«ريش»…
الصوت كزمن.. الصوت كمكان
رامي عبد الرازق
حين بدأت السينما صامتة لم يكن هناك سوى تأثير الصورة
المرئية فقط على المتفرجين، وحين جلس عازف البيانو بجانب الشاشة ليضيف
اللمسة الصوتية المصاحبة، بدا وكأن ثمة شيء كان مفقودًا وعُثِر عليه.
كأن الأصوات موجودة داخل الصور، لكنها محبوسة خلف الصمت
التقني، ويمكن القول إن السينمائي قد تعلم أن الصوت موجود داخل نظرات
العيون، وخلف اللمسات أو الإشارات، حتى أنه كان يمكن سماع صوت ارتطام أجساد
الممثلين في المطاردات على الشاشة. لكن ظل افتقاد الحضور الفيزيائي للصوت
يشبه احتقان ملح لضمان أن تقترب السينما أكثر من مادة الأحلام التي صنعت
منها، فحتى الأحلام تحتوي على أصوات من كل الأشكال، وإذا كانت السينما هي
القدرة على أن يشارك الفنان أحلامه مع الأخرين – والمقصود هنا ما يراه
بالفعل في مخيلته ونومه وحتى كوابيسه- فلماذا لا يكون لديها القدرة على أن
تهجس بالصوت أيضًا.
بدا أن تشارلي شابلن يرى أن السينما حين نطقت صارت (تنهق)،
أما المخرج السوفيتي ميخائيل رووم فقد أشفق على الفن الجديد من أثر الكلمة
المنطوقة، إذ رأي أننا – المشاهدين وصناع السينما على حد سواء-سوف نعاني من
مرحلة الاعجاب الزائد عن حده بالكلمات، لأنه حين نتوقف عن الاقتصاد فيها،
سوف تصبح شخصيات الممثلين عندنا ثرثارة، بل وأحيانا سيصبح الفيلم كله عبارة
عن حوار محكي من دون عناية بالصورة ودورها في الحكي، وهو ما ينطبق بسهولة
على معظم إنتاجات السينما المصرية عبر سنوات عمرها الطويل باستثناء تجارب
فردية معدودة، أو تيارات حداثية مغايرة قليلة، أرادت أن تحرر شريط الصوت من
اتكاءات الحكي التقليدية التي أثقلته لعقود طويلة، مثل تيار الواقعية
الجديدة الذي ظهر مع بداية الثمانينيات وتلقف ميراث الثرثرة وحاول أن يقذف
به بعيدا الشاشة.
استمرت السينما التجارية في مصر في مجمل تجاربها العديدة
(تنهق صوتيًا) على حد تعبير شابلن. لكن بحكم قانون الانتخاب الطبيعي، ظهر
جيل جديد من السينمائيين وبداخله جينات التمرد التي تفرز الغث من الثمين
تلقائيا، سواء بحكم الشغف، أو الرغبة في تحقيق منجز مغاير حتى على مستوى
الميراث الإبداعي الذي تركه جيل الواقعيين الجدد قبل نصف قرن تقريبًا.
يمكن اعتبار فيلم «ريش» للمخرج الشاب عمر الزهيري أكثر عمل
أول أثار ضجة خانقة خلال السنوات العشر الأخيرة، منذ حصوله على الجائزة
الكبرى لبرنامج أسبوع النقاد ضمن مسابقات مهرجان كان 74 عام 2021، وبعدها
أزمته الشهيرة عقب عرضه في مهرجان الجونة في دورته الخامسة من نفس العام،
والتي تفاقمت نتيجة اتهامات تافهة وغير موضوعية أو نقدية، مستندة في غالبها
إما عن خواء فكري وشعوري، وإما عن ذوق شخصي – ظلامي النزعة- يخرج من دائرة
التلقي الفردي إلى محاولة فرض رأي عام دون منطق أو نفوذ ثقافي حقيقي.
وبالطبع مثل كل الأزمات المفتعلة المرتبطة بمرحلة هبوط في
منحنى الجرس الحضاري، انتهت الزوبعة الرديئة، وبقي ريش نموذجًا لمغامرة
العمل الأول بكل طموحاتها التقنية وجرأتها الشعورية، واشتغال الفيلم الصوتي
المغاير، ورغبته في تحريك ماء الذهن الراكد، وتشتيت الغبار عن الذائقة
المتشققة من أثر الجفاف الإبداعي في عصر عقيم.
إيزيس ورفرفة الدجاجة
عادة ما يفتقد كثير من الأعمال الأولى إلى بريق الأصالة،
ونعني بها طزاجة الطرح عبر المعالجة السينمائية والبصرية والصوتية للموضوع،
وليس الموضوع في حد ذاته، فالفيلم على سبيل المثال يحكي قصة شديدة
التقليدية بأسلوب متفرد وحداثي يعكس فهم اجتماعي وسياسي عميق وتشبع تراثي
وثقافي هادئ ومتزن، وتجديد مبني على معرفة واتقان تقني.
لدينا زوجة يختفي زوجها في ظروف غامضة، تاركًا إياها تواجه
سكاكين الظرف الاجتماعي الحاد، بينما تحمل ذراعها رضيعًا، وتجر يديها طفلين
في مرحلة النمو، فلا تجد أمامها سوى العمل في مهن متواضعة وإخراج واحد من
أطفالها من المدرسة لكي يصبح عائلًا صغيرًا للأسرة الكبيرة مضحية بطفولته،
فتتعرض للقهر الطبقي والاضطهاد الإداري من قبل الجهاز الوظيفي للدولة
ممثلًا في المصنع الذي كان يعمل به زوجها الغائب، ويصبح جمالها الخشن
الشحيح عرضه للتحرش من قبل صديق للزوج يراها قطعة لحم – أو عضمة طرية في
تصور أقرب واقعية لنحافتها الشديدة- إلى أن يعود الزوج مرة أخرى، مُدمرًا
كخرقة محترقة، بينما تكون حياتها قد انتظمت وتشكلت، ووجدت في استقلالها
المادية هي وأولادها ما يرمم كرامتها وروحها وبيتها الكالح الصغير، مما
يمنحها استغناءً مُرضيًا عنه وقدرة على ذبح الدجاجة التي تحول إليها الزوج.
حكاية ميلودرامية بامتياز، تحولت من فرط تكرارها إلى نمط
مترهل من الصعب أن نتصور انها تحتوي على أي إنزيمات للأصالة يمكن
استخلاصها. ولكن الأًصالة كما أشرنا ليست في الموضوع نفسه، ولكن في إعادة
إنتاجه عبر معالجة ذات رؤية حادة في اختلافها، هذه الرؤية لم تنسحب فقط على
المكون البصري للفيلم؛ بل امتدت وبشكل عضوي إلى تشكيل شريط صوتي يناسب
الفرضية العبثية التي أطلقها في وجه المكون الميلودرامي لأصل القصة.
اول ما فعله الزهيري – بالتعاون مع السيناريست أحمد عامر-
أنه أطلق فرضية سوريالية وشدية الواقعية في آن من فرط شعوبيتها. افترض
الزهيري أن الزوج الذي اختفي أو هرب أو تسلل أو حتى اختطف قد تحول إلى
دجاجة (فرخة باللفظ المصري).
دجاجة بيضاء وليست حمراء – وللدجاج الأبيض دلالة شعبوية
أخرى في القاموس المصري تخص كونها دجاجات تنمو بالهرمونات المصنعة لكي
يتضاعف حجمها، ولكنها في المقابل تسبب العقم أو الضعف الجنسي لدى آكليها من
الذكور.
ولكن قبل أن نسير وراء المفاجأة التي تتأرجح ما بين العبث
والواقعية السحرية والإثارة الأجتماعية، دعونا نذهب للطرف الأخر من
المعادلة وهي الزوجة/ الأم، فهي كما يقدمها الفيلم امرأة ضامرة الأنوثة،
خشنة التفاصيل وجهًا وجسدًا، صامتة، مستسلمة، (حَمولة). سيدة منزل من
الدرجة الأولى، مطيعة، طيعة، طيبة، وحنون، ومخلصة، ومثابرة، ولها من الجلد
والقوة الداخلية ما يجعلها تحتمل كل ما سوف تتعرض له من مُهلكات إجتماعية
وإنسانية، من قبل حتى أن يرقد زوجها في التابوت الذي سوف يحوله إلى دجاجة
أثناء عيد ميلاد واحد من أولاده، ضمن فقرة الساحر الشعبي الذي جاء ليقدم
(نمرته) فحول الأب إلى دجاجة وهرب.
يقدم لنا الزهيري بطلة فيلمه – وهي بطلة بالمفهوم الدرامي
لأن زمام الأفعال والقرارات وردود الأفعال ينتقل إلى يدها من لحظة اختفاء
الزوج/
الأب-. يقدمها المخرج في كادرات تستدعي لها صورة أيقونية لإيزيس، الربة
المصرية الشهيرة والخارقة والأم مطلقة الأمومة، بينما تحمل على يدها طفلها
الرضيع حورس طوال الوقت، تسقيه الحليب الذي يحبه الأب أيضًا.
هي إيزيس ديستوبية، تشبه البيئة الزمانية والمكانية للفيلم
التي قُدمت بصورة أقرب لأجواء نهاية العالم أو مدن ما بعد الكارثة الكبرى.
لا يمكن فصل ظهور الزوجة في هيئتها الإيزيسية عن تطوع الأب
للنوم في تابوت الساحر خلال حفل، تمامًا كما في الأسطورة المصرية القديمة،
حين وقع أوزوريس في الخديعة ونام في التابوت الذي أدى لمهلكه، ثم اختفاء
الأب الغريب والعبثي وغير المفهوم، وتحوله إلى دجاجة بيضاء، تتجه إلى حذاء
الأب لكي ترقد فوقه، كأنها تعلن أنها لا تزال تملكه أو تشير إلى كونها هي
الأب في صورته الجديدة أو الحقيقية.
ثم تبدأ رحلة البحث عن الزوج/ الأب عبر محاولة استرجاعه من
هيئة الريش إلى صورته الإنسانية الأولى، ولكن في مقابل رحلة أيزيس الشهيرة
لجمع أشلاء زوجها، تخوض إيزيس التي لا تملك قدرات الآلهة رحلة أخرى تناسب
نهاية العالم، أو نهاية الزمن الاجتماعي الذي نعيشه في الحظة الراهنة
كبقايا مجتمع إنساني مهدم وفقير وملوث، كما المصنع الذي تدور أحداث الفيلم
في ساحتة وبالقرب منه في مساكن العمال المتهالكة الذي يعتبر الزوج واحدًا
منهم.
بالمناسبة يمكن أن نشير هنا إلى أن المخرج يختصر فكرة بقايا
المجتمع في النقود القديمة المتهالكة الأوراق باهتة الرسومات التي تتبادلها
شخصيات الفيلم، بفئاتها القليلة – الجنيه والخمس جنيهات- وكأن الدولة أو
النظام بعد تصدعه وشيخوخته لم يعد يطبع نقودًا جديدة، وكأن المتداول فقط هو
ما تبقى من نقود لما تبقى من بشر يعيشون كأشباح منهكة فيما تبقى من المدينة
أو العالم.
نعود لعنصر البحث عن الزوج المفقود أو المتحول. قلنا إن
رحلة إيزيس تتحول هنا إلى رحلة سوريالية في محاولة استعادة هيئة الزوج
البشرية، فتلجأ الزوجة للبحث عن الساحر الشعبي الذي هرب عقب محاولة إعادة
الزوج من دجاجة إلى رجل، ثم اللجوء إلى دجال شعبي يجبرها على الجلوس معه في
الحمام للقيام بطقوس وثنية بالقرب من فتحة المرحاض. والحمام أحد أكثر
المواقع التي تتواجد فيها شخصيات الفيلم بداية من الزوج وأولاده، مرورًا
بسعي الساحر لاستعادة الزوج عبر محاولات مضحكة يحتضن فيها الدجاجة ويهمس
بها بكلمات مطمئنة من أجل أن ترتد رجلًا، بل أن الزوجة في واحدة من المهن
التي تشتغلها نجدها تعمل في مخزن للأدوات الصحية وتنحني يوميًا لتنظيف
المراحيض الجديدة قبل أن تستعمل. ويمنحنا الحمام شعورًا مقصودة إثارته
لدينا بالقرف والتقزز، كأننا في عالم قريب طوال الوقت من الفضلات والبقايا
والروائح العطنة والأمكنة المتسخة غير القابلة للتنظيف، لأن المدينة أو
المكان صار بقعة ملوثة بتراب الجلافة ودخان القسوة والجمود.
كرتون الطفل أوزوريس
يبدأ ريش صوتيًا قبل أن يبدأ بصريًا. على شاشة سوداء نسمع
صوت رجل يبكي بحرقة، لا ندري من هو ولا سبب بكائه ولا زمنه، ثم يختلط
البكاء بصوت مادة سائلة يتم سكبها، فنرجح أنها بنزين أو كيروسين، ويتحقق
ترجيحنا عندما نسمتع إلى صوت اشتعال ثم أصوات صراخ رجل، كل هذا والشاشة لا
تزال سوداء كأنها واقع الفيلم، وواقعنا على حد سواء، وأخيرًا تظهر اللقطة
الأولى؛ رجل يشتعل، ثم جثة متفحمة وسط خراب صناعي عظيم، لمنشأة لا ندري هل
هي مهجورة أم مهملة أم بقايا عالم محطم.
مع انتقال الصورة إلى واقع الأسرة الكالحة، ومع صمت الزوجة
الحمول، وطاعتها غير المشروطة يحتل صوت الزوج مساحة الحوار الشحيحة
الممنوحة للشخصيات، هو فقط الذي يتحدث، كأنه طفل كبير يشاهد الكرتون مع
ابنائه في التلفزيون المتداعي.هل
تذكرون حديثنا عن أهمية المعالجة واستحضار الأصالة في تنسيق البناء الدرامي
للحكاية المكررة في ثوبها الجديد؟
لقد استطاع الزهيري أن يعجن الحكاية الميلودرامية البالية
بالأسطورة التراثية الأكثر تناولا واستعادة، واضعًا إياهم في قالب زمني
ديستوبي وسط بقايا دخانية لمدينة ميتة، لكي يتيح لنا إعادة استبطان الموضوع
في كل ما نراه حولنا من سياقات أجتماعية بالية وإنسانية كاشفة لحقيقة
أساسية: أن ما نعيشه في العصر الحالي هو قيامة طويلة مدمرة للأعصاب، من أثر
الفشل في إدارة الوجود السياسي والبشري بصورة تليق بالتطور الحضاري.
هذا فيلم يبدأ برجل يشعل النار في نفسه في ساحة أطلال غريبة
لمصنع قديم، هو نفسه المصنع الذي نرى دخان آلاته ولا ندري ماذا ينتج أو
يقدم للحياة والمجتمع، كأنه يعمل دون إنتاج، وإلا لماذا يبدو حال عماله
وموظفيه والقائمين على إدارته مغبرة وجووههم، متسخة ملابسهم كأنهم لا
يملكون غيرها، وليس لديهم من أساسيات المدنية ما يمنحهم الحد الأدنى من
النظافة الشخصية والنفسية؟ حتى القائمين على حماية ذلك المصنع – كما نرى في
قسم الشرطة التابع له- يظهرون في هيئة متهالكة ومؤثر صوتي يعبر عن الخواء
العظيم والريح التي تهش التراب البالي.
طبعًا منذ اللحظة التي أشعل فيها البوعزيزي النار في نفسه
قبل أكثر من عقد كامل؛ أمسك لهب الحريق في الجغرافيا والتاريخ على حد سواء،
صار جسده المشتعل مثلًا فاضح الدلالة ومكتمل المجاز. فهل الرجل الذي اشعل
في نفسه النار في البداية هو من دفع الأب إلى أن يختفي أو يتحول إلى دجاجة،
أو يفقد عقله في النهاية بعد أن عثرت عليه الأم/ الزوجة جثة من بقايا جلد
وعيون؟ أم انه هو نفسه الأب في إرهاصة للمصير الذي اختاره لنفسه بعد أن
أعادته الشرطة رغمًا عنه إلى بيته الذي هرب منه، تاركًا بدلًا منه دجاجة
ربما يكون فيها منفعة أكثر.
إذن فقد أضاف الزهيري إلى الحكاية التقليدية والحدوتة
التراثية مجازًا حديثًا نسبيًا في تركيبته التي شكل منها معادلة الفيلم –
أو معالجته كما أكدنا- وهو ما يقودنا بالطبع إلى الحديث عن هذا
الرجل/الأب/الزوج/الدجاجة.
عقب مشهد الحريق الذي لن يتكرر بصورة مباشرة، وإنما سيتكرر
بشكل عبثي في لقطات إحراق ريشات من الدجاجة ضمن محاولة الدجالين استعادته،
يقدم لنا السيناريو شخصية الأب في صورة رجل غريب الأطوار، أنه ليس أوزوريس
صاحب العلم والرؤيا التي انطلقت منها واحدة من أكبر حضارات التاريخ، لقد
تحول في نهاية الزمن أو العالم إلى رجل بسيط، تافه، يبدو مثل طفل كبير،
يحكي تراهات، ويُبقي مصاريف البيت في حصالة قديمة يخرج منها يوميًا، ما
يمنحه بقايا نفوذ باهت على منزل متهالك. أو كما نراه يلقن الزوجة الخنوع
«النهارده وبكره بتنجان»، أي أن طعام الغداء لن يخرج عن كونه ثمار فقيرة
لإطعام معدة أفقر.
هذا الرجل الذي يحكي عن تاريخه الطفولي بفخر شديد في مشهد
شربه للبن مثله مثل الرضيع المستلقي فوق ذارعي الأم يشرب حليبه كي يهدأ
وينام، يحكي الأب أنه وقت ابتعاثه في الخارج – لا ندري أين ولماذا رغم كونه
مجرد عامل متواضع في مصنع خرب- كانوا يحضرون لهم أبقار صغيرة جدًا فوق
الأطباق كي يحلبونها ويشربون منها اللبن ساخنًا، بينما تهز الزوجة رأسها كي
تطمئنه على ثقته فيما يحكيه ولا يعيره أطفاله الآخرون أي انتباه، لأن
التلفزيون المتداعي أكثر تسلية بالنسبة لهم منه. بينما يؤكد لنا شريط الصوت
الذي يحمل انعكاسًا لما يراه الأطفال من كرتون على الشاشة مع أبيهم، وكأن
الأب هو نفسه شخصية كرتونية أو أن مخيلته الهشة مشكلة عبر مسلسلات الكرتون
التي يدمن مشاهدتها مع أبنائه.
وليس أكبر دليل على كونه مجرد طفل كبير من احضاره لتلك
النافورة الرخامية التي تبدو شاذة الهيئة وسط شقتهم كالحة الجدران ملوثة
الهواء متسخة الضوء، لمجرد أنها تعطي شكل حلو على جد قوله (وكمان شيك) وفي
لعبة صوتية ماكرة يتناقض صوت خرير الماء العذب والطيب مع الواقع المتسخ
البائس لشقة وحياة الأسرة، بينما تستمر الزوجة/ إيزيس في هز رأسها ربما
شفقة على حالها من هذا الأوزوريس الأهطل، الذي لا يلبس أن يتحول بعد كل هذا
إلى دجاجة تحتاج إلى رعاية خاصة، حتى أن صوت رفرفة أجنحتها غير الطائرة
ونقيقها المزعج يعكسان حجم المآساة الواقعية جدًا رغم عبثيتها.
هل اتفق أوزوريس «ريش» مع الساحر على أن يخفيه ويستبدله
بدجاجة كي يهرب من أسرته وحجم المسؤوليات والمتطلبات المادية التي تثقل
كاهله الضعيف؟ أم أنه هو نفسه الذي قرر الهرب مستغلًا لحظة انشغال الجميع
بالفقرة السحرية ضمن عيد ميلاد ابنه، الذي هيأ له أسباب الفرحة والوجاهة
المتواضعة؟ وكأنه يحتفل أخيرًا وبمفرده بالقرار الذي أوشك على تنفيذه،
وبالحرية التي سوف ينالها حين يهجر كل شيء خلفه،
مستبعدين بالطبع أن يكون قد تعرض للخطف من قبل الساحر لأنه
لا يملك مصلحة في ذلك. ومستبعدين أيضًا مسألة السحر والأعمال السفلية وشغل
الجان، دون إغفال مكر السيناريو في استغلال حالة الواقعية السحرية لتحفيز
مخيلة المشاهد وإثارة فضوله. والواقعية السحرية يمكن اختصارها في معادلة
بسيطة، وهي فعل عادي يؤدي إلى نتيجة فانتازية مثل رجل يختبئ في صندوق لساحر
شعبي، ثم يخرج منه في هيئة دجاجة.
على وش القمر
أين تقع حكاية الفيلم؟ ومتى؟
يمكن القول إن المكان في السينما خاصة والفنون البصرية عامة
هو أكثر العناصر التي يمكن أن يتجلى فيها الزمن تحت ضوء الواقع، المكان في
السينما هو زمن متجسد، والصوت هو زمن حي، بل إن المكان على الشاشة يحوي من
طبقات الزمن ما يفوق أي إشارات أخرى كالساعات أو التقويم أو الأرقام أو حتى
المعلومات المباشرة في الحوار، المكان يحتوي تاريخ الشخصيات وحاضرها
وإرهاصات مستقبلها، يقتني ملامح المرور وتبدل الأحوال والحالات، بينما
الصوت هو بصمة الزمن المراوغة التي لا تخلو من انعدام اليقين.
وحين أشرنا إلى حالة نهاية العالم (الأبوكاليبس) التي
تعيشها شخصيات الفيلم، نجدها في إشارات زمنية تؤطره وتحدده عبر شكل المكان
الذي تعيش وتتحرك فيه وبيئته الصوتية الغريبة؛ كالمصنع القديم الذي يبدو
كأنه ما تبقى من قنبلة ذرية، شقة العائلة المنكوبة التي تبدو من بقايا عصور
الاشتراكية ومساكن العمال الملحقة بالمصانع وقت المد القومي وجمهوريات موز
الشعارات العطنة، وصوت برامج التلفزيون التي إما أنها تنتمي إلى زمن قديم،
أو أنها ما تبقى من مواد مصورة يعاد تقديمها بعد أن تعطلت الإنتاجات
الحديثة كما تعطل طبع النقود مثلًا.
وبجانب ما قدمه الزهيري من معالجة حداثية تستند على هضم جاد
لتراث الميلودراما والأسطورة، فإنه لولا تعليق اسئلة الزمان والمكان بهذه
الصورة التي تتأرجح بين الغموض والتجريد، ما كان لعجينة الميلودراما
والتراث أن تفرز مادة قوية بهذا الشكل، خاصة مع الإصرار على ما نراه ونسمعه
من صوت للدخان والأتربة وهياكل المباني المتداعية والمساكن العجوز
والسيارات القديمة. يضاف إلى ذلك شريط صوت مفعم بحالة نوستالجيا رهيبة – ما
بين ألحان غير مشهورة لبليغ حمدي وقت أن كان في باريس ومقطوعات لعمر خورشيد
وأغاني لفايزة أحمد وجورج وسوف- وكلها اختيارات تعلق الزمن بصورة هائلة على
مشجب التجريد.
ثمة اشتغال زمني في شريط الصوت بشكل جرئ ومربك، لكنه إرباك
مفهوم وذكي، لا يوجد شكل تقليدي للموسيقى التصويرية، لكن هبوب الألحان غير
المشهورة لخورشيد وبليغ يبدو وكأنه قادم من جهاز كاسيت عتيق يشبه الذي
استولت عليه الإدارة مقابل الإيجار المتأخر، وبما أن الصوت هو جزء من الزمن
في السينما، وبما أن البيئة الصوتية هي سرد زمني في تجليها وتأويلها، فقد
أفلح المخرج كثيرًا في ضبط المزاج الصوتي لفيلمه زمنيًا بشكل دقيق وتجريدي
جدًا، وكما يقول المخرج الفرنسي روبير بريسون فإن الأُذن أعمق من العين،
وصفير قاطرة واحدة يكفي أن يستدعي للذهن محطات قطار بأكملها، وبالتالي فإن
لحن واحد أو مؤثر صوتي في غير موضعه الدرامي أو الزمني أو البنائي كفيل
بهدم اجزاء كبيرة من الحالة الفيلمية عامة وفي حالة ريش خاصة.
نحن في عالم يحوطه الدخان كما شوارعنا البائسة، تحكمه
قوانين بيروقراطية لا تسمح للمرأة أن تعمل كي تعيل اسرتها في غياب زوجها،
لكنها لا تجد غضاضة في انتزاع طفل صغير لكي يعمل محل أبيه بدلًا من الذهاب
للمدرسة. بيروقراطية عوراء، لا فرق بينها وبين النخاسة التي لا تزال تمارس
كما نرى في المشاهد التي تذهب فيها الزوجة للعمل كخادمة، فتتعرض لكشف هيئة
طبي يفتش في خلاياها من أجل التأكد أنها صالحة للعمل لدى علية القوم. مرة
أخرى يعود صوت خرير الماء، ولكن في بيئة مكانية تتمتع بالرفاهية، يجري هذا
الكشف أمام المرأة المفتعلة التي نراها في ثوب السادة وتعاليهم بينما تمسح
الزوجة بلاط قصرها الفخم في مستوى الكلب الذي يبدو مهجنا على خنزير.
الأغنية الأخيرة
رغم أن طول الفيلم يقترب من الساعتين إلا أن إيقاعه يبدو
منضبطًا بحسبة دقيقة، فلا ترهل في الإيقاع ولا ثرثرة فارغة ولا مشهد زائد
عن حاجة المعالجة، ولا صوت في غير محله، شريط صوت منمق وخشن يعكس اصوات
البيئات الملوثة بكل ما هو متداع وفارغ وحقير.
يشتغل الزهيري على مونتاج شرس، بصريًا وصوتيًا، قافز، عصبي،
يختصر ترهات كثيرة، وغاصبًا للمتلقي على أن يتبعه بذهن منتبه كي لا تفوته
المعلومات الشحيحة المتوفرة ببخل عما حدث ويحدث، خصوصًا مع ما يبدو وكأنه
بقايا حوار أو نهايات جمل، الحوار في شريط الصوت هو ضيف غير مرغوب فيه بهذا
الفيلم، والبخل في عرض المعلومات يصيب المتلقي بالقلق خوفًا من عدم الفهم،
وبالتالي يصبح أكثر حساسية تجاه مختلف عناصر الحكي خاصة مع بذخ الصورة،
ووجود صيغ مختلفة لعرض التفاصيل غير أساليب مسرح الأطفال أو حكايات ما قبل
النوم المريحة.
يكفي أن نشير إلى استخدام تيمة قصة حب بتوزيع بليغ حمدي
موسيقيًا في مشهد العثور على الأب بالصدفة كمشرد ملقى في قسم الشرطة، حين
تذهب الزوجة لتقديم محضر عن اختفائه، ثمة تناقض هائل ومقصود بين الحالة
الموسيقية صوتيًا، وما تعرضه الصورة من لحظة عثورها عليه كجثة قديمة بقيت
على غير رغبتها فوق الأرض.
وبعد كل محاولتها أن تعيد إليه ما تاه من عقله، يعيد المخرج
تقديم نفس المشهد الذي اجتمعت فيه الأسرة في بداية الفيلم، ولكن دون وجود
الأب، ثمة نفس البيئة الصوتية التي كانت جزء من حضوره لكن الأم إيزيس نفضت
يدها من مهمتها المقدسة، ولم تعد في حاجة إلى أن تلم أشلاء ذهنه الغائب أو
حضوره العدمي، لقد صارت تعمل وصار ابنيها يعملان، كما نراهما وهما ملوثان
بأثر شحم المصنع، يأكلان طعامًا فاخرًا بالمقارنة بما كانا يأكلانه سابقًا
وقت وجود الأب. لم يعد هناك باذنجان ولا جبن قليل، بل بيتزا وهامبرجر.
واستعادت الأم التليفزيون، وصارت تسدد أقساط السكن والسلف المتأخرة من
حصيلة عمل الأبناء، فماذا تبقى إذن كي تصر على عودة الأب؟ لم يعد هذا زمن
السفر للبحث عن المفقود، فلتدعه في الداخل، ميتًا كما كان وقت أن كان دجاجة
خاملة، ولتجلس هي مع أبنائها أمام التليفزيون، ترضع حورس الصغير، بعيدًا عن
ذُهان الأب، وبقايا الريش.
وكما بدأ الفيلم صوتيًا ينتهي صوتيًا أيضا، بنفس الاشتغال
على مبدأ التناقض، حيث تنزل التيترات على أغنية الصبحية لفرقة المصريين
الثمانينية، وهي أغنية تكاد تكون ذروة الكوميديا السوداء في الفيلم، خاصة
أن لحنها وكلماتها التي تتحدث عن صعود النور والمرح كل صباح، تشكل المعكوس
الصارخ لكل ما عايشناه في حياة هذه الأسرة غير المقدسة، بداية من صرخات
الجثة المشتعلة وصولًا لرفرفات الدجاجة المذبوحة وصمت الأب الميت. |