لا أبالغ إن قلت إن العام الحالي شهد عودة السينما المصرية
بقوة بعد ما يزيد عن عقد من التخبط، فبعد سنوات من الحديث المتكرر عن
الأزمة المستمر وندرة الأفلام الجيدة، عشنا أخيرًا عامًا يمكن وصفه
بـ«الصحي» على كافة المستويات، عُرضت خلاله قائمة كبيرة من الأفلام التي قد
تتفق أو تختلف معها، لكنها بالتأكيد تستحق المشاهدة والتدبر والنقاش.
على صعيد المهرجانات الدولية فاز الوثائقي «رفعت عيني
للسما» لندى رياض وأيمن الأمير بجائزة أحسن فيلم وثائقي في مهرجان كان،
وعُرض «شرق 12» لهالة القوصي في نصف شهر المخرجين، بينما اختير «البحث عن
منفذ لخروج السيد رامبو» رسميًا في مهرجان فينيسيا، واستأثر فيلما
«دخل
الربيع يضحك»
لنهى عادل و«أبو
زعبل 89»
لبسّام مرتضى بسبع جوائز كاملة في مهرجان القاهرة، كما لفت «مين يصدق»
الفيلم الأول لزينة عبد الباقي الانتباه.
أما على مستوى السينما التجارية فبدأ العام بالنجاح الضخم
لفيلم شبابي بلا نجوم صف أول هو «الحريفة» لرؤوف السيد مما جعل منتجوه
يصورون سريعًا جزءًا ثانيًا سيُعرض قبل نهاية العام في حدث نادر بعرض جزئين
من فيلم خلال عام ميلادي واحد، وعاد هاني خليفة بعمل ناضج هو «رحلة 404»
اختارته مصر ليكون مرشحها للأوسكار، بينما حطم «ولاد رزق 3: القاضية» لطارق
العريان الأرقام القياسية في شباك التذاكر مُدشنًا لحقبة جديدة في دعم رأس
المال السعودي للأفلام المصرية، وخطفت هبة يسري القلوب بفيلمها الأول
«الهوى سلطان» محققة نجاحًا تجاريًا يفوق المتوقع لنوع الفيلم صاحبته إشادة
نقدية كبيرة.
هذا التنوع الواضح في الشكل والسياق الإنتاجي والمضمون
لأفلام جادة تستحق المشاهدة يخبرنا أن المياه بدأت أخيرًا في التحرك تحت
الجسور، وأن المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها المنطقة بدأت
تؤتي بثمارها بصور مباشرة وغير مباشرة على صناعة السينما، لكن ما يهمنا هنا
هو الفن نفسه، الذي لا ينمو ويتطور إلا بالتنوع ومحاولة خوض مساحات جديدة
مغايرة للسائد، لذلك نقول إن هذا العام الاستثنائي في السينما المصرية كان
بحاجة لأن يكتمل بفيلم مثل «ضيّ: سيرة أهل الضيّ» لكريم الشناوي، والذي
اختاره مهرجان البحر الأحمر ليفتتح دورته الرابعة قبل ساعات.
الفيلم العائلي.. أوهام وحقائق
نادرة هي الأفلام المصرية التي يُمكن وصفها بالعائلية دون
تحفظات، لا وفقًا للحسابات الرقابية البالية التي تُصنّف الأعمال عمريًا
وفقًا للعبارات واللقطات، ولا وفقًا للتصنيفات الإعلامية التي تُسارع وتصف
كل فيلم يشارك في بطولته طفل بالعائلي بينما موضوعه أبعد ما يكون عن ذلك،
سواء لأنه يطرح موضوعًا يهم البالغين فحسب (كفيلمي عمرو سلامة «لا مؤاخذة»
و«بره المنهج»)، أو لأنه يخاطب عقول الأطفال الصغار حصريًا (كفيلم «سُكر»
الذي يعرض البحر الأحمر جزء الثاني ضمن برنامج أيضًا).
نقصد بالعائلي الفيلم الذي يُمكن أن يشاهده جميع أفراد
الأسرة بلا استثناء أو تنازل عقلي، يشاهدونه بانفتاح ويناقشونه إن أرادوا،
ويجد كلٌ منهم فيه ما يهمه ويدفعه للتفكير، ويحرك مشاعره كذلك، ولعل هذا هو
أميز ما في الفيلم الذي كتبه هيثم دبّور (مؤلف فيلم الشناوي الأول «عيار
ناري»)، وتحمس المخرج والمؤلف لإنتاجه معًا لينضم لهما لاحقًا شركاء وجدوا
ما يستحق في هذه المغامرة الإنتاجية.
كل ما في الفيلم مغامر، انطلاقًا من موضوعه الذي يتابع طفل
ألبينو (عدو الشمس) من إحدى قرى النوبة، يعاني من تنمر زملائه وحماية أمه
المرضية له، يحلم بأن يحقق حلمه في أن يصير مغنيًا كمثله الأعلى محمد منير،
حتى تأتيه الفرصة ممثلة في المشاركة بأحد برامج المواهب، ليخوض رحلة طويلة
من أقصى جنوب مصر إلى القاهرة بصحبة معلمة الموسيقى الشابة وأمه وأخته التي
تشعر بالغيرة من تدليل الأم له.
لاحظ قدر التحديات الإنتاجية التي يخلقها الملخص: بطل طفل
ذو مظهر خاص، لا مساحة لدور رئيسي يلعبه أحد النجوم، أحداث يدور أغلبها
خارج العاصمة، في مواقع خارجية هائلة العدد تتناثر بين مدن مختلفة لم تعتد
شوارعها التصوير السينمائي، لا يوجد موقع تصوير واحد يتكرر في أكثر من
مشهدين أو ثلاثة، ناهيك عن أهمية حضور الأغنيات والموسيقى في كل مراحل
الفيلم، بكل ما يرتبط بها من تكاليف للحقوق وضرورة للتوظيف بعناية تفيد
الحكاية ولا تضرها.
لذلك لا يمكن وصف صناعة «ضيّ: سيرة أهل الضيّ» إلا بالإنجاز
الإنتاجي في ظل الظروف الراهنة لصناعة السينما، خاصة وأن كل الداعمين ذوي
الأسماء اللامعة الذين يظهرون على شارة البداية انضموا للرحلة بعدما بدأها
أصحابها بالفعل، وكأن مسيرة الفيلم الإنتاجية توازي مسيرة أبطاله: تبدأ
بالكثير من الشكوك في مشوار يبدو غير قابل للاكتمال، وتنتهي وقد غيرت
الرحلة الكثير في عالم كل من شارك فيها.
تحدي الطريق
ينتمي «ضيّ» بطبيعة الحال إلى أفلام الطريق
Road Movies،
التي تقوم الدراما فيها على رحلة يقطعها الأبطال، مُقسمة إلى محطات تشغل
كلٌ منها مساحة من زمن الفيلم، تبدأ الرحلة دومًا بتصور خاطئ عن بساطتها،
قبل أن يكتشف أصحابها بالتجربة أن عليهم تجاوز مصاعب عديدة، خارجية
وداخلية، إذا ما أرادوا تحقيق أهدافهم التي تتغير هي الأخرى في خضم الرحلة،
فتكتشف الشخصيات أن ما امتلكوه من أهداف
Goals
يُخفي تحته ما يطاردونه حقًا من حاجات
Needs.
يتعامل هذا البناء القياسي عادة مع شخصية أو اثنتين، لكن كريم الشناوي
وهيثم دبّور يصعبان المهمة على أنفسهم بمضاعفة العدد وجعلنا نتابع أربع
رحلات داخلية تجمعها رحلة خارجية واحدة.
ضيّ (بدر محمد) يطارد حلم الغناء، لكنه في الحقيقة يفتش عن
اعتراف الآخرين به، عن عالم لا يضطر فيه للاختباء كلما خرج من المنزل أو
يتعرض فيه للتنمر والإهانة في كل مرة يذهب فيها إلى المدرسة. عالم لا يطلب
منه المدير أن يبقى في بيته درءًا للمشاكل وسيتم إنجاحه دون جهد وكأنه
يخبره ضمنًا أن تعليمه من عدمه لن يفرق كثيرًا مع طفل بلا مستقبل. باختصار
عالم يُعامل فيه كإنسان كامل له حقوق وعليه واجبات، وليس كحالة خاصة تستوجب
التعاطف والتوجس من قبل الجميع.
الأم (إسلام مبارك) مُبتلاة بالتهميش، في قريتها وعملها
وأبنائها، تخوض حروبًا صغيرة لانتزاع القروش من السادة وتحلم بأن تعيش في
سلام، حتى لو كان الثمن هو أن تحجب ابنها عن العالم للأبد وتحرمه من أن
يخوض تجربة الحياة ومتاعبها. سلوكها الوقائي لا يعوق حياة ضيّ وحده، بل
يؤرق كذلك أخته (حنين سعيد)، التي تشعر أنها تعيش في ظل هوس أمها بالطفل
شاهق البياض، ليتراكم داخلها شعورين متناقضين من محبة الأخ البريء والغيرة
منه.
أما
المُعلمة (أسيل عمران) فتُمثل نوعًا مهذبًا من التمرد، صعيدية شابة تحلم
بكسر جمود عالمها والخروج منه بصورة مقبولة اجتماعيًا، مُحمّلةً الصبي
الموهوب بمسؤولية المساهمة في طموحها المشروع.
عن التفهم والتجاوز
تسير الرحلات الشخصية الأربعة بالتوازي، تتقاطع السبل
وتتصادم الإرادات وتتوافق المصالح أحيانًا، تخدم الظروف جماعتنا المهاجرة
شمالًا في بعض الحالات وتقف في وجههم في حالات أخرى. لكن أبرز ما يقدمه
الفيلم خلال الرحلة هو تفهم تلك الظروف وأصحابها في كل الأوقات، فسواء تقف
الشخصية التي يقابلها أبطالنا في صفهم أو تساهم في تعطيل مسيرتهم، لا يقدم
الفيلم ما يحدث أبدًا باعتباره فعلاً شيطانيًا يأتي من أشرار الفيلم (لو
استثنينا أول عقبة يقابلها الأبطال ربما)، وإنما هي أفعال آتية من بشر
يخوضون هم الآخرين رحلتهم المليئة بالمتاعب.
فعندما يرفض سائق ميكروباص السماح لأربعة ركاب بشغل سيارته
على وعد بحساب متأخر لن يأتي منطقيًا فهو فقط يدافع عن الجنيهات القليلة
التي يعمل من أجلها، لكنه لا يفقد رغبته في تقديم المساعدة ولو في صورة
اقتسام وجبته البسيطة مع الطفل الجائع. وعندما يتعنت محصل التذاكر مع امرأة
اعتقد أنها تحاول خداعه كان يطبق القانون الذي لا يعلم واضعه بما مرت
الأسرة به من أحداث، لكنه سرعان ما يتجاوز ويتعاطف هو الآخر عندما يرى
وجهًا آخر للوقائع.
هكذا تتوافق دراما الفيلم مع طرحه الفكري، الحالم قليلًا،
حول قدرة البشر على تخطي ضعفهم الأبدي والعيوب الخلقية لأجسادهم وعالمهم،
فقط لو امتلكوا القدرة على الحلم وآمنوا بقدرتهم على تجاوز هفوات البعض
يمكنهم أن يعبروا المصاعب معًا، بل وستفاجئهم الحياة حينئذ بتدخل سحري،
يأتي دون ترتيب مسبق ليعيد ترتيب الأوراق ويسمح للحلم أن يتحقق، كالطريقة
التي يجتمع بها شمل الجماعة بعدما تأكدنا من افتراقها، أو بالصدفة القدرية
التي يقابل من خلالها ضيّ نجمه المفضل، محمد منير، في اللحظة التي بات
مؤمنًا بأن أحلامه ذهبت أدراج الرياح.
في حب الملك
هنا يُقدّم كريم الشناوي وهيثم دبّور تحية بالغة العذوبة
لمنير، الملك المتوّج على قلوب محبيه، الذي كُرِّم مرات لا تُعد، لكنني
أؤمن أنه سيجد في حكاية ضيّ تكريمًا من نوع خاص، يمنحه ما يستحق ليس فقط
كأسطورة موسيقية مستمرة منذ نصف قرن، ولكن كأيقونة تُلخص قدرة الأحلام على
التحقق، فلو تجاهلنا لون البشرة الذي لم يختره ضيّ، ربما يكون لقائه بمنير
لحظة اجتماع سحرية للماضي والحاضر والمستقبل معًا. لحظة يُحدث فيها الفيلم
ذلك الشعور النادر بالنشوة، الذي يعيش صناع الأفلام يحلمون بتحقيقه في
أعمالهم ولو لثوانٍ.
هنا تكتمل دائرة الشريط الصوتي العذب الذي اختاره كريم
الشناوي لفيلمه، والمليء بأغنيات منير الخالدة. اكتمال لا بد وأن يذكرنا
بتوظيف مقارب أقدمت عليه المخرجة هبة يسري في «الهوى سلطان». تزامن العملين
قد يشير لتجاوز آخر أبطاله جيل جديد من الفنانين توقفوا عن التعامل مع
النوستالجيا باعتبارها قرينة أغنيات أم كلثوم وعبد الحليم، ليستبدلوا بها
أغنيات أحدث من الطبيعي أن ترتبط بها شخصياتهم بمنطق الزمن. لعل هذا
الاندفاع غير الخجول نحو تراث الثقافة الشعبية الحديث نسبيًا هو أحد
الظواهر الصحية في سينما هذا العام يحتاج رصدًا أكثر عمقًا.
وفي النهاية
سواء كنت رجلًا تجاوز الأربعين ككاتب هذه السطور، او امرأة
تعاني في حياتها اليومية، أو طفل يمتلك أحلامًا سقفها السماء، أو أي تصوّر
آخر لمشاهدي الفيلم، فستجد «ضيّ: سيرة أهل الضيّ» على الأغلب يخاطب شيئًا
داخلك. لا يأخذ حلمك أو واقعيتك أو حتى ضعفك باستخفاف، فقط يطلب منك أن
تؤمن لساعتين بإمكانية تجاوز اللحظة الراهنة إن كانت سيئة، والاستمتاع بها
إن كانت سعيدة، وفي النهاية كل اللحظات الحلوة والمرة ستنقضي، وسيبقى صوت
أغنية جميلة عالقًا في الذاكرة. |