ملفات خاصة

 
 
 

مؤتمر النقد السينمائي الدولي في الرياض:

احتفاء بالصوت وتجربة فريدة

فاصلة

مؤتمر النقد السينمائي

الدورة الثانية

   
 
 
 
 
 
 

في مؤتمر النقد السينمائي السنوي، تتجه الأنظار نحو الأفلام الجديدة، وحلقات النقاش المثيرة، والشخصيات المؤثرة التي تترك بصمة واضحة في عالم الفن والنقد. وكما اعتدتم من فاصلة في تقديمها للتغطية الشاملة التفصيلية لكل الفعاليات والمهرجانات السينمائية الدولية منها والمحلية سواء من خلال المقالات والمقابلات مع أبرز المشاركين، واستعراض لأهم الأفلام المعروضة والندوات التي تناقش مواضيع متنوعة في السينما والنقد الفني.

سيكون تركيز مؤتمر النقد هذا العام على «الصوت في السينما»، وهو عنصر أساسي يُعتبر نصف التجربة السينمائية، كما أشار المخرج الشهير جورج لوكاس. الصوت لا يقتصر على المؤثرات الصوتية والموسيقى، بل يشكل جزءًا حيويًا من عملية خلق المشاعر والتجارب لدى المشاهدين. هذه الفكرة تتماشى مع قول مصمم الصوت آلان سبليت بأن «الصوت هو شيء من القلب»، مما يعكس أهمية الصوت كجزء من التعبير الفني.
في هذا الإصدار الخاص نقدم لكم عشر مقالات لنقاد فاصلة بجانب الناقد جاي ويسبرج جي والناقدة البولندية علا سلوى .. نستعرض فيها افلام سينمائية عالمية كان الصوت فيها فارقاً وعنوانا ً أساسياً لها
.

1- «منطقة الاهتمام».. كيف كان الصوت أداة جوناثان جليزر لمحاكمة الماضي والحاضر معًا؟

خلاف عائلي بين زوج وزوجة. الزوج أتته فرصة للترقي الوظيفي لكنها ترتبط بتركه عمله في المكان النائي الذي يعيشون فيه، بينما الزوجة لا تعجبها الخطوة ولا تريد ترك البلدة، بعدما تمكنت مع زوجها من تأثيث المنزل الذي طالما حلما به. منزل فاخر مليء بالحُجرات والحدائق وبِرك السباحة، يخدمه عدد من العمال مجانًا. الزوجة ترى حياة الأسرة مثالية لا ينبغي التفريط فيها، والزوج يجد في منصبه الجديد فرصة للصعود والنجاح، حتى لو كان الثمن ترك منزل العمر.

لقراءة المقال كاملا من هنا 

2- «صنع الأمواج»… سحر خالص اسمه الصوت

في مشهد في فيلم «العراب» (1972 – The Godfather)، للمخرج فرانسيس فورد كوبولا، يجلس مايكل كورليوني (آل باتشينو) في مطعم إيطالي يواجه رجلين يريدان تدمير عائلته. يجلس مايكل هناك وهو يعلم أنّ خطوته التالية سوف تحدد مصير عائلته ومستقبله. لا يوجد حوار لثوان، فقط صرير قطار يمرّ في الخارج. في هذه اللحظة بالذات، ستتغير حياة مايكل إلى الأبد. عندما نفكر في هذا المشهد، وفي الصوت المستخدم، نتأكد كيف يمكن للصوت أن يترك تأثيراً عميقاً على المشاهد، وما هي المشاعر التي يريد الفيلم نقلها

لقراءة المقال كاملا من هنا 

3- «لا بلد للعجائز»… هندسة صوت الرعب بلا موسيقى

من النادر إيجاد صناع سينما لديهم نفس القائمة وفيرة التنوع كما لدى الأخوين كوين، يتنقل الأخوان بسلاسة من عوالم الكوميديا للجريمة للدراما، وفي كل هذه التنقلات ينجحان في إدخال حبهما للموسيقى والاستعراض بدون كسر النبرة العامة للفيلم، وبدون إشعار المشاهدين بأنهم أصبحوا يشاهدون فيلمًا آخر، فيلمي «ليبوسكي الكبير The Big Lebowski» و «يا أخي أين أنت Oh Brother Where Art Thou» مثالين على هذا النجاح. كما استطاع الأخوان تقديم أحد أفضل الأفلام الموسيقية في العقد الماضي في فيلم «Inside Llewyn دواخل لوين ديفيز Davis».

لقراءة المقال كاملا من هنا 

4- الصوت في أفلام «لينش».. الأذنان تشاهدان أيضًا

من المعلوم أن ديفيد لينش لم يكن يومًا مهووسًا بمشاهدة السينما على طريقة مخرجين بارزين آخرين مثل مارتن سكورسيزي أو وليام فريدكين، بل قدم إلى السينما عبر بوابة أكثر عضوية وتجريدية هي الفنّ التشكيلي. ومن ثمّ يمكن تفسير رابطه الحسي الفائق مع الإخراج الذي يمرّ بدرجة أولى عبر استشعار المناخات، والحدس، ثمّ اهتمامه المتزايد بالتّأمّل المتسامي مع مرور السنين. «رسمتُ لوحة […] كانت سوداء بالكامل تقريبًا. كان هناك شكلٌ في وسط اللوحة. نظرت إلى هذا الشكل، فسمعت صوت رياح ورأيت نوعًا من الحركة. كان لديّ أمل في أن تكون اللوحة قادرة على الحركة، ولو قليلًا فقط. هذا كل ما في الأمر». (كريس رودلي- مقابلات مع ديفيد لينش- مجلة دفاتر السينما، ص 30)

لقراءة المقال كاملا من هنا 

5- «ريش»… الصوت كزمن.. الصوت كمكان

حين بدأت السينما صامتة لم يكن هناك سوى تأثير الصورة المرئية فقط على المتفرجين، وحين جلس عازف البيانو بجانب الشاشة ليضيف اللمسة الصوتية المصاحبة، بدا وكأن ثمة شيء كان مفقودًا وعُثِر عليه.

كأن الأصوات موجودة داخل الصور، لكنها محبوسة خلف الصمت التقني، ويمكن القول إن السينمائي قد تعلم أن الصوت موجود داخل نظرات العيون، وخلف اللمسات أو الإشارات، حتى أنه كان يمكن سماع صوت ارتطام أجساد الممثلين في المطاردات على الشاشة. لكن ظل افتقاد الحضور الفيزيائي للصوت يشبه احتقان ملح لضمان أن تقترب السينما أكثر من مادة الأحلام التي صنعت منها، فحتى الأحلام تحتوي على أصوات من كل الأشكال، وإذا كانت السينما هي القدرة على أن يشارك الفنان أحلامه مع الأخرين – والمقصود هنا ما يراه بالفعل في مخيلته ونومه وحتى كوابيسه- فلماذا لا يكون لديها القدرة على أن تهجس بالصوت أيضًا.

لقراءة المقال كاملا من هنا 

6- Sound and Silent Cinema 

 archaic, exaggerated and uninvolving, silent film is further burdened with the notion of being soundless, yet there was always music, and often foley sounds too. Unfortunately for too many years after the end of the silent era, the accompaniment we would hear was saccharine and old-fashioned, further destroying what great directors had so carefully crafted. In Paris, Henri Langlois, the founder of the Cinémathèque française, refused to screen silent films with any music at all, foolishly believing it spoiled the purity of the image, a damaging act that turned silent film in France into a rarefied art form “appreciated” by only a few.

لقراءة المقال كاملا من هنا

7- Reality and horror heard in sound designed for Agnieszka Holland’s “Green Border” 

It’s been scientifically proved that hearing is faster than sound – the reaction time to even a murmur is brisker than to a movement. What we hear also evokes more emotions than what we see – many film directors complain that they struggle to get at least one tear from their audience, while the composers can make people cry just sliding fiddlestick through their cello. Music in film can be a big gun – manipulating the audience heart so that is skips a beat or rushes with adrenaline. But there are also more subtle ways to direct the emotional resonance and a focus.

لقراءة المقال كاملا من هنا 

لتحميل الإصدار الأول لـ«فاصلة» من هنا

 

####

 

«منطقة الاهتمام»..

كيف كان الصوت أداة جوناثان جليزر لمحاكمة الماضي والحاضر معًا؟

أحمد شوقي

خلاف عائلي بين زوج وزوجة. الزوج أتته فرصة للترقي الوظيفي لكنها ترتبط بتركه عمله في المكان النائي الذي يعيشون فيه، بينما الزوجة لا تعجبها الخطوة ولا تريد ترك البلدة، بعدما تمكنت مع زوجها من تأثيث المنزل الذي طالما حلما به. منزل فاخر مليء بالحُجرات والحدائق وبِرك السباحة، يخدمه عدد من العمال مجانًا. الزوجة ترى حياة الأسرة مثالية لا ينبغي التفريط فيها، والزوج يجد في منصبه الجديد فرصة للصعود والنجاح، حتى لو كان الثمن ترك منزل العمر.

يبدو الموقف السابق ملائمًا تمامًا لفيلم دراما اجتماعية. لكن تفصيلة وحيدة تمنح الصراع أبعادًا مختلفة كليًا: أن الزوج هو مدير معسكر اعتقال أوشفيتز، المعتقل الكابوسي الذي شهد إحراق ملايين اليهود. أما بيت الأحلام فهو منزل القائد الملاصق لسور المعسكر، والذي يخدمه بعض المعتقلين في الأعمال اليدوية التي يرى النازيون أنفسهم أكبر من ممارستها!

تلخص تلك المفارقة المنطلق النظري الذي يتحرك منه «منطقة الاهتمام The Zone of Interest»، فيلم المخرج البريطاني جوناثان جليزر، الذي توّج بالجائزة الكبرى (Grand Prix)، ثاني جوائز مهرجان كان من حيث الأهمية، ثم بجائزتي أوسكار لأحسن صوت وأحسن فيلم دولي، من بين خمس ترشيحات نالها الفيلم، وهو رقم ضخم غير معتاد قياسًا على كون الفيلم ناطقًا بالألمانية.

بالطبع لموضوع الفيلم تأثير على هذا الرواج، لكن ما يهمنا هو أن الفيلم جاء لينقل جليزر من خانة الفنان المغاير الذي يعمل في مساحة خاصة يُقدّرها عدد محدود من النقاد والمحبين المخلصين، مثلما حدث مع أفلامه السابقة وأبرزها «تحت الجلد Under the Skin (2013»، إلى أن يصير مخرجًا ذائع الصيت يحصد أكبر جوائز العالم. كان الانتقال في حاجة لفكرة ذكية تجذب الانتباه، ليصيغها جليزر ببصمته الفريدة فيقدم لنا عملًا مغايرًا، قادرًا على وضع نفوس البشر في محاكمة مروعة بأكثر الطرق هدوءً وبرودًا.

عن أثر العمل اليومي

ينطلق «منطقة الاهتمام» من نظرية مرعبة: بإمكان البشر التأقلم مع أكثر الأمور فظاعة، وإذا تحوّل حرق البشر أحياءً فعلًا يوميًا، فمن الممكن أن يتم التعامل معه كحدث اعتيادي، يجري على هامش الحياة بينما يهتم الفرد بأمور يراها أكثر أهمية في يومه كتنسيق الأزهار في حديقته، أو اختيار الأثاث الملائم للمنزل!

بهدوء وروّية يراقب جوناثان جليزر حياة تلك الأسرة النازية، راصدًا سمتين رئيسيتين ندرك تدريجيًا تلازمهما مع حياتهم: الميكانيكية وتهميش الحواس

فالعمل -أي عمل- له طابع ميكانيكي يستلزم خطة وتقنية قادرة على تنفيذ المهمة، حتى أبشع فعل في التاريخ كان في حاجة لتخطيط ورسوم هندسية وآلية للعمل، وقائد يدير مشروعه ويحلم بالنجاح والترقي داخله. تبدو الكلمات مروّعة عندما توضع في سياق كارثي مثل الهولوكوست، لكنها كانت بالنسبة لبطل الفيلم ومن حوله وظيفتهم اليومية، التي يؤدونها بشكل آلي ودون كثير من التفكير.

الأمر لا يقتصر على الضابط النازي، بل يمتد لزوجته وأبنائه، والذين يتعمد الفيلم ألا يقدمهم بالصورة المعتادة للأسرة النازية، فلا الأطفال أعضاء في شبيبة هتلر، ولا الزوجة تكره اليهود وتحتقرهم. هم فقط أشخاص يعيشون حياتهم الاعتيادية، لا يفكرون في تفاصيلها، ويتوهمون -كما نتوهم جميعًا- أن حالهم سيدوم للأبد، مرتكنين على تهميش حواسهم، التي لم تعد تتعامل مع ما يصدر من حولهم من إشارات إلى التعذيب الذي يجري على بعد أمتار باعتبارها أكثر من صوت المحيط bruit sound، الذي تعلو حواس البشر دون وعي عليه فلا تعد تلاحظه، تمامًا كما يفقد من يعيش جوار مطار بعد فترة قدرته على الانزعاج من أصوات الطائرات أو حتى ملاحظتها.

مُسائلة المشاهدين كذلك

المرعب في فيلم جليزر هو شريط الصوت الذي يقوم في برود وبراعة معًا بأخذ مشاهديه في رحلة مماثلة: في البداية يمكننا بوضوح ملاحظة الأصوات في الخلفية، صراخ ملتاع وأوامر غاضبة وطلقات رصاص، تأتي من خارج الكادر متناقضة مع ما نشاهده من صور عائلية فتشعرنا بالغرابة والانزعاج. لكن مع مرور الدقائق وتتابع المشاهد، وانغماسنا تدريجيًا في حياة تلك الأسرة، يقل تدريجيًا أثر الأصوات في تلقينا للفيلم، تصبح مجرد اختيار إخراجي آخر أقدم عليه صانع الفيلم

يفاجئنا جليزر في نهاية الفصل الثاني بتتابع صامت، كاشف، لمجموعة من صور الورود الرائعة التي تزرعها الزوجة في لقطات كبيرة close-ups متتالية، مع تجريد الفيلم من كافة عناصره بخلاف اثنتين: صورة الوردة وصوت التعذيب المجاور لها. لحظة صادمة تفضح المُشاهد أمام نفسه، تذكره بشريط الصوت الذي تناساه، وتخبره أنه في خضم تقييمه لأفعال الشخصيات وعلاقتهم بعالمهم، قد قام بفعل مماثل لما يلومهم عليه!

لا نُشبه مشاهدة فيلم بالانتماء لأسرة نازية بطبيعة الحال، لكن «منطقة الاهتمام» يترك السؤال في عقولنا ويمضي: هل بإمكاننا حقًا التمييز بين الصواب والخطأ؟ ولو كان أيّ منّا قد ولد في سياق مماثل لتلك الأسرة، هل كان ليكتشف بشكل غريزي هول ما يحدث ويقف في وجه القواعد التي تحكم عالمه بالكامل؟ أم سيتعامل معه باعتباره العالم الوحيد المتاح؟ أصوات في الخلفية وتفاصيل عابرة يمكن تجاوزها في خضم التخطيط الإنساني لأن تكون حياة الفرد والأسرة أفضل كل يوم؟

البرود هو أحد أهم أسرار لعبة جوناثان جليزر، فبالرغم من كون حكايته مشحونة بالمشاعر القابلة للانفجار – وكم رأينا من أفلام تعرض الشق الإنساني المروّع لما حدث في أوشفيتزّ! – فإنه لا يسير أبدًا في طريق تلك المشاعر، بل يتعمد أن يقف تمامًا على الحياد، أو للدقة يقف في موقف الزوجة (التي تجسدها النجمة الألمانية ساندرا هولر نجمة 2023 بلا منازع)، على مسافة آمنة مما يحدث، يُضاف إليها في حالة جليزر عنصري التأمل والتحليل.

بين جليزر وتارانتينو

خلال مشاهدة الفيلم لأول مرة في مهرجان كان، وردت لذهني مقارنة بعيدة بعض الشيء، بين أحداث «منطقة الاهتمام» وبين المشهد الافتتاحي الأيقوني لفيلم كوينتن تارانتينو «أوغاد ملعونون Inglorious Bastards»، الذي يقدم فيه الضابط النازي هانز لاندا (كريستوفر فالتز) تجسيدًا عمليًا لكيفية صيده لليهود عن طريق التفكير بطريقتهم، لا بطريقة الألمان، فينتهي المشهد بقتله الطفل اليهودي وسماحه لشقيقته شوشانا أن تهرب.

إذا فكرنا في القوة المحركة لهذا المشهد المذهل سنجدها مركزية الشخصية اليهودية. صحيح أن شوشانا وشقيقها لا ينطقان ولا نرى سوى أعينهما المرتعبة، لكن كل شيء في مشهد مدته أكثر من ربع ساعة يدور حولهما: ضابط نازي رفيع المستوى يطارد طفلان يهوديان هاربان، يأخذ وقته لتقديم أداء استعراضي يؤكد فيه إنه بذل من الجهد والتفكير ما يكفي ليس فقط للوصول إلى مكان اختبائهما، وإنما للإلمام بكيفية تفكير اليهود بشكل عام. يُمجد فيلم تارانتينو اليهود على طريقته، بوضعهم في مركز اهتمام شخصية بالغة الجاذبية مثل لاندا، فإذا بذل لاندا كل هذا الجهد العبقري ليطاردك في مراهقتك، فأنت بالتأكيد شخص مميز.

النقيض تمامًا يفعله جليزر في «منطقة الاهتمام»، بتجريد فيلمه من أي مركزية أيًا كانت، سواء من خلال اختيار أسرة مكوّنة من شخصيات عادية، مملة، لا تحمل أي جاذبية في شكل الشخصية أو بناءها، أو من خلال جعل نفس هذه الأسرة المملة لا تلاحظ وجود اليهود حولهم من الأساس. لا يعرض جليزر مشهد تعذيب واحد، فقط الأصوات، وحتى السُجناء الذين تستخدمهم الأسرة كخدم في منزلهم، يظهرون في لقطات بعيدة لا تمنحهم أي خصوصية إنسانية، أو حتى تُظهر ملامح وجوههم.

ينزع جوناثان جليزر عن المحارق جاذبيتها السينمائية، لا يُقدمها كدراما أسطورية اتخذت فيها شخصيات شيطانية قرارات بالغة الشر لتقتل شخصيات أخرى بالغة البراءة، وإنما يُقدمها على حقيقتها: مجرد تعبير سمحت به ظروف العصر عن تشوه نفوس البشر. مأساة البشر ليس أن لاندا قرر طواعية أن يطارد اليهود ويقتلهم حتى آخر شخص، وإنما تكمن المأساة الحقيقية في أن الضابط هوس -الذي لا نكاد نذكر اسمه- لا يراهم من الأساس، وجودهم في حياته لا يختلف عن وجود الأوراق الموضوعة على مكتبك، ستنتهي مما فيها ثم تمزقها وتلقيها في سلة المهملات، دون أن تُفكر في مشاعر الأوراق أو في أنك ترتكب بتمزيقها جريمة إبادة عرقية.

في «منطقة الاهتمام» يقدم لنا مخرج موهوب محاكمة صامتة، مؤثرة، مخيفة أحيانًا، لنفوس البشر بشكل عام، ويوظف ببراعة الصوت كأداء سردية قادرة على طرح أسئلة فلسفية، في تكامل مدهش بين الشكل والمضمون استحق جليزر من خلاله نيل التقدير والاعتراف العالمي لأول مرة بعد سنوات من اقتصار شعبيته على المحبين المخلصين.

 

####

 

«صنع الأمواج»… سحر خالص اسمه الصوت

شفيق طبارة

في مشهد في فيلم «العراب» (1972 – The Godfather)، للمخرج فرانسيس فورد كوبولا، يجلس مايكل كورليوني (آل باتشينو) في مطعم إيطالي يواجه رجلين يريدان تدمير عائلته. يجلس مايكل هناك وهو يعلم أنّ خطوته التالية سوف تحدد مصير عائلته ومستقبله. لا يوجد حوار لثوان، فقط صرير قطار يمرّ في الخارج. في هذه اللحظة بالذات، ستتغير حياة مايكل إلى الأبد. عندما نفكر في هذا المشهد، وفي الصوت المستخدم، نتأكد كيف يمكن للصوت أن يترك تأثيراً عميقاً على المشاهد، وما هي المشاعر التي يريد الفيلم نقلها

في «صنع الأمواج: فن الصوت السينمائي» (2019 – Making Waves: The Art of Cinematic Waves)، يظهر لنا هذا الفيلم الوثائقي الفن الذي يقف خلف عالم تصميم الصوت في السينما، وكيف هو سحر خالص، فن الوهم في خدمة العاطفة. تتولّى مصممة الصوت ميدج كوستن، مهام إخراج الفيلم. وهذه كانت الطريقة لتعبر بها عن حبها وتقديرها لهذا النوع من الفن. إن الشغف الذي تمتلكه معدٍ منذ المشهد الافتتاحي للفيلم.

يتعمق جورج لوكاس وستيفن سبيلبيرغ وديفيد لينش وباربرا سترايساند وصوفيا كوبولا وكريستوفر نولان في أهمية الصوت، ويقدمون الفنانين العظماء الذين يختبئون وراء أهم سحر مخفي في السينما. يتفق كل هؤلاء المخرجين على أن الصوت يشكل 50% من الفيلم. آذاننا هي التي توجه أعيننا عند بداية القصة، قالها سبيلبيرغ

«صنع الأمواج: فن الصوت السينمائي»، هو تكريم لمصمّمي الصوت، أولئك الذين خلقوا عالماً من الصوت وقوانين الضوضاء. والتر مورش وبن بروت وكبستن مايت وفيكتوريا روز سامبسون وغاري ريدستروم، هم بعض هؤلاء الابطال المتواضعين في الفيلم. تكتشف الفيلم تاريخ وفن هؤلاء الأسطوريين من خلال مقابلات ومقاطع من أفلامهم. يصرحون كيف أن اكتشافهم وتصميمهم للصوت يكثف بشكل كبير تجربة الجمهور الغامرة والعاطفية. ويكشف أيضاً عن الثورة الجذرية في الصوت، التي ولدت في السبعينيات عندما حدثت قفزة نوعية في تكنولوجيا الصوت، من عالم الموسيقى، ليحتضنها صناع أفلام أصحاب رؤية أمثال ستانلي كوبرك، وفرانسيس فورد كوبولا وجورج لوكاس وغيرهم، مما أدى إلى عصر ذهبي جديد لتصميم الصوت. سيعمل هذا الوثائقي على «فصل آذاننا» وإيقاظ وعينا بكيفية تأثير الصوت علينا في الأفلام والحياة الواقعية.

يأخذنا الفيلم من بداية الصوت في السينما، والأهم من ذلك، انفجار أول فيلم «ناطق» «مغني الجاز» (1927 – The Jazz Singer)، وصولاً إلى استخدام الصوت في كلاسيكيات العصر الحديث من خلال المقابلات التي أجريت مع مصممي الصوت والمخرجين

يحلّل «صنع الأمواج: فن الصوت السينمائي» كل قسم من أقسام تحرير وتصميم الصوت، من تسجيل الصوت خلال التصوير، إلى محرري الصوت والمؤثرات الصوتية والميكساج ومحرري الحوار ومصممي الفولي

يصوّر الفيلم هذه العمليات التي تعمل معاً ويوضحها بحيث ينقل المعلومات الغنية للسرد بطريقة مفهومة ومتماسكة. يتكون الفيلم من قائمة طويلة من الأفلام التي تكتسب معنى جديداً عندما ننتبه إلى كيفية وقوعها على آذاننا

سترغب في مشاهدة كل الأفلام المشار إليها مرة أخرى، بينما يقوم أسياد الصوت بشرح كل شيء، وشرح الابداعات التي أدخلها أورسون ويلز وألفريد هيتشكوك إلى هذه الحرفة.

 قد لا تكون فكرت من قبل في كيفية صنع الصوت للفيلم وكيف يثري ذلك استمتاعنا به، ففي النهاية، نحن دائماً نتحدث عن مشاهدة الفيلم وليس سماعه. ولكن كل هذا سيتغير بعد أن تستمع إلى أساتذة الصوت يناقشون ويحللون التأثير الخفي الذي يمكن للصوت إحداثه.

إحدى أبرز اللحظات البارزة في الفيلم هو مشاهد تصميم الصوت لمشهد حرب فيتنام في فيلم «القيامة الآن» (1979 – Apocalypse Now)، يشرح والتر مورتش، مصمم الصوت الأسطوري، كيف صمّم المشهد الصوتي بدقة لنقل الفوضى والشدة والتأثير النفسي للحرب

يسلط المشهد الضوء على كيفية استخدام مورتش لطبقات من أصوات المروحيات والانفجارات والضوضاء المحيطة لخلق شعور بالارتباك والانغماس. كما يناقش القرار الإبداعي بإدراج أغنية «The End» الشهيرة لفرقة «The Doors»، التي لا توفر فقط نقطة مقابلة غريبة للسرد البصري ولكنها تعمّق أيضاً الرنين العاطفي للمشهد. يوضح هذا المثال تماماً كيف يمكن للصوت أن يرفع من السرد والعمق العاطفي للفيلم، مما يجعله أداةً قويةً لسرد القصص. يسمح الاستكشاف التفصيلي لهذا المشهد في الفيلم الوثائقي للمشاهدين بتقدير البراعة والمهارة المتضمنة في خلق مثل هذه اللحظة السينمائية التي لا تُنسى

كما يسلط «صنع الأمواج: فن الصوت السينمائي»، على العديد من اللحظات الأيقونية في تاريخ السينما، ويعرض القوة التحويلية لتصميم الصوت مثل السيف الضوئي (Lightsaber) في أفلام «حرب النجوم» (Star Wars)، عندما ابتكر مصمم الصوت بو بورت صوت السيف الشهير من خلال مزج صوت محرك جهاز عرض الأفلام مع التداخل للترددات اللاسلكية من جهاز التلفزيون. وأصبح هذا الصوت مرادف لسلسلة «حرب النجوم»، وهو مثال رئيسي لكيفية تحديد تأثير الصوت الأصلي لهوية الفيلم.

 أما في فيلم «الحديقة الجوراسية» (1993 – Jurassic Park)، فقد قام مصمم الصوت غاري ريدستروم، بدمج أصوات حيوانات مختلفة، بما في ذلك فيل صغير ونمر، لإنشاء زئير الديناصور تي ريكس المرعب. وفي أجواء فندق «Overlook» في فيلم «البريق» (1980 – The Shining) للمخرج ستانلي كوبريك، يعمل استخدام الأصوات المخيفة والمترددة في الفندق على تضخيم الشعور بالعزلة والرعب. إن الموسيقى التصويرية المؤثرة الممزوجة بالمؤثرات الصوتية المزعجة، مثل انتقال عجلات دراجة داني ثلاثية العجلات من السجادة إلى الخشب الصلب، تزيد من التوتر النفسي. في فيلم «غرافيتي» (2013 – Gravity) للمخرج ألفونسو كوارون، يُستخدم غياب الصوت في الفراغ الفضائي بشكل مرعب. استخدم مصمم الصوت في الفيلم الاهتزازات و الأصوات المكتومة لمحاكاة ما قد يسمعه رواد الفضاء من خلال بدلاتهم، مما يخلق تجربة سمعية فريدة تنقل عزلة وخطر الفضاء.

أحد العناصر الأكثر بروزاً في مشاهدة «صنع الأمواج: فن الصوت السينمائي»، هو نظرته الشخصية الرائعة لتصميم الصوت على مستوى بشري للغاية من خلال وصف كيف أنّ أول حاسة تأتي إلى الجنين البشري في رحم الأم هي السمع. قبل الرؤية والشم والتذوق واللمس، يسمع الطفل الذي لم يولد بعد العالم من حوله.

 إن فهم هذا الواقع هو معرفة أساسية حاسمة عند فحص أهمية الصوت في السينما. بالإضافة إلى ذلك، يوفر الوثائقي لمحة حميمة عن العملية وراء الكواليس لإنشاء الصوت. إنها ليست مجرد مسألة تسجيل لكمة تسحق العظام أو التقاط رياح عاصفة بشكل شخصي. ولكن هناك إجراءات تقنية وعملية شاقة تتطلب ساعات لا حصر لها من الجهد البشري والاستكشاف.

 

####

 

«لا بلد للعجائز»… هندسة صوت الرعب بلا موسيقى

عبيد التميمي

من النادر إيجاد صناع سينما لديهم نفس القائمة وفيرة التنوع كما لدى الأخوين كوين، يتنقل الأخوان بسلاسة من عوالم الكوميديا للجريمة للدراما، وفي كل هذه التنقلات ينجحان في إدخال حبهما للموسيقى والاستعراض بدون كسر النبرة العامة للفيلم، وبدون إشعار المشاهدين بأنهم أصبحوا يشاهدون فيلمًا آخر، فيلمي «ليبوسكي الكبير The Big Lebowski» و «يا أخي أين أنت Oh Brother Where Art Thou» مثالين على هذا النجاح. كما استطاع الأخوان تقديم أحد أفضل الأفلام الموسيقية في العقد الماضي في فيلم «Inside Llewyn دواخل لوين ديفيز Davis».

لكن لا أعتقد أن الأخوين كوين وصلا إلى قرار تنفيذي أهم وذي تبعات ناجحة، أكثر من قرار تفريغ تحفتهما «لا بلد للعجائز No Country for Old Men» من الموسيقى تمامًا. حيث كان لهذا الفراغ الموسيقي أثر إيجابي انعكس بشكل كامل في توضيح قيمة الصوت. صبغة سوداوية من الواقعية خيمت على كل زوايا الفيلم، وتوافقت مع الطبيعة الصحراوية القاحلة، والمدن الصغيرة ذات التعداد السكاني القليل

الفراغ الساحق الذي يحيط بالشخصيات يجعل درجة العنف التي احتواها الفيلم أكثر ضراوة وحدة. شخصية خافيير بارديم، القاتل “شيغور”، يستفرد بضحاياه مستغلًا الفراغ المحيط بها والهدوء المميت الذي يغرق أي صوت. هناك درجة حقيقية من الرعب ترافق شخصية شيغور ليس بسبب أداء بارديم أو كتابة الشخصية فحسب؛ بل يبدو الموت المرافق له واقعيًا ونهائيًا لا رجعة فيه، تشعر أن الشخصيات تموت وحيدة معزولة عن بقية الناس في هذا العالم بطريقة سريعة، لا تشعر أنك أمام فيلم سينمائي سردي، بل أمام تصوير حقيقي لجريمة قتل ترتكب أمامك.

من ناحية أخرى، انعدام الموسيقى تدريجيًا يدرب المشاهدين على ترقب العنف في أي وقت. في حين أن أفلام أخرى تبني لعنفها بشكل تدريجي وتحرص على إظهاره بأكثر الطرق سينمائية وشاعرية من خلال الموسيقى، يحرص الأخوان كوين على إبقاء درجة عالية من الترقب تسيطر على أجواء الفيلم. لذلك مشهد عادي مثل تحقيق الشرطة بمسرح جريمة ينغمر في مستوىً عالٍ من الشد النفسي لأن كل حواسنا متيقظة ونترقب عودة الشر المطلق في أية لحظة.

 من المهم ملاحظة أن غياب الموسيقى لا يعني غياب صوت البيئة المحيطة، لأن الفيلم ينقلك لقلب صحراء تكساس من خلال أصوات عناصر بيئية، مثل الرياح والحشرات والسيارات البعيدة. لذلك، حينما تكون إحدى الشخصيات عقبة في طريق شيغور، ندرك تمامًا مدى ضآلة فرص نجاتها، فلا يوجد على امتداد النظر سوى خواء يعد أنه لا يوجد أحد لمساعدتك.

شيغور بكل تفاصيله المرعبة ووحشيته المميتة، يتركب من عدة أصوات هو الآخر: صوت خطوات هادئ ومتزن، طريقة تنفس فريدة يمكن من خلالها التعرف على مزاجه، صوت أكله للمكسرات حينما كان منزعجًا من مالك محطة الوقود أو صوت جهاز قتل الماشية الذي يستخدمه. وفي استخدام هذا الجهاز إشارة واضحة لوحشيته، فهو لا يلقي بالًا للأرواح التي يحصدها في طريقه، خصوصًا أن أكثر من يقتلهم أو يهدف إلى قتلهم أبرياء تمامًا، ولا يعلمون عن حقيقة ما يواجهونه حتى لحظة موتهم أو تجنبها. إنهم يشبهون الماشية في براءتهم المطلقة وجهلهم التام.

في أحد أكثر مشاهد الفيلم شدة واحتدامًا، يواجه لويد بطل الفيلم شيغور. تشعر أن الفيلم كان يدربك ويجهزك لهذا المشهد منذ البداية، فكل العناصر التي تحدثت عنها تجتمع سويًا؛ الهدوء الذي يخيم على المشهد في البداية لا يعني إلا أن احتمال حدوث العاصفة يتزايد مع مرور كل ثانية، صوت الخطوات في الممر يزيد من سرعة ضربات قلب لويد لأنه لا يعلم، هل من في الممر شخص بريء أم أنه من كان يلاحقه طوال رحلته، يمسك بندقيته بإحكام ونسمع صوت إمساكه لهذه البندقية في حرص مستمر على إعطاء كل سلاح صوت خاص، وكأن الأسلحة شخصيات في هذا الفيلم. لا نسمع في هذا المشهد أي موسيقى أو حوارات، فقط أصوات طلقات نار تملأ الفراغ ونوعين من الخطوات؛ خطوات ممنهجة تمتلك هدفًا واضحًا وأعصابًا باردة، وخطوات فزعة تحاول النجاة بعد أن راهن صاحبها على نفسه للحصول على حياة بمستقبل أفضل.

إن فيلم «No Country for Old Men» هو إنجاز على مستويات عديدة، لكنه إنجازه الأبرز هو ما أحدثه على مستوى الهندسة الصوتية تحديدًا. فعلى الرغم من أنه تخلى عن الموسيقى التصويرية، أحد أعمدة السرد السينمائي، إلا أنه لم يفقد أي من العناصر التي ترافقها بل أصبح يغمرك فيها

إنه فيلم جريمة، وبسبب واقعيته لا يخلو من الرعب النفسي، حينما تكون أصوات طلقات الرصاص معدودة جدًا وتتسبب بسفك الدماء في كل مرة نسمعها، ونعرف كل سلاح من صوته، فإن هذه الطلقات فجأة تخرج من محيطها القصصي الخيالي وتخطو إلى عالمنا الحقيقي. لم نشاهد شخصية واحدة تواجه الموت في هذا الفيلم بدون أن تفقد كل رباطة الجأش التي قد تكون امتلكتها في يومٍ ما، ومن يلومهم؟ فصوت الرصاص يصم الأذن، وما يتبعه من ألم يبدو حارقًا، ويكمل الفيلم مسيرته بدون أي مبالاة لحمام الدم الذي شهدناه لتونا.

 

####

 

الصوت في أفلام «لينش».. الأذنان تشاهدان أيضًا

سعيد المزواري

من المعلوم أن ديفيد لينش لم يكن يومًا مهووسًا بمشاهدة السينما على طريقة مخرجين بارزين آخرين مثل مارتن سكورسيزي أو وليام فريدكين، بل قدم إلى السينما عبر بوابة أكثر عضوية وتجريدية هي الفنّ التشكيلي. ومن ثمّ يمكن تفسير رابطه الحسي الفائق مع الإخراج الذي يمرّ بدرجة أولى عبر استشعار المناخات، والحدس، ثمّ اهتمامه المتزايد بالتّأمّل المتسامي مع مرور السنين. «رسمتُ لوحة […] كانت سوداء بالكامل تقريبًا. كان هناك شكلٌ في وسط اللوحة. نظرت إلى هذا الشكل، فسمعت صوت رياح ورأيت نوعًا من الحركة. كان لديّ أمل في أن تكون اللوحة قادرة على الحركة، ولو قليلًا فقط. هذا كل ما في الأمر». (كريس رودلي- مقابلات مع ديفيد لينش- مجلة دفاتر السينما، ص 30)

هذا الاقتباس الذي يصف اللحظة الدقيقة التي خطرت فيها لديفيد لينش فكرة إنجاز فيلم، يبين مدى تلازم الحاجة إلى استشعار صوت الأشكال مع حركتها في ذهنه بطريقة عضوية، تصبح بموجبها المقاربة الصوتية في حدّ ذاتها ديناميكية توازي الحركة البصرية للأشياء.

يستخدم ديفيد لينش اللون الأزرق في «المخمل الأزرقBlue velvet »، والأصفر في «طُرق ضائعة Lost Highways»، من خلال مؤشرات صوتية ولونية يعيد تشكيل الواقع ويصطفي منه أشياء يعيد صياغتها لتنتمي لعالمه المتفرد، ما يعكس اهتمامه الفائق بتجانس أفلامه، سواء من الناحية الشكلية أو العاطفية. ولهذا السبب يتولى بنفسه الاشتغال على الشريط الصوتي، باعتبار أنه عنصر أساسي يرافق الصورة في إدراك المشاهد لها. الصوت هو المحدّد الأول لنغمة الفيلم حين يغلف الأجواء معزّزًا قوة الصورة. منذ بداياته في الفيلم القصير «الأبجدية The Alphabit»، أضفى لينش على الاشتغال بالصوت اهتمامًا فائقًا، معتنيًا بأن يكون هناك بينه وبين الصورة اندماج عضوي، يصبح على أثره التفريق بينهما بمثابة إلغاء لكليهما، إذ أن كل منهما لا يمكن أن يوجد في معزل عن الآخر.

في «رأس الممحاة Eraserhead» (1977)، يستثمر لينش الشريط الصوتي باعتباره بعدًا يساعد على خلق تأثير الغرابة العزيز على قلب المخرج، حيث يغيب صوت المؤثرات الخاصة بحركة هنري وخطواته، حتى عندما يخطو وسط بركة مائية. كل ما نسمعه طوال الفيلم هو أصوات خام لهدير صناعي وصوت مُشَكَّل لرياح لا تتوقّف. الشريط الصوتي لهذا العمل الأول الذي لازال – بعد مضي زهاء نصف قرن على خروجه- يمثل مُنتجًا فيلميًا عصيًا على التّصنيف، وبات يُعدّ في حدّ ذاته قطعةً فنية تجريبية، لا تترك مجالًا للصمت، ولا يتخللها سوى قليل من الحوارات. شريطٌ قوامه طبقات مختلفة من الأصوات المصممة بعناية، تمتزج فيها عناصر الطبيعة (الماء والرياح) بتأثيرات صوتية معاصرة تنهل من مناخات المصانع وسمفونية المعادن، بغية محاكاة القلق الدّفين لهنري من المولود المشوّه، وعضوية حياة هو المسؤول عن جلبها إلى لعالم.

واحد من أبرز الأمثلة دلالة على تفرّد المقاربة الصوتية لمخرج «مولهولند درايف Mullholand drive» يظهر في مشهد ناديٍ سيلينسيو Silencio، حين يرفع عازف الترامبون يديه عن آلته لكن صوت العزف يستمر في التردد في المسرح ثم يندلع صوت الرعد إثر حركة يدي منظم المسرح. تشهد بيتي (نعومي واتس) الحادثة، وتنتابها فجأة تشنجات حادّة تنذر بدخول الحبكة في متاهات درامية معقدة في الفصل الأخير من الفيلم. يبدو الأمر كما لو أن اختلال نسيج الصوت والصورة، ومفارقتهما بعضهما البعض، قد أفضى إلى فجوة عميقة تهدّد بابتلاع الفيلم وخلط أوراق الحكي، بالطريقة نفسها التي ينفتح بها صندوق أسود صغير كبوابة قاتمة تبتلع الحكي لتربطه بعوالم موازية.

أما في «طرق ضائعة Lost Highways»، فيسمع فريد ماديسون (بيل بولمان) رجلًا يخبره عبر جهاز الاتصال الداخلي أن «ديك لوران قد مات». الصوت الذي نسمعه هو صوت ماديسون نفسه. وفي نهاية الفيلم، نراه يبلغ الرسالة بنفسه عبر جهاز الاتصال الداخلي. مشهدٌ يتصادم مع مشهد الحفلة الأثير من الفيلم ذاته. حين يخمد فجأة صوت الموسيقى وسط حفلة يحضرها ماديسون بينما يتقدم نحوه رجل قصير ذو هيئة غريبة. وكأنّنا مرة أخرى إزاء شخصية سحرية تعيد تشكيل الزمكان محدثةً قوسًا يبطل تأثيرات العالم الواقعي للبطل، وفي مقدمتها موسيقى الحفل الصاخبة. يقترب الرجل المتّشح بالسّواد بينما تتصاعد وتيرة تأثير صوتي متوتّر ومقلق، فنميّز وجهه الغريب ونظرته الحادة وغير المطمئنة، قبل أن يتوجه إلى ماديسون بعينين جاحظتين وابتسامة غامضة: «التقينا مسبقًا، أليس كذلك؟ … أنا الآن في بيتك». (…). يُخرج الرّجل المتّشح بالسواد هاتفًا خلويًا من جيبه ويمدّه لبولمان: «اتّصل بي!». يأخذ ماديسون الهاتف ويركّب رقم منزله، فينبعث صوت الرجل نفسه الذي طالبه بالاتصال به، لكن من الهاتف هذه المرة: «قلت لك أني هنا في منزلك». «كيف فعلت هذا؟» يسأل بولمان. «اسألني!» يجيب الرجل. يكرّر بولمان سؤاله في سماعة الهاتف«كيف دخلت منزلي؟». (…). يطلق الرجل ضحكة مجلجلة ينتج عن تردّدها بين حنجرته من وسط الحفلة وقهقهته المنبعثة من الهاتف صدى مرعبًا.

 بغض النظر عن تفاعل هذا المشهد مع سرد الفيلم وتيمة الهوية المزدوجة، ما يهمّنا هنا هو الشريط الصوتي الذي يرتكز عليه، وكيف يخلق منه لينش رعبًا غير اعتيادي بعضويته الفائقة، انطلاقًا من فكرة إخراجية متفرّدة وأصلية. العامل الأول هو النغمات المقلقة التي تبعث في المشهد شعورًا عميقًا بالقلق. قلق من النوع الذي يسكن فؤاد المشاهد من دون أن يعي طبيعة تأثيره عليه. عكس تأثيرات الرعب الحادة Jump scare التي تجعله يقفز من مكانه أو يمسك قلبه من الهلع. أما العامل الثاني والأهم فهو أن نقطة التأثير في المشهد هي تلك اللحظة التي نستمع فيها إلى الصوت الرجل يتكلم من الهاتف بينما تركز الكاميرا على وجهه وشفتيه الساكنتين، قبل أن تنطلق ضحكته المتصاعدة، والتي من دونها لا تتجلى طبيعته غير الآدمية، ما يذكرنا بمشهد «مولهولاند درايف» أعلاه وتأثير الصوت المنفصل عن الصورة، الذي يمثل نوعًا ما عند لينش مقدّمةً لشرخ ميتافيزيقي يقصم ظهر الواقع، فيصبح بموجبه كل شيء ممكنًا. بالطريقة ذاتها التي يتحدّث فيها أبطال «توين بيكس Twin peaks» في «الغرفة السوداء» بطريقة معكوسة تفيد أنّنا في مكان تحكمه قوانين غير طبيعية وعلاقة مختلّة مع أشياء العالم.

 يقول الباحث الفرنسي ميشيل شيون في مؤلفه المرجعي «الصوت»: «السينما هي في الواقع فنٌّ سمعي وبصري، حيث تلعب حاسة السمع – التي غالبًا ما تُهمّش أو يتم تجاهلها- دورًا مهمًا للغاية. (…) لا نرى نفس الشيء عندما نسمع، ولا نسمع نفس الشيء عندما نرى». جملةٌ تلخّص كل شيء وتبدو كمبدأ لن يتردد لينش في تبنّيه، بحكم افتتانه بعنصر الصوت، كعنصر مستقلّ قادر على إثارة المشاعر، وحين يندمج مع الصورة يخلق عالمًا غامضًا وساحرًا لن يتشكل إن كان كل منهما بمعزل عن الآخر. ومن ثمّ؛ فإن حضور المتواليات الموسيقية في أفلام لينش متجليةً أولًا في الموسيقى التي ألفها بتعاونه الأسطوري مع الكبير أنجيلو بادلامنتي (1937 ـ 2022)، ثم في الأغاني المنبعثة من داخل الحكي. الموسيقى عنده بالتالي ليست أبدًا توضيحية أو مقحمة، بل تنبعث من داخل الصورة نفسها: «يمكن لأي شخص أن يأخذ أغنية ويضعها في فيلم. ما يعجبني هو عندما لا تكون الأغنية مجرد طبقة أخرى من الصوت! ينبغي أن تتوفّر على شيء خاص في حد ذاتها يتعمق في القصة. يمكن بذلك أن تخلق شيئًا مجرّدًا أو حالمًا. ومن ثم تغدو حقًا مكوّنًا لا يمكن الاستغناء عنه، وليس مجرد قطعة موسيقية». (كريس رودلي، مقابلات مع ديفيد لينش، دفاتر السينما، ص 102).

يأخذ استكشاف ديفيد لينش للصّوت شكل رحلة تشريحية وعضوية، من التمثّل البصري وانبعاث الصوت إلى حسية إدراكهما مجتمعين. ويجد ذلك انعكاساته في حقول الابتكار المتعددة التي سبرها المخرج، من الفنون الأدائية إلى الفنون البصرية، مرورًا بالمواد الصوتية.

 ظلّ لينش ولايزال، رغم تقدّمه في السن، يعتكف في استوديو التسجيل الذي أنشأه في منزله ليعمل ويجرّب ويبتكر، ويختبر تفاعلات صوتية مصمّمة لمرافقة صور منبعثة من خياله الجامح والمتسامي، بحثًا عن إضفاء مزيج من التوتّر والتّرقّب القلق على حياتنا، أو ما يسميه «تأثير الغرابة»… تلك النغمة المتفرّدة التي تجعلنا نميّز أعماله منذ الثواني الأولى

 

####

 

«ريش»… الصوت كزمن.. الصوت كمكان

رامي عبد الرازق

حين بدأت السينما صامتة لم يكن هناك سوى تأثير الصورة المرئية فقط على المتفرجين، وحين جلس عازف البيانو بجانب الشاشة ليضيف اللمسة الصوتية المصاحبة، بدا وكأن ثمة شيء كان مفقودًا وعُثِر عليه.

كأن الأصوات موجودة داخل الصور، لكنها محبوسة خلف الصمت التقني، ويمكن القول إن السينمائي قد تعلم أن الصوت موجود داخل نظرات العيون، وخلف اللمسات أو الإشارات، حتى أنه كان يمكن سماع صوت ارتطام أجساد الممثلين في المطاردات على الشاشة. لكن ظل افتقاد الحضور الفيزيائي للصوت يشبه احتقان ملح لضمان أن تقترب السينما أكثر من مادة الأحلام التي صنعت منها، فحتى الأحلام تحتوي على أصوات من كل الأشكال، وإذا كانت السينما هي القدرة على أن يشارك الفنان أحلامه مع الأخرين – والمقصود هنا ما يراه بالفعل في مخيلته ونومه وحتى كوابيسه- فلماذا لا يكون لديها القدرة على أن تهجس بالصوت أيضًا.

بدا أن تشارلي شابلن يرى أن السينما حين نطقت صارت (تنهق)، أما المخرج السوفيتي ميخائيل رووم فقد أشفق على الفن الجديد من أثر الكلمة المنطوقة، إذ رأي أننا – المشاهدين وصناع السينما على حد سواء-سوف نعاني من مرحلة الاعجاب الزائد عن حده بالكلمات، لأنه حين نتوقف عن الاقتصاد فيها، سوف تصبح شخصيات الممثلين عندنا ثرثارة، بل وأحيانا سيصبح الفيلم كله عبارة عن حوار محكي من دون عناية بالصورة ودورها في الحكي، وهو ما ينطبق بسهولة على معظم إنتاجات السينما المصرية عبر سنوات عمرها الطويل باستثناء تجارب فردية معدودة، أو تيارات حداثية مغايرة قليلة، أرادت أن تحرر شريط الصوت من اتكاءات الحكي التقليدية التي أثقلته لعقود طويلة، مثل تيار الواقعية الجديدة الذي ظهر مع بداية الثمانينيات وتلقف ميراث الثرثرة وحاول أن يقذف به بعيدا الشاشة.

استمرت السينما التجارية في مصر في مجمل تجاربها العديدة (تنهق صوتيًا) على حد تعبير شابلن. لكن بحكم قانون الانتخاب الطبيعي، ظهر جيل جديد من السينمائيين وبداخله جينات التمرد التي تفرز الغث من الثمين تلقائيا، سواء بحكم الشغف، أو الرغبة في تحقيق منجز مغاير حتى على مستوى الميراث الإبداعي الذي تركه جيل الواقعيين الجدد قبل نصف قرن تقريبًا.

يمكن اعتبار فيلم «ريش» للمخرج الشاب عمر الزهيري أكثر عمل أول أثار ضجة خانقة خلال السنوات العشر الأخيرة، منذ حصوله على الجائزة الكبرى لبرنامج أسبوع النقاد ضمن مسابقات مهرجان كان 74 عام 2021، وبعدها أزمته الشهيرة عقب عرضه في مهرجان الجونة في دورته الخامسة من نفس العام، والتي تفاقمت نتيجة اتهامات تافهة وغير موضوعية أو نقدية، مستندة في غالبها إما عن خواء فكري وشعوري، وإما عن ذوق شخصي – ظلامي النزعة- يخرج من دائرة التلقي الفردي إلى محاولة فرض رأي عام دون منطق أو نفوذ ثقافي حقيقي.

وبالطبع مثل كل الأزمات المفتعلة المرتبطة بمرحلة هبوط في منحنى الجرس الحضاري، انتهت الزوبعة الرديئة، وبقي ريش نموذجًا لمغامرة العمل الأول بكل طموحاتها التقنية وجرأتها الشعورية، واشتغال الفيلم الصوتي المغاير، ورغبته في تحريك ماء الذهن الراكد، وتشتيت الغبار عن الذائقة المتشققة من أثر الجفاف الإبداعي في عصر عقيم.

إيزيس ورفرفة الدجاجة

عادة ما يفتقد كثير من الأعمال الأولى إلى بريق الأصالة، ونعني بها طزاجة الطرح عبر المعالجة السينمائية والبصرية والصوتية للموضوع، وليس الموضوع في حد ذاته، فالفيلم على سبيل المثال يحكي قصة شديدة التقليدية بأسلوب متفرد وحداثي يعكس فهم اجتماعي وسياسي عميق وتشبع تراثي وثقافي هادئ ومتزن، وتجديد مبني على معرفة واتقان تقني.

لدينا زوجة يختفي زوجها في ظروف غامضة، تاركًا إياها تواجه سكاكين الظرف الاجتماعي الحاد، بينما تحمل ذراعها رضيعًا، وتجر يديها طفلين في مرحلة النمو، فلا تجد أمامها سوى العمل في مهن متواضعة وإخراج واحد من أطفالها من المدرسة لكي يصبح عائلًا صغيرًا للأسرة الكبيرة مضحية بطفولته، فتتعرض للقهر الطبقي والاضطهاد الإداري من قبل الجهاز الوظيفي للدولة ممثلًا في المصنع الذي كان يعمل به زوجها الغائب، ويصبح جمالها الخشن الشحيح عرضه للتحرش من قبل صديق للزوج يراها قطعة لحم – أو عضمة طرية في تصور أقرب واقعية لنحافتها الشديدة- إلى أن يعود الزوج مرة أخرى، مُدمرًا كخرقة محترقة، بينما تكون حياتها قد انتظمت وتشكلت، ووجدت في استقلالها المادية هي وأولادها ما يرمم كرامتها وروحها وبيتها الكالح الصغير، مما يمنحها استغناءً مُرضيًا عنه وقدرة على ذبح الدجاجة التي تحول إليها الزوج.

حكاية ميلودرامية بامتياز، تحولت من فرط تكرارها إلى نمط مترهل من الصعب أن نتصور انها تحتوي على أي إنزيمات للأصالة يمكن استخلاصها. ولكن الأًصالة كما أشرنا ليست في الموضوع نفسه، ولكن في إعادة إنتاجه عبر معالجة ذات رؤية حادة في اختلافها، هذه الرؤية لم تنسحب فقط على المكون البصري للفيلم؛ بل امتدت وبشكل عضوي إلى تشكيل شريط صوتي يناسب الفرضية العبثية التي أطلقها في وجه المكون الميلودرامي لأصل القصة.

اول ما فعله الزهيري – بالتعاون مع السيناريست أحمد عامر- أنه أطلق فرضية سوريالية وشدية الواقعية في آن من فرط شعوبيتها. افترض الزهيري أن الزوج الذي اختفي أو هرب أو تسلل أو حتى اختطف قد تحول إلى دجاجة (فرخة باللفظ المصري).

دجاجة بيضاء وليست حمراء – وللدجاج الأبيض دلالة شعبوية أخرى في القاموس المصري تخص كونها دجاجات تنمو بالهرمونات المصنعة لكي يتضاعف حجمها، ولكنها في المقابل تسبب العقم أو الضعف الجنسي لدى آكليها من الذكور.

ولكن قبل أن نسير وراء المفاجأة التي تتأرجح ما بين العبث والواقعية السحرية والإثارة الأجتماعية، دعونا نذهب للطرف الأخر من المعادلة وهي الزوجة/ الأم، فهي كما يقدمها الفيلم امرأة ضامرة الأنوثة، خشنة التفاصيل وجهًا وجسدًا، صامتة، مستسلمة، (حَمولة). سيدة منزل من الدرجة الأولى، مطيعة، طيعة، طيبة، وحنون، ومخلصة، ومثابرة، ولها من الجلد والقوة الداخلية ما يجعلها تحتمل كل ما سوف تتعرض له من مُهلكات إجتماعية وإنسانية، من قبل حتى أن يرقد زوجها في التابوت الذي سوف يحوله إلى دجاجة أثناء عيد ميلاد واحد من أولاده، ضمن فقرة الساحر الشعبي الذي جاء ليقدم (نمرته) فحول الأب إلى دجاجة وهرب.

يقدم لنا الزهيري بطلة فيلمه – وهي بطلة بالمفهوم الدرامي لأن زمام الأفعال والقرارات وردود الأفعال ينتقل إلى يدها من لحظة اختفاء الزوج/ الأب-. يقدمها المخرج في كادرات تستدعي لها صورة أيقونية لإيزيس، الربة المصرية الشهيرة والخارقة والأم مطلقة الأمومة، بينما تحمل على يدها طفلها الرضيع حورس طوال الوقت، تسقيه الحليب الذي يحبه الأب أيضًا

هي إيزيس ديستوبية، تشبه البيئة الزمانية والمكانية للفيلم التي قُدمت بصورة أقرب لأجواء نهاية العالم أو مدن ما بعد الكارثة الكبرى.

لا يمكن فصل ظهور الزوجة في هيئتها الإيزيسية عن تطوع الأب للنوم في تابوت الساحر خلال حفل، تمامًا كما في الأسطورة المصرية القديمة، حين وقع أوزوريس في الخديعة ونام في التابوت الذي أدى لمهلكه، ثم اختفاء الأب الغريب والعبثي وغير المفهوم، وتحوله إلى دجاجة بيضاء، تتجه إلى حذاء الأب لكي ترقد فوقه، كأنها تعلن أنها لا تزال تملكه أو تشير إلى كونها هي الأب في صورته الجديدة أو الحقيقية.

ثم تبدأ رحلة البحث عن الزوج/ الأب عبر محاولة استرجاعه من هيئة الريش إلى صورته الإنسانية الأولى، ولكن في مقابل رحلة أيزيس الشهيرة لجمع أشلاء زوجها، تخوض إيزيس التي لا تملك قدرات الآلهة رحلة أخرى تناسب نهاية العالم، أو نهاية الزمن الاجتماعي الذي نعيشه في الحظة الراهنة كبقايا مجتمع إنساني مهدم وفقير وملوث، كما المصنع الذي تدور أحداث الفيلم في ساحتة وبالقرب منه في مساكن العمال المتهالكة الذي يعتبر الزوج واحدًا منهم.

بالمناسبة يمكن أن نشير هنا إلى أن المخرج يختصر فكرة بقايا المجتمع في النقود القديمة المتهالكة الأوراق باهتة الرسومات التي تتبادلها شخصيات الفيلم، بفئاتها القليلة – الجنيه والخمس جنيهات- وكأن الدولة أو النظام بعد تصدعه وشيخوخته لم يعد يطبع نقودًا جديدة، وكأن المتداول فقط هو ما تبقى من نقود لما تبقى من بشر يعيشون كأشباح منهكة فيما تبقى من المدينة أو العالم.

نعود لعنصر البحث عن الزوج المفقود أو المتحول. قلنا إن رحلة إيزيس تتحول هنا إلى رحلة سوريالية في محاولة استعادة هيئة الزوج البشرية، فتلجأ الزوجة للبحث عن الساحر الشعبي الذي هرب عقب محاولة إعادة الزوج من دجاجة إلى رجل، ثم اللجوء إلى دجال شعبي يجبرها على الجلوس معه في الحمام للقيام بطقوس وثنية بالقرب من فتحة المرحاض. والحمام أحد أكثر المواقع التي تتواجد فيها شخصيات الفيلم بداية من الزوج وأولاده، مرورًا بسعي الساحر لاستعادة الزوج عبر محاولات مضحكة يحتضن فيها الدجاجة ويهمس بها بكلمات مطمئنة من أجل أن ترتد رجلًا، بل أن الزوجة في واحدة من المهن التي تشتغلها نجدها تعمل في مخزن للأدوات الصحية وتنحني يوميًا لتنظيف المراحيض الجديدة قبل أن تستعمل. ويمنحنا الحمام شعورًا مقصودة إثارته لدينا بالقرف والتقزز، كأننا في عالم قريب طوال الوقت من الفضلات والبقايا والروائح العطنة والأمكنة المتسخة غير القابلة للتنظيف، لأن المدينة أو المكان صار بقعة ملوثة بتراب الجلافة ودخان القسوة والجمود.

كرتون الطفل أوزوريس

يبدأ ريش صوتيًا قبل أن يبدأ بصريًا. على شاشة سوداء نسمع صوت رجل يبكي بحرقة، لا ندري من هو ولا سبب بكائه ولا زمنه، ثم يختلط البكاء بصوت مادة سائلة يتم سكبها، فنرجح أنها بنزين أو كيروسين، ويتحقق ترجيحنا عندما نسمتع إلى صوت اشتعال ثم أصوات صراخ رجل، كل هذا والشاشة لا تزال سوداء كأنها واقع الفيلم، وواقعنا على حد سواء، وأخيرًا تظهر اللقطة الأولى؛ رجل يشتعل، ثم جثة متفحمة وسط خراب صناعي عظيم، لمنشأة لا ندري هل هي مهجورة أم مهملة أم بقايا عالم محطم.

مع انتقال الصورة إلى واقع الأسرة الكالحة، ومع صمت الزوجة الحمول، وطاعتها غير المشروطة يحتل صوت الزوج مساحة الحوار الشحيحة الممنوحة للشخصيات، هو فقط الذي يتحدث، كأنه طفل كبير يشاهد الكرتون مع ابنائه في التلفزيون المتداعي.هل تذكرون حديثنا عن أهمية المعالجة واستحضار الأصالة في تنسيق البناء الدرامي للحكاية المكررة في ثوبها الجديد؟ 

لقد استطاع الزهيري أن يعجن الحكاية الميلودرامية البالية بالأسطورة التراثية الأكثر تناولا واستعادة، واضعًا إياهم في قالب زمني ديستوبي وسط بقايا دخانية لمدينة ميتة، لكي يتيح لنا إعادة استبطان الموضوع في كل ما نراه حولنا من سياقات أجتماعية بالية وإنسانية كاشفة لحقيقة أساسية: أن ما نعيشه في العصر الحالي هو قيامة طويلة مدمرة للأعصاب، من أثر الفشل في إدارة الوجود السياسي والبشري بصورة تليق بالتطور الحضاري.

هذا فيلم يبدأ برجل يشعل النار في نفسه في ساحة أطلال غريبة لمصنع قديم، هو نفسه المصنع الذي نرى دخان آلاته ولا ندري ماذا ينتج أو يقدم للحياة والمجتمع، كأنه يعمل دون إنتاج، وإلا لماذا يبدو حال عماله وموظفيه والقائمين على إدارته مغبرة وجووههم، متسخة ملابسهم كأنهم لا يملكون غيرها، وليس لديهم من أساسيات المدنية ما يمنحهم الحد الأدنى من النظافة الشخصية والنفسية؟ حتى القائمين على حماية ذلك المصنع – كما نرى في قسم الشرطة التابع له- يظهرون في هيئة متهالكة ومؤثر صوتي يعبر عن الخواء العظيم والريح التي تهش التراب البالي

طبعًا منذ اللحظة التي أشعل فيها البوعزيزي النار في نفسه قبل أكثر من عقد كامل؛ أمسك لهب الحريق في الجغرافيا والتاريخ على حد سواء، صار جسده المشتعل مثلًا فاضح الدلالة ومكتمل المجاز. فهل الرجل الذي اشعل في نفسه النار في البداية هو من دفع الأب إلى أن يختفي أو يتحول إلى دجاجة، أو يفقد عقله في النهاية بعد أن عثرت عليه الأم/ الزوجة جثة من بقايا جلد وعيون؟ أم انه هو نفسه الأب في إرهاصة للمصير الذي اختاره لنفسه بعد أن أعادته الشرطة رغمًا عنه إلى بيته الذي هرب منه، تاركًا بدلًا منه دجاجة ربما يكون فيها منفعة أكثر.

إذن فقد أضاف الزهيري إلى الحكاية التقليدية والحدوتة التراثية مجازًا حديثًا نسبيًا في تركيبته التي شكل منها معادلة الفيلم – أو معالجته كما أكدنا- وهو ما يقودنا بالطبع إلى الحديث عن هذا الرجل/الأب/الزوج/الدجاجة.

عقب مشهد الحريق الذي لن يتكرر بصورة مباشرة، وإنما سيتكرر بشكل عبثي في لقطات إحراق ريشات من الدجاجة ضمن محاولة الدجالين استعادته، يقدم لنا السيناريو شخصية الأب في صورة رجل غريب الأطوار، أنه ليس أوزوريس صاحب العلم والرؤيا التي انطلقت منها واحدة من أكبر حضارات التاريخ، لقد تحول في نهاية الزمن أو العالم إلى رجل بسيط، تافه، يبدو مثل طفل كبير، يحكي تراهات، ويُبقي مصاريف البيت في حصالة قديمة يخرج منها يوميًا، ما يمنحه بقايا نفوذ باهت على منزل متهالك. أو كما نراه يلقن الزوجة الخنوع «النهارده وبكره بتنجان»، أي أن طعام الغداء لن يخرج عن كونه ثمار فقيرة لإطعام معدة أفقر.

هذا الرجل الذي يحكي عن تاريخه الطفولي بفخر شديد في مشهد شربه للبن مثله مثل الرضيع المستلقي فوق ذارعي الأم يشرب حليبه كي يهدأ وينام، يحكي الأب أنه وقت ابتعاثه في الخارج – لا ندري أين ولماذا رغم كونه مجرد عامل متواضع في مصنع خرب- كانوا يحضرون لهم أبقار صغيرة جدًا فوق الأطباق كي يحلبونها ويشربون منها اللبن ساخنًا، بينما تهز الزوجة رأسها كي تطمئنه على ثقته فيما يحكيه ولا يعيره أطفاله الآخرون أي انتباه، لأن التلفزيون المتداعي أكثر تسلية بالنسبة لهم منه. بينما يؤكد لنا شريط الصوت الذي يحمل انعكاسًا لما يراه الأطفال من كرتون على الشاشة مع أبيهم، وكأن الأب هو نفسه شخصية كرتونية أو أن مخيلته الهشة مشكلة عبر مسلسلات الكرتون التي يدمن مشاهدتها مع أبنائه.

وليس أكبر دليل على كونه مجرد طفل كبير من احضاره لتلك النافورة الرخامية التي تبدو شاذة الهيئة وسط شقتهم كالحة الجدران ملوثة الهواء متسخة الضوء، لمجرد أنها تعطي شكل حلو على جد قوله (وكمان شيك) وفي لعبة صوتية ماكرة يتناقض صوت خرير الماء العذب والطيب مع الواقع المتسخ البائس لشقة وحياة الأسرة، بينما تستمر الزوجة/ إيزيس في هز رأسها ربما شفقة على حالها من هذا الأوزوريس الأهطل، الذي لا يلبس أن يتحول بعد كل هذا إلى دجاجة تحتاج إلى رعاية خاصة، حتى أن صوت رفرفة أجنحتها غير الطائرة ونقيقها المزعج يعكسان حجم المآساة الواقعية جدًا رغم عبثيتها.

هل اتفق أوزوريس «ريش» مع الساحر على أن يخفيه ويستبدله بدجاجة كي يهرب من أسرته وحجم المسؤوليات والمتطلبات المادية التي تثقل كاهله الضعيف؟ أم أنه هو نفسه الذي قرر الهرب مستغلًا لحظة انشغال الجميع بالفقرة السحرية ضمن عيد ميلاد ابنه، الذي هيأ له أسباب الفرحة والوجاهة المتواضعة؟ وكأنه يحتفل أخيرًا وبمفرده بالقرار الذي أوشك على تنفيذه، وبالحرية التي سوف ينالها حين يهجر كل شيء خلفه، 

مستبعدين بالطبع أن يكون قد تعرض للخطف من قبل الساحر لأنه لا يملك مصلحة في ذلك. ومستبعدين أيضًا مسألة السحر والأعمال السفلية وشغل الجان، دون إغفال مكر السيناريو في استغلال حالة الواقعية السحرية لتحفيز مخيلة المشاهد وإثارة فضوله. والواقعية السحرية يمكن اختصارها في معادلة بسيطة، وهي فعل عادي يؤدي إلى نتيجة فانتازية مثل رجل يختبئ في صندوق لساحر شعبي، ثم يخرج منه في هيئة دجاجة.

على وش القمر 

أين تقع حكاية الفيلم؟ ومتى؟

يمكن القول إن المكان في السينما خاصة والفنون البصرية عامة هو أكثر العناصر التي يمكن أن يتجلى فيها الزمن تحت ضوء الواقع، المكان في السينما هو زمن متجسد، والصوت هو زمن حي، بل إن المكان على الشاشة يحوي من طبقات الزمن ما يفوق أي إشارات أخرى كالساعات أو التقويم أو الأرقام أو حتى المعلومات المباشرة في الحوار، المكان يحتوي تاريخ الشخصيات وحاضرها وإرهاصات مستقبلها، يقتني ملامح المرور وتبدل الأحوال والحالات، بينما الصوت هو بصمة الزمن المراوغة التي لا تخلو من انعدام اليقين.

وحين أشرنا إلى حالة نهاية العالم (الأبوكاليبس) التي تعيشها شخصيات الفيلم، نجدها في إشارات زمنية تؤطره وتحدده عبر شكل المكان الذي تعيش وتتحرك فيه وبيئته الصوتية الغريبة؛ كالمصنع القديم الذي يبدو كأنه ما تبقى من قنبلة ذرية، شقة العائلة المنكوبة التي تبدو من بقايا عصور الاشتراكية ومساكن العمال الملحقة بالمصانع وقت المد القومي وجمهوريات موز الشعارات العطنة، وصوت برامج التلفزيون التي إما أنها تنتمي إلى زمن قديم، أو أنها ما تبقى من مواد مصورة يعاد تقديمها بعد أن تعطلت الإنتاجات الحديثة كما تعطل طبع النقود مثلًا.

وبجانب ما قدمه الزهيري من معالجة حداثية تستند على هضم جاد لتراث الميلودراما والأسطورة، فإنه لولا تعليق اسئلة الزمان والمكان بهذه الصورة التي تتأرجح بين الغموض والتجريد، ما كان لعجينة الميلودراما والتراث أن تفرز مادة قوية بهذا الشكل، خاصة مع الإصرار على ما نراه ونسمعه من صوت للدخان والأتربة وهياكل المباني المتداعية والمساكن العجوز والسيارات القديمة. يضاف إلى ذلك شريط صوت مفعم بحالة نوستالجيا رهيبة – ما بين ألحان غير مشهورة لبليغ حمدي وقت أن كان في باريس ومقطوعات لعمر خورشيد وأغاني لفايزة أحمد وجورج وسوف- وكلها اختيارات تعلق الزمن بصورة هائلة على مشجب التجريد.

ثمة اشتغال زمني في شريط الصوت بشكل جرئ ومربك، لكنه إرباك مفهوم وذكي، لا يوجد شكل تقليدي للموسيقى التصويرية، لكن هبوب الألحان غير المشهورة لخورشيد وبليغ يبدو وكأنه قادم من جهاز كاسيت عتيق يشبه الذي استولت عليه الإدارة مقابل الإيجار المتأخر، وبما أن الصوت هو جزء من الزمن في السينما، وبما أن البيئة الصوتية هي سرد زمني في تجليها وتأويلها، فقد أفلح المخرج كثيرًا في ضبط المزاج الصوتي لفيلمه زمنيًا بشكل دقيق وتجريدي جدًا، وكما يقول المخرج الفرنسي روبير بريسون فإن الأُذن أعمق من العين، وصفير قاطرة واحدة يكفي أن يستدعي للذهن محطات قطار بأكملها، وبالتالي فإن لحن واحد أو مؤثر صوتي في غير موضعه الدرامي أو الزمني أو البنائي كفيل بهدم اجزاء كبيرة من الحالة الفيلمية عامة وفي حالة ريش خاصة.

نحن في عالم يحوطه الدخان كما شوارعنا البائسة، تحكمه قوانين بيروقراطية لا تسمح للمرأة أن تعمل كي تعيل اسرتها في غياب زوجها، لكنها لا تجد غضاضة في انتزاع طفل صغير لكي يعمل محل أبيه بدلًا من الذهاب للمدرسة. بيروقراطية عوراء، لا فرق بينها وبين النخاسة التي لا تزال تمارس كما نرى في المشاهد التي تذهب فيها الزوجة للعمل كخادمة، فتتعرض لكشف هيئة طبي يفتش في خلاياها من أجل التأكد أنها صالحة للعمل لدى علية القوم. مرة أخرى يعود صوت خرير الماء، ولكن في بيئة مكانية تتمتع بالرفاهية، يجري هذا الكشف أمام المرأة المفتعلة التي نراها في ثوب السادة وتعاليهم بينما تمسح الزوجة بلاط قصرها الفخم في مستوى الكلب الذي يبدو مهجنا على خنزير.

الأغنية الأخيرة

رغم أن طول الفيلم يقترب من الساعتين إلا أن إيقاعه يبدو منضبطًا بحسبة دقيقة، فلا ترهل في الإيقاع ولا ثرثرة فارغة ولا مشهد زائد عن حاجة المعالجة، ولا صوت في غير محله، شريط صوت منمق وخشن يعكس اصوات البيئات الملوثة بكل ما هو متداع وفارغ وحقير.

يشتغل الزهيري على مونتاج شرس، بصريًا وصوتيًا، قافز، عصبي، يختصر ترهات كثيرة، وغاصبًا للمتلقي على أن يتبعه بذهن منتبه كي لا تفوته المعلومات الشحيحة المتوفرة ببخل عما حدث ويحدث، خصوصًا مع ما يبدو وكأنه بقايا حوار أو نهايات جمل، الحوار في شريط الصوت هو ضيف غير مرغوب فيه بهذا الفيلم، والبخل في عرض المعلومات يصيب المتلقي بالقلق خوفًا من عدم الفهم، وبالتالي يصبح أكثر حساسية تجاه مختلف عناصر الحكي خاصة مع بذخ الصورة، ووجود صيغ مختلفة لعرض التفاصيل غير أساليب مسرح الأطفال أو حكايات ما قبل النوم المريحة.

يكفي أن نشير إلى استخدام تيمة قصة حب بتوزيع بليغ حمدي موسيقيًا في مشهد العثور على الأب بالصدفة كمشرد ملقى في قسم الشرطة، حين تذهب الزوجة لتقديم محضر عن اختفائه، ثمة تناقض هائل ومقصود بين الحالة الموسيقية صوتيًا، وما تعرضه الصورة من لحظة عثورها عليه كجثة قديمة بقيت على غير رغبتها فوق الأرض.

وبعد كل محاولتها أن تعيد إليه ما تاه من عقله، يعيد المخرج تقديم نفس المشهد الذي اجتمعت فيه الأسرة في بداية الفيلم، ولكن دون وجود الأب، ثمة نفس البيئة الصوتية التي كانت جزء من حضوره لكن الأم إيزيس نفضت يدها من مهمتها المقدسة، ولم تعد في حاجة إلى أن تلم أشلاء ذهنه الغائب أو حضوره العدمي، لقد صارت تعمل وصار ابنيها يعملان، كما نراهما وهما ملوثان بأثر شحم المصنع، يأكلان طعامًا فاخرًا بالمقارنة بما كانا يأكلانه سابقًا وقت وجود الأب. لم يعد هناك باذنجان ولا جبن قليل، بل بيتزا وهامبرجر. واستعادت الأم التليفزيون، وصارت تسدد أقساط السكن والسلف المتأخرة من حصيلة عمل الأبناء، فماذا تبقى إذن كي تصر على عودة الأب؟ لم يعد هذا زمن السفر للبحث عن المفقود، فلتدعه في الداخل، ميتًا كما كان وقت أن كان دجاجة خاملة، ولتجلس هي مع أبنائها أمام التليفزيون، ترضع حورس الصغير، بعيدًا عن ذُهان الأب، وبقايا الريش.

وكما بدأ الفيلم صوتيًا ينتهي صوتيًا أيضا، بنفس الاشتغال على مبدأ التناقض، حيث تنزل التيترات على أغنية الصبحية لفرقة المصريين الثمانينية، وهي أغنية تكاد تكون ذروة الكوميديا السوداء في الفيلم، خاصة أن لحنها وكلماتها التي تتحدث عن صعود النور والمرح كل صباح، تشكل المعكوس الصارخ لكل ما عايشناه في حياة هذه الأسرة غير المقدسة، بداية من صرخات الجثة المشتعلة وصولًا لرفرفات الدجاجة المذبوحة وصمت الأب الميت.

 

####

 

Sound and Silent Cinema

جاي ويسبيرج

Silent cinema has always been hampered by that first word, “silent.” Already perceived as archaic, exaggerated and uninvolving, silent film is further burdened with the notion of being soundless, yet there was always music, and often foley sounds too. Unfortunately for too many years after the end of the silent era, the accompaniment we would hear was saccharine and old-fashioned, further destroying what great directors had so carefully crafted. In Paris, Henri Langlois, the founder of the Cinémathèque française, refused to screen silent films with any music at all, foolishly believing it spoiled the purity of the image, a damaging act that turned silent film in France into a rarefied art form “appreciated” by only a few. However, anyone sensitive to great film music in the sound era, by such masters as Franz Waxman, Ennio Morricone, Nino Rota or Mohamad Nouh, knows that the right melodies don’t force the image or anticipate the emotion but underscore what’s on screen, just as they continue to do with the best live silent film accompaniment.

So what’s the “right” sound for silent film? Perhaps it’s best to first talk about the wrong sound(s). Trying to imitate what was heard 100 years ago is usually not a good idea: some surviving original scores can still sound good, but often they were just cue sheets consisting of popular music from the era, and these generally lack a sense of cohesion. A more recent example of this method is the so-called score put together by Simon Coquet for the new restoration by the Cinémathèque française of Abel Gance’s 1927 masterpiece Napoléon. The new version, over seven hours long, premiered in Paris last July, and was a disappointment on multiple levels. Musically, the choice was disastrous: Coquet assembled excerpts from a large number of composers, including Brahms, Mozart, Elgar, Mahler and many others, all of which are glorious pieces of music but there was little connection to the film. Rather than developing themes for individual characters and moods, Coquet made a mash-up that sometimes fit the images, sometimes not, but never once held the film together. Think of John Williams’ thrilling leitmotif for Luke Skywalker: it captures his character, and its recurrence forms a thread throughout Star Wars. This is good film music, no matter whether for a silent film or a sound one, because it understands the rhythm of a film, attaching emotions to particular characters. 

Another bad music choice is the use of DJs or techno to accompany silent films. This has become popular among programmers looking to interest new generations in old films, but invariably these contemporary sounds not only clash with what’s on screen, they make the images look ancient while relentlessly emphasizing the newness of the music. Rather than inspiring younger people to open themselves up to silent cinema, these screenings attract audiences for the music alone, with sounds that turn the films into wallpaper.

That’s not to argue against the use of contemporary music. The key is a sensitivity to editing, rhythm and character, finding a way to bring out a film’s emotions without forcing them. I’ve heard terrific accompaniment to Soviet silent films that use industrial sounds to not only mimic the noises of machinery but capture the sense of man as machinery. Jazz can be used effectively, as long as it still pays attention to what’s happening on screen. Western Orientalist fantasies can be undermined by Arab musicians playing traditional instruments, turning films into critiques while still being respectful to what’s happening on the screen. In April at Alfilm in Berlin, sound designer Rana Eid and pianist Cynthia Zaven put together a powerful accompaniment to films shot in Palestine during World War I (including the bombing of Gaza in 1917), using soundscapes, radio broadcasts and music in ways that grabbed hold of the emotions and reinforced the links between past and present. Would that work for, say, a Buster Keaton film, or Murnau’s Sunrise? No. Finding the right accompaniment requires an almost alchemical melding of image and music, but when the musician gets it right, the films feel just as fresh and new as the music itself. That’s the beauty of sound in silent film: one size does not fit all.

 

####

 

Reality and horror heard in sound designed for Agnieszka Holland’s “Green Border”

علا سلوى

It’s been scientifically proved that hearing is faster than sound – the reaction time to even a murmur is brisker than to a movement. What we hear also evokes more emotions than what we see – many film directors complain that they struggle to get at least one tear from their audience, while the composers can make people cry just sliding fiddlestick through their cello. Music in film can be a big gun – manipulating the audience heart so that is skips a beat or rushes with adrenaline. But there are also more subtle ways to direct the emotional resonance and a focus.  Sound design, or sound narrative if you like, is crucial element to guide an audience through the story, to help them anchor in the onscreen world, familiarize with it or remain a stranger in it. What is heard on screen is also a way of connecting to the characters, even if the noise or vibration is barely above the perception threshold. It can be easily verified when you close your eyes while watching the film and just focus on what you hear. For example if you listen to the opening sequence of Agnieszka Holland’s “Green Border”, with sound designed by Roman Dymny it becomes very clear how sound impacts and reshapes the narrative.  The story revolves around 3 groups of protagonists: the refugees hoping to get to European Union through dense woods on the Belarussian-Polish border, the Polish board guards pushing them away from the country, and activists trying to help the refugees to survive in harsh conditions and harbor them to safety. The film is based on real events and has a realistic, documentary-like style. However the way sound was used makes the story unrealistic, subjective and symbolic.

The film starts with an air shot of the forest, with a music composed by Frédéric Vercheval quietly creeping in, but what can be heard mainly is this whiz – that type of a still sound that travels with us on the airplane. This barely audible track is an information about the point of view – it’s not a bird’s flying over the woods, it’s the plane with passengers, that we’re about to meet. And the looming woods will be a main location and a murmuring witness to Gehenna that the refugee family, the protagonists of the film will go through. In the next shot we see them, they’re coming from Syria, Afghanistan and other conflict-torn places, speak different languages and they were all promised by Belarussian officials a safe passage through the woods to Poland, hence the European Union. When the protagonist talk to each other on the plane and exchange information – it’s not how the audience bonds with them; actually it’s the sound of breathing , that can be barely heard fosters the connection. The inhale and exhale makes the narrative suddenly subjective – the audience may not process it, but they’re now attaching to a stranger and start to emotionally invest in their journey. It’s a very discreet, very delicate yet very effective way of forming a connection that goes beyond the screen. When the travelers land in Belarus and go to the border they’re hopeful, because everything went so far so smoothly. When they reach the border, the hell starts – and it manifests through sound as well – screaming of the Belarussian border guards. Technically speaking their screams are dialogues lines, but in fact they’re also sound. Menacing, scary sound effects that invoke almost a physiological reaction. The audience doesn’t need to know the language spoken, also it’s quite clear what the guards’ intentions are. But the sheer volume, tone and cadence of what they say has a much deeper emotional impact and anticipates what is going to happen next. The woods that looked calm and idyllic in the first shot will become a damp, cold hell for the protagonists. Or maybe not…? After they’re pushed under the barbwire to the Polish side, with more screaming and even gunshots heard from afar everything quiets down; only the trees are creeking and the birds are quietly singing. The GPS installed on the phone confirms – they’re in European Union, so the hard part is over, they’re safe. The audience can exhale, too. But the feeling of hope, build through the sounds of nature and stillness is not a final one, it’s merely a prelude to more horror – the refugees will be soon pushed back to Belarus by the Polish border guards, and pushed again to Poland. There will be more screaming, more menacing sounds. They’re stuck in hell and there is no way out, even though they’re out in the open. 

Marcin Wierzchosławski, the Polish producer of the film adds, talking to us that “through the sound mixing and editing the story turns from a documentary-style film into a horror-like tale”.  So whatever the image tells you is an information, and whatever sound design whispers to your ear is a true emotional and symbolical meaning of the story. The duality of the sound and image comes together in “Green Border” to create a horrific story; the one that helps to really understand the tragedy of the refugees and form an empathetic bond with them. 

 

المصرية في

05.11.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004