رحيل قيس الزبيدي.. نصف قرن من الشغف السينمائي
إبراهيم حاج عبدي
على مدى نصف قرن، وهو عمر تجربته السينمائية، تشعبت محطات
ومسارات المخرج والمونتير والباحث السينمائي العراقي قيس الزبيدي على نحو
يصعب معه اختزال هذه التجربة التي انطفأت أخيرًا في العاصمة الألمانية
برلين، عن عمر ناهز ال 89 عامًا بعد معاناة المخرج من أمراض الشيخوخة.
منذ ستينيات القرن الماضي وحتى لحظة رحيله بقي الزبيدي
وفيًّا للسينما،
و"مهووسًا" بهذا الفن الذي أبحر في عالمه السحري ومدارسه الفنية المتنوعة،
ونظرياته المستجدة، وراقب، بدأب واجتهاد، التحولات التي شهدها، متسلحًا
بدراسة أكاديمية رصينة، ومستأنسًا بأسلافه السينمائيين الذين أسسوا لحسه
السينمائي الرفيع والخاص.
لم يُعرف للسينمائي العراقي وطن، فهو عراقي المولد والنشأة،
لكنه درس السينما في ألمانيا وأقام فيها سنوات طويلة، وعمل في المؤسسة
العامة للسينما السورية حيث أصبح وجهًا سينمائيًّا بارزًا في دمشق، التي
أقام فيها لسنوات، ومن موقعه السينمائي الواعي لوظيفة السينما ودورها في
الكشف وإثارة الأسئلة الملحة، خاض في تعقيدات وتفاصيل القضية الفلسطينة
وأنجز أفلامًا عدة حولها، وكأن الزبيدي أراد عبر هذه المحطات والأسفار
المتنوعة أن يعثر على وطنه الخاص خلف الكامير وأمام أجهزة المونتاج ووسط
عتمة السينما التي أضاءت "وحشة الروح" بإنجازات لا تحصى.
وثمة التباس آخر في سيرة الزبيدي، تتمثل في صفته
السينمائية، فهل هو مخرج أم مصور أم مونتيير أم كاتب سيناريو أم منظّر أو
مؤرخ سينمائي؟، ذلك أن الزبيدي تنقل ضمن هذه الانشغالات الإبداعية
المتعددة، تلبية لنداء غامض يقوده إلى الموقع الذي يستطيع من خلاله أن يقدم
إضافة إلى المنجز السينمائي العربي، أو يقدم رؤية بصرية مغايرة للسائد، أو
يدون سردًا نظريًّا عبر كتب سينمائية تفتقر إليها المكتبة العربية، أو ينظم
دورات وندوات ومحاضرات سينمائية في السيناريو والإخراج والمونتاج والتصوير.
اليازرلي
ارتبط اسم الزبيدي بالفيلم الروائي الطويل "اليازرلي" الذي
أخرجه وكتب له السيناريو عن قصة "على الأكياس" للروائي السوري الراحل حنا
مينة. الفيلم الذي انتجته المؤسسة العامة للسينما السورية سنة 1974، وهو
الفيلم الروائي الوحيد في فيلموغرافيا الزبيدي، أثار جدلًا واسعًا في
الأوساط النقدية، واعتبر من أهم الأفلام التجريبية في تاريخ السينما
السورية، ذلك أن الزبيدي، الذي اعتبر الفيلم "بيانًا للسينما البديلة"، بدا
في هذا الفيلم متمردًا على السينما السائدة، وأسس لمقترحات جمالية وبصرية
أربكت الذائقة السينمائية التي اعتادت على قصص يمكن أن تروى إذاعيًّا، دون
أدنى اهتمام بالشكل البصري.
ونظرًا للظروف الإنتاجية الصعبة بالنسبة للفيلم الروائي
الطويل لم يشأ الزبيدي أن يحارب في هذا المضمار. توجه باكرا إلى السينما
التسجيلية باعتبارها أكثر قدرة على الخوض في متاهات الواقع وهمومه، واقتناص
حرارة اللحظة بكل أبعادها ودلالاتها.
من هنا مضى الزبيدي في هذا الخيار الفني الذي لا جمهور له،
فالفيلم التسجيلي، الذي يحظى بإعجاب النخبة فقط، هو كـ"الابن اللقيط" لا
أحد يعترف بأبوته، فهو منبوذ على المستوى الجماهيري، وغير مقبول على مستوى
السلطة، أي سلطة، فهي ترى فيه تهديدًا لنفوذها المكرس، وسطوتها التي لا
تقبل الأسئلة والشكوك التي تثيرها، عادة، السينما التسجيلية التي أنجز في
سياقها فيلم "الكابوس"، 1991، عن ثمانية رسامين سوريين من أجيال مختلفة، من
بينهم فاتح المدرس، وخزيمة علوان، ولؤي كيالي، ونذير نبعة، وفي هذا الفيلم
وظف الزبيدي الرسم والموسيقى والشعر لنقل الشحنة العاطفية التي زخر بها
الفيلم.
أما في فيلم "صوت من القدس" (1977 ) فقد تناول الزبيدي
لقاءً مع المغني الفلسطيني مصطفى الكُرد الذي استطاع أن يلهب بأغانيه
الوطنية حماسة الناس وأضحى منشد الانتفاضة الفلسطينية.
وبحكم ولعه باللون وثنائية الضوء والظل، حقق الزبيدي فيلماً
تسجيلياً عن الفنان التشكيلي العراقي جبر علوان بعنوان "ألوان" (2009) بحث
فيه عن بدايات تعلق هذا الملون العراقي الشهير باللون.
من جبر علون انتقل الزبيدي إلى المسرحي السوري المعروف سعد
الله ونوس متخذًا من عبارة له عنوانًا لفيلمه "إننا محكومون بالأمل"
(2009).
وظل الزبيدي يعمل في إطار السينما السورية كاتبًا للسيناريو
ومونتيرا، وكان ظهور اسمه في تيترات الفيلم دليلا على أن ثمة لمسة إبداعية
آتية من سينمائي "وقع منذ مطلع صباه في "براثن المونتاج"، وفق تعبير المخرج
السينمائي محمد ملص.
ومن المعروف أن الزبيدي اتخذ من المونتاج حقلا أساسيا
لتخصصه السينمائي بدافع من مقولة لبودفكين: "إن المونتاج هو القوة الخالقة
لكيان الفيلم".
الزبيدي والتراجيديا الفلسطينية
لطالما شغلت قضية فلسطين قيس الزبيدي، ذلك أن سينمائيًّا
عرف المنفى باكرًا، ونهل من "ثقافة التمرد والنضال"، وتعلم في ألمانيا
الديمقراطية التي كانت فضاء حرا "للثائرين" من العالم الثالث، أن يلتفت إلى
سجل شعب اقتلع من أرضه، وهام في الشتات، أو عانى مرارة الفقد في المخيمات،
فآثر الزبيدي أن يقترب من همومه وأوجاعه.
كان يمكن للزبيدي أن ينجز أفلامًا "بسيطة وسهلة" على مقاس
شباك التذاكر، أو تبعًا لمقولة "الجمهور عاوز كدة"، تؤمن له مردردا ماديا
مجزيا، مثلما فعل العديد من السينمائيين الذين انساقوا مع الموجة
السينمائية الرخيصة التي سادت في ستينيات وسعينيات وثمانينيات القرن
الماضي، عبر الاتكاء على أبطال وسيمين وقصة حب باهتة ومشاهد ساخنة على
الشواطئ أو في الأندية الليلة وغرف النوم المغلقة، غير أن الزبيدي توجه،
خلاف ذلك، إلى عدالة القضية الفلسطينية.
قد يكون فيلم "الزيارة" الي تمَ إنتاجه نهاية الستينيات، هو
النموذج الفني المحفز، أو الشرارة الأولى التي أدارت الشريط السينمائي
الفلسطيني طوال هذه العقود دون توقف، حتى تراكم الشريط تلو الآخر، لتكون
الحصيلة هو الأكثر من ناحية الكم في فيلموغرافيا مخرج واحد بخصوص القضية
الفلسطينية، ولكن هذا الكم الهائل لم يُفقد الأفلام "الجودة والنوعية".
بهذا المعنى، فإن تجربة الزبيدي مع السينما الفلسطينة هي
الأكثر ثراء وتنوعا، ففي فيلم "بعيداً عن الوطن" (1969) يكون الطفل
الفلسطيني مادة أساسية لعرض مأساة هذا الشعب، وفي فيلم "وطن الأسلاك
الشائكة" (1980) نعثر على تحليل سينمائي موثق لأيديولوجيا الاستيطان في
الضفة الغربية كنموذج يمكن تعميمه على الحركة الاستيطانية.
وفي فيلم "ملف مجزرة" (1984) يجسد الزبيدي رؤيته حول
الاجتياح الإسرائيلي للبنان مركزا عدسته على مجزرة صبرا وشاتيلا التي هزت
الضمير العالمي، وفي فيلمه الأكثر شمولية "فلسطين: سجل شعب" (1984) يستعرض
الزبيدي تاريخ القضية الفلسطينية منذ مؤتمر بازل 1897 وحتى دخول منظمة
التحرير الفلسطينية في عضوية الأمم المتحدة عام 1964.
وفي فيلم "صوت الزمن الصامت"(1991) يتناول الزبيدي موضوع
المحامية الإسرائيلية، من أصول ألمانية، فيليتسيا لانغر التي كانت تدافع عن
الفلسطينيين بشراسة لا تعرف التردد، وأنجز الزبيدي تسعة أفلام حملت عنوان
"مياه قيد الاحتلال" كل واحد منها يروي قصة نهر محتل.
إلى جانب كل هذه المشاغل السينمائية العملية، وجد الزبيدي
وقتا، ولا سيما في العقدين الأخيرين، كي يصوغ أفكاره ورؤاه وقناعتاته في
دراسات ومقالات وأبحاث سينمائية عديدة.
سينما
العراق |