ملفات خاصة

 
 
 

قيس الزبيدي...

فلسطين أولاً كما السينما والبحث والتوثيق

نديم جرجوره

عن رحيل

قيس الزبيدي

   
 
 
 
 
 
 

لعلّ أصدق وصفٍ يُمكن أنْ يعكس جوهر السينمائي قيس الزبيدي (1939 ـ 2024)، المخرج والمُولِّف والباحث والناشط، كامنٌ في "عاشق فلسطين"، عنوانَ كتابٍ عنه للمصري محسن ويفي، صادر عن "مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة" (الدورة الرابعة، 24 ـ 30 يوليو/تموز 1995). فاشتغالاتٌ عدّة، أفلاماً ودراسات وأرشفة والتزاماً أخلاقياً وثقافياً، ترتكز على بلدٍ محتلّ، وعلى أناسٍ يُقاومون المحتلّ بأساليب مختلفة، ستكون اشتغالات الزبيدي نفسه أحدها.

التزامه فلسطين، بلداً وشعباً، غير حاجبٍ عنه وعياً بالجانب الإبداعي في صُنع سينما، يُريدها فنّاً يمتلك شرطه الجمالي، الذي يتساوى ومضموناً درامياً (في الوثائقي والروائي) يُعنى مباشرة بالهمّ الفلسطيني: "المطلوب ليس عمل أفلام عن فلسطين فقط، بل نوعية فنية جديدة للفيلم الفلسطيني"، يقول الزبيدي، مُضيفاً إنّ هذا الأمر ليس "مسألة يومية"، لارتباط النوعية المطلوبة "بفرصٍ سياسية وإنتاجية، تُتيح المجال أمام الإبداع الفني الذي يلتزم نوعية جديدة للفيلم الفلسطيني السياسي".

همّه الفني يترافق وهمّه الأخلاقي والثقافي إزاء قضية مفتوحة على احتمالات جمّة. قوله هذا ركنٌ أساسيّ في مسار الإنتاج الفلسطيني متنوّع الأشكال والأساليب، وسابقٌ للحاصل منذ أواخر ثمانينيات القرن الـ20، مع بداية حقبة أخرى تقول بما يُريده الزبيدي لسينما فلسطينية تناضل بوسائل فنية وجمالية، وتواجه بأداوت معرفةٍ ووعي، وتكشف ذاتاً وبيئة وتربية وسلوكاً في الفرد الفلسطيني أيضاً. الزبيدي، بتعبيره هذا، يكاد يكون أحد أوائل المهمومين بالصورة السينمائية الفلسطينية، كأنّ انغماسه في التوليف منبثقٌ من إدراكه أهمية فنون السينما، لا نصّها فقط: "كان قيس كـ"مونتير" يحاول دائماً في عمله أنْ يكون وفيّاً لوعيه المهنيّ وثقافته السينمائية، ويسعى إلى الحوار مع مخرج الفيلم الذي يُمنتج فيلمه، ليكون الفيلم محطة في مشروعه، وأنْ يُحمِّله ملمسه الذاتيّ ورصانته الحِرفية"، كما يكتب السينمائي السوري محمد ملص في "قيس الزبيدي: الحياة قصاصات على الجدار" (نوفل ـ دمغة الناشر هاشيت أنطوان، بيروت، الطبعة الأولى، 2019)، مُضيفاً: "لكنّ الفيلم يبقى فيلم مخرجه".

لذا، ينتقل قيس الزبيدي، الراحل في الأول من ديسمبر/كانون الأول 2024، إلى الإخراج، ليتمكّن من تحقيق مبتغاه، من دون أنْ يتنكّر للتوليف، بل لمعنى التوليف بحدّ ذاته، مُشاركاً أساسيّاً في صُنع أي فيلم. هوسه بالصورة، الذي يُشبه كثيراً هوسه بفلسطين، دافعٌ له إلى خوض اختبارات فنية ومهنية، والإخراج أحد تلك الاختبارات، و"اليازرلي" (روائي طويل، 1973) سيبقى لحظة فارقة في سيرة مخرجه، كما في سيرة سينما عربية بديلة، تنشأ في ظروفٍ سياسية وتاريخية واجتماعية صعبة (مطلع سبعينيات القرن الـ20)، في عالمٍ عربي خارجٍ من هزيمة قاسية (نكسة 67)، ومُقيمٍ في أعوام استنزافٍ تنتهي بـ"حرب تشرين" (أكتوبر 1973). والأهمّ أنّ مواجهة النكسة وعيش الاستنزاف تحضيراً لحرب أخرى تترافق وتساؤلات عاملين وعاملات في ثقافة وفن وغيرهما، تتعلّق بالحاصل بحثاً عن إجاباتٍ لن تكون حاسمة ونهائية.

فـ"اليازرلي"، بجرأته في التنقيب في أحوال أفرادٍ (مرفأ اللاذقية) وانشغالاتهم وهواجسهم وانفعالاتهم وأحاسيسهم وعلاقاتهم (بالمرأة والجسد تحديداً، كما بأنفسهم والآخرين)، يكشف عن مآزق وانكسارات ومخاطر، يعانيه اجتماع وبيئة، مع انفتاح على حالة أوسع: "إنّه صورة جديدة في السينما العربية"، في رأي الناقد المصري سمير فريد (كتاب ملص). أمّا المرأة فيه، بحسب الزبيدي، فهي الأم والحلم والنقاء، كما أنّها تتجسّد، عند الصبيّ، بأخته الهاربة، رغم إشارات إلى أنّها "أصبحت مومساً".

فلسطين حاضرةٌ في أكثر من فيلمٍ وثائقي له: "بعيداً عن الوطن" (1969)، و"شهادة الأطفال الفلسطينيين في زمن الحرب" (1972)، و"نداء الوطن" (1976)، و"وطن الأسلاك الشائكة" (1980)، و"فلسطين سجل شعب" (1985)، والأخير "أحد أهمّ الأفلام حول القضية الفلسطينية"، كما يكتب الناقد الفلسطيني السوري بشار إبراهيم، في "نظرة على السينما الفلسطينية في القرن العشرين" (الطارق للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الاولى، 2000)، موضحاً أنّ سبب هذا كامنٌ في "التسجيلية البارعة، والوثائق النادرة، المنسوجة بجهدٍ واضح، وتماسك فني وفكري، يُنظّمه سيناريو مُقنع". 

هذه أمثلة. لائحة أفلام قيس الزبيدي الفلسطينية وغير الفلسطينية، تشي بانهماكٍ، ممزوج بحيوية وحماسة، في توثيق حكايات مستلّة من يوميات قهرٍ وآلام، لكنّها يوميات مقاومة أيضاً. والتوثيق غير محصورٍ بهذا النوع السينمائي، ففي الروائي توثيقٌ مشغول برغبةٍ في حماية الحاصل من نسيان وتغييب.

عشقه فلسطين عميق وجميل، لكنّه لن يحول دون تنبّه إلى عمله في مهنٍ فنية سينمائية أخرى، أبرزها المونتاج، الذي يُقال مراراً، في مناسبات كثيرة، إنّ الزبيدي يكاد يكون أبرع موظِّفٍ له (المونتاج) في خدمة النصّ السينمائي. أمّا البحث والكتابة، فيتوافقان تماماً مع هاجسه السينمائي الأبرز: التوثيق أولاً، ومحاولة إيجاد تفكيرٍ نقدي عربي يُرافق الإنتاج السينمائي العربي، ويجهد في "تأريخ" اللحظة بكتابةٍ تناقش وتُفكِّك وتسأل، والسؤال يبقى أفضل نقاش وتفكيك، لكونه استمراراً في البحث والقراءة والوعي.

في مقالة له ("إشارات إلى بعض قضايا الفيلم التسجيلي العربي"، 1986)، يكتب الناقد والباحث السوري سعيد مراد أنّ "ما نشاهد على الشاشة لا يُعبِّر فقط عن موقف الفنان من المادة التي يعالجها، وطريقته في المعالجة، وهدفه من تعميم الاستنتاجات التي ينتهي إليها، بل نقرأ من خلال كلّ هذا ما هو أهمّ وأعمق، أي ما يُعبِّر عن موقف الفنان بوصفه مواطناً" ("مقالات في السينما العربية"، دار الفكر الجديد، بيروت، الطبعة الاولى، 1991). ألم يكن الزبيدي، بأفلامه وكتاباته وحياته، نتاج فنان يتساوى والمواطن في الرؤية والبحث والاشتغال؟ ألم يكن عراقياً وسورياً ولبنانياً وفلسطينياً (قبل استقراره في ألمانيا منذ سنين) في آن واحد، ودائماً؟

 

العربي الجديد اللندنية في

02.12.2024

 
 
 
 
 

رحيل قيس الزبيدي.. نصف قرن من الشغف السينمائي

إبراهيم حاج عبدي

على مدى نصف قرن، وهو عمر تجربته السينمائية، تشعبت محطات ومسارات المخرج والمونتير والباحث السينمائي العراقي قيس الزبيدي على نحو يصعب معه اختزال هذه التجربة التي انطفأت أخيرًا في العاصمة الألمانية برلين، عن عمر ناهز ال 89 عامًا بعد معاناة المخرج من أمراض الشيخوخة.

منذ ستينيات القرن الماضي وحتى لحظة رحيله بقي الزبيدي وفيًّا للسينما، و"مهووسًا" بهذا الفن الذي أبحر في عالمه السحري ومدارسه الفنية المتنوعة، ونظرياته المستجدة، وراقب، بدأب واجتهاد، التحولات التي شهدها، متسلحًا بدراسة أكاديمية رصينة، ومستأنسًا بأسلافه السينمائيين الذين أسسوا لحسه السينمائي الرفيع والخاص.

لم يُعرف للسينمائي العراقي وطن، فهو عراقي المولد والنشأة، لكنه درس السينما في ألمانيا وأقام فيها سنوات طويلة، وعمل في المؤسسة العامة للسينما السورية حيث أصبح وجهًا سينمائيًّا بارزًا في دمشق، التي أقام فيها لسنوات، ومن موقعه السينمائي الواعي لوظيفة السينما ودورها في الكشف وإثارة الأسئلة الملحة، خاض في تعقيدات وتفاصيل القضية الفلسطينة وأنجز أفلامًا عدة حولها، وكأن الزبيدي أراد عبر هذه المحطات والأسفار المتنوعة أن يعثر على وطنه الخاص خلف الكامير وأمام أجهزة المونتاج ووسط عتمة السينما التي أضاءت "وحشة الروح" بإنجازات لا تحصى

وثمة التباس آخر في سيرة الزبيدي، تتمثل في صفته السينمائية، فهل هو مخرج أم مصور أم مونتيير أم كاتب سيناريو أم منظّر أو مؤرخ سينمائي؟، ذلك أن الزبيدي تنقل ضمن هذه الانشغالات الإبداعية المتعددة، تلبية لنداء غامض يقوده إلى الموقع الذي يستطيع من خلاله أن يقدم إضافة إلى المنجز السينمائي العربي، أو يقدم رؤية بصرية مغايرة للسائد، أو يدون سردًا نظريًّا عبر كتب سينمائية تفتقر إليها المكتبة العربية، أو ينظم دورات وندوات ومحاضرات سينمائية في السيناريو والإخراج والمونتاج والتصوير.

اليازرلي

ارتبط اسم الزبيدي بالفيلم الروائي الطويل "اليازرلي" الذي أخرجه وكتب له السيناريو عن قصة "على الأكياس" للروائي السوري الراحل حنا مينة. الفيلم الذي انتجته المؤسسة العامة للسينما السورية سنة 1974، وهو الفيلم الروائي الوحيد في فيلموغرافيا الزبيدي، أثار جدلًا واسعًا في الأوساط النقدية، واعتبر من أهم الأفلام التجريبية في تاريخ السينما السورية، ذلك أن الزبيدي، الذي اعتبر الفيلم "بيانًا للسينما البديلة"، بدا في هذا الفيلم متمردًا على السينما السائدة، وأسس لمقترحات جمالية وبصرية أربكت الذائقة السينمائية التي اعتادت على قصص يمكن أن تروى إذاعيًّا، دون أدنى اهتمام بالشكل البصري

ونظرًا للظروف الإنتاجية الصعبة بالنسبة للفيلم الروائي الطويل لم يشأ الزبيدي أن يحارب في هذا المضمار. توجه باكرا إلى السينما التسجيلية باعتبارها أكثر قدرة على الخوض في متاهات الواقع وهمومه، واقتناص حرارة اللحظة بكل أبعادها ودلالاتها

من هنا مضى الزبيدي في هذا الخيار الفني الذي لا جمهور له، فالفيلم التسجيلي، الذي يحظى بإعجاب النخبة فقط، هو كـ"الابن اللقيط" لا أحد يعترف بأبوته، فهو منبوذ على المستوى الجماهيري، وغير مقبول على مستوى السلطة، أي سلطة، فهي ترى فيه تهديدًا لنفوذها المكرس، وسطوتها التي لا تقبل الأسئلة والشكوك التي تثيرها، عادة، السينما التسجيلية التي أنجز في سياقها فيلم "الكابوس"، 1991، عن ثمانية رسامين سوريين من أجيال مختلفة، من بينهم فاتح المدرس، وخزيمة علوان، ولؤي كيالي، ونذير نبعة، وفي هذا الفيلم وظف الزبيدي الرسم والموسيقى والشعر لنقل الشحنة العاطفية التي زخر بها الفيلم.

أما في فيلم "صوت من القدس" (1977 ) فقد تناول الزبيدي لقاءً مع المغني الفلسطيني مصطفى الكُرد الذي استطاع أن يلهب بأغانيه الوطنية حماسة الناس وأضحى منشد الانتفاضة الفلسطينية.

وبحكم ولعه باللون وثنائية الضوء والظل، حقق الزبيدي فيلماً تسجيلياً عن الفنان التشكيلي العراقي جبر علوان بعنوان "ألوان" (2009) بحث فيه عن بدايات تعلق هذا الملون العراقي الشهير باللون.

من جبر علون انتقل الزبيدي إلى المسرحي السوري المعروف سعد الله ونوس متخذًا من عبارة له عنوانًا لفيلمه "إننا محكومون بالأمل" (2009).

وظل الزبيدي يعمل في إطار السينما السورية كاتبًا للسيناريو ومونتيرا، وكان ظهور اسمه في تيترات الفيلم دليلا على أن ثمة لمسة إبداعية آتية من سينمائي "وقع منذ مطلع صباه في "براثن المونتاج"، وفق تعبير المخرج السينمائي محمد ملص.

ومن المعروف أن الزبيدي اتخذ من المونتاج حقلا أساسيا لتخصصه السينمائي بدافع من مقولة لبودفكين: "إن المونتاج هو القوة الخالقة لكيان الفيلم".

الزبيدي والتراجيديا الفلسطينية

لطالما شغلت قضية فلسطين قيس الزبيدي، ذلك أن سينمائيًّا عرف المنفى باكرًا، ونهل من "ثقافة التمرد والنضال"، وتعلم في ألمانيا الديمقراطية التي كانت فضاء حرا "للثائرين" من العالم الثالث، أن يلتفت إلى سجل شعب اقتلع من أرضه، وهام في الشتات، أو عانى مرارة الفقد في المخيمات، فآثر الزبيدي أن يقترب من همومه وأوجاعه.

كان يمكن للزبيدي أن ينجز أفلامًا "بسيطة وسهلة" على مقاس شباك التذاكر، أو تبعًا لمقولة "الجمهور عاوز كدة"، تؤمن له مردردا ماديا مجزيا، مثلما فعل العديد من السينمائيين الذين انساقوا مع الموجة السينمائية الرخيصة التي سادت في ستينيات وسعينيات وثمانينيات القرن الماضي، عبر الاتكاء على أبطال وسيمين وقصة حب باهتة ومشاهد ساخنة على الشواطئ أو في الأندية الليلة وغرف النوم المغلقة، غير أن الزبيدي توجه، خلاف ذلك، إلى عدالة القضية الفلسطينية.

قد يكون فيلم "الزيارة" الي تمَ إنتاجه نهاية الستينيات، هو النموذج الفني المحفز، أو الشرارة الأولى التي أدارت الشريط السينمائي الفلسطيني طوال هذه العقود دون توقف، حتى تراكم الشريط تلو الآخر، لتكون الحصيلة هو الأكثر من ناحية الكم في فيلموغرافيا مخرج واحد بخصوص القضية الفلسطينية، ولكن هذا الكم الهائل لم يُفقد الأفلام "الجودة والنوعية".

بهذا المعنى، فإن تجربة الزبيدي مع السينما الفلسطينة هي الأكثر ثراء وتنوعا، ففي فيلم "بعيداً عن الوطن" (1969) يكون الطفل الفلسطيني مادة أساسية لعرض مأساة هذا الشعب،  وفي فيلم "وطن الأسلاك الشائكة" (1980) نعثر على تحليل سينمائي موثق لأيديولوجيا الاستيطان في الضفة الغربية كنموذج يمكن تعميمه على الحركة الاستيطانية.

وفي فيلم "ملف مجزرة" (1984) يجسد الزبيدي رؤيته حول الاجتياح الإسرائيلي للبنان مركزا عدسته على مجزرة صبرا وشاتيلا التي هزت الضمير العالمي، وفي فيلمه الأكثر شمولية "فلسطين: سجل شعب" (1984) يستعرض الزبيدي تاريخ القضية الفلسطينية منذ مؤتمر بازل 1897 وحتى دخول منظمة التحرير الفلسطينية في عضوية الأمم المتحدة عام 1964.

وفي فيلم "صوت الزمن الصامت"(1991) يتناول الزبيدي موضوع المحامية الإسرائيلية، من أصول ألمانية، فيليتسيا لانغر التي كانت تدافع عن الفلسطينيين بشراسة لا تعرف التردد، وأنجز الزبيدي تسعة أفلام حملت عنوان "مياه قيد الاحتلال" كل واحد منها يروي قصة نهر محتل.

إلى جانب كل هذه المشاغل السينمائية العملية، وجد الزبيدي وقتا، ولا سيما في العقدين الأخيرين، كي يصوغ أفكاره ورؤاه وقناعتاته في دراسات ومقالات وأبحاث سينمائية عديدة.

سينما العراق

 

إرم نيوز الإماراتية في

02.12.2024

 
 
 
 
 

قيس الزبيدي.. واهب الروح في السينما التسجيلية

ناهد صلاح

بدا مجهدًا لدرجة جعلتني أفكر في التراجع عن إجراء الحوار.. كان قد انتهى لتوه من مشاهدة أحد الأفلام المشاركة في مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة، ذلك في العام 2001 دورة العودة لمهرجان الإسماعيلية كما أطلقت عليها الصحافة بعد إنقطاع دام نحو خمس سنوات سنوات، العودة برئاسة الناقد علي أبو شادي، حيث كان المخرج العراقي قيس الزبيدي عضوًا في لجنة التحكيم الدولية بالمهرجان الذي يرتبط به، فمن ناحية سبق أن كرمه المهرجان وعرض أفلامه وأصدر كتابًا عنه، ومن ناحية أخرى إنه المهرجان المتخصص في الأفلام التي يصنعها ويهتم بها.

لباقته الزائدة دفعته للإجابة عن السؤال تلو الآخر فتحدث عن مشاركته في المهرجان الاسماعيلية وعن علاقته بالسينما التسجيلية وعن أهم افلامه وعن وعن وعن أشياء كثيرة تتعلق بمشواره الذي هيأه لسينما شديدة الخصوصية آمن بها وقدم أفلامًا عديدة تناول خلالها أهم القضايا العربية وعبر فيها عن الهم العربي وخاصة القضية الفلسطينية.

ـجاءت أفلام قيس الزبيدي في مجملها تعبيرًا عن الهم العربي ونضال الشعب الفلسطيني، كان من الملحوظ فيها تركيزه على الأطفال، بما يثير التساؤل عن المخرج المهموم بالقضايا العربية، خصوصًا الموضوع الفلسطيني. باعتباره عراقيًا درس في ألمانيا وعمل في سوريا، كما لو أنه أدرك القاسم المشترك في الهم العربي العام، كما أخبرني مضيفًا أنه بالاطلاع على وضع السينما التسجيلية لاحظ غيابًا شبه تام لهذا الموضوع في الإعلام الغربي، فمن هذه الزاوية رأى ضرورة الحضور في هذا الإعلام، واستوعب أن المرشح الإنساني لهذه القضية هو الطفل الفلسطيني نفسه الذي يقع عليه الظلم وهو بريء،  الأمر الذي يعكس قسوة وجوهر القضية الفلسطينية لدى المجتمع الغربي. كانت الفكرة في البداية هي كيف يتناول شخص أطفالًا في مخيم، ووجد في فكرة فيلمه "بعيدًا عن الأرض" هذه الإمكانية، عندما قدم هذا الفيلم الذي تناول وضع الأطفال الفلسطينيين عام 69 وقت تشكيل المقاومة الفلسطينية الفعلية على أرض الواقع في أعقاب نكسة يونيو 67 ، لم يكن هذا الطفل بعيدًا فقط عن الوطن وإنما أيضًا عن دائرة الصراع وبالتالي عن وعي الجميع، في تجربته الثانية قدم فيلم "الزيارة" وهو روائي تجريبي قصير يستمد موضوعه ودلالاته من قصائد الشعراء الفلسطينيين: محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد وغيرهم، ثم أعد في العمل الثالث شهادة الأطفال الفلسطينيين في زمن الحرب، هو حصيلة تجربة منى السعودي بمخيم البقعة في الأردن عندما أعطت أطفال المخيم أوراقًا وأقلامًا ملونة وطلبت منهم الرسم وأجرى معهم بضعة لقاءات.

إذن.. فإن أفلامه منذ البداية تعد وثيقة يمكن الاستناد عليها لتوضيح القضية العربية في فلسطين ـ التاريخ يعتمد كثيرًا على الوثائق، والفيلم التسجيلي أحد أهم مصادرها، وبالفعل لعبت أفلامه دور الوثيقة بشكل كبير دون شك، وهذا يتعلق أولًا بطبيعة القضية المطروحة وأكبر مثال لذلك فيلم "فلسطين سجل شعب"، إنه فيلم يستند إلى الوثيقة من الأرشيف سواء كانت سينمائية أم صور فوتوغرافية، إضافة إلى استنطاق مؤرخين في مقابلات حول تاريخ فلسطين والصراع العربي الصهيوني.

أما الفيلم الذي اعتمد على تنوع مصادر الوثيقة إلى حد كبير فهو "واهب الحرية" الذي يتناول المقاومة الوطنية اللبنانية، ففضلًا عن التصوير المباشر كان هناك إعتماد على الصحافة والصور الفوتوغرافية وشريط الفيديو المنزلي وأشرطة الفيديو التلفزيونية والمقابلة المباشرة مع الأشخاص، كما كان الرسم الذي يعنى بالموضوع كوثيقة وجدانية، والشعر والاغنية السياسية مارسيل خليفة وغيره، أيضًا كانت الموسيقى التصويرية التي استندت إلى الأغاني والألحان الشعبية اللبنانية والفيلم الروائي الذي صور مشاهد مقاومة تستند إلى وقائع أعيد تمثيلها وحدثت في الواقع وليست من ابتكار المخرج، فضلًا عن الأشرطة الاذاعية، إضافة إلى الكتاب الذي تحدث عن المقاومة في مقاطع منها مقطع يحكي عن حرب الجبل مثلًا وكيف جرت وقائعها، إضافة إلى المادة الأرشيفية البصرية، منها التصريحات السياسية مثل التصريحات الاسرائيلية حول المقاومة اللبنانية.. هذا التنوع في الوثيقة وطبيعتها منحه كمخرج وصانع فيلم إمكانية إعادة بناء وسرد الحدث والتصوير الذي امتد من السبعينيات وحتى العام 89، وهنا يتدخل مرة أخرى المونتاج والحركة بين ماهية الصور وربطها ببعضها البعض بشكل عضوي، كان الفيلم يقوم على قدرة المونتاج على تفجير صورة المقاومة بشكلها البصري والسمعي، كما كان يكشف أيضًا عن غنى المقاومة من عمليات عفوية إلى عمليات عسكرية منظمة ومن أحزاب إلى تنظيمات سياسية وعسكرية إلى مقاومة شعبية أو فردية.

إيمانه الكبير بالسينما التسجيلية، جعلني أتوقف عند محطات كثيرة في مشواره واسأله عما استفاده من تجربته مع هذا النوع السينمائي، فأجابني:  "الفيلم التسجيلي يضع أمام المخرج مهمة محددة ويلزمه أن يكون مطابقًا للحالة الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية بسبب طبيعة الفيلم، وهذا لا ينفي إمكانية عمل فيلم تسجيلي شاعري، ولكني اعتمدت  في الأفلام الأخيرة الطويلة على التوثيق للحفاظ على الذاكرة الشعبية الموجودة بالصور والوثائق ضمن قيمة تاريخ فلسطين مثلًا أو مقاومة شعب.. وهكذا".

هذا الإيمان والارتباط الشديد بالسينما التسجيلية، لم يمنعه من تقديم فيلمه الروائي الوحيد "اليازرلي" في العام 1974 من إنتاج مؤسسة السينما السورية، وفيه كان يتوق كما أخبرني إلى صنع حالة مغايرة، فقدم صورة مبتكرة تحمل خيالًا سرديًا ورؤىً وأحلامًا.

هاهو غادرنا قيس الزبيدي بعد نحو نصف قرن من الولع بالسينما التي لم تغادره لحظة، بل بقيت معه وبقيت له كأثر يسجل تاريخه كمخرج ومصوّر ومونتير وباحث سينمائي، واحدًا من رواد وآباء السينما التسجيلية العربية.. العربي المولود في بغداد (1945)، الدارس  للمونتاج والتصوير السينمائي في "جمهورية ألمانيا الديمقراطية"، في ستينيات القرن الماضي، المهموم بالقضايا العربية عمومًا والمنخرط فيها بحضوره في بيروت أثناء إندلاع حربها الأهلية (1975 ـ 1990)، وقبلها في دمشق وبغداد،  ليسجل تاريخه خطوات راسخة وممتدة على دروب نضالية على المستوى الإنساني والثقافي والفكري.

 

اليوم السابع المصرية في

02.12.2024

 
 
 
 
 

وفاة المخرج العراقي قيس الزبيدي

فاتن المحمدي

أعلن المخرج السوري مهند قركوتلي، خبر وفاته عبر حسابه الرسمي على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك

وكتب الكركوتلي: “إنا لله وإنا إليه راجعون. البقاء والمثابرة لله وحده الصديق والأخ الأكبر المخرج قيس الزبيدي رحمه الله”.

قدم المخرج الراحل قيس الزبيدي عددا من الأعمال المهمة طوال مسيرته الفنية وعمل محررا ومخرجا وكاتب سيناريو

ومن أشهر أعماله السينمائية: (اليزرلي، رجال تحت الشمس، الليل، مقلب من المكسيك، وجه آخر للحب) وغيرها من الأعمال.

 

موقع "إيجي برس" في

02.12.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004