتمعا غريبا عن المجتمع الذى عرفه الذى كان له قوام وقيمة للجدعنة والشطارة والإتقان، أما المجتمع الحالى فهو «سايح» على بعضه ولم يستطع أن يتفاهم معه، رحمة الله عليه.

بشير الديك كتب فيلما من أهم الأفلام التى عالجت القضية الفلسطينية وهو «ناجى العلى»، إذ كان مهتما ومؤيدًا للقضية الفلسطينية منذ بداياته وكذلك أيد ما حدث فى ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، فبالنسبة إليه إسرائيل والعالم بأكمله حاربوا الشعب الفلسطينى الذى يدافع عن وطنه، وآمن بشير الديك أن حل هذه القضية سيكون من خلال إقرار بإقامة دولة فلسطينية بجوار دولة إسرائيل بقرار من الأمم المتحدة، كما أنه هاجم النازية المسيطرة على إسرائيل تجاه الشعب الفلسطينى، وهاجم بشدة نتنياهو لهجومه على المدنيين.

ما حدث للشعب الفلسطينى جعل بشير الديك يعتقد أننا فى أواخر مراحل الكون.

هاجم بشير الديك ظاهرة الإعلانات الرمضانية وانتقد كثرتها بشكل كبير مما جعلها تطغى على الدراما فأصبح الوضع كثيرا من الإعلانات قليلا من الدراما، وجعل الموضوع يتحول إلى شىء مضجر وممل وكأنما يدفعون المشاهد دفعا لمشاهدة الإعلانات فأصبح الوضع على حد تعبير الكاتب الراحل له ثمن غال جدا، فى مجتمع شديد الرأسمالية ولا توجد فيه قوانين المجتمع الرأسمالى، الكل يسعى للربح أيا كانت الوسيلة.

ورأى الكاتب الراحل أن السوق والحس التجارى مسيطر على أغلب الموضوعات الدرامية وأننا لو فى رأسمالية ناضجة ستأخذ بالها من أشياء هامة فوفقا لوجهة نظر الكاتب الراحل أمريكا تقدم أفلاما جيدة وهى قمة الرأسمالية أما هنا يسيطر على المنتجون هاجس «أنا هكسب كام وإزاى هكسب أكتر» وليس لى علاقة بالمجتمع من حولى وهذا المنطق هو الذى جعله يبتعد عن السوق بإرادته، وجاء له أكثر من عرض للعودة والكتابة للدراما والسينما لكنه لم يستطع الاندماج مع الواقع حاليا بجانب سنه الكبير، كما أن هموم المجتمع لم تعد همومه الشخصية.

 

المصري اليوم في

02.01.2025

 
 
 
 
 

بشير الديك.. غادرنا قبل أن يُطلق صيحاته الأخيرة!

طارق الشناوي

فى مطلع التسعينيات تلقيت اتصالًا هاتفيًا من بشير الديك، أول ما حاولت تذكره فى ثوانٍ قبل أن تبدأ المحادثة، هل كتبت شيئًا فى الأيام الأخيرة عن فيلم لبشير، فوجئت بأنه يشيد سعيدًا بمقالى الذى تناولت فيه فيلم داوود عبدالسيد (البحث عن سيد مرزوق)، الشريط السينمائى لم يستطع المقاومة داخل دار العرض، إلا أن بشير كان شديد الحماس للتجربة، ووجد فيها مذاقًا مغايرًا يجب الدفاع عنه.

هذه المكالمة أضافت لى ملمحًا آخر للكاتب الكبير، فهو فى رهانه على السينما لا يرى فقط أفلامه، ولكنه يطل عليها بكل أطيافها، قبلها كان بشير قد أقدم على إخراج فيلمى (الطوفان) و(سكة سفر).

كان بشير فى تلك السنوات يحتل القمة فى كتابة السيناريو السينمائى مع وحيد حامد، وهما الأغلى قيمة والأعلى أجرًا، بينما وحيد لم يفكر يومًا فى الإخراج، بل كان يتعمد ألا يذهب إلى الاستوديو إلا فقط لتهنئة فريق العمل مع بداية التصوير، وبعدها تنتهى علاقته بالاستوديو. بشير كان لديه طموح أن يحمل الفيلم توقيعه على الورق وعلى الشاشة، وكان يذهب بين الحين والآخر للاستوديو، بل شارك أيضًا فى التمثيل فى فيلمه الرائع (موعد على العشاء) إخراج محمد خان، مع سعاد حسنى، وذلك حتى يتاح له أكثر الاقتراب من التفاصيل فى علاقة الممثل مع المخرج.

وحصد الفيلمان اللذان حملا توقيع بشير كمخرج قدرًا من الحفاوة النقدية، ولكن شيئًا مهمًا جدًا وحيويًا لم يتحقق وهو التماس الجماهيرى.. أيقن بعدها بشير أن أفلامه الأجدى لها أن تتنفس على الشاشة مع مخرجين بحجم عاطف الطيب ومحمد خان ونادر جلال وعلى بدرخان وعاطف سالم وحسام الدين مصطفى.. وغيرهم.

قال لى بشير إنه عندما قرر الإخراج التقى به عاطف الطيب، وقال له وهو حزين: لن تكتب أفلامًا لنا؟ أكد له بشير أنه أساسًا كاتب سيناريو، والإخراج حالة عابرة مع سيناريو أو اثنين لهما طبيعة خاصة، كل من الفيلمين كان به شىء خاص وحميم فى حياة بشير، ولهذا استشعر أنه يجب أن يقف خلف الكاميرا مخرجًا، وبعدها أخرج (الفارس والأميرة) فيلم رسوم متحركة، بدأ تصوير الفيلم مع مطلع الألفية ثم تعثر نحو ٢٠ عامًا، وأكمله بعدها، فجاءت تجربة بعيدة عن موجة الناس.

فى تجربته ككاتب يجب أن نتوقف أيضًا عند مرحلة ما بعد الطيب وخان، وكانت نادية الجندى هى البطلة المحورية لقسط وافر من تلك الأفلام، مثل: (حكمت فهمى) و(الضائعة) و(عصر القوة) و(امرأة هزت عرش مصر) وغيرها، وكتب أيضًا لنبيلة عبيد (ولايزال التحقيق مستمرًا).

كان بشير الديك يرى أن السينما ليست لونًا واحدًا، وعليه أن يقدم كل الأطياف.

تحمس بشير للجيل الجديد من نجوم الكوميديا، وفى طليعتهم محمد هنيدى وعلاء ولى الدين، وكتب لهما بالفعل (حلق حوش)، إخراج محمد عبدالعزيز، وشاركتهما البطولة ليلى علوى.. حدثت تدخلات فى السيناريو، ونجح الفيلم، إلا أنه لم يحقق الرقم الذى يضمن أن يضع هنيدى وعلاء على القمة، وتأخر تعميد هنيدى وعلاء بضعة أشهر، حتى يصعد هنيدى فى (إسماعيلية رايح جاى) ٩٧، وبعده بعامين علاء فى (عبود ع الحدود)، حيث تم التلاعب بالسيناريو.

فى حياة بشير موقف ظل مؤرقًا له، عندما أعاد كتابة فيلم (الهروب)، بعد أن كتبه كاملًا مصطفى محرم، وكلما أعيد عرض الفيلم على الشاشة يبكى بشير لأنه لا يحمل اسمه.

مشاركة بشير على حد قوله تعنى أن السيناريو كله منسوب له، بينما مصطفى محرم أكد أكثر من مرة أن ما كتبه بشير هو أربعة مشاهد فقط. الحقيقة من الصعب إعلانها بيقين، إلا أن الشاشة تشى بأن حضور بشير أقوى، ومذاقه هو الأكثر سيطرة على السيناريو.

كان عاطف الطيب هو صاحب الاقتراح بمشاركة بشير، وأتصور أيضًا أن أحمد زكى لعب دورًا فى تحفيز بشير على الكتابة.. كل هذا حدث بدون علم مصطفى محرم، ولهذا طلب بشير ألا يوضع اسمه، إلا أنه كان يبكى عندما يُعرض الفيلم على إحدى الفضائيات قائلًا: (ابنى ولا يحمل اسمى)، القضية شائكة، فى الماضى وكل شهودها أحياء، كانت مليئة بالحساسية، الآن لم يتبق أحد من شهود الإثبات أو النفى، وباتت أكثر حساسية.

يومًا ما روى لى وحيد حامد أنه فوجئ باتصال تليفونى من محمد رمضان يطلب منه كتابة مسلسل (الإمبراطور)، الذى يتناول حياة أحمد زكى.

كان وحيد، ومعه المخرج محمد سامى ومحمد رمضان، اتفقوا على تقديم المسلسل، ثم حسبها وحيد ووجد أنه مشروع محفوف بالمخاطر، هل يستطيع أن يكون صريحًا ويروى الحقيقة؟ وجد أن الإجابة هى أنه من الصعب أن يذكر الكثير مما يعرفه.

اعتذر وحيد، وبعده اعتذر سامى، تواصل رمضان مع بشير الديك الذى طلب مهلة قبل الموافقة، ليراجع موقف وحيد، وعندما أخبره وحيد أنه اعتذر، تعاقد على الكتابة.. من ذكر لى تلك الواقعة كان وحيد، قالها بكل حب وتقدير لبشير الديك.

تقديم حياة أحمد زكى بكل جوانبها مستحيلة، وشهودها بيننا، ولا يستطيع أن يقول الكاتب الكثير منها، خاصة الحياة العاطفية لأحمد زكى.

وتوقف المشروع، ورمضان قال مؤخرًا إنه قريبًا سوف يعيده للحياة..

أرى أنه مجرد خبر استهلاكى غير قابل للتحقيق. بشير لم يستطع فى الألفية الجديدة التوافق مع الحياة الفنية، لم يعثر على المعادلة التى تدفعه للعودة، وآثر الابتعاد، وقدم فيلم (الكبار) قبل خمسة عشر عامًا، أتصور أنه كان مشروعًا مؤجلًا خرج فى توقيت خاطئ.

كيف لم يتنبه أحد إلى أن بشير الديك كان قبل ساعات حيًا يُرزق، وسنكتشف مع كل رحيل جديد كم كنا قساة القلب على الموهوبين!!.

 

المصري اليوم في

02.01.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004