«أحد نُساك السينما»..
وداعًا بشير الديك.. «حرّيف» الكتابة
كتب: محمود
مجدي
لم تأب ٢٠٢٤ أن ترحل دون أن تخطف معها أحد أهم كتاب السينما
والدراما فى مصر والعالم العربى، الكاتب الكبير بشير الديك، الذى شيع
جثمانه أمس الأول من قرية «الخياطة»، مسقط رأسه بدمياط.
وسط أسرته وأقاربه وحزن شديد خيّم برحيله، عن عُمر يناهز
الـ٨٠ عامًا، داخل العناية المركزة بأحد المستشفيات بعد صراع مع المرض،
ليرحل أحد نُساك السينما، صاحب أشهر الأفلام التى اهتمت بالقضايا
الاجتماعية والسياسية، وسلطت الضوء على مشاكل رجل الشارع البسيط.. ونستعرض
فى هذا الملف سطورًا من سيرة ومشوار الراحل بشير الديك.
«سواق الأتوبيس» و«ضد الحكومة».. كواليس صناعة أهم أعمال
كاتب زاده السينما
بشير الديك من أهم كتاب السيناريو فى تاريخ مصر، فقد شكل مع
زملائه وحيد حامد وأسامة أنور عكاشة جيلًا ذهبيًا لكتاب السيناريو امتازوا
بالموهبة والثقافة وعزة النفس، فكانوا أصحاب مشروع بحق، وسجلوا أسماءهم فى
تاريخ العملية الفنية.
قدم بشير الديك أعمالًا سينمائية كثيرة ومتنوعة، كان من
أهمها «سواق الأوتوبيس»، و«ضد الحكومة»، و«الحريف».
فلو تحدثنا عن كواليس صناعته لفيلم «سواق الأوتوبيس»،
فالفيلم بدأ بفكرة لمحمد خان عن سائق تاكسى يشعر بالغيظ والضيق، وأمام ذلك
يشعل النار فى سيارته التاكسى ويتركها، وكان الفيلم اسمه «حطمت قيودى»،
وعايشت مشهدًا واقعيًا، حيث مجموعة من الشباب يشتمون سائق تاكسى شتيمة
قبيحة، فتخيلت لو أن هذا السائق خدم فى الجيش وله ورشة وحياة كاملة، وبدأت
البذرة من هنا. ثم استحضرت شخصيات دمياطية عاصرتها أثناء معيشتى هناك، منهم
الحاج سلطان أبوالعلا، صاحب ورشة النجارة الميكانيكية، والذى جسده الفنان
الراحل عماد حمدى، وهو شخصية حقيقية، وهو والد صديقى الراحل جمعة سلطان
الذى كانت وفاته غريبة، حيث مات من الضحك أثناء حديثه مع بعض أصدقائه.
قام نور الشريف بشخصية حسن، وهو الشاب الذى أنهى خدمته فى
الجيش ويعمل سائقًا للأوتوبيس، وهى شخصية تمثل جيل شباب ١٩٧٣، الذين
يتميزون بـ«الدم الحامي»، وكان معروفًا عنهم حرصهم على تجميل كابينة
الأتوبيس الذى يقودونه، وكان يعجبنى فى هذا النموذج كفاحه. وبالفعل أعطى
محمد خان السيناريو لعاطف الطيب، وهو من أبناء منطقة شعبية وهى بولاق
الدكرور، وأدى خدمته فى الجيش، مما جعله أقرب للواقع وأبرز من يستطيع
التعبير عنه أمام الكاميرات. عرض الفيلم بالفعل وحقق نجاحًا كبيرًا.
فيلم «الحريف» قدم نموذج فارس «اللامنتمى» وغير المثقف،
الذى أراد لعب كرة القدم فقط. وحين يسأله ابنه فى النهاية «ألن تلعب مرة
أخرى؟!» يجيبه قائلًا: «زمن اللعب راح يا بكر»، والمقصود به زمن البراءة
والمتعة، واللعب فى الشارع بين الناس، حيث اتجه عوضًا عن اللعب إلى العمل
فى تهريب السيارات، فى إشارة واضحة إلى مرحلة الانفتاح، حيث انهيار
المجتمع. وظهر عدم انتمائه للمكان الذى يعيش فيه، حيث اخترنا أن يكون فوق
السطح وتحته إعلانات مدينة القاهرة. وفى رأيى أن نجاح «الحريف» وانتشاره
حاليًا، بسبب أن الجيل الحالى جيل غير تقليدى، ثورى، متمرد، والفيلم كذلك.
فالفيلم ثورى وغير تقليدى من كل النواحى، رسم الشخصيات، والحبكة غير
القائمة على صراع تقليدى. الصراع فى الفيلم كان جديدًا ومختلفًا، ليس
صراعًا مع أشخاص أو كيانات، بل هو صراع مع الحياة. فـ«فارس» طوال الفيلم
كان يصارع الحياة، واستسلم لها ولقوانينها الجديدة فى النهاية.
رشح أحمد زكى لفيلم «الحريف» منذ البداية، لكن كان هناك
خلاف بين أحمد زكى ومحمد خان فى «موعد على العشاء»، لأنه كان له تصور ما
للشخصية من ناحية المظهر. محمد خان لم يعجبه ذلك التصور فتشاجرا سويًا. نفس
الأمر حدث فى فيلم «الحريف»، عرضنا الموضوع فى البداية على أحمد زكى،
واختلف مع محمد خان بسبب «فورمة» الشعر المناسبة للشخصية، فقال له خان ذات
مرة: «ما تيجى نجيب عادل إمام»، فوافق، وتم اختيار عادل إمام للدور، مع أن
رؤية بشير الديك الفنية كانت ترى زكى مناسبًا فى البداية، لكن عادل كان
اختيارًا مميزًا.
عرض «الحريف»، لكنه لم يحقق نجاحًا تجاريًا، مما تسبب فى
عدم قبول وحب عادل إمام للفيلم لسنوات طويلة. والسبب أن عادل إمام نجم
جماهيرى كبير، وكان معتادًا على تقديم أعمال من نوعية «المتسول» و«رجب فوق
صفيح ساخن» وغيرهما من الأعمال الكوميدية الخفيفة ذات البعد الاجتماعى
البسيط فى ذلك الوقت، التى تحقق إيرادات خرافية. فعندما قدم هذا العمل ولم
يحقق النجاح الجماهيرى المنتظر، صدم الجمهور فى عادل لأنه ظهر فى شكل غير
معتاد عليه فى أغلب أعماله فى ذلك الوقت. لذلك كانت ذكرى غير جيدة له فى
الفشل التجارى. لكن مع السنوات عاش فيلم «الحريف» وأصبح من أهم أفلام عادل
إمام.
فيلم «ضد الحكومة» جاءت فكرته من قصة حقيقية للكاتب الصحفى
وجيه أبو ذكرى، حين قتل ٢٢ طفلًا تحت عجلات أحد القطارات. فوظف بشير الديك
الحادث، وجمع التفاصيل المتناثرة، ووضعها فى السياق. أراد أن يقدم من خلال
الفيلم مرثية للزمن الفائت وفترة الزهو القومى، بعدما جاء الانفتاح
و«اتباع» كل شىء.
فيلم «ناجى العلي» قدمه الراحل مع نور الشريف وعاطف الطيب،
وتم الهجوم عليهم بسبب هذا الفيلم. شنت مؤسسة صحفية حكومية هجومًا كبيرًا
عليهم لدرجة أن نور الشريف فكر فى اعتزال التمثيل والهجرة إلى لندن. وتم
اتهامهم بأنهم تلقوا حفنة دولارات من الخارج، وطالب البعض بإسقاط الجنسية
عنهم. إلى أن هدأت العاصفة، وتم عرض الفيلم واستبيان حقيقته، وأنه من أهم
الأفلام التى تناولت القضية الفلسطينية.
اعتبر نفسه صانع عمل وليس صانع سيناريو.. كتابة أقرب
للصوفية.. لها مذاق وسحر وطقوس روحية تشعره بالتطهر
كانت الكتابة لدى بشير الديك أقرب للصوفية، واعتبر نفسه
صانع عمل وليس صانع سيناريو، فلم تكن الكتابة لديه «فلوس حلوة»، وأهم شىء
حرص عليه فى أى سيناريو هو «اللوج لاين»، فقد كان «بشير» ابن السينما ولولا
تغير السوق السينمائية بعد فيلم «إسماعيلية رايح جاى» ما ترك السينما واتجه
للتليفزيون.
لم يكتب بشير الديك لنجم سوى للراحل أحمد زكى، ولم يكن
الأمر بناء على اتفاق مسبق بينهما، فهناك نوعان من الكتابة، الكتابة
بالحرفة والكتابة بالموهبة، فنشاهد كتّابا يتمتعون بالموهبة، يكتبون من
خلال إحساسهم، والكتابة تتدفق من خيالهم، لا يقومون بكتابة المعالجة أو
التخطيط للمشاهد أولا، وهناك كتاب آخرون يتمتعون بالحرفة والصنعة، يكتبون
أى فكرة تعرض عليهم سواء كانت رومانسية أو كوميدية، ويهتمون بالمعالجة ورسم
الشخصيات، ويقومون ببناء السيناريو كأنما يخططان لمشروع حقيقى.
بشير الديك جمع بين الأسلوبين، تمتع بموهبة شديدة الأصالة
بجانب حرفة، أطالت عمره ككاتب سيناريو، وجعلته يكتب أعمالا من روحه وخياله
مثل «الحريف» و«سواق الأتوبيس»، وأعمالا أخرى للفنانة نادية الجندى لم يكن
هو صاحب فكرتها الأساسية.
بشير الديك لم يكن يتوقف عن العمل، كان يكتب كل يوم
بانتظام، الكتابة اليومية جعلت منتجه الفنى غزير للغاية، وكان يحب الكتابة
فى مكتبه، يبدأ كتابة فى الصباح الباكر ولمدة ساعات طويلة، ومن أهم الأشياء
التى يحرص عليها فى السيناريو أن يفاجئ المتفرج دائما بـ«تويستات» ومفاجآت
حتى يسيطر على المشاهد ولا ينصرف عن العمل بجانب أن السيناريو لديه يحمل
رسالة ما يريد توصيله للمشاهد بشكل شاعرى ورومانسى.
كما أن السيناريو لديه يكون صادقا وبسيطا، فالصدق هو أقرب
طريقة للتأثير فى وجدان المتفرج، ومن خلال كتابته للسيناريو هو الذى يقود
المتفرج من خلال كتابته، بمعنى أنه يجذبه لما يريد أن يقوله ويطرحه، فهو
الذى يقود المتفرج وليس هو الذى يقوده. أهم شىء بالنسبة لبشير الديك عند
كتابته لأى سيناريو كان «اللوج لاين»، حيث يجب أن يعرف الحدث المفجر الذى
ستنطلق منه الأحداث، إذا عرفه يسير معه ويطلق الحرية التامة لشخصياته بأن
تعبر عن نفسها كما تريد، وكل دوره أن يوفر لها الحيز الذى ستدور وتنطلق
فيه، وليس مهما بالنسبة إليه أن يحدد نهاية السيناريو منذ النهاية فهى تأتى
معه على حسب طريقة سرد الموضوع.
بشير الديك لم يكن موظفا، بمعنى أن الفن بالنسبة له لم يكن
سبوبة أو أنه يقدم أعمالا لمجرد الوجود، فلابد أن تكون هناك أشياء تلح عليه
كى يكتب، فهو كان يبكى عند كتابة أى مشهد مؤثر، وكان يبكى كذلك عند مشاهدة
أعماله، فهو يتوحد مع شخصياته وعوالمه فهى جزء من روحه ولا تنفصل عنه أبدا.
الكتابة لديه عمرها ما كانت «فلوس حلوة» فهو لم يكن شغوفا
بالمال فبعد كل عقد يوقعه، كان يحتفظ بالعربون فى منزله ولا يصرفه، تحسبا
لإعادته فى حال عدم استمراره فى العمل لأى سبب من الأسباب، فالكتابة لديه
أقرب للصوفية، لها وجد ومذاق وسحر وعشق وطقوس روحية خاصة للغاية، فهو يشعر
بالتطهر والسمو كلما مسك القلم وكتب. لم يكتب بشير الديك فى حياته لنجم سوى
للراحل أحمد زكى، فعند كتابته لأى عمل كان يدور فى ذهنه أن يكون هو، ولم
يكن الأمر بناء على اتفاق مسبق بينهما، فقد كان زكى أو «زكاوة» كما يطلق
عليه المقربون منه فى تلك الفترة فتى الشاشة الأول، وعقب انتهائه من
الكتابة يجده أصلح ممثل للدور (لو كان الدور شابا)، وباستثناء «زكاوة» لم
يكتب لأحد بعينه، فهو يكتب العمل، ثم بعده يبحث عن بطل مناسب للعمل وليس
العكس.
«الطيب والديك» ثنائى فنى وإنسانى لن يتكرر فى تاريخ
السينما
عاطف الطيب وبشير الديك من أهم الثنائيات الفنية فى تاريخنا
الفنى، صنعا سويا أهم الأعمال فى تاريخ السينما، نتحدث عن «سواق الأتوبيس»
و«ضد الحكومة» و«ضربة معلم» و«ليلة ساخنة» وأعمال أخرى.
وهما لم يكونا ثنائيا فنيا فقط بل شكلا ثنائيا إنسانيا
كذلك، فكانا لا يفترقان تقريبا، واشتركا سويا فى تجربة إنتاجية بعنوان
الصحبة، ومعهما المونتيرة نادية شكرى، وأنتجا أهم وأعذب أعمال السينما
المصرية فيلم «الحريف».
بشير الديك تعرف على عاطف الطيب، عندما شاهده بالصدفة وهو
يقوم بتصوير فيلم «الغيرة القاتلة» فى أوائل الثمانينات لكن تعرفا على بعض
بشكل جاد عن طريق المخرج محمد خان أثناء صناعة فيلم «سواق الأتوبيس».
محمد خان جاءته فكرة سواق تاكسى يضجر من ثرثرة راكب معه،
فيقوم بحرق التاكسى بالبنزين فقط هكذا جاءت الفكرة لـ محمد خان عرضها على
بشير الديك لكتابته فأضفى على الفيلم روحا جديدة حيث استحضر شخصيات دمياطية
عاصرها أثناء معيشته هناك منهم الحاج سلطان أبوالعلا صاحب ورشة النجارة
الميكانيكية والذى جسد شخصيته الفنان عماد حمدى وهو شخصية حقيقية كما أنه
كتب شخصية حسن التى تمثل جيل شباب ١٩٧٣ والذى يمتاز بالدم الحامى وكان
معروفا عنهم حرصهم على تجميل كابينة الأتوبيس الذى يقودونه.
محمد خان لم يجد نفسه فى هذا السيناريو فقدمه لعاطف الطيب
وهو من أبناء منطقة شعبية وهى بولاق الدكرور وأدى خدمته فى الجيش، مما جعله
أبرز من يستطيع التعبير عن السيناريو، ومن خلال سواق الأتوبيس تعرف الثنائى
على بعضهما البعض وبدأت رحلتهما الفنية والإنسانية.
خلال فترة توهجهما الفنى فى فترة الثمانينات من القرن
الماضى، كانا سعداء للغاية فأهم نجوم مصر كانا يريدان العمل معهما، فاتن
حمامة طلبتهما بعد سواق الأتوبيس وكانا سيقدما مشروعا سينمائيا معها لكنه
توقف لأسباب إنتاجية، وكانا سيقدما مسرحية ميوزيكال مع نادية الجندى، لكن
المشروع توقف بسبب مرض عاطف الطيب، عادل إمام كان كلما شاهدهما فى مناسبة
ما، كان يقول لهما:« يا جماعة كل زمايلكم بيكسبوا من ورايا أنتوا مش عايزين
تكسبوا ليه؟!».
الثنائى كان «شغيلة» يعشقان العمل، الطيب كان يعمل لمدة ١٦
ساعة رغم مرضه بالقلب، وأخفى مرضه على الجميع وأولهم بشير الديك لمدة أربع
سنوات حتى يتمكن من العمل ولا يستبعده المنتجون بسبب مرضه، ورغم كل هذا
الاحتفاء والتحقق كانا يشعران أنها فترة مؤقتة ولو لم ينفذا كل مشاريعهما
التى يحلمان بها فى تلك الفترة، لن تتاح لهما الفرصة لكى ينفذوها مستقبلا.
من شدة قرب الثنائى سويا، كان بشير الديك مستشار عاطف الطيب
الفنى، يعرض عليه كل السيناريوهات التى ينفذها مع مؤلفين آخرين، وكان بشير
الديك يتدخل بالرأى والنصيحة كما حدث فى فيلم دماء على الأسفلت لأسامة أنور
عكاشة حيث نصح الديك بحذف ٥٠ مشهد للحفاظ على إيقاع الفيلم.
وفاة عاطف الطيب بلورت علاقته مع الموت فالموت خطف ابن بشير
الديك وهو لم يتجاوز الثالثة من عمره، وكانت وفاته مفاجأة شديدة وقاسية
بالنسبة له، ونفس الأمر تكرر مع عاطف، ففى اليوم السابق لوفاته، كان يجلسان
مع منتج للاتفاق على تفاصيل فيلم نزوة، وأخبره بأنه سيسافر فى رحلة عمل
وسيعود بعدها لحضور تصوير الفيلم، وأخذا يضحكان سويا، وطلب منه إحضار هدايا
له من الخارج وطمأنه على العملية التى سيجريها فى قلبه، وأكد له أنها ستنهى
أزمة قلبه نهائيًا وكان فى قمة انسجامه وتألقه يومها.
يأتى يوم العملية ويفاجأ أثناء جلوسه فى الطيارة بخبر
وفاته، علم بوفاته مثل بقية أفراد الشعب وأغلبهم عرف بخبر وفاته قبله
بالتأكيد، لم يكن بجواره فى لحظاته الأخيرة كما كانا دائمًا.
منذ لحظة علمه بوفاة الطيب، تأكد أن الموت يحبه بشدة وأنه
ضيف مفاجئ لو لم يفاجئه ويخطفه شخصيا، فسيفاجئه بأخذ أقرب المقربين إليه،
كما حدث مع ابنه وصديقه مهندس الديكور الراحل رشدى حامد.
بشير الديك ومخرجو الواقعية الجديدة.. صحبة أمتعت السينما
بأهم الأفلام
عمل بشير الديك مع أهم مخرجى جيل الواقعية الجديدة وهما
عاطف الطيب ومحمد خان، وكان الثلاثى بمثابة صحبة أمتعت السينما بأهم
الأفلام وهما فيلما «الحريف» و«سواق الأتوبيس».
بالتأكيد، بشير الديك مع الثنائى ليس هو فى الحالتين، هناك
اختلاف على الرغم من أن الكاتب واحد. فبشير الديك مع عاطف الطيب كان قريباً
منه من الناحية الفكرية والإنسانية والاجتماعية، بينما مع محمد خان كان
يراه «خواجة» بعض الشيء، لكن كان يستطيع أن يصل معه إلى نقاط اتفاق، وهو ما
حدث فى أفلامهما سويًا: «طائر على الطريق»، و«موعد على العشاء»، و«الحريف».
أبطال عاطف الطيب وبشير الديك أحرار بالفعل، يحاولون القفز
ضد أى عائق يعوقهم. وأكبر مثال على ذلك مشهد محاكمة منتصر فى فيلم
«الهروب».
أما أبطال خان، فيشعرون بالقيود التى يتحركون فيها ويحاولون
القفز فوق أسوار العادات والتقاليد والقانون لأنهم يشعرون بوطأة تلك
العوائق على أنفسهم. فـ«فارس» فى فيلم «طائر على الطريق» يترك عصمت، الفتاة
الجميلة التى تحبه، من أجل أن يحظى بـ«فوزية»، المرأة المتزوجة.
وهذا هو الفارق؛ فمنتصر فى فيلم «الهروب» يقفز فوق الأسوار
ويتحدى القانون الذى يعوقه عن تقبل عزاء أمه، بينما فارس فى «طائر على
الطريق» متهور ومهووس بفكرة إنسانية بحتة.
استمر تعاون بشير الديك مع عاطف الطيب حتى وفاة الأخير،
بينما لم يتعاون مع خان بعد فيلم «الحريف». ويرجع سبب ذلك إلى أن خان كان
متعجلًا طوال الوقت، والديك يحب أخذ وقته فى الكتابة. فبعد فيلم «الحريف»
زار خان الديك فى منزله وطلب منه كتابة سيناريو عن بنتين تحبان بعضهما
البعض وترغبان فى الذهاب إلى الإسكندرية، وفى نهاية الفيلم تحققان حلمهما
وتذهبان إلى الإسكندرية. فسأله الديك: «بس كده؟»، فأجابه بالإيجاب. تهرب
منه الديك وأخبره أنه مشغول بكتابة فيلم آخر، وإذا كان يحب أن يعملا سويًا
فى فيلم جديد، عليه أن ينتظر حتى ينتهى منه. تعجب خان، وأصر بعد هذا الموقف
على العمل مع مؤلف آخر، وهو ما حدث بالفعل.
بشير الديك لم يكن مؤلفًا مع عاطف الطيب فقط، بل كان بمثابة
مستشاره الفنى.
فقد كان عاطف يقرأ له أى عمل ينفذه مع مؤلف آخر، وكذلك بشير
كان يقرأ له أى سيناريو ينفذه مع مخرج آخر. وتدخل بشير الديك بالنصيحة فى
فيلم «دماء على الأسفلت» للسيناريست أسامة أنور عكاشة، حيث طالب بحذف ٥٠
مشهدًا من الفيلم للحفاظ على إيقاعه. كما كانت له نصيحة درامية للكاتب وحيد
حامد فى فيلم «كشف المستور»، الذى نفذه مع عاطف الطيب.
ومن المواقف المهمة والمؤثرة فى مسيرة بشير الديك والتى تدل
على نبله، موقفه فى فيلم «الهروب».
الفيلم كتبه مصطفى محرم فى البداية، لكنه لم يعجب عاطف
الطيب، فأرسله لبشير الديك وطلب منه كتابته مرة أخرى. سعد أحمد زكى بهذا
الاختيار، وكتب بشير الديك الفيلم مرة أخرى، واختار الموسيقى التصويرية
للعمل. لكن عندما عاد مصطفى محرم من السفر وفوجئ أن بشير الديك كتب نسخة من
العمل، اعترض بشدة وحدثت أزمة بينه وبين عاطف الطيب ومدحت الشريف، منتج
العمل.
احترامًا لصداقة بشير الديك ومصطفى محرم ودوره فى اكتشافه
فى بداية مشواره، تنازل «الديك» عن وضع اسمه على العمل. أصر على موقفه رغم
اعتراضات عاطف الطيب وأحمد زكى. فى النهاية، تنازل بشير الديك عن وضع اسمه
على التتر كسيناريست للعمل. بكى عاطف الطيب بسبب هذا الموقف النبيل، الذى
أظهر أخلاق بشير الديك العالية.
رفض أن يكون «ترزيًا» لعادل إمام.. تمسك بموقفه أمام محمود
ياسين بسبب مشهد فى «مع سبق الإصرار»
خاض الراحل بشير الديك رحلة فنية طويلة، احتك وارتبط وصادق
العديد من النجوم، نتحدث عن سعاد حسنى وعادل إمام وأحمد زكى ومحمود ياسين
ونور الشريف وآخرين، ولكل منهم قصة وحكاية مع بشير الديك.
البداية كانت مع النجم محمود ياسين فى كواليس فيلم «مع سبق
الإصرار» حيث كان أولى تجارب بشير الديك فى الكتابة للسينما مع الكاتب
مصطفى محرم الذى اشترك فى الكتابة معه فى نفس الفيلم وهو من أعطاه الفرصة
للكتابة معه كذلك، وكان من المفترض أن يتم اغتصاب زوجة محمود ياسين فى
نهاية الفيلم على يد الشخصية التى يلعبها الفنان نور الشريف فى العمل،
فعندما علم بذلك ياسين رفض بشدة، معللًا أن الجمهور سيحزن منه بسبب هذا
الأمر، صمت مصطفى محرم وأشرف فهمى، وتحدث بشير الديك بمنتهى القوة وقال له
إن هذه هى النهاية الطبيعية للأحداث ولن تتغير، ونفذ كلام بشير الديك فى
النهاية ورؤيته للمشهد أعطت للفيلم عمقًا وبعدًا جعله مستمرًا ومتداولًا
إلى الآن.
تعاون بشير الديك مع سعاد حسنى فى فيلم «موعد مع العشاء»
وعندما عرض السيناريو عليها سعدت به جدًا على الرغم من أن النهاية حزينة،
وقبل تصوير نهاية الفيلم بيوم، عدلت النهاية داخل السيناريو حيث كان من
المفترض أن تضع له السم فى الطعام، فاقترحت أن يسألها لماذا لا تأكل؟ ولكى
تدفعه للأكل تضطر لأن تأكل معه فشرحت لبشير الديك أن هذا الشخص واثق من
نفسه أكثر مما ينبغى وعلاقته بها كعلاقة السيد بالعبد، فهى من الممكن أن
تضحى بنفسها من أجل إجباره على تناول السم وهكذا غيرت سعاد حسنى باقتراحها
نهاية الفيلم لتجعل الفيلم من أهم الأفلام فى تاريخ السينما.
تعاون بشير الديك مع عادل إمام فى فيلم «الحريف» وأعجب
بكتابته للفيلم كما أنه كان معجبًا بالسينما التى يقدمها الثنائى عاطف
الطيب وبشير الديك وعرض الثنائى فيلم «سواق الأوتوبيس» عليه فى البداية،
ورفض لأنه رأى أن الشخصية سلبية ولم يتعاون الثنائى سوى فى فيلم «الحريف»،
ولكنهما كانا سيتعاونان فى فيلم آخر.
أثناء عودة المخرج محمد عبدالعزيز والمنتج محمد السبكى
والفنان محمد هنيدى من جلسة مناقشة فيلم «حلق حوش» فى الساحل الشمالى،
شاهدوا عادل إمام فى استراحة الطريق فعاد بسيارته للسلام عليهم ومعرفة سر
اجتماع هذه المجموعة سويًا، وبعدها حدث بشير الديك تليفونيًا وأخبره برغبته
فى قراءة سيناريو «حلق حوش»، فأرسله له، وبعدما انتهى من قراءته، أخبره أنه
لم يضحك منذ فترة طويلة مثلما ضحك فى هذا السيناريو، لكنه سأله «أين
دورى؟»، فاعتذر له بشير الديك لأنه طوال حياته لا يحب تفصيل سيناريو على
مقاس النجم.
عمل بشير الديك مع نادية الجندى التى كانت نجمة الجماهير فى
ذلك الوقت نتحدث عن ثمانينات وتسعينات القرن الماضى، بداية عملهما سويا
كانت حين عرض المنتج محمد مختار زوج نادية الجندى فى ذلك الوقت رواية
للكاتبة حسن شاه بعنوان «الضائعة»، والتى شهدت تحولًا هائلًا فى التناول
النقدى غير المسبوق إزاء أعمال نادية الجندى فى ذلك الوقت، وكان أسلوب عمل
بشير الديك مع نادية الجندى أن يقدم أعمالا جيدة قد لا ترقى لمستوى الحلم
الذى كان يبغيه، لكنها فى ذات الوقت ليست أعمالًا غير مقبولة، ونجح بالفعل
فى نقل «نادية» إلى مناطق درامية جديدة عليها تمامًا.
علاقة بشير الديك وأحمد زكى كانت مثالية فقد كان الثنائى
أصدقاء، وكان أحمد زكى هو البطل المثالى لبشير الديك، حينما ينتهى من كتابة
أعماله لو الدور شاب يرشح أحمد زكى وكان يراه يعيش هو وسعاد حسنى داخل
الشخصية حيث يتقمصان الشخصيات التى جسداها بشكل كامل.
قراءة الجرائد والكتب.. كواليس السنوات الأخيرة فى حياة
بشير الديك
يعد الكاتب الراحل بشير الديك من المفكرين الذين كتبوا
للسينما، وعلى الرغم من إنتاجه الغزير وكتابته لأعمال متنوعة فى السينما
والتلفزيون إلا أنه ابتعد عن الساحة الفنية منذ ١٥ عاما، وهذا ما يدفعنا
للسؤال: كيف كان شكل حياته ونمطها وهو بعيد عن محبوبته الأولى السينما؟!
بشير الديك اعتاد فى سنواته الأخيرة أن يبدأ يومه بقراءة
الجرائد وحل الكلمات المتقاطعة والبحث داخل مكتبته الكبيرة على الكتب التى
لم يقرأها فيقوم بفراءتها بجانب القراءة فى كتب الصوفية.
بشير الديك كان متابعا جيدا للشأن العام على الساحة الفنية
والسياسية، ففيلم «الحريفة» الجزء الأول نال إعجابه كما نال إعجابه أيضا
مسلسل مسار إجبارى الذى عرض فى رمضان الماضى، بجانب متابعته للشأن العام
ومن أكثر الأشياء التى نالت دهشته فى المجتمع حاليا أنه تغير عن زمان
نهائيًا فى كل مجالات الحياة، فأصبح مجتمعا غريبا عن المجتمع الذى عرفه
الذى كان له قوام وقيمة للجدعنة والشطارة والإتقان، أما المجتمع الحالى فهو
«سايح» على بعضه ولم يستطع أن يتفاهم معه، رحمة الله عليه.
بشير الديك كتب فيلما من أهم الأفلام التى عالجت القضية
الفلسطينية وهو «ناجى العلى»، إذ كان مهتما ومؤيدًا للقضية الفلسطينية منذ
بداياته وكذلك أيد ما حدث فى ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، فبالنسبة إليه إسرائيل والعالم
بأكمله حاربوا الشعب الفلسطينى الذى يدافع عن وطنه، وآمن بشير الديك أن حل
هذه القضية سيكون من خلال إقرار بإقامة دولة فلسطينية بجوار دولة إسرائيل
بقرار من الأمم المتحدة، كما أنه هاجم النازية المسيطرة على إسرائيل تجاه
الشعب الفلسطينى، وهاجم بشدة نتنياهو لهجومه على المدنيين.
ما حدث للشعب الفلسطينى جعل بشير الديك يعتقد أننا فى أواخر
مراحل الكون.
هاجم بشير الديك ظاهرة الإعلانات الرمضانية وانتقد كثرتها
بشكل كبير مما جعلها تطغى على الدراما فأصبح الوضع كثيرا من الإعلانات
قليلا من الدراما، وجعل الموضوع يتحول إلى شىء مضجر وممل وكأنما يدفعون
المشاهد دفعا لمشاهدة الإعلانات فأصبح الوضع على حد تعبير الكاتب الراحل له
ثمن غال جدا، فى مجتمع شديد الرأسمالية ولا توجد فيه قوانين المجتمع
الرأسمالى، الكل يسعى للربح أيا كانت الوسيلة.
ورأى الكاتب الراحل أن السوق والحس التجارى مسيطر على أغلب
الموضوعات الدرامية وأننا لو فى رأسمالية ناضجة ستأخذ بالها من أشياء هامة
فوفقا لوجهة نظر الكاتب الراحل أمريكا تقدم أفلاما جيدة وهى قمة الرأسمالية
أما هنا يسيطر على المنتجون هاجس «أنا هكسب كام وإزاى هكسب أكتر» وليس لى
علاقة بالمجتمع من حولى وهذا المنطق هو الذى جعله يبتعد عن السوق بإرادته،
وجاء له أكثر من عرض للعودة والكتابة للدراما والسينما لكنه لم يستطع
الاندماج مع الواقع حاليا بجانب سنه الكبير، كما أن هموم المجتمع لم تعد
همومه الشخصية. |