اللقطات الأولى من فيلم "هوبال" تؤكد أنك أمام محاولة
روائية على شريط سينمائي للتعمق في الهوية السعودية، وإبراز ملامح الصحراء
وروح أهلها بصورة تسرد تفاصيل شديدة العمق والتفرد
تطور ملاحظ شهدته السينما
السعودية،
إذ تصعد بخطوات واسعة على مستوى المواضيع والصورة والموسيقى، وكان فيلم "هوبال"
مثالاً حياً على طفرة جديدة تكسر كثيراً من المقاييس.
وعرض الفيلم بمهرجان
البحر الأحمر السينمائي وسط
حضور جماهيري وإعلامي كبير، وحمل لافتة كامل العدد على رغم عرضه بأكبر
قاعات المهرجان. وربما حمل الفيلم معالم التميز حتى قبل عرضه بسبب مشاركة
نخبة من أبرز النجوم السعوديين في بطولته، على رأسهم النجم المخضرم إبراهيم
الحساوي ومشعل المطيري وميلا الزهراني وحمدي الفريدي وأمل سامي ريفة وريم
فهد وحمد فرحان وغيرهم من النجوم، وهو من إخراج عبدالعزيز الشلاحي، وتأليف
مفرج المجفل.
تعمق بالهوية
اللقطات الأولى من الفيلم تؤكد أنك أمام محاولة روائية على
شريط سينمائي للتعمق في الهوية السعودية، وإبراز ملامح الصحراء وروح أهلها
بصورة تسرد تفاصيل شديدة العمق والتفرد، إذ يعكس "هوبال" مدى احترام
الترابط العائلي وتقديس الأسرة وقوانينها، ففي أعقاب حرب الخليج الثانية
نجد الجد ليام قوي الشخصية، الذي يتخذ القرارات ويلزم بها الجميع، يقرر أن
يعيش وعائلته البدوية في عزلة تامة في قلب الصحراء، بسبب اعتقاده قرب قيام
الساعة بعد ظهور علامات تؤكد مزاعمه.
وعلى رغم أن القرار شديد القسوة فإن الأسرة تنصاع إليه،
وتتصاعد أزمات الانعزال مع الوقت وتظهر المشكلات تباعاً حتى تصل إلى الذروة
عندما تصاب ريفة، ابنة العائلة، بمرض معد يحتم على الجميع عدم الاقتراب
منها، لكن قوانين الجد تلزم الجميع بالسكوت على رغم الحالة المرضية
للحفيدة، لكن والدتها تفكر في تحدي الجميع لإنقاذ ابنتها.
وفي رحلة الصدام مع قرارات الجد ومرض الحفيدة تنكشف
الشخصيات وأبعادها وصراعاتها، وتتضح الحقائق، لتكشف عن أن الصورة ليست كما
تبدو، بل يملك الجميع أبعاداً أخرى تبرر تصرفاتهم.
يحمل الفيلم أكثر من وجهة نظر وتفسير عند المشاهدة، فقد
تشعر به كحكاية أسرة تواجه الصراع السلطوي الأبوي، وتحاول الخروج من
التقاليد الغابرة لعالم أكثر رحابة، وقد يراه آخرون بوجهة نظر أخرى مثل أنه
يتحدث عن إسقاط مباشر على الفترة الزمنية التي تضمنتها الأحداث، وهي حرب
الخليج الثانية وما تسببت به من تحولات جذرية على المجتمع والناس.
وربما يعكس "هوبال" من خلال صراع الأسرة البدوية مع تقاليد
الجد الصارمة، التي تخشى مواجهة المجتمع الخارجي وتفضل الانعزال، حالة
الخوف عامة لدى الناس من المجهول والرغبة في الحفاظ على التقاليد واتخاذ
العزلة والابتعاد من المجتمع كوسيلة لذلك.
بداية بالصدفة
وبدأت فكرة "هوبال" بالصدفة عندما اجتمع المخرج عبدالعزيز
الشلاحي مع الكاتب مفرج المجفل أثناء فترة جائحة كورونا، وتحدث الشلاحي عن
رغبته في تقديم فيلم يعكس حياة البادية بصورة واقعية ومؤثرة بصورة روائية
وقصصية مؤثرة ومختلفة عما قدم من قبل، وتحدث عن جده الحقيقي وقصصه، وكذلك
حكايات عن انعزال بعض العائلات والعودة للبادية هرباً من زحام المدن
والقرى، وتطرق الموضوع إلى مسألة الحديث عن تنبؤات نهاية العالم وظهور
علامات الساعة التي تعود كل عقد من الزمن من خلال حديث الناس، وكانت أقوى
هذه الحملات بعد حرب الخليج الثانية.
فيلم "هوبال"... محاولة روائية على شريط
سينمائي
تكونت الفكرة لدى المخرج والمؤلف حول العزلة وعلامات الساعة
والصحراء لتخرج في النهاية نسخة عمل تنصهر فيها كل تلك الأفكار بطريقة
روائية مشوقة، وكان البحث عن الصحراء المناسبة للتصوير هدفاً وأولوية، فهي
بطلة العمل الأساسية التي ستدور فيها حكايات عائلة ليام وأولاده وأحفاده،
وجرى التصوير في صحراء بجدة بمنطقة نيوم، وحسم المخرج الأمر لمصلحة تلك
المنطقة بفضل طبيعة الأرض، وتشكيلات الجبال التي ساعدت في خروج الصور كأنها
أسطورة بدوية .
اختيار نجوم العمل كان أبرز عوامل تأثيره فكان اختيار
الفنان إبراهيم الحساوي في دور الجد ليام شديد الدقة، نظراً إلى ما يتمتع
به من خبرة كبيرة وتأثير في الشاشة في كل مشهد، وإن كان صامتاً، ونجح
الحساوي في تجسيد شخصية الجد، الذي يبدو شديد القسوة والصلابة، في حين أنه
يحمل قلباً شديد الرقة ناحية عائلته ويؤرقه الخوف على الجميع، لكنه يخفي
مشاعره في مظهر متعنت لا يلين.
وجسد مشعل المطيري دور الابن شنار، وهو رجل في الأربعينيات
من عمره، تعليمه محدود ويميل إلى الأنانية، على رغم أنه ينفذ أوامر والده،
ويظهر الطاعة الدائمة للتقرب منه. وقدم المطيري شخصية شديدة التعقيد
والأبعاد، لأنه رجل يعاني كثيراً العقد الداخلية والهشاشة، ومع ذلك يظهر
القوة والصلابة حتى لا تنكشف حقيقة ضعفه ورغباته، كما يشعر بأزمة بسبب عدم
إنجابه للأبناء الذكور، لذلك يحاول المبالغة في إظهار نفسه رجلاً قوياً
ومتفوقاً مهما كان الثمن، ولو على حساب تشويه صورة الآخرين.
ازدواجية
الفنان إبراهيم الحساوي، الذي أدى دور الجد ليام، أشار إلى
أن الفيلم كان تحدياً صعباً، بخاصة أن ظروف التصوير والقصة والأحداث ليست
سهلة في كل الأحوال، لكن ثقته في المخرج والنص والتنفيذ كانت عاملاً مهماً
في حماسته لهذا العمل، إضافة إلى نخبة الممثلين، مضيفاً أن كل يوم تصوير
كان حياة كاملة تجمع بين أسرة العمل التي غمرتهم الحميمية والتفاهم.
وعن نجاح الفيلم في بداية عرضه وتفوق السينما السعودية على
مستوى الصوت والصورة والسرد قال الحساوي "لدينا مخرجون مميزون وروايات
عظيمة تحكي عن الهوية السعودية، وتروي قصصنا وواقعنا وتفاصيلنا، وهي جديرة
بالتجسيد، لأنها تعبر عنا وعن تاريخنا وأحلامنا نحن والأجيال القادمة،
ونمتلك كل الإمكانات والدعم حالياً، إضافة إلى مواهب شابة وعملاقة على رغم
صغر سنها تحرز تفوقاً ملاحظاً وسباقاً، لذلك فهذا هو الوقت المناسب لتنفيذ
أكبر قدر من الأفلام والحكايات وتعزيز الأهداف والكوادر الشابة".
ويعود الحساوي للحديث عن فيلم "هوبال" بقوله "تأثرت كثيراً
أثناء التصوير وبعد عرض الفيلم بردود الأفعال التي وجدتها من الناس
وتفاعلهم مع العمل، وقال بعضهم إن الفيلم تسبب في بكائه وتأثرت كثيراً بكل
هذه المشاعر، بخاصة أن الفيلم نجح في توصيل مهمته إلى الناس عبر خليط من
المشاعر والأحاسيس من دون توجيه رسائل مباشرة وصريحة".
وتحدث مشعل المطيري عقب عرض الفيلم أن التجربة كلها كانت
فريدة من نوعها، فهو يتحدث عن الهوية السعودية والصحراء والعزلة وكلها
مواضيع مهمة ومؤثرة.
وعن التصوير قال إن العمل جرى تصوير معظم مشاهده بالصحراء،
وكان الممثلون قبل التصوير يرتدون الملابس، ويضعون المكياج، ويجلسون بموقع
التصوير لأيام من دون تصوير مشهد واحد، لكن ليتم التعود على الشخصيات
والتفاصيل حتى يحين موعد التصوير فيتصرف الجميع بصورة طبيعية وكأنهم عائلة
حقيقية، لدرجة أنه بالفندق الذي كان يسكن به جميع الممثلين بجانب صحراء
التصوير كان الجميع ينادي بعضهم باسمه في الفيلم من شدة التوحد مع العمل،
لهذا ظهر بهذه الصورة، إذ يختلف كثيراً أي فيلم أو منتج عندما تكون الروح
التي تجمع أعضاءه منسجمة ومتفاهمة.
وقال المطيري إن أهم ما يجعله يختار دوراً هو النص ومدى
تماسكه وطريقة السرد وتجدد الحكي والتناول، ولا بد أن يعجب بطريقة الكتابة
وتجذبه، لأنه كممثل لا ينفصل عن كونه قارئاً، وما دام أن النص أعجبه وجذبه
كقارئ، يجذبه بالتأكيد كممثل ويجعله يفكر فيه بصورة إبداعية.
وتحدث المخرج عبدالعزيز الشلاحي عن الفكرة والتجربة بقوله
"على رغم ارتباط الصحراء بالقسوة يفضل البدوي الحياة فيها بدلاً من
المدينة، وهذا كان سبب تساؤلاً دائماً لدي، واكتشفت أن العلاقة بين البدوي
والصحراء ليست مجرد تكيف مع الظروف الجغرافية، بل هي علاقة أعمق وتمثل
تعقيداً كبيراً بين الجوانب الثقافية والاجتماعية والروحية، والأجمل أن هذه
الحياة تعكس طريقة تفكير وأسلوب مختلف، وبالنسبة إلى أي مبدع تعتبر بيئة
غنية بالقصص والأفكار والشخصيات التي تمنح عمقاً كبيراً من خلال علاقتها
بالمكان".
صحافية @nojaaaaa |