ملفات خاصة

 
 
 

العراقي قيس الزبيدي ترك اثرا كبيرا في السينما السورية

صوّر وأخرج أكثر من 50 فيلماً وترجم وكتب أبحاثاً في نظريات السينما ورحل في منفاه البرليني

سامر محمد إسماعيل

عن رحيل

قيس الزبيدي

   
 
 
 
 
 
 

 طوّر قيس الزبيدي (1939- 2024) فهمه للفن السينمائي بعيداً من السائد في أفلام القطاع الخاص، فعمل على توليف الواقع وتغريبه وجعله يتكلم عبر أسلوب التصوير بشكل جديد، ووجد ابن حي حيدر خانة البغدادي ضالته في شراكة فنية جمعته في سبعينيات القرن الماضي مع أبرز مخرجي السينما السورية، فأسهم مع كل من محمد ملص ونبيل المالح وعمر أميرالاي في إطلاق تيار "السينما البديلة"، وهو الشعار الذي تبناه مهرجان الشباب في دمشق عام 1972 وجاء وقتها رداً على تردي حال السينما التجارية فنياً وجمالياً.

قضى قيس الزبيدي أعواماً طويلة في العمل مع "المؤسسة العامة للسينما" في دمشق، فبعد عودته عام 1968 من دراسة المونتاج والتصوير السينمائيين في ألمانيا اشتغل في كتابة السيناريو وتوليف الأفلام مع عدد من المخرجين.

مسيرة حافلة بدأها الفنان العراقي بمنتجة فيلم "إكليل شوك" لمخرجه نبيل المالح، وهو الشريط الروائي المتوسط الذي سيلهم الزبيدي تحقيق فيلمه الأول "بعيداً عن الوطن" عام 1969، إذ يروي هذا الوثائقي قصص 10 أطفال فلسطينيين من لاجئي 1948 ونازحي 1967 في مخيم السبينة قرب دمشق، بلغة سينمائية تعاملت مع مفهوم الزمن واللقطة والتتابع الزمني فيها بصورة غير مسبوقة، وطور إطاراً مختلفاً عن النظرة السائدة للفيلم التسجيلي.

وتمكن الزبيدي من تقديم قراءته الخاصة للواقع الفلسطيني وابتعد من الأفلام الموصى بها أو تلك الأشرطة ذات النزعة التعبوية، فجاءت أفلامه مثل "الزيارة" عام 1970 و"شهادة الأطفال في زمن الحرب" عام 1972" كسينما ترفض تحنيط الواقع كوثيقة سياسية، وتشتغل على السهل الممتنع لمقاربة القضايا الكبرى من منظور إنساني، تماماً كما تجلى في فيلميه "نداء الأرض" عام 1976 و"صوت من القدس" عام 1977.

واتكأ الزبيدي في عمله الوثائقي عن فلسطين على وثائق بصرية نادرة ومسبوكة في سياق سيناريو بصري محكم الصنعة، وترافق هذا المقترح السينمائي مع قراءات تاريخية، واستفاد من أرشيفات عالمية نادرة عن القضية الفلسطينية عرضتها أفلام الزبيدي للمرة الأولى، مما أعطى أشرطته قيمة تحليلية وعلمية بعيداً من الصراخ وتمثيل دور الضحية، وهو ما كان سائداً في مثل هذه النوعية من الأفلام.

القضية الفلسطينية

تابع الزبيدي بغزارة هذا المنحى التسجيلي لكن بعيداً من الفهم السطحي للقضية الفلسطينية، وحقق في هذا السياق أفلاماً من مثل "وطن الأسلاك الشائكة" 1980"، و"مواجهة" 1983، و"ملف مجزرة" 1984، إضافة إلى فيلمه "فلسطين... سجل شعب" 1985، إذ اعتمد الزبيدي في هذا الأخير على مقابلات مصورة مع شخصيات وقادة فلسطينيين من مثل عزت دروزة ونمر المعري، فكان هذا الشريط الوثائقي الطويل (110 دقيقة) تسجيلياً نادراً، وعكف فيه المخرج على تقديم قراءة متأنية لتاريخ فلسطين من أوائل القرن الـ 20 وحتى سبعينياته.

لكن انهماكه في تحقيق هذا الأرشيف الوثائقي الضخم عن فلسطين لم يمنعه من المضي في عقد مزيد من شراكاته الفنية التي لم يتخل الزبيدي فيها عن دوره كمؤلف أفلام، فالمونتير بمنزلة مخرج ثان، مما جعل الناقد المصري الراحل سمير فريد يطلق عليه لقب "جراح السينما العربية"، وبالطبع لم ينل الزبيدي هذا اللقب إلا بعد إسهامات فعلية في تحرير كثير من الأشرطة الوثائقية والروائية التي لعب دوراً عميقاً في إعادة تحريرها، وجعلها مجازاً سينمائياً مغايراً لما كان سائداً في أفلام القطاع العام في سوريا، لينعكس ذلك عام 1986 في فيلم "المنام" لمخرجه محمد ملص، الشريط التسجيلي الذي تم تصويره عام 1980، أي قبيل الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 وارتكاب مجازر صبرا وشاتيلا بحق مئات النازحين الفلسطينيين العُزل المقيمين في هذين المخيمين.

وتجلت نظرة المخرج الى السينما ووظيفتها في كثير من أفلام زملائه، وأبرز تلك الأعمال التي شارك فيها كان في ثلاثية "رجال تحت الشمس" عام 1970، والتي عمل فيها الزبيدي كاتباً للسيناريو ومونتيراً مع كل من محمد شاهين ونبيل المالح ومروان المؤذن، وتعاون قيس لاحقاً كمونتير في الفيلم التسجيلي "الحياة اليومية في قرية سورية" مع الراحلين سعدالله ونوس وعمر أميرالاي، وصولاً إلى تعاونه مع كل من وديع يوسف في فيلم "رقص شعبي".

وبالطبع لم تقتصر شراكاته الفنية على العمل مع مخرجين سوريين، بل أسهم الزبيدي مع مخرجين عرب آخرين في تحقيق أفلامهم، فعمل مع المخرج العراقي قاسم حول في فيلمه "اليد"، ومع الأردني عدنان مدانات في فيلميه "التكية السليمانية" و"لحن لعدة فصول"، كما أنجز مع اللبناني كريستيان غازي فيلمه التجريبي "مئة وجه ليوم واحد".

عراقي في سوريا

ومع أن المخرج العراقي لم يحقق فيلماً واحداً في موطنه الأم إلا أنه تمكن عام 2009 من إخراج فيلم استثنائي عن مواطنه جبر علوان، فبين روما ودمشق رصد الزبيدي مراحل تكوين اللوحة بين مدينتين، وصور الغنى اللوني للفنان العراقي عبر وثائقي حمل عنوان "ألوان"، وتجربته هذه لم تكن الوحيدة في هذا السياق، فقد أنجز عام 1972 تجربة مماثلة عن أعمال لثمانية فنانين تشكيليين من أجيال مختلفة، وجاء الفيلم وقتها بعنوان "زائد ألوان"، ويعتبر هذا الوثائقي من الأشرطة النادرة التي وثقت بدقة لأعمال نخبة من فناني المحترف التشكيلي السوري، ومن أبرز هؤلاء فاتح المدرس ونذير نبعة وخزيمة علواني، إضافة إلى كل من إلياس الزيات ولؤي كيالي ونصير شورى ومحمود حماد ونعيم إسماعيل.

ويروي المخرج محمد ملص في كتابه "الحياة قصاصات على الجدار" عن الجهد الذي بذله المخرج العراقي في تأسيس النادي السينمائي في دمشق، والدور الذي لعبه بتقديم أفلام الموجة الجديدة في ألمانيا لجمهور النادي الدمشقي، من مثل أفلام فاسبندر وفيم فندرز وهيرتزوغ، وعمل الزبيدي بعدها مع دائرة السينما في التلفزيون السوري وأتاح له وجوده كمونتير أساس في أستوديوهات المؤسسة العامة للسينما المشاركة في تحرير أبرز أفلامها، ومنها "الليل" لمحمد ملص، الفيلم الروائي الطويل الذي تجلت عبره خبرة الزبيدي الكبيرة في فن المونتاج والتي استقاها من معرفته العميقة بمسرح برتولد بريخت، وكل هذا سمح لهذا الفنان بتوظيف الملحمية البريختية في البنية التسجيلية للفيلم، ولا سيما سيناريو فيلم "المغامرة" الذي كتبه مع سعدالله ونوس عن مسرحيته "مغامرة رأس المملوك جابر".

علامات فارقة من حياة الزبيدي توجها عام 1973 بتحقيق فيلمه الروائي اليتيم "اليازرلي" والذي نقل عبره مشاهد من طفولته التي عاشها في حي الأعظمية ببغداد، إذ اقتبس قصة فيلمه عن قصة "على الأكياس" للروائي السوري حنا مينه، وكتب الزبيدي السيناريو لهذا الفيلم بنفسه واُعتبر وقتها بمثابة بيان في اللغة البصرية للسينما العربية، كما عدّه النقاد طموحاً تشكيلياً لوسيلة السرد السينمائي المختلف عن أفلام تلك الحقبة في السينما العربية، لكن "اليازرلي" عانى ما عاناه من تضييق الرقابة ومُنع من العرض بسبب جرأته الفنية التي صدمت كثيرين.  

صدمة الرقابة

غادر الزبيدي دمشق بعد صدامات عدة مع الرقابة، ويقول عن حياته في دمشق ومغادرته لها بعد التضييق الذي عاناه هناك "لقد حاولت أن تكون دمشق مكاني الأول بعيداً من الوطن لكنها بقيت المكان الثاني، وحين سقطت برلين الاشتراكية سقط معها مكاني الأول وصارت الثاني، وفي السينما قضيت العمر كله في السينما التسجيلية التي كانت خياري الثاني وليس الأول، وهكذا بقي الأول مفقوداً دائماً لأعيش في الثاني أبداً". 

ولم يقتصر عمل الزبيدي على إخراج الأفلام وتحريرها بل عرف كناقد وباحث رفيع في نظريات السينما، ووضع عدداً من المؤلفات في هذا الشأن لعل أبرزها كتبه الصادرة عن "سلسلة الفن السابع" الصادرة عن وزارة الثقافة السورية، ومنها كتبه "المرئي والمسموع" و"مونوغرافيات - في تاريخ ونظرية صورة الفيلم"، إضافة إلى كتابه "الفيلم الوثائقي - واقعية بلا ضفاف"، وكتابه "فلسطين في السينما" الذي وثق فيه قرابة 800 فيلم تناول القضية الفلسطينية.   

ولد قيس الزبيدي في حي الجسر العتيق في بغداد عام 1939، وعاش طفولة ممزقة بين بيت أبيه وزوجته وبين بيت أمه، وكان لخاله الشيوعي المولع بالمسرح دور في تعريفه على المخرجين المسرحيين يوسف العاني وسامي عبدالحميد، وعلى المونتير محمد شكري جميل، وأسهم هذا الأخير في تعريفه على ألف باء فن المونتاج السينمائي، وعلى إرساله لألمانيا في ما بعد من قبل الحزب الشيوعي العراقي للدراسة في مدرسة بابلسبرغ، إذ تخرج في درس نظرية أجراها الزبيدي لطرق مونتاج فيلم "طفولة إيفان" لتاركوفسكي.

والأحد الماضي أغمض قيس الزبيدي عينيه في برلين بعد صراع طويل مع المرض، ونعاه كثير من المثقفين والفنانين على مواقع التواصل الاجتماعي، فكتب المخرج هيثم حقي من باريس على حسابه في "فيسبوك"، "وداعاً يا صديقي السينمائي حتى النخاع. اليوم يرحل قيس الذي أخرج ومنتج وعاش حياة سينمائية خالصة، وكان صديق الحوار الفلسفي وباحثاً في أشكال الفيلم ومعلماً في الإيقاع المونتاجي الذي تحول عنده لنمط عيش، وداعاً صديقي الذي سيبقى في ذاكرة السينما السورية والفلسطينية والعراقية كلما ألصق شاب لقطتين ليصنع معنى جديداً ليس موجوداً في أي منهما".

 

الـ The Independent في

03.12.2024

 
 
 
 
 

قيس الزبيدي... رائد السينما الوثائقية العربية وأحد معلّمي فنّ المشاهدة

أسّس فلسفة خاصة وكرّس معظم جهوده للقضية الفلسطينية

نوار جبور

فارق عالمنا المخرج والمصور والناقد السينمائي العراقي قيس الزبيدي (1939-2024) بعدما قدّم أكثر من 12 فيلما وثائقيا بارزا، من بينها "بعيدا عن الوطن (1969)، "وطن الأسلاك الشائكة" (1980)، و"فلسطين سجل شعب"(1984) كما كتب وأخرج فيلمه الروائي التجريبي الطويل "اليازرلي" (1974)، وأسس منهجا نقديا متفردا. أسس "الأرشيف السينمائي الوطني الفلسطيني" بالتعاون مع الأرشيف الاتحادي في برلين بألمانيا، وساهم بشكل كبير في توثيق تاريخ السينما الفلسطينية. حازت أفلامه جوائز عدة في مهرجانات عربية ودولية، مما عزز مكانته كأحد رواد السينما الوثائقية.

لم يكن قيس الزبيدي مجرد تقني في السينما أو الدراما. فالمونتاج الذي درسه في البداية بمعهد بابلسبرغ العالي، أول جامعة سينمائية مرخص لها في ألمانيا، كان بوابة لفهم ماهية الصورة وكيفية تسلسلها. لكنه لم يكتف بذلك، بل استمر في دراسة الإخراج والتصوير، حيث تطورت تجربته بما يتماشى مع حاجته للتعبير.

لم يكن هدفه فقط أن يكون خلف الكاميرا، بل أن يعبّر من خلالها، وهو ما يفتح المجال للتفكير في قدرته العميقة على إدراك السينما وفهم العالم الدرامي عبر خبرته. ثم انتقاله السخي والشديد العلمية للكتابة عن السينما، وفي أن يجعل جزءا من اختصاصه التاريخي أن يؤرشف السينما الفلسطينية، ويكرس علاقة مختلفة مع الكتابة.

البدايات

لم يتعلم الزبيدي تفكيك الصورة وتوليدها عبر المونتاج أو تقسيمها فحسب، بل أتقن وضعها ضمن تجربة شعورية وحسية متكاملة تنبع من ذاته، من إبداعه الخاص، حيث تتحول إلى ذاكرة إدراكية تُنتج المعنى والمشهد معا.

يظهر العمق الشخصي والدراسة المضنية بوضوح في فيلمه التسجيلي المذهل "بعيدا عن الوطن" (1969)، الذي يوثق مأساة المخيمات الفلسطينية في اليرموك برؤية سينمائية تقدم فيها الكاميرا لغة بصرية مميزة. في هذا العمل، تصبح الكاميرا أداة لتحويل ما تراه أمامها إلى ذاكرة حية، عبر معالجة حسية وشعورية استثنائية.

لم يتعلم الزبيدي تفكيك الصورة وتوليدها عبر المونتاج أو تقسيمها فحسب، بل أتقن وضعها ضمن تجربة شعورية وحسية متكاملة تنبع من ذاته

 كان لقيس الزبيدي أن يفتح مجالا فنّيا تسجيليا جديدا في العالم العربي، يحمل عناصر تجريبية تبدو درسا تجريبيا مختلفا. فيلمه هذا لا يتبع القواعد التقليدية للسرد  التسجيلي، فلا توجد فيه قصة واضحة أو شخصيات تتطور عبر الزمن، بل يقدم مشهدا ممتدا من حياة سكان المخيمات الفلسطينية. يبدأ الفيلم بتكثيف بصري وسمعي عبر صور مصحوبة بصوت الرصاص، مشكّلا انصهارا بصريا وسمعيا حادا. ثم ينتقل الفيلم إلى بقعة سوداء تحمل نصا، ومن النص تبدأ الكاميرا رحلتها حيث يصوّر المخيم بطريقة توحي بأن الكاميرا تلتقط المشاهد بعيون إنسانية. فالزوايا التي تقطع المخيم تتحرك ببطء، كما أن الأسئلة الموجهة الى الأطفال تأتي من مسافة حميمة، حيث يجلس السائل والمجيب على مستوى متساوٍ، لتُبرز المشاركة الشعورية بين قيس نفسه وأطفال المخيم. نادرا ما ترتفع الكاميرا الى الأعلى، لتبقى على مستوى القلق الأرضي والوجودي ذاته الذي يعايشه سكان المخيم. وعندما تظهر مشاهد الأطفال وهم يلعبون، تنخفض الكاميرا أكثر، مما يعزز الحميمية البصرية والخجل من عجز العرب حينها أمام مأساتهم. انخفاض الكاميرا هو عجزنا.

رغم قصر مدة الفيلم، فإنه يتميز برفعة فنية. الموسيقى التي ترافق المشاهد، تبدو غامضة وضاربة في عمق شعوري متقطع مثل صوت الأطفال وهم يشاهدون أنفسهم، حيث نقل الزبيدي الطفل إلى موقع المشاهد لنفسه. وحين تعود الموسيقى، تظهر على هيئة ضربات متباعدة ومسافات صوتية مقطعة بين الألحان، مما يعكس الإيقاع الخفيف والبارد لحياة سكان المخيمات.

اليازرلي

كان سيناريو وإخراج فيلم "اليازرلي" مدهشين، فهو فيلم تجريبي مستوحى من قصة قصيرة لحنا مينة، قدم من خلالها قيس الزبيدي بُعدا جديدا وغير مكرر في السينما العربية. تناول الفيلم موضوعات وثيمات تقليدية مثل الفقد العائلي، والذكورة، ودور الشخصيات التسلطية الخفي، والحرمان من العاطفة والجنس، وفقد الأب، وتفكك العائلة، وظهور الوحوش الداخلية نتيجة الفقد العاطفي لكل شخصية. الشخصية الأكثر قسوة وقوة بدنية تُبرز عوالم مخيالية تعويضية، حيث نجح الزبيدي في تقديم هذا البعد النفسي بعمق سينمائي مشهدي تكون الكلمة فيه غير موفقة إن حضرت أمام الخبرة الحسية للزبيدي في معنى الصورة.

بأسلوب شعري ولغة تصويرية متفردة، جمع الزبيدي بين التقاط الصورة، وتحريكها، واللعب في المونتاج، مما جعل الفيلم تحفة مشهدية استثنائية سينمائيا رغم منع عرضه بحجة احتوائه على مشاهد إباحية. منح الزبيدي كل شخصية في الفيلم بُعدا جسديا ومشهديا خاصا، مما أتاح للمشاهد فرصة استكشاف الوحشية الداخلية والانفرادية التي تميز كل شخصية. هذه الوحشية تجسدت من خلال تقنية سينمائية تكررت في الفيلم، حيث تظهر الشخصيات في إطارات متعددة، من إطار أولي تأويلي ضيق، إلى إطار مفتوح ومتغير ضمن مشهد طويل، ومن زوايا يَكسر تناغمها كل حين، مما يعزز تحولها الجوهري وكثرة صفاتها، مركزا على الجوهر إما في الشعور أو السلوك أو المعنى الذي على اللقطة أن تأخذه من الممثل. جزء من فلسفة الصورة عند الزبيدي في الفيلم تموضع الكاميرا من الأعلى إلى الأدنى، ولغة الإيحاء المشهدية تحمل بُعدا شعريا قوامه فلسفة الشعور. وظف الزبيدي الكاميرا لتقديم مونولوغات تعبيرية على الوجه والجسد، ليخلق إحساسا بالاختناق والعزلة.

لم تكن شخصياته عناصر توتر للمشهد، بل دعوة للتأمل المطول كجزء من السرد السينمائي بلغة مختلفة عن السائد عربيا

وضع الشخصيات في قلب المشهد كصورة تتكرر لتبرز وجودها الأولي، مسلطا الضوء على أبعادها النفسية والاجتماعية، وأتاح للشهوة الجنسية بُعدا إنسانيا هائلا في الفيلم، فوضعها في شخصية المجنون، التي أفرد لها بُعدا من خلال الصورة وتكثيف معدلات التقاط المتغير والمعقد، من خلال صور مركبة تتحرك فيها الكاميرا على جسد المجنون تارة، وجسد المحروم الآخر البطل صاحب العمل ورب السلطة، الأول ينفعل ببطء وبشكل قياسي، والآخر يعوّض حرمانه في القسوة والشخصية المضطربة عصبيا وعنفيا.

قيس الزبيدي أعاد صياغة شخصيتي المجنون والمحروم المنسلخين عن الأسرة إلى صور إنسانية واجتماعية عميقة، مع تسليط الضوء على الوحشة التي تعيشها السلطة وصراعاتها، والأم التي فقدت زوجها، وأحلام الأولاد وضياعهم. لم تكن شخصياته عناصر توتر للمشهد، بل دعوة للتأمل المطول كجزء من السرد السينمائي بلغة مختلفة عن السائد عربيا.

قدم الزبيدي قصة واقعية في إطار من الإيهام السينمائي، مجسدا الصراعات النفسية للشخصيات بمهارة. ومن خلال هذا الأسلوب، أرسى منهجا بصريا جديدا يمزج العنصر التشكيلي بالسردية، ليمنح الشخصيات أبعادا متعددة.

العنصر التشكيلي في سينما الزبيدي يتجلى من خلال التكوين وترتيب العناصر داخل الإطار السينمائي بشكل مدروس، حيث يحدّد موقع الشخصيات والأشياء داخل المشهد لتحقيق توازن بصري أو إيصال دلالات رمزية. كما يلعب اختيار الألوان دورا مهما في تعزيز الحالة المزاجية أو تسليط الضوء على الدلالات العاطفية والرمزية، بينما تُستخدم الإضاءة لتحديد المزاج العام للمشهد وإبراز التفاصيل الدقيقة.

تجارب وبلدان

قيس الزبيدي، المولود في بغداد بالعراق، لم يعرف الاستقرار في بلد واحد. انتقل من سوريا إلى لبنان إلى تونس حيث واكب التجربة الفلسطينية في المقاومة واللجوء إلى لبنان، وترك بصمة في كل مكان مر به، من جامعته في ألمانيا إلى التلفزيون السوري، وصولا إلى التنظيمات الفلسطينية التي شكلت له بُعدا مخياليا عميقا. إلى أن يكون استاذا في تونس. لم تقتصر بصمته على إنتاج الأفلام وتصويرها ومنتجتها، بل امتدت إلى نشاطه الإنساني والسياسي، مع عناية خاصة بالأدب الفلسطيني الذي أدمجه داخل نسيجه السينمائي، ليصبح معبّرا عن القضية الفلسطينية حتى على المستوى الأوروبي.

تجربته مع منظمة التحرير الفلسطينية عمّقت اهتمامه بتأريخ السينما الفلسطينية، حيث وثّق المرحلة الأولى لنشوء الفيلم والسينما في فلسطين. ومع مرور الوقت، قلّت أعماله الإخراجية ومال نحو العمل الفكري، متأملا في ما وصفه بالفقر الدرامي والسينمائي الذي بدأ يتشكل منذ السبعينات نتيجة شيوع ثقافة الصورة على حساب المعنى والمفهوم عربيا. بدأ مشروعه الفكري بالكتابة، بدءا بالمقالات، ثم الكتب التي تناولت تاريخ السينما الفلسطينية، ليصبح أستاذا يقدم تجربة غنية في الكتابة السينمائية والدرامية.

كتابه الأشهر، "مونوغرافيات"، يُعد دراسة تحليلية عميقة تناول فيها النظريات النقدية لأشهر نقاد السينما العرب، مقدما تأويلا ونقدا يدعمان رؤيته الفلسفية لفهم السينما. أما كتابه "بنية المسلسل الدرامي التلفزيوني"، فهو مرجع أساس لفهم مراحل تطور الدراما. وكتابه الأخير، "في البدء كان السيناريو"، يُعتبر كتابا تعليميا مهما يُرشد الكُتّاب في مراحل كتابة السيناريو، جامعا بين الجانب العملي والنظري.

لم تقتصر بصمته على إنتاج الأفلام وتصويرها ومنتجتها، بل امتدت إلى نشاطه الإنساني والسياسي، مع عناية خاصة بالأدب الفلسطيني

تتميز كتابات الزبيدي بأنها لا تقتصر على تحليل لغة الصورة أو السيناريو، بل تقدم في كل مرة مقاربات نقدية جديدة، مستفيدة من التأويل والفلسفة وعلوم السيميائيات. لقد أثرى المكتبة العربية بأفكار ثرية ومعالجات نقدية مبتكرة، ليصبح من أهم الأسماء التي أعادت تعريف العلاقة بين السينما والفكر، وبين الدراما والصورة.

ما بين السينما والكتابة

قيس الزبيدي يعدّ من الرواد الأوائل في تطوير المونتاج كوسيلة للتعبير الفني والفكري، حيث تجاوز حدود التقنية ليجعله ثقافة بصرية متكاملة. لم يكن المونتاج عند الزبيدي مجرد أداة لتنظيم اللقطات، بل أداة تأويل بصري تساهم في خلق معانٍ مركبة وشعورية. كانت تجربته السينمائية، التي امتدت عبر سوريا والأردن ولبنان، منبثقة من اشتباكه مع قضايا إنسانية واجتماعية كبرى، أبرزها القضية الفلسطينية وقضايا المقاومة، مما جعله يقدم مئات الأفلام والتسجيلات الوثائقية التي حصلت على اهتمام واسع، وأثّرت في أجيال من صناع السينما.

الزبيدي، الذي اختار ألا يكرّس نفسه كمخرج فقط، عوّض عن ذلك بمساهمته البصرية في إخراج الأفلام عبر عمليات المونتاج التي تميزت ببنية فكرية فيها جانب تدريسي وتعليمي. لقد شكّل دور الثقافة لديه حجر الأساس لرؤيته السينمائية، حيث تُخلق اللقطة من سياق ثقافي وتاريخي، وتتكثف الصور لتبرز تناقضاتها الداخلية بطريقة تفتح المجال لتأويل بصري عند المشاهد. لم يكن مفهوم التراكب عند الزبيدي مجرد تركيب بصري، بل كان يمثل عملية إبداعية تتجاوز اللصق التقليدي، لتولّد شعورا عاليا بالملاحظة، وتجعل من السينما أداة للتأمل الفلسفي والرؤية البسيطة ذات التأثير العميق.

أعمال الزبيدي لم تكن مجرد مشاهد بصرية، بل تجارب شعورية ونفسية متكاملة، حيث لكل ثانية في أفلامه فكرة متجاوزة حدود الصورة الظاهرة. المواضيع التي اختارها لم تخرج عن الحرمان والفقر والقضية الفلسطينية، حيث جعل من عمله وثيقة إنسانية ذات منهجية عنيدة ثقافيا ومعنى خاص. وقد انتقد السينما العربية منذ السبعينات، واصفا إياها بأنها تعاملت مع الصورة كوسيلة للتوضيح، دون أن تحمل أبعادا مزدوجة من التبصر والتأويل، وانحصرت في خطابية مباشرة بعيدا عن البُعد الإنساني العميق.

قيس الزبيدي يفوز بجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان الخليج 2009.

تجربة الزبيدي التي حازت جوائز عالمية واهتماما غربيا، لم تكن مجرد ممارسة سينمائية، بل كانت فلسفة بصرية تجعل من الصورة وسيلة للتفكير والتأمل، بعيدا عن ظاهرة الفرجة والجمهور السطحي. أعماله تركت أثرا لا يُمحى في تاريخ السينما العربية، حيث أصبحت الصور في أفلامه تحقق له اختلافا وجذرية في تاريخ التجربة التي قدمها، هذا ما نعرفه من الكُتب التي كُتبت عنه، أو حتى من قراءة كُتبه ومقالاته وعدد مشاركاته الكبير في التصوير والمونتاج.

 الأهم في مشروع الزبيدي هو السيميائية المعرفية التي أدمجها في فهم السينما، حيث تعامل مع الصورة بوصفها كيانا يحمل دلالات زمانية ومكانية تتجاوز المعنى الظاهري

في كتب وأعمال قيس الزبيدي، يتعلم القراء ثلاثة محاور رئيسية شكلت جوهر مشروعه الفكري. أولا، اهتمامه العميق بتوثيق تاريخ السينما الفلسطينية، حيث قدّم رؤية شاملة لتطورها كأداة نضالية وإنسانية. ثانيا، بحثه في سياق تطور السينما والنقد الفني، مما ساهم في إثراء الفهم العربي لمسارات السينما وتطور أدواتها النقدية. ثالثا، دراسته بنية الدراما التلفزيونية وما يظهر على الشاشة من أنواع درامية، حيث وضع إطارا تحليليا لفهم تطورها.

الأهم في مشروع الزبيدي هو السيميائية المعرفية التي أدمجها في فهم السينما، حيث تعامل مع الصورة بوصفها كيانا يحمل دلالات زمانية ومكانية تتجاوز المعنى الظاهري. قدم الواقعية برؤية تأويلية عميقة، تتيح للصورة أن تكون أكثر من مجرد انعكاس مباشر، بل فضاء متعدد الرؤى لا يكتفي بنظرة واحدة. التزامه القضايا الإنسانية والنضالية كان جوهريا في أعماله، حيث لم ينفصل البتة عن التعبير عن هموم الإنسان ومعاناته.

ودّعنا الزبيدي بعدما قدّم لنا كتابه الأخير "في البدء كان السيناريو"، الذي يعدّ دليلا تعليميا يشرح مراحل الإبداع في كتابة السيناريو، واضعا بين أيدي الأجيال الجديدة أدوات معرفية لصياغة سرديات سينمائية متميزة.

 

 

مجلة المجلة السعودية في

03.12.2024

 
 
 
 
 

كلاكيت:

قيس الزبيدي.. منظر السينما التسجيلية

علاء المفرجي

لقائي الأول بالمخرج العراقي قيس الزبيدي كان في مهرجان الخليج عام 2009، عندما شارك فيلم له في هذه المسابقة، واتصلت به قبل عامين، وكان لي حوار طويل معه، نشر في (المدى)، ولم ينقطع تواصلي معه، بل استمر في مواقع التواصل الاجتماعي، حتى رحيله الى الرفيق الأعلى الأسبوع الماضي.

قيس الزبيدي ليس مخرجا حسب، بل يرتبط بأسمه الكثير من الإنجازات السينمائية، لعل مؤلفاته التي وضعها في التنظير للسينما، والتي جعلت منه منظرا كبيرا في السينما وخاصة الوثائقية منها، هذا فضلا عن إنجازه الأهم، وهو مساهمته في وضع اللبنات الأولى للسينما الفلسطينية، مع زملائه العراقيين قاسم حول ومحمد توفيق. التي أثمرت عن مؤسسة السينما الفلسطينية.

قال لي الزبيدي في هذا الحوار: أغلب أفلامي في سوريا كانت عن القضية الفلسطينية، أيضا في ألمانيا. ولطالما جرى وصفي بأنني فلسطيني الانتماء. ففي إحدى المهرجانات صدر كتاب لتكريمي بعنوان "عاشق فلسطين". والحقيقة أنني أتضايق من وصفي كسينمائي عراقي، فأنا لم أصور حتى صورة فوتوغرافية واحدة في العراق.

كانت البداية أثناء عملي، حيث عملت في المؤسسة العامة للسينما، مساهمتي الفنية في المونتاج في فيلم "أكليل الشوك" لنبيل المالح، غير أني بعد أن توقفت عن العمل في المؤسسة بعد شهر، أتيحت لي الفرصة لاحقاً في التلفزيون العربي السوري لإخراج الفيلم التسجيلي"بعيداً عن الوطن" الذي أصبح عنوانه عنواناً لحياتي، بعيداً عن وطني العراق، وبعد فترة طويلة صعبة، عدت للعمل في المؤسسة كمشرف على قسم المونتاج، وأنجزت أول فيلم روائي تجريبي قصير هو "الزيارة" كما ساهمت أيضاً بالسيناريو والتصوير والمونتاج في ثلاثية "رجال تحت الشمس" وهي ثلاثية وضعت البداية لنوعية جديدة من الأفلام السينمائية السورية ونال في قرطاج الجائزة الفضية.

وُصف فيلم "بعيداً عن الوطن"، 1969، الذي يعتبر من أوائل أفلامك عن فلسطين، بأنه فيلمٌ بلغة سينمائية تعامل مع مفهوم الزمن واللقطة والتتابع الزمني بشكل جديد وغير مسبوق، لماذا فكرت بصناعة أفلام عن الفلسطينيين؟ هل كانت هذه المحاولة الأولى وتم إنتاجها أم أن هنالك محاولات سابقة لم تتم؟ وبأي ظروف أنتج الفيلم؟

نظرا لأني أردت أن أصل بالموضوع الفلسطيني إلى محافل دولية ومهرجانات. بدأت بموضوع عن الطفل الفلسطيني في "بعيدا عن الوطن". وكما اعتقدت فأن اللجوء إلى الطفل الفلسطيني كمادة في معالجة سينمائية هو محاولة الاقتراب من المأساة الكبيرة عبر رصدها فيما هو يومي. بمعنى إن هدفي كان التعبير عن المأساة في رصد اليومي في حياة طفل المخيم، والأصح طفل الخيمة، لأن وضع الخيمة مؤقت بينما وضع المخيم هو دائم.

يتخذ الفيلم من الأطفال في مخيم سبينه، الواقع قرب دمشق والذي يعيش فيه اللاجئون الفلسطينيون منذ سنة 1948 والنازحون منذ سنة 1967، مادته الأساسية. فيكشف عن مظاهر الحياة داخل المخيم، وعن آمال الأطفال الفلسطينيين وأحلامهم. أطفال من مخيم للاجئين وضعوا تحت المراقبة وهم يلعبون ويعبرون عن رؤيتهم.

لاحظت من خلال "بعيداً عن الوطن" إن أطفال الفيلم، في مخيم سبينة (الموجود جنوب دمشق العاصمة السورية) عندما أخذتهم في أكثر من محاولة لاستديو الصوت في دمشق ليشاهدوا رشس اللقطات التي صورتهم صورهم وصور مخيمهم، وهي أول مرة يشاهدوا فيلما في حياتهم، راحو يحاوروا الشاشة مباشرة. بينما مهندس الصوت يسجل تعليقهم على الصور. وبما إن تقنية تسجيل الصوت مباشرة مع الصورة لم يكن متوفرا في سوريا،عليه استخدمت تعليقهم على صور الفيلم، وكان هذا أحد الأسباب في فوز الفيلم بجائزة الحمامة الفضية في مهرجان لايبزغ السينمائي الدولي، 1969؛ علما إنها المرة الأولى التي كان فيها يفوز فيلم تسجيلي سوري بجائزة في مهرجان! إضافة إلى حصول الفيلم بجائزة التقدير الوحيدة للجنة التحكيم في مهرجان دمشق السينمائي لسينما الشباب، 1972.

 

المدى العراقية في

05.12.2024

 
 
 
 
 

وفاة عاشق فلسطين الحزين

علي حمود الحسن

رحل عن عالمنا الفاني المخرج السينمائي العراقي قيس الزبيدي عن عمر ناهز الـ 89عاماً، الزبيدي المولود في بغداد عام 1939، تنقل بين الأعظمية والحيدر خانة، سكنه هاجس "دقات" المسرح من خلال خاله اليساري، الذي عرفه على سامي عبد الحميد ويوسف العاني وأساطين المسرح العراقي، فاتسعت آفاق تفكيره وأغرم بهذا الفن الجميل، ثم اكتشف السينما وأدمن دخولها. سنحت له فرصة الدراسة في ألمانيا، فالتحق بمعهد الفيلم العالي في بابلسبرغ، إذ حصل على دبلومين في المونتاج والتصوير؛ الأول عام 1964، والثاني عام 1969، كما حصل على درجة الإخراج عن كتابة وتصوير ومونتاج فيلمه "في سنوات طيران النورس".

متعدد المواهب مونتاجاً وتصويراً وإخراجاً وكتابة، وجد في السينما الوثائقية وسيلة للتعبير عن رؤاه التجديدية، فضلاً عن كونها سلاحاً بيده لنصرة قضية فلسطين التي تلبسها وتلبسته، فأخرج لها أفلاماً، أشهرها  "بعيداً عن الوطن"(1969)، و"شهادة الأطفال في زمن الحرب"(1972)، والفيلم الأقرب للتجريب "الزيارة" (1970)، و "واهب الحرية"(1989).. هذه الأفلام معظمها ذات منحى جمالي ومحمول فكري واضح مدعم بالوثيقة والكتابة الرصينة.

ربما لا يعرف الكثير من العراقيين صاحب "اليازرلي" الذي خرج من العراق في بداية الستينيات من القرن الماضي ولم يعد إليه، إلا بضع مرات آخرها في العام 2015، فهو عاش شبه قطيعة مع وطنه، فلم  يخرج سوى فيلم واحد بعنوان "ألوان" عن الفنان التشكيلي العراقي علوان جبر، تنقل قيس الزبيدي بين ألمانيا وسوريا ولبنان، وكان وجوده في سوريا التي عشقها وعمل مع معظم مخرجيها، إذ أسهم في تأسيس مهرجان دمشق السينمائي مع صناع سينما سوريين، كانوا جميعاً يتطلعون إلى سينما أخرى، بعيداً عن السينما التجارية، "سينما بديلة" ليس في المضمون حسب، إنما في المستوى الفني والتقني، فجسدوا مفهومها في أفلام على شاكلة: " اليازرلي" للزبيدي، و"الحياة اليومية لقرية سورية" لعمر أميرالاي، و"الفهد" لنبيل المالح.

انتمى مخرجنا الراحل إلى القضية الفلسطينية وتماهى معها، فأخرج عنها أفلاماً، وكتب عنها كثيراً، كما أسس "الأرشيف السينمائي الوطني الفلسطيني" بالتعاون مع الأرشيف الاتحادي في برلين، فضلاً عن كتب ألفها، أبرزها: "السينما التسجيلية واقعية بلا ضفاف"، وكتابه "فلسطين في السينما" الأرشيفي الذي وثق فيه لأكثر من 600 فيلم فلسطيني، كتب عنه الناقد المصري محسن ويفي كتاباً بعنوان "عاشق فلسطين"(1995)، كما وثق سيرته المخرج محمد ملص بكتابه "قيس الزبيدي.. الحياة قصاصات على الجدار"(2019).

عانى قيس الزبيدي من الغربة، أو المنفى مثلما كان يردد: "اخترت أن أعيش مواطناً سورياً، لكني لست سورياً، وعشت فلسطينياً، لكنها ليست وطني، وأنا الآن ألماني، لكن ألمانيا ليست وطني. أنا لست حراً في اختيار العودة إلى أي مكان". أما آن لهذه الروح المبدعة والقلقة أن تعود إلى طينها الحري.

 

الصباح العراقية في

15.12.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004