ثلاثون عاماً على «حرارة» مايكل مان
شفيق طبارة
مايكل مان (1943)، مخرج سينمائي غريب نوعاً ما. ابن مهاجر أوكراني، نشأ في
شيكاغو، تخرج من مدرسة لندن للسينما، عمل لسنوات في تلك المدينة في صنع
الإعلانات التجارية جنباً إلى جنب مع رايدلي سكوت وآلان باركر وأدريان لين.
ثم في التسعينيات، استقر في لوس أنجلوس وكتب الحلقات الأولى من مسلسل
«ستارسكي وهاتش»
(Starsky & Hutch).
أصبح من أصحاب الوزن الثقيل في التلفزيون كونه المنتج التنفيذي للمسلسل
الشهير «ميامي فايس»
(Miami Vice).
حتى
عام 1992، كان قد صنع أفلاماً عدة، من بينها «لص» (1981،
«Thief»)
و«آخر الموهيكيين» (1992،
«The
Last of the Mohicans»).
لم
تثر هذه الأعمال كثيرين وقتها، ولكن مع الزمن أثبتت حضورها. على الرغم من
موهبته التي لا يمكن إنكارها، وخبرته الهائلة، ومعرفته العميقة بالوسائط
السمعية البصرية، فإن مايكل مان، الذي يضعه البعض بتهور شديد على نفس مستوى
مارتن سكورسيزي أو بول توماس أندرسون، هو أدنى ببعض خطوات من مخرجي هذه
الفئة، وغالبًا ما يخطئ بتقدير طموحاته، ويميل إلى المبالغة في السمات
السطحية لأفلامه لمنحها مظهراً أكبر مما تحتويه. مع شغفه الكبير للسينما،
سيكون من المناسب وضع مان في مكانه الصحيح: مخرج جيد، بأفلام مثيرة
للاهتمام، وأخرى مقبولة، وفيلمين كلاسيكيين عظيمين، الأول «لص» والثاني
«حرارة»
(1995،
«Heat»)،
والأخير هو محاولة ناجحة من قبل المخرج للجمع بين السينما التجارية وسينما
المؤلف.
بالنسبة إلى كثيرين، فإن «حرارة»، هو الفيلم الي يلتقي فيه اثنان من أعظم
الممثلين في تاريخ السينما الأميركية وجهاً لوجه للمرة الأولى (شهدا منذ
ذلك العام، انحدارًا لا يمكن إيقافه، مع بعض الاستثناءات). كانت رؤية روبرت
دي نيرو وآل باتشينو في الفيلم نفسه، سببًا كافيًا لدفع ثمن التذكرة
ومشاهدة الفيلم، بالإضافة إلى فال كيلمر، توم سيزمور، أشلي جود، جون فويت،
ووس ستودي، والعديد من عظماء هوليوود إلى درجة أنّ سردهم جميعًا سيستغرق
وقتًا طويلًا. انطلاقًا من حبكة أُنشئت في الأصل للتلفزيون، يعيد مايكل مان
صياغة السيناريو ويثريه بشخصيات وقصص أخرى، ويصنع واحدًا من أهم الأفلام في
مسيرته.
بعد
عملية سطو لسيارة مدرعة، انتهت بمذبحة، تنحرف القصة ببطء، وبالتالي تبتعد
عن فكرة جريمة وعقاب، لنواجه نظرة أكثر عمقاً ونقداً للشخصيتين الرئيسيتين:
المحقق فينسيت هانا (آل باتشينو)، الغريزي والمبالغ دائماً، واللص نيل
ماكولي (روبرت دي نيرو)، البارد والقاسي. تتناوب الحبكة بين فريق من اللصوص
يخطّط لسرقته التالية، وفريق الشرطة المكلف بإحباطها. وعلى الرغم من وجود
بعض مشاهد الحركة المعقدة والمصمّمة بشكل مثالي، فإنّ الأكثر إثارةً
للاهتمام هو الطريقة التي نفهم بها أنّ البطلين يشتركان في أشياء أساسية:
الدقة في ما يفعلانه، التفاني، الكفاءة، فضلاً عن عدم الكفاءة في مجالات
أخرى من الحياة.
يتعمق الفيلم في نفسية شخوصه، ويروي حياتهم وعلاقاتهم وأحاسيسهم وعواطفهم،
وبالتالي يقدّم صورةً أوسع لوقت وزمان وتاريخ محدد: التسعينيات، إلى جانب
موضوع أكبر من قصة قطّ وفار: الخوف الذكوري من الالتزام العاطفي، هشاشة
علاقاتهم، وعبء الوحدة التي يعيشونها، وانفصالهم التام عن بقية العالم الحي.
في
«حرارة»، الذي سوف نحتفل بمرور 30 سنة على إنتاجه السنة القادمة، والذي
يُعرض حالياً في «مهرجان البحر الأحمر السينمائي»، يخالف مان قواعد قصص
المباحث التقليدية، أولاً في المدة (أقل من ثلاث ساعات بقليل)، وفي بناء
القصة التي هي أقرب إلى ملحمة مأساة يونانية. تتجاوز قصة الفيلم حدود توتر
الصدام، وتركز عدسة مان لفترة طويلة على الأحداث «الأخرى». يراقب ويدرس
حياة أولئك الذين يتفاعلون مع أبطال القصة من الناحية الأنثروبولوجية.
من
المشهد الأول، بين فينسيت وهانا وزوجته جوستين (ديانا فيرونا)، نرى مقدمة
لعلاقة صراعية بين العمل والحياة الخاصة. فينسيت فرد متطرف ومطلق، خال من
القدرة على أن يكون في الوسط، رجل صريح، يجد الحقيقة التي يبحث عنها ويحتاج
إلى العثور عليها لتغذية حياته، فقط في الانخراط العاطفي الكامل، وفي
الانغماس المطلق. فينسيت هانا، هو نوع من الأشخاص الذين لا يستطيعون
التعبير عن مشاكلهم، وعليه أن يكتمها في داخله، لأنها تبقيه متيقظاً،
«ليكون مستعداً دائماً للانطلاق».
إن
هانا، رجل منغمس تمامًا في عمله، ويفتتن به، يصبح جزءاً منه، ويستوعبه،
وبهذه الطريقة يسمح له بأن يدمره. في المقلب الآخر، نجد نيل ماكولي، ذلك
اللصّ المحترف الجاد والهادئ. نادرًا ما يبالغ، نظرته تساوي ألف كلمة. يخفي
وراء مظهره الخارجي البارد شغفاً متقداً بإيدي (إيمي برينمان). هناك عبارة
يكررها ماكولي مرتين، يشير إلى حقيقة مفادها أنّ شخصاً مثله لا يمكنه
السماح لشيء بدخول حياته إذا لم يستطع الانفصال عنه في غضون ثلاثين ثانية.
هذا يشكل حجر الزاوية في وجود ماكولي.
وبالنسبة لمايكل مان، من الأهمية بمكان أن يجد ماكولي نفسه في مواجهة هذه
الاحتمالية، في نقطة معينة، لفهم ما إذا كان متماسكاً مع نفسه أم أنّ الحب
والعاطفة يمكن أن تجعله يتعثّر عند مفترق الطرق. وتجد هذه القصة بأكملها
قصتها التوأم، مع فينسيت وزوجته.
«كل
ما أنا عليه هو ما أسعى إليه»، يقول فينسيت بحزم بينما تتعافى ابنة زوجته
في المستشفى بعد محاولة انتحار. قد تمر العبارة، المخفية في سحابة من
المشاعر، من دون أن يلاحظها أحد، لكنها رصينة في تلخيصها لشخصيته. لا يكمن
دافع فينسيت في الحتمية الأخلاقية للحماية والخدمة، كونه شرطياً، بل في
الاندفاع الغريزي للصياد. والنتيجة هي نفس قاعدة ماكولي: العزلة التامة. لا
يمثل هذان الرجلان وجهين لعملة واحدة – القانون والجريمة – لكنهما متحدان
بقراراتهما الواعية والمدروسة لعزل نفسيهما.
إن
مشاهد التشويق والحركة العظيمة في البناء والصوت مثل مشهد سرقة المصرف،
تشكل قوة ثانية للفيلم. إن الحجم السينمائي للفيلم، الذي يضم مشاهد الحركة
وإطلاق النار مذهلة، ومدينة لوس أنجلوس وطرقها وميناؤها وأحياؤها الممتدة
مثل حبكات فرعية في الفيلم، والهواء الذي يترك حرًا في اللقطات القريبة،
يسلط الضوء على التباين، ويجعل قصة الفشل الداخلي أكثر وضوحًا. يصور مايكل
مان قصة أكبر من مجرد مطاردة، هي أشبه ببحث لا إرادي وغير واعٍ تقريباً بين
رجلين ينتهي بهما المطاف إلى الاقتراب من بعضهما بطريقة حتمية. مان مخرج
موهوب في بناء «الحدث».
«حرارة»
فيلم ضخم مخادع، مقياسه ساحق في الطول والعرض، بفضل نصه المشابه للنسيج،
المحسوب بالملليمتر ولكنه طبيعي أيضًا. ولكن كل هذا الإنجاز الجمالي يخفي
أعظم إنجازاته: القدرة على تصوير الفكر، وتصوير القرار البشري. يقول مايكل
مان: ««حرارة» هو فيلم درامي، وليس فيلماً من نوع معين – أي بوليسي – إن
حبكة المجرم والمحقق تختلف في البداية عن قصصهما الشخصية، ولكنها تندمج بعد
ذلك في القرارات المصيرية التي يتعين على كل منهما اتخاذها».
في
الفصل الأخير، بعد ما يقرب ساعتين ونصف من الفيلم، هناك مشهد حيث يقود
ماكولي سيارته بصمت مع المرأة التي وقع في حبها، إيدي، نحو الحرية. لقد
فشلت آخر سرقة له، والتي كانت لتكون الأخيرة على الإطلاق، لأن شريكًا
قديمًا خانهم. لكن نيل تمكن من إنقاذ ماء وجهه وجلده، واقنع ايدي بالفرار
معه، ويتجهان نحو المطار. في الطريق، تصله مكالمة، تخبره بمكان الخائن.
يدير نيل عجلة القيادة ويحاول أن يكون طبيعياً «يجب أن أهتم بشيء ما، هناك
وقت».
في
تلك اللحظة الصغيرة، تُحلّ الدراما الملحمية للفيلم، من عنفه المذهل إلى
معضلاته الأكثر خفاءً، مع الحفاظ على التكوين الأمامي للقطة على مقصورة
السيارة، بينما تدخل نفقاً مضاءً بضوء أبيض، يرسم وجه نيل ابتسامة لا تستمر
إلا لبضع ثوانٍ، لتتحول بشكل خفي وعابر إلى تكشيرة مرارة. الطريقة التي
يميل لها برأسه، والتعبير على وجهه، وإشارة يده، والسرعة التي ينطق بها
سطره، والقرار الذي يتخذه، هو أسلوبه في قول الحقيقة. لقد كان كبرياؤه
الجريح، وإحساسه الغريب بالعدالة، وتعطشه للانتقام، أقوى من إرادته.
لقد
كان أكثر قيمة بالنسبة إليه من حياة جديدة مع حبيبته. وبعد القضاء على
الخائن، يلتقط الفيلم مشهدًا آخر من النقاء السينمائي المطلق عقب هذه
الهزيمة الحيوية. يعود نيل إلى السيارة لمواصلة هروبه مع إيدي، في نفس
اللحظة التي يصل فيها المحقق فينسنت لقطع هروبه. في أربعين ثانية، هناك سبع
لقطات بدون حوار تكثف المأساة: الأولى، يلمح هانا نيل وتلتقي أعينهما.
الثانية، يدرك نيل خطأه المميت، لا، لم يكن هناك وقت. الثالثة، ينظر نيل
إلى إيدي، الآن نعم وفقاً للانضباط عليه التخلي عنها. الرابعة، تعيد إيدي
نظرها، غير مصدقة في البداية. الخامسة، تخرج إيدي من السيارة وتنظر في عيني
نيل وتتحدى قراره. السادسة، يستجيب نيل بالابتعاد عنها، وفقاً لقاعدة
«ثلاثون ثانية». السابعة والأخيرة، تفهم إيدي كل شيء، تفهم أن حبها، كان
خاضعاً لشرط، هذا الرجل البارد والدقيق مثل الأسلحة التي يستخدمها، لم
يتمكن من التغلب على غروره الجريح.
غالباً ما يُذكر فيلم «حرارة» بمشهد الحوار الاستثنائي بين دي نيرو
وباتشينو في مقهى في وقت متأخر من الليل. ولكن قبل تلك اللحظة الكلاسيكية
من السينما الحديثة، هناك مشهد قصير للغاية يجسد الروح المأساوية للفيلم.
يعود هانا إلى منزله في الليل، لا أحد ينتظره. المطبخ عبارة عن مكب للأطباق
المتسخة التي تراكمت على مدى أيام. وفي الطابق العلوي، تستعد زوجته، مرتدية
ملابس السهرة للخروج، بدونه بالطبع. في صمت لائق، يعود هانا إلى المطبخ،
ويفتح الصنبور، جاهزاً للتعامل مع المهمة، ويتوقف، لا يعرف من أين يبدأ.
تتدفق المياه. يغلق هانا الصنبور، ينظر إلى ساعته، ويغادر المنزل. ينتقل
المشهد إلى قمرة القيادة لطائرة مروحيّة تحلّق فوق الطريق السريع في مطاردة
سيارة نيل. هنا مرة أخرى، يكمن جوهر الفيلم الدرامي. الرجال قادرون على
تحريك الجبال والمخاطرة في حياتهم في ملاحقة أهدافهم، ومن ناحية أخرى، لا
يستطيعون تحمّل ثقل العلاقات الإنسانية. |