ملفات خاصة

 
 
 

بذرة التين المقدسة”..

تغريبة رسولوف الأخيرة!

هيثم مفيد

الجونة السينمائي

الدورة السابعة

   
 
 
 
 
 
 

قد تبدو الإبادة القائمة على قطاع غزة حاليًا لا علاقة لها بسطور هذا المقال، لكنها بلا شك كانت فاضحة للكثير من الفظائع التي ظلت طي الكتمان لسنوات طويلة. لعل ما كشفته هذه المجازر المستمرة لأكثر من عام، هي الازدواجية التي يعاني منها النظام الإيراني، الذي لم يتردد في دخول الحرب بحجة المطالبة بحرية الشعب الفلسطيني. ولكن السؤال الذي شغل ذهني أثناء مشاهدة أحدث أفلام المخرج الإيراني محمد رسولوف، هو: كيف تطالب بحرية شعب آخر وأنت تقهر شعبك في الأساس؟

إن قضية قمع الحريات وبطش السلطة التي يطرحها رسولوف في فيلمه الأحدث “بذرة التين المقدسة” The Seed of the Sacred Fig)،  (الذي عرض مؤخرا بالدورةا السابعة من مهرجان الجونة السينمائي)، والمتمثلة في حالة الغليان الشعبي والحراك الشبابي التي أعقبت وفاة الشابة مهسا أميني على يد الشرطة بسبب عدم التزامها بارتداء الحجاب، والتي شغلت النصف الأول من الفيلم تقريبا، تتماس بشكل شخصي مع ما اختبره رسولوف نفسه مع هذا النظام الذي أذاقه مرارة السجن أكثر من مرة بسبب آراءه السياسية في أفلامه. وبسبب بذرته المقدسة، صدر حكم بسجنه لثماني سنوات، لكنه نجح بالفرار سيرًا على الأقدام خارج حدود هذا السجن المُسمى “إيران”، ليضيف رسولوف طبقة مكثفة من مأساته الواقعية إلى طبقات فيلمه المُفعم بالجرأة والقوة.

لسنوات طويلة قضاها رسولوف خلف قضبان سجون سيئة السمعة، ظلت تراوده أسئلة حول آلية عمل النظام القضائي الإيراني. كيف يعمل النظام؟ ومن هم الأشخاص وراءه؟ ما هي حالتهم العقلية ودوافعهم تجاه ما يفعلون؟ .. ولأنه حصل على فرصة لمعايشة هذه التفاصيل عن قرب، فقد تمكن من مراقبتهم محاولاً إيجاد إجابات لتلك الأسئلة، ولم يجد أفضل من شخصية المفتش “إيمان”، ذلك الجلاد الذي يؤيد أحكام الإعدام بحق المعارضين المزعومين، ليكون بوابته لهذا العالم النفسي المعقد.

ينصب تركيز رسولوف في البداية على جعل نبرة فيلمه أكثر هدوءًا من خلال دفع المشاهد باتجاه ما يبدو أنها دراما عائلية، حيث تحتفل نجمة وابنتيها رضوان وسناء بالترقية التي حصل عليها رب الأسرة إيمان، والتي تَعده بمكانة أفضل في السلك القضائي وتَعدهم أيضًا بشقة أكبر وحياة برجوازية أكثر رغدًا.

هذه التورية التي عمِد رسولوف من خلالها إضفاء طابعًا إنسانيًا على شخصياته وبالأخص إيمان، بتصويره في البداية كأب حنون محاصر بين ضغوط العمل ومتطلبات الأسرة ورغبتهم في الترقي الطبقي، ما هي إلا قشرة هشة تبدأ في التفكك والتصدع مع إندلاع احتجاجات طلابية واسعة في شوارع إيران بعد مقتل مهسا أميني، لتكشف لنا عن الوجه الحقيقي لهذا الجلاد الذي لا يتردد في إرسال هؤلاء المحتجون إلى المشانق، وكأن ثمن الترقية التي نالها إيمان هو السير على جثث هؤلاء الأبرياء، على عكس سلفه الذي رفض الخضوع للأوامر قبل أن يُطرد من وظيفته.

على مدار مسيرته السينمائية الممتدة لأكثر من عقدين، كافح رسولوف في أفلامه لكشف وحشية النظام القمعي الإيراني إذا ما فكر أحدهم في الخروج عن النص المرسوم له، وتترسخ هذه الأسلوبية في فيلميه الأخيرين “رجل النزاهة” و”لا يوجد شر”، الحائز على دب برلين الذهبي في 2020. هذا النهج المتبع في أفلام رسولوف كان يتم تقديمه غالبًا من منظور الرجال، من خلال سرد معاناتهم مع الظلم ورغبتهم الملحة في العدالة. لكنه في “بذرة التين المقدسة”، حَلَّق بعيدًا عن مناطق راحته. فمن جهة حافظ على نبرته السياسية المعتادة في أعماله، لكنه في نفس الوقت اختار تقديمها من منظور نسائي، ولا سيما وأن الشرارة التي أججت فيلمه – وكذلك إيران – كانت بدايتها عن طريق شابة عشرينية قُتلت لعدم ارتدائها الحجاب.

هذه التوترات التي أشعلت غضب الكثيرين داخل إيران، هى ذاتها التي أزاحت الستار عن قدسية هذه العائلة المحافظة المستقرة نسبيًا. بداية من الزوجة نجمة، التي تعتبر بمثابة ظلاً لإيمان داخل المنزل. تكافح نجمة في البداية بكامل قوتها من أجل إنجاح ترقية زوجها لأنها تعلم جيدًا مكتسبات هذا الترقي، فنراها تفرض قيودًا صارمة على الفتاتين داخل المنزل، كيف تتصرفان، وكيف ترتديان ملابسهما، وكيف تختاران رفقتهما وتحديدًا الفتاة الثورية صدف، صديقة ابنتها الكبرى، والتي تُشكل أفكارها وزيارتها المتكررة مصدر خطر للأم، التي ترى أن هؤلاء المحتجون “ليسوا بشرًا، بل بلطجية”، وهى نفس الأكاذيب التي يرددها التلفزيون الرسمي، وإيمان نفسه.

ما ركز عليه رسولوف في هذه المرحلة هى الحالة الثورية النسائية التي تتشكل ببطئ داخل هذا المنزل لدى الفتاتين، وبالأخص الكبرى رضوان، التي لا تتوانى عن طرح الأسئلة وخوض النقاشات الجريئة المليئة بالغضب مع الأب. يأتي رد الفعل هذا كنتيجة طبيعية لحالة الوعي التي تشكلت خلف شاشات الموبايل، إضافة إلى ما اختبرته بصورة شخصية مع صديقتها المقربة صدف، التي شُوَّه وجهها البريء بكرات حديدية صغيرة منطلقة من فوهة بندقية أحد رجال الشرطة.

إن صراع الأجيال والاختلاف في المنظور بين الآباء ذوي العقلية المحافظة وأبنائهم الأكثر ميلاً إلى التغيير، ما هو إلا طبقة ثانية ينزعها رسولوف بحذر ليكشف عن أخرى أكثر عمقًا. فكل ما سبق كان بمثابة مقدمة لحالة الرعب النفسي التي تهيمن على النصف الثاني من الفيلم، وتحديدًا عندما يختفي مسدس إيمان الشخصي. هنا يبدأ الشك في التهام عقله، فبالنسبة لإيمان فقدان السلاح يعني خسارة الوظيفة والسجن.

إن الرمزية التي يمثلها السلاح هنا ريما تكون أعمق بكثير من هذه المخاوف السطحية، فهو بمثابة رمز القوة المطلق لهذا الشخص (النظام) والذي بغيابه يفقد السيطرة. ولكن، ماذا لو أن أحد أفراد أسرته يعبث معه؟ وماذا سيحدث إذا حاول أحدهم العبث مع النظام؟ .. بالتأكيد، سيجن جنونه.

إن الفقاعة التي أحاط بها إيمان عائلته لسنوات طويلة بحجة الحفاظ على أمان الأسرة، يتضح فيما بعد أنها لم تكن سوى أكذوبة كبرى، الغرض الأساسي منها هو الحفاظ على سلامة النظام وليس العائلة. فعندما تصبح حياة النظام (إيمان) على المحك، فإنه لن يتردد ثانية في التضحية بمواطنيه (العائلة).

وهذا ما يبلوره رسولوف ببراعة في أحد مشاهد فيلمه القاسية، عندما يصطحب إيمان عائلته إلى محقق خاص لاستجوابهم بشكل مهين عن مكان اختفاء السلاح، وعندما تعترض نجمة على سلوك المحقق – الذي لطالما اعتبرته صديقًا للعائلة – يخبرها بنبرة تحمل رعبًا دفين، بأنه “لم يُعامل شخص هنا بهذا الاحترام من قبل”.

بداية من هذه اللحظة تتصدع معتقدات نجمة، التي ظلت لسنوات طويلة في حالة خضوع واستسلام، لتبدأ تدريجيًا بفقدان الثقة في ذلك النظام الأبوي الصارم الذي يقف على قمة هرمه زوجًا مريضًا بجنون العظمة. هذه الرسائل هي ما ينجح رسولوف بتمريرها طوال أحداث الفيلم، فكل ما تمر به هذه الأسرة هو صورة مُصغرة لما يحدث في إيران.

حالة الجنون والرعب النفسي تلك لا تكتمل إلا عندما يقرر إيمان اصطحاب أسرته إلى منزل طفولته بإحدى القرى الجبلية النائية، بعد أن كُشفت هويته وبات مطاردًا من الثوار بسبب سجله العنيف. في الفصل الأخير من الفيلم، تلتقط عدسة مدير التصوير بويان أغابابايي، أطلال هذه القرية الأشبه بالمتاهة المتداعية، لنتأمل ما كانت عليه إيران يومًا ما وكيف صارت الآن. وهذا ما نلمحه في أحد المشاهد حين تعثر الابنة الصغرى سناء على شريط كاسيت قديم لوالدها يحتوي على أغنية قديمة محظورة تتغزل في شعر المرأة.

هذه الرابطة النسائية التي تشكلت لحماية نفسها، ربما حاولت إثناء إيمان عن المنحدر السريع الذي يسير باتجاهه وتذكيره بحالة السلام والدفء التي أنارت الأسرة في الماضي. ولكن معتقدات هذا الرجل الثابتة وقناعاته الراسخة بجنون السيطرة هي ما تقوده نحو هلاكه المحتوم.

برغم خصوصية العمل وظروف إنتاجه المستحيلة، إلا أن “بذرة التين المقدسة” لا يُعد أقوى أعمال مخرجه. فقد طال الفيلم شيئًا من التخبط والمباشرة بالتنقل بين الأنواع الفيلمية وتعدد أساليب السرد. بداية من العنوان الذي يرمز إلى القمع الذي يَطبق على المجتمع كبذور شجرة التين التي تخنق ببطيء كل ما حولها كي تنمو، مرورًا بدمجه لمقاطع فيديو للاحتجاجات التي وقعت عقب مقتل أميني. هذه العثرات لم تقلل من قوة الفيلم ولا خصوصية الرحلة، فهو مشروعًا جريئًا أنجزه رسولوف سرًا بعيدًا عن أعين النظام، وظل يسابق الزمن لإتمامه وهو على بعد خطوات من المعتقل، وكأن بطله إيمان الذي يطارد عائلته للتنكيل بهم، يفعل الشيء ذاته معه.

ربما يكون “بذرة التين المقدسة” أخر ما تبقى لرسولوف من إيران في منفاه الإجباري. فلا شك أن عودة الرجل – الذي ظل لعقودٍ صوتًا لمن لا صوت لهم – إلى بلاده، ستظل مقترنة بسقوط نظام الملالي، الذي، وإن طال الوقت، فمصيره إلى زوال تمامًا مثل إيمان، أسفل أطلال قرية مهجورة.

 

موقع "عين على السينما" في

07.11.2024

 
 
 
 
 

نسرين الراضي: «الجميع يحب تودا» حقق أحلامي

الممثلة المغربية قالت لـ«الشرق الأوسط» إن فيلمها ينتصر للمرأة

الجونة مصرانتصار دردير

قالت الفنانة المغربية نسرين الراضي إنها كانت تتطلع لتقديم شخصية «الشيخة» التي أدتها في فيلم «الجميع يحب تودا» منذ أن كانت طالبة تدرس الفنون، وأنها قرأت كثيراً عن «فن العيطة» وجذبتها تفاصيل هذا العالم.

وأكدت نسرين الراضي، في حوار لـ«الشرق الأوسط»، أن على الفنان أن يخطط لمسيرته ولا يتركها للصدف، مشيدة باستقبال الجمهور للفيلم في مهرجان الجونة السينمائي، حيث شارك بمسابقة الأفلام الروائية الطويلة، ومن الجونة إلى القاهرة، حيث تشارك نسرين الراضي في لجنة تحكيم مهرجان القاهرة السينمائي، مؤكدة سعادتها بهذه المشاركة ضمن لجنة تحكيم مسابقة «أسبوع النقاد».

تؤدي نسرين بالفيلم شخصية «تودا» المغنية الشابة التي تعيش في إحدى القرى بالمغرب وتحلم بأداء «فن العيطة» وهو فن شعبي مغربي قديم يمتزج فيه الشعر بالموسيقى والغناء والرقص، وتتمنى أن تصبح «شيخة» أي مطربة شعبية، لذا تقرر السفر لمدينة «الدار البيضاء» لتشق طريقها بوصفها مطربة بعيداً عن الإهانات التي تتعرض لها في حانات قريتها وحتى تبحث عن علاج لطفلها الأصم والأبكم.

وفي رحلتها لتحقيق حلمها تواجه التحرش والإحباط لكنها تواجه ذلك بالإصرار، وقد أتاح الفيلم الذي كتبه المخرج نبيل عيوش وزوجته المخرجة مريم توزاني لنسرين انطلاقة جديدة لها بوصفها ممثلة تمتلك موهبة لافتة.

تكشف الممثلة الشابة كيف واتتها الفرصة لأداء هذا الدور الذي فجر طاقات تمثيلية جديدة لديها، وقدمته بأداء مميز، قائلة: «كنت أحلم بهذا الدور منذ سنوات، فقد كان يغريني منذ أن كنت طالبة بالمعهد وقد قرأت كثيراً عن فن العيطة، وقد كتب المخرج نبيل عيوش الفيلم لأجلي، وقال لي قبلها إنه سيكتب فيلماً عن (شيخة) وأنني سأكون بطلته، فهو يعرفني منذ 15 عاماً حين كنت أدرس التمثيل بالمعهد في السنة الأولى؛ حيث كنت أصور مسلسلاً ثم شاركت في عمل كان منتجاً له».

وعن استعدادها للدور وخضوعها لتدريبات طويلة على الغناء والرقص تقول: «كان لدي الوقت الكافي لأفعل ذلك، ولم يكن الأمر سهلاً بالطبع لأنني أغني لأول مرة ولم أكن أعرف بالضبط كيف هي حياة الشيخات، وهو دور جريء نعم لكن الحياة تستلزم الجرأة».

منذ العرض الأول للفيلم في مهرجان «كان» السينمائي، وهو يلاقي نجاحاً وتحصد نسرين إعجاباً من النقاد والجمهور وتكرر الأمر في الولايات المتحدة وفي «الجونة السينمائي» وتعلق على ذلك قائلة: «ردود الفعل بدأت من مهرجان (كان) ثم أميركا التي عدت منها مؤخراً بعد مشاركتي في مهرجان سان فرنسيسكو، كانت ردة فعل الجمهور رائعة، والعجيب أن كل الجنسيات تحس بـ(تودا) وتتعاطف معها».

وتفسر أسباب تعاطف الجمهور مع «تودا»: «لأنها تمثل جميع النساء، كل امرأة ترى نفسها في تودا، وهناك نماذج تماثلها في كل العالم، لذا فالفيلم يُعد انتصاراً للمرأة».

وتعترف نسرين بأن كل دور تؤديه يحمل جانباً من شخصيتها، وترى أن رحلة «تودا» تتلامس مع رحلتها لا سيما في معاناتها الداخلية بوصفها فنانة حتى تحقق ذاتها، لافتة إلى أن «تودا» تحوّلت لصديقة فقد بقيت معها وقتاً طويلاً فقد ظللنا نصور على مدى عام، كنا نتوقف ثم نعود لاستكمال التصوير.

ورشح المغرب فيلم «الجميع يحب تودا» ليمثله في منافسات الأوسكار لعام 2025، وعن ذلك تقول نسرين الراضي: «سعيدة جداً لهذا الترشيح وأتمنى أن يجد الفيلم طريقه للفوز بها، وهذه ليست المرة الأولى التي يُرشح فيها أحد أفلامي، فقبل سنوات تم ترشيح فيلم (آدم) للمسابقة نفسها».

لا تعترف نسرين بالصدف رغم أنها تؤكد أنها محظوظة بعملها مع مخرجين كبار، مؤكدة: «أستفيد وأتعلم من كل مخرج عملت معه، فلكل منهم طريقة وأسلوب مختلف. وأنا لا أعترف بالصدف بل أهتم بانتقاء الشخصيات التي أؤديها، وكل شخصية تأخذني من مكانة لأخرى لأنني مؤمنة بأهمية أن يخطط الفنان لمسيرته ولا يتركها للصدف».

كانت نسرين الراضي قد تُوجت قبل 5 سنوات في مهرجان الجونة بجائزة الفنان المصري العالمي مينا مسعود للمواهب الشابة عن دورها في فيلم «مريم» الذي أدت فيه دور امرأة تواجه مجتمعها بطفل غير شرعي، وقد أشاد مسعود بأدائها للشخصية التي تقول عنها: «كان لهذه الجائزة وقعها عليّ فقد شجعتني كثيراً».

وتعترف نسرين الراضي بحبها للشخصيات الصعبة، مؤكدة أنها تتعب فيها لكنها تشعر بحلاوة التمثيل وتجد فيه تحدياً لها بوصفها ممثلة، وتضيف: «الهدف عندي أن أؤدي شخصيات أشعر بالفخر بها».

وأحبت نسرين السينما من خلال الأفلام المصرية مثلما تؤكد: «كنت أشاهد الأفلام المصرية (الأبيض وأسود) منذ طفولتي مع والدتي، وقد تأثرت بها، لكنني أحب بشكل خاص سينما المخرج يوسف شاهين».

وعن السينما المغربية تقول: «أشعر بالفخر لما تحققه السينما المغربية، لكن ما زال الطريق طويلاً، فالإنتاج يظل قليلاً حتى الآن».

 

الشرق الأوسط في

09.11.2024

 
 
 
 
 

"سانتوش": حبكة سينمائية متعدّدة الطبقات

محمد هاشم عبد السلام

لسنوات طويلة، غابت السينما الهندية، الفنية أو المستقلّة، عن المحافل السينمائية الدولية، وظلّ حضورها نادراً في المهرجانات الكبرى، أو غير لافت للانتباه، رغم التاريخ العريق والأسماء اللامعة في مختلف جوانب الصناعة. هذا العام شهد حضوراً قويّاً لها بأكثر من فيلم روائي طويل، إضافة إلى أفلامٍ قصيرة ووثائقية وتحريك، اتّسمت موضوعاتها بجرأة وعمق معالجة وطرح، وتوفّرت على جماليات فنية ملحوظة.

أكثر ما يلفت الانتباه حضور مخرجات هنديات، تُوِّج بحصول بايال كاباديا على الجائزة الكبرى لمسابقة الدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2024) لمهرجان "كانّ" عن "كلّ ما نتخيّله كضوء" (العربي الجديد، التاسع من يونيو/ حزيران 2024). في الدورة نفسها، جذب "سانتوش" لسانديا سُوري الانتباه في "نظرة ما"، وفي مشاركته في مهرجانات أخرى، رغم كونه أول فيلم لمخرجته، المتمكّنة من الكتابة واختيار مواقع التصوير وإدارة الممثلين، وجوانب إخراجية مختلفة، ما يؤكّد موهبتها وحِرفيّتها ومستقبلها الواعد.

من ناحية الموضوع، لم يحد "سانتوش" كثيراً عن سمات أغلب الإنتاجات الهندية الفنية الأخيرة: ابتعاد مُتعمّد عن النمط البووليودي والميلودرامات الهندية المعتادة، وجرأة في تناول موضوعات بالغة الحساسية في المجتمع الهندي، كالفقر والتفاوت الطبقي والطائفية والفساد والتمييز الديني ومشاكل المرأة. وهذا بوعي وفنّيات وجماليات ابتعدت عن المُباشرة والتسطيح والإثارة المجانية. فيه، تُلاحَظ جرأة التناول وذكاء المعالجة، بالتركيز أساساً على الفساد عامة، والتخاذل والتواطؤ في جهاز الشرطة، لا سيما في الأرياف والمناطق الفقيرة النائية.

الأبرز: خروجه عن المُعتاد، بفضحه أفراد الشرطة النسائية. استغلالاً لثغرة في القانون، تضطرّ الأرملة الشابة سانتوش (شاهانا غوسوامي)، لضغط متطلّبات عيش وصعوبات حياة، إلى أنْ ترث مهنة زوجها الراحل. فجأة، من دون استعداد، تقبل أنْ تَحلّ محلّه بين عناصر الشرطة المحلية، في منطقة ريفية شمالي الهند. سريعاً، تجد نفسها وسط عالم تحاول في البداية التعرّف إليه، ثم تحتاط وتكون حذرة ومتحفّظة، كي لا تغرق في مستنقعه. لكنّ هذا العالم يجذبها إليه تدريجياً بقوّته الرهيبة، التي تستحيل مقاومتها. وهذا يُتيح لسانديا سوري فرصة استعراض خبايا هذا العالم المغلق، وسلوكياته الشائنة والمُدانة، من دون افتعال، وبمصداقية شديدة تلامس أحوال الشرطة وسلوكياتها في الهند، وفي العالم.

بحِرفية شديدة، وعبر حبكة درامية وحوارات مكتوبة جيداً، تُقدَّم سانتوش وتطوّر مسار حياتها، والتغيّرات التدريجية التي تطرأ على شخصيّتها، وتمزّقها الداخلي بين نزاهتها ويقظة ضميرها وإنسانيتها، وانزلاقها من دون وعي وانتباه وإرادة إلى المستنقع، والتورّط في فساده وإجرامه. في البداية، لم تتوقّع أنْ تتلقّى رشوة صغيرة مقابل تستّرها على لقاء غراميّ، لكنها تُفاجأ به وتقبله بابتسامة حائرة، وشبه مقتنعة.

بداية مفاجئة ستكون مقدمة لرصد تحوّلها التدريجي، هي التي تجهد في عملها، وتطبيق القانون قدر المستطاع، ووفقاً للإمكانيات والصعوبات والتوترات العرقية والدينية والطائفية، وللتفاوت الاجتماعي في البيئة المحيطة بها. نقطة الانقلاب مشاركتها في التحقيقات الجنائية للإيقاع بالشاب المسلم سليم (أرباز خان)، المشتبه بارتكابه جريمة قتل واغتصاب وتعذيب صبية من طائفة الـ"داليت" في قرية. غرض سعيها الحثيث الإمساك به، وتقديمه إلى العدالة، والاقتصاص منه لأجل الفتاة المغدورة وأهلها المكلومين، والتعويض عن تقصير جهاز الشرطة وتقاعسه في البحث عنها وإنقاذها، خاصة أنّ والدها عبّر عن خشيته من غيابها قبل وفاتها.

نجاح سانتوش في الإيقاع بالشاب بداية انقلاب وتطوّرات مفاجئة لأحداثٍ تتعقّد في النصف الثاني من الفيلم، خاصة مع اتّضاح حقيقة ما جرى، ما يضعها، هي المُشاركة في انتهاكاتٍ، أمام ما يجري في أقسام الشرطة وسلوكياتها، وعلى من يُطبّق القانون، ولمن ينحاز، ما وضعها أمام نفسها، وضرورة اتّخاذها قراراً أخلاقياً ـ إنسانياً حاسماً: المواصلة، أو الفرار من هذا المستنقع الذي سيجرفها من دون شكّ إلى فظائع، وربما جرائم أخرى، مُستقبلاً.

بحبكةٍ متعدّدة الطبقات كهذه، ومُعقّدة في رسم الشخصيات ونسج الخيوط، صوّرت سانديا سُوري ببساطة ومن دون حذلقة وافتعال مدى تعقّد وتشابك العلاقات وتركيبتها الغريبة في المجتمع الهندي، خاصة تلك المتجذّرة في الريف الهندي، وكيف تبدو وفقاً للأحداث عصية على الحلّ والمعالجة والتغيير، في ظلّ جهاز تنفيذي يعمل على ترسيخها. في الوقت نفسه، هناك بناء درامي خطي مُثير ومُشوّق وسريع، مع صعوبة توقّع الأحداث وتطوّرها، وردود فعل الشخصيات. الأداء المتمكّن والمتّزن بإدارتها أكسب الشخصيات عمقاً ومصداقية وإقناعاً. زادت هذا كلّه الخلفية العامة، والبيئة المحيطة بالأحداث وسياقاتها، التي سَهّلت رصد هذه التفاوتات، ومدى بؤس حياة فئات عريضة في مجتمع هائل، على قدر كبير من التعدّدية والتقدّم والتطوّر، الذي له أيضاً وجهٌ آخر، وقاعدة عريضة غير مرئية ومقموعة ومُهملة ومسلوبة الحقوق وأبسط مقوّمات الحياة.

 

العربي الجديد اللندنية في

13.11.2024

 
 
 
 
 

مهرجان الجونة السابع: السينما في زمن القتل والدمار

هوفيك حبشيان/ المصدر: "النهار"

عقد مهرجان الجونة السينمائي دورته الأخيرة (24 تشرين الأول - 1 تشرين الثاني) على هامش الحرب على غزة ولبنان. في العام الماضي، تم تأجيل طبعته التي كان من المتوقع عقدها، بسبب ما نتج من السابع من تشرين الأول، فأقيمت في كانون الأول الماضي. نُظَّمت آنذاك طبعة مقتضبة، خفيفة نظيفة، انسجاماً مع الظروف. رافقتها جدالات ومهاترات انتهت بتبرع عائلة سويرس (مالكة الجونة ومنظّمة مهرجانها) إلى الهلال الأحمر المصري كمساهمة في دعم الاغاثة في قطاع غزة، بالاضافة إلى ادخال العنصر الفلسطيني إلى المهرجان، على شكل أفلام ومواقف ودعم معنوي. حدث هذا كله مع المزيد من التركيز على الأعمال السينمائية المعروضة بدلاً من مظاهر الاحتفالية. لفترة، دار النقاش حول: هل يمكن الإحتفاء بالفنّ في ظلّ العدوان الإسرائيلي والمآسي التي تحل بالناس تدميراً وقتلاً؟ أم ان الفنّ في ذاته هو أصلاً فعل مقاومة؟ 

هذه الأسئلة لم تُطرح هذا العام، بعدما دخلت الأزمة عامها الثاني على التوالي، وإن تجددت في لبنان بشكل مختلف. فهذه الحروب، تنتقل بعد فترة من اندلاعها، من كونها حدثاً يتصدّر مانشيتات الصحف والأخبار العاجلة إلى واقع يومي يجب التعايش معه مهما يكن. باختصار، لا تعود تثير الا اهتمام المتضررين المباشرين منها، بعد ان ينصرف الجميع إلى شؤونه. بعد نحو سنة على عملية "سبعة أكتوبر" السيئة الذكر، ما عاد للعدوان الإسرائيلي أي قدرة على منع حدث سينمائي من الانعقاد. وها ان المهرجانات العربية تشق دروبها المعتادة لتعود إلى وتيرتها الطبيعية، من وهران والجونة والقاهرة إلى أجيال (قطر) فمراكش والبحر الأحمر في السعودية، فيُعقد الواحد تلو الآخر، من المحيط إلى الخليج، مع اختفاء تام للجدال حول ضرورتها في مثل هذا الظرف. فالإنسان كائن يتأقلم مع الظروف كافة، ويطبّع مع كلّ الأحوال، وعلى الحياة ان تستمر في نهاية المطاف.  

مع بدء الدورة السابعة من الجونة، زحف كثر من أهل السينما والعاملين فيها في مجالات شتى، إلى ضفاف البحر الأحمر، حيث هذه الواحة السينمائية الواقعة وسط الصحراء والمسماة الجونة. عاماً بعد عام، وطوال سبع دورات، اعتدنا المكان وتولّدت ألفة بيننا، رغم اننا استغربناه في البداية، ولم نأخذه على مجمل الجد، بل كنا "متوجّسين" إزاءه: فمشاريع رجال الأعمال الثقافية، خصوصاً في العالم العربي، مرتبطة في المخيلة الجمعية بنزوة صيف تنتهي مع حلول الشتاء، وهي تخفي بحسب هذه المخيلة كومبينات ومصالح رأسمالية وسياسية ومخططات تقع خارج إطار الفنّ والثقافة، ومن بينها: الترويج للسياحة والعقارات، فرض نفوذ، وأمور قد تكون أبعد من إدراكنا. لكن هذا كله أصبح ثانوياً، عاماً بعد عام. فأياً يكن هدف أصحاب المشروع، عادت المصالح وتقاطعت مع الرواد الباحثين عن كلّ جديد من أحدث إنتاجات السينما. فالبلدة باتت تتكرس وتضرب جذورها في الأرض، أولاً كمكان ومسرح للأحداث، ثانياً كمنبر لحدث ثقافي فني ترفيهي. من بين الإيجابيات ان الناس باتوا يعرفون ان السجّادة الحمراء هي السجّادة الحمراء والأفلام هي الأفلام، وهذه لا تلغي تلك. هذا من أكبر التحديات التي واجهها المهرجان طوال تاريخه الفتي. وقد ساعدت أجواء الحرب على مدى العامين الماضيين، في تقليص أهمية السجّادة الحمراء، والتغطية الاعلامية المرتبطة بها التي رافقت الحدث منذ بداياته، جاعلةً منها مركز الكون وحديث رواد التواصل الاجتماعي على نحو يفيد "الجونة" من جهة ويضره من جهة أخرى. 

في المقابل، لا نعلم ما اذا كان هذا التقليص الذي كان من شأنه التعريف بالمهرجان باعتباره حدثاً مخصصاً للأفلام لا للأزياء، أفاد كلّ الأفلام المعروضة على نحو يمدّها بالاهتمام الذي تستحقه. المتابعة والرصد لنحو تسعة أيام من الاقامة في الجونة ومعايشة أجوائها، جعلاني أنخرط في الصالات وأحتك بالحضور لأخرج بالاستنتاج الآتي: كلّ شيء يتوقّف على ماهية الفيلم المعروض ومدى رغبة الجمهور على مشاهدته. هذا السلوك “الطبيعي” ليس حكراً على جمهور الجونة، بل شيء نراه ونلمسه في المهرجانات العربية كافة. هناك فرق كبير في الحضور بين فيلم وفيلم، وكلّ شيء يتوقّف على حماسة المُشاهد حيال هذا العمل وعدم اكتراثه لهذا الآخر. ففي حين أُضيفت عروض جديدة لأفلام حقّقت اقبالاً كبيراً، شهدت صالات أخرى العديد من الكراسي الفارغة. لكن الجمهور في مجمل الأحوال هو إلى تزايد (أعلن المهرجان 5500 اعتماد و22500 تذكرة ضمن أرقام قيل انها غير مسبوقة)، فالبعض بدأ يحج إلى الجونة، بل يحضر المهرجان على نفقته الخاصة ليمضي أسبوعاً، وربما أقل أو أكثر، في ربوع بلدة يحلو فيها قضاء بعض الوقت، بين الأفلام والنجوم والأصدقاء والبحر والنسيم، بعيداً من صخب المدن الكبرى وضوضائها. 

رغم ان المكان نفسه واحة للعيش الهادئ والاستجمام وتجاهل العالم الذي نعيش فيه (يزوره عدد كبير من السيّاح الألمان وغيرهم)، من اللافت ان المهرجان، كي ينال شرعية، لا بد ان يستنجد بالواقع الصرف. "نافذة على فلسطين" (قسم مستحدث يتضمن ستّة أفلام فلسطينية) هي الفكرة التي خرج بها المبرمجون العام الماضي، وعادت للسنة الثانية، والهدف منها إثنان: من ناحية، تخدير عواطف المحتجين الغوغائيين واسكاتهم، ثم نيل رضاهم لاقامة "عرس ثقافي" في زمن القتل والتدمير، ومن ناحية أخرى اسناد البرنامج بتشكيلة من الأفلام التي تحاول مد جسور بين ضفتي العالم العربي، تلك التي تعيش أماناً نسبياً وتلك التي يعاني سكّانها من الأهوال السياسية والإيديولوجية. هذا مع التذكير بأن المهرجان، منذ انطلاقه، رفع شعار "سينما من أجل الإنسانية"، وهو تعبير فضفاض يضم أي شيء ولا شيء، ولكنه قد يعني أيضاً ان هذه التظاهرة جزء لا يتجزأ من العالم ومشاكله، بصرف النظر عن التموضعات والاصطفافات السياسية، ومع ذلك لا يمكن ان نتخيل ولو للحظة ان هذه الإنسانية قد تسري أيضاً على ما لا يناسب التوجهات السياسية لأصحاب المشروع والبلد المضيف.  

ورغم ان البلد المستهدف بالعدوان عند لحظة انعقاد الدورة الأخيرة من الجونة كان لبنان، بدت فلسطين عنواناً ثابتاً لا يتغير حتى لو تغير الضحية والمستهدَف. فلفظ فلسطين أصبح كأنه بديل لكلّ المآسي العربية، وعند نطقه لا يعود من المهم قول اسم شعب آخر وبلد آخر ومأساة أخرى تجري فصولها في الشرق الأوسط. من الممكن مناقشة هذا كله في ضوء ما يحدث في المنطقة، لكن ما لم ينل حقّه من النقاش هي مبادرة الاحتفال بفلسطين من خلال عرض الأفلام كبديل من العجز السياسي والحلول الديبلوماسية والمواجهة المسلّحة، والمقصود مناقشة تكون من وجهة نظر سينمائية صرف. اذ ماذا يعني ان نختار عدداً من الأفلام لا لمستواها السينمائي بل لأنها صُنِعت في بلد أو لكونها تحكي عن قضية معينة؟ هناك كلمة واحدة من الممكن ان نصف بها هذه المبادرة: الدعاية. تلك الدعاية التي تُساند وتدعم وتتعاطف وتهتم تحت ضغط الحدث، وتدور حول سينما تأتي من مصدر واحد. للأسف، لا توجد تسمية أخرى لهذه النافذة، ولو ان نيّات المنظّمين طيبة في مجملها.

هذا لا يعني ان عدداً من الأفلام الفلسطينية المعروضة في الجونة لم تكن تستحق العرض. من بينها: "برتقالة من يافا" للمخرج الفلسطيني محمد المغني الذي كان نال الجائزة الكبرى في مهرجان كليرمون فيران الأخير في بداية هذا العام، ليصبح أول فيلم عربي ينال هذه الجائزة المرموقة، ثم أُسندت اليه في الجونة الجائزة الفضية لأفضل وثائقي عربي. الحكاية غايةٌ في البساطة: شاب من غزة (سامر بشارة) يدرس في بولندا (البلد الذي درس فيه المخرح السينما) يسعى إلى الانتقال من منطقة إلى أخرى، إلى يافا تحديداً، للقاء أمّه التي تنتظره في قلنديا، وعليه بالتالي ان يعبر حاجزاً إسرائيلياً. سائق سيارة الأجرة (كامل الباشا) الذي يوافق على نقله، هو رجل في الستينات، يتردد بدايةً ثم يستسلم لرغبة الشاب، وما هي سوى دقائق حتى يعلق كلاهما على المعبر ريثما يتأكّد جنود الاحتلال من الأوراق الثبوتية، ولكم ان تتخيلوا التتمة عندما يكتشف أحد العناصر ان لا تصريح لدى الشاب يسمح له بالدخول. والأنكى ان السائق ما عاد يستطيع لا المضي في طريقه ولا العودة إلى الخلف. انه شيء أشبه بفخ محكم. ما هو مجرد فيلم بالنسبة إلى المُشاهد، هو واقع يومي للآلاف من الناس المضطرين لاحتساء هذه الكأس المرة. معضلة درامية تُلخَّص ببضعة أسطر وشخصيتين رئيسيتين… هذا كلّ ما هو عليه الفيلم، لكن سرعان ما تتحول السيارة المتوقّفة عند الحاجز ميكروكوزماً، والشخصان المنتظران في داخلها رمزاً للعيش الفلسيطني في ظلّ الاحتلال. تعاطي الفيلم مع موضوع شديد البساطة كحق المواطن في التنقّل الحر من نقطة "أ" إلى نقطة "ب"، يجعلنا نسأل: ماذا يعني ان يعاني الإنسان، مطلق أي إنسان، للعودة إلى منزله؟!

النافذة على فلسطين لم تطل على حاضرها فحسب بل على ماضيها أيضاً. وفي اطار الاستعادة لبعض الأعمال القديمة، قدّم المهرجان أحد كلاسيكيات السينما العربية: "المخدوعون" (1972) لتوفيق صالح، المقتبس من رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني. هذا أحد أشهر الأفلام العربية، وقد نال "التانيت الذهب" من أيام قرطاج السينمائية، قبل ان يتحول مع مرّ الزمن إلى أحد أقوى الأعمال عن القضية الفلسطينية، وأنجزه صالح مشحوناً بكلّ الغضب والحزن والأسى الذي كان يسكنه بعد موت عبد الناصر. الحكاية: في عام 1958، في البصرة، يحاول ثلاثة فلسطينيين الهرب إلى الكويت. للثلاثة تجارب سيئة مع المهربين، اذ سبق أن جرى خداعهم وتركهم في وسط الصحراء. لكن هذه المرة يوافقون على الاختباء داخل فنطاس صهريج في عزّ شهر آب وتحت حرارة تتجاوز الخمسين. تتأخّر السيارة في المرور على نقطة تفتيش الجمارك، فيموت الشبان الثلاثة من الحرّ وعدم وجود أوكسيجين، وينتهي بهم القدر ثلاث جثث على كوم الزبالة. "وكأنهم على موعد مع الموت في غياب الحلّ العربي لقضيتهم"، قال صالح عنهم.

خاتمة الفيلم تذكّر قليلاً بالفصل الأخير من "أجر الخوف" (1953) لهنري جورج كلوزو، لكن نهاية الرواية مختلفة عن نهاية الفيلم: كنفاني أعطى موت المخدوعين سوداوية أكبر باعتبارهم سقطوا بصمت وخنوع ورغماً عنهم، أما صالح فوجد في هذا الموت نوعاً من اصرار على مواصلة النضال. وطبعاً، مرة أخرى، مُنع عرض الفيلم الذي استطاع ان يعبّر جيداً عن الواقع العربي ونكساته، في بعض الدول العربية، منها الأردن والكويت. فالهاربون الثلاثة جالسون في مكان شديد الظلمة ويقصدون المجهول. هذا خطاب صالح في حده الأدنى. انطوى "المخدوعون" على نبرة غاضبة واسلوب غنيّ بالاحالات الرمزية في تصويره درب الشقاء والخوف من أجل الوصول إلى الحرية. هذا كله في تلميح واضح إلى ان المخدوعين لم يكونوا فقط هؤلاء، بل الملايين من العرب ممّن يعيشون في العجز.  

صحيح ان فلسطين كانت محط أنظار، من خلال تخصيص فقرة عن أهوالها، لكن "الجونة" لم ينسَ أيضاً لبنان وما يجري فيه منذ نحو شهرين، وذلك من خلال انتقاء مجموعة أفلام لبنانية بعضها نال جوائز، ولا بد ان نذكر منها "نحن في الداخل"، رائعة المخرجة اللبنانية فرح قاسم التي نالت جائزتين (أفضل فيلم وثائقي وجائزة “نتباك” للسينما الآسيوية). هذا الوثائقي يأخذنا شهوداً على علاقة ابنة (فرح) بوالدها في مرحلة ما قبل الانتفاضة الشعبية التي قامت في العام 2019 وما بعدها. المكان: طرابلس. تصوّر قاسم والدها الذي يعاني أمراضاً. الرجل الثمانيني يكتب شعراً، ويجتمع بين حين وآخر بأصدقائه في منتدى للشعر. نجد أنفسنا داخل بيئة شديدة الذكورية حيث اللغة هي المعقل الأول والأخير للبطريركية. لكن المخرجة تتقدّم في مسارها بحب وعاطفة مع رغبة شديدة في الفهم والاحاطة. ستتوغّل في هذا كله، بثقة فظيغة في الذات، لتهدم الأسوار وتفك الأغلال. تفعل ذلك في البدء باستغراب، ثم تهيمن على كلّ التفاصيل. "نحن في الداخل" فيلم لا مثيل له في السينما الوثائقية اللبنانية (رغم عدد وفير من الأعمال التي تتناول الأب والأم والأسرة)، يأخذ وقته ليتكوّن وكلّ خطوة تساهم في التكوين، اذ يمتد على ثلاث ساعات وله قدرة استثنائية في الاقناع والتوغّل وملامسة الأشياء بلا أي ابتزاز عاطفي. لنا عودة موسّعة إلى هذا العمل الشديد الخصوصية الذي شق طريقه، بعد الجونة، إلى مهرجان أمستردام للأفلام الوثائقية. 

عن قضية أخرى على صلة بطرابلس، عرض المخرج اللبناني هادي زكاك "سيلَما"، وهذا وثائقي يعمل عليه منذ سنوات وقد سبق له ان أصدر كتاباً ضخماً في هذا الشأن. لصالات السينما الكثيرة في طرابلس تاريخ وحضور عميقان في الذاكرة الجمعية عند أهل المدينة، خصوصاً ممّن كانوا يرتادونها في طفولتهم وصباهم، تحديداً قبل اندلاع الحرب الأهلية، وتعرفوا الى أعظم الأفلام بين جدرانها. من خلال هذه الصالات التي لا تزال موجودة، ولكنها أصبحت كومة من الركام والأنقاض يعشش فيها الماضي بمختلف مراحله، يحاول الفيلم العبور فوق التاريخ اللبناني، لكن كعمل إبداعي أكثر منه توثيقياً، كما كانت الحال مع "مارسيدس"، أحد أفلام زكاك السابقة. النتيجة: سيعرف المشاهد غير اللبناني عدداً من المعلومات التي كان يجهلها عن لبنان المختلف وسيغوص في أجوائه، في حين ستبعث المشاهدة نفسها في اذن اللبناني رنّة مختلفة.

يبقى الحديث عن فيلم لبناني ثالث هو "مشقلب" لأربعة سينمائيين هم لوسيان بورجيلي وبان فقيه ووسام شرف وأريج محمود. الفيلم الذي نال جائزة الجمهور، عبارة عن أربعة اسكتشات قصيرة داخل فيلم واحد يحاول الاحاطة بواقع اللبنانيين وعلاقتهم بعضهم ببعض طوال السنوات الخمس الماضية، وذلك في ضوء الأزمات المتلاحقة التي أصابت البلاد بدءاً من 2019، وتستمر إلى لحظتنا هذه. ثورة مجهضة، أزمة اقتصادية، انهيار عملة، تفشّي وباء، تفجير مرفأ، فراغ رئاسي، وغيرها من المحن التي تكدّست لتتحول مع الوقت قنبلة موقوتة جاهزة للانفجار في أي لحظة. والفيلم يضمر فكرة هذا الانفجار، فتتجسّد أحياناً بروية، وأحياناً بصخب وهستيريا.

دائماً في ما يتعلّق بالحضور اللبناني في الجونة، سينمائيان لبنانيان بارزان من مواليد بيروت، كُرِّما في المهرجان بجائزة في حفل الختام عن مجمل أعمالهما: جوانا جاحي توما وخليل جريج. انطلقت مسيرتهما في التسعينات وشملت فنّ الفيديو والتجهيز والأفلام الروائية والتصوير الفوتوغرافي. لطالما تفاعلا مع القضايا السياسية والإنسانية التي تحيط بهما لاستكشاف تأثير الذاكرة في الفرد والجماعة. عُرضت أفلامهما في أهم المهرجانات الدولية، من بينها كانّ وبرلين ولوكارنو وتورونتو، وبعضها فاز بجوائز. "بدي شوف" (2008)، بطولة كاترين دونوف، عُرض في كانّ و"دفاتر مايا”، الذي استعاده المهرجان، افتتح الدورة الافتراضية من مهرجان برلين عام 2021.

بعيداً من الحضورين الفلسطيني واللبناني، كسينما فرضت نفسها وسط الخراب المهيمن، عُرضت في الجونة مجموعة أفلام داخل أقسام عدة، تنافسية وغير تنافسية. المهرجانات العربية سلّة عروض تشكّل خدمة إلى الذين يريدون ان يشاهدوا على شاشة كبيرة أفلاماً سمعوا عنها. وهكذا تسنّى لعدد من المتفرجين اكتشاف أحدث أفلام المخرج الإسباني بدرو ألمودوفار، "الغرفة المجاورة"، الفائز بـ"الأسد الذهب" في مهرجان البندقية الأخير، و"أبريل" للمخرجة الجورجية ديا كولومبيغاشفيلي الفائز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في المهرجان نفسه. بالإضافة إلى "احتضار" للألماني ماتياس غلاسنر (عُرض في مسابقة مهرجان برلين الأخير وفاز بـ"أفضل فيلم" في جوائز السينما الألمانية)، و"بذرة التين المقدّس" للإيراني محمد رسول أف (جائزة خاصة في كانّ)، و"المادة" للفرنسية كارولين فارجا (جائزة السيناريو في كانّ)، و"قصّة سليمان" للفرنسي بوريس لوجكين (ثلاث جوائز في كانّ - قسم "نظرة ما")، وغيرها من الأعمال التي يود الاطلاع عليها السينيفيليون في العالم. 

يمكن القول انه كان هناك في الجونة، جرياً للعادة في غيره من المهرجانات، نوعان من الأفلام: تلك التي عُرضت في المهرجانات الكبيرة وبعضها فاز فيها بجوائز رفيعة، وتلك التي عُرضت للمرة الأولى عالمياً في الجونة. لنكن صريحين: الأفلام التي تصل إلى الجونة بعد جولة دولية هي تلك التي تحمل ضماناً بالجودة، فالمهرجانات الكبيرة ككانّ وبرلين وفينيسيا تكون قد وضعت عليها ختمها. وهذه الأفلام هي التي ينتظرها الجمهور أكثر من غيرها، وهي التي تشغل الرواد الذين يسارعون لمشاهدتها. أما تلك التي نبشها المهرجان من تحت سابع أرض، فغالباً تكون أعمالاً متواضعة وهامشية وضعيفة، الا ان هناك دائماً استثناءات تؤكد القاعدة. ومن بين هذه الأفلام التي عُرضت للمرة الأولى عالمياً في الجونة، الفيلم المصري "الفستان الأبيض" لجيلان عوف، وهو عن فتاة تنطلق في رحلة بحث عن فستان زفافها عشية عرسها. وُصف الفيلم بالضعيف والمتهافت، وهذه مشكلة العديد من الأفلام المصرية التي تنطلق من المهرجانات المصرية، أكان "الجونة" أو "القاهرة". 

لجنة التحكيم الرئيسية تكوّنت من خمسة أعضاء: الممثّلة الهندية نانديتا داس والمخرجة الجزائرية صوفيا جاما والممثّلة الألمانية سيبيل كيكلي والممثّلة المصرية منة شلبي، بالإضافة إلى الرجل الوحيد بينهن: الناقد الفرنسي الشهير شارل تيسون، الذي كان ناشطاً على صفحته الفايسبوكية خلال وجوده في الجونة، فنقل تحركاته بين الأفلام وموائد الطعام، مشيراً أكثر من مرة إلى غياب منة شلبي عنها. لن أكرر الحكي الذي قلته دائماً عن عدم أهلية بعض الذين في مقتبل تجربتهم لعضوية لجنة تحكيم (يبدو أنني سأكرره)، كحال صوفيا جاما التي لا تملك في رصيدها سوى فيلم روائي طويل واحد، لكن المستغرب ان هذه اللجنة التي لن نعرف أي نوع من النقاشات دارت بين أعضائها وما هو مستواها، منحت "الأشباح" للفرنسي جوناتان مييه (واحد من أضعف أفلام المهرجان)، "النجمة الذهبية"، أي أرفع جائزة، مفضّلةً إياه على 14 فيلماً آخر شاركت في مسابقة الفيلم الروائي الطويل، من بينها أعمال أفضل كـ"ماء العين" للتونسية مريم جعبر الذي كنّا اكتشفناه في برلين. هذا الفيلم التونسي واحد من أقوى الاقتراحات السينمائية العربية هذا العام. فيه تواصل جعبر الحكي عن الراديكالية الدينية في تونس ما بعد ثورة الياسمين، والتي شهد على أثرها انضمام آلاف التوانسة من الشباب إلى تنظيم "داعش" الارهابي، إيماناً منهم بالجهاد. عمل آخر يتفوّق على "الأشباح" بمراحل: "السلام عليكِ يا ماريا" للمخرجة الإسبانية مار كول التي جاءتنا بعمل ممتاز كان عُرض في مسابقة مهرجان لوكارنو الأخير، ويحمل طاقة سينمائية حقيقية وقدرة عالية في صياغة بصرية تحاكي العقل والإحساس، وهذا كله من خلال حكاية زوجة شابة (لورا فايسمار) يصبح خبرٌ عن أم أغرقت طفليها، هاجساً مدمّراً لديها، علماً انها هي نفسها أم حديثة. فيلم جميل عن الأمومة والذنب وتقييد الحريات وورطة الانجاب.   

أما "الأشباح"، فيدور على حميد (آدم بيسا - نال أيضاً جائزة أفضل تمثيل) عضو في جماعة سرية تلاحق مجرمي النظام السوري الهاربين إلى الغرب. يتكلَّف مهمة تأخذه إلى ستراسبور، حيث يتعقّب أثر جلاده السابق. رغم عرضه في مهرجان كانّ الأخير، ضمن قسم "اسبوع النقاد"، فالعمل بأكلمه مصنوع لجمهور غربي، فيه سياسة لكنه غير مسيس، يأخذ عناصر من الواقع ليتلاعب بها على هواه لهدف ترفيهي، في نسق سينمائي أقرب إلى الثريللر. نخرج بشعور ان المخرج لا يفقه الكثير عن سوريا والشرق الأوسط، برغم ان سيرته تقول انه أمضى الكثير من الوقت خارج بلاده. هذا بالاضافة إلى العديد من الأشياء التي تغدو عائقاً بينها وبين الصدقية، منها الطلاقة التي يتحدّث بها البطل اللغة الفرنسية، وهو بالكاد عاش في فرنسا.

أخيراً، وليس آخراً، كان المهرجان قد انطلق بجدال إثر إلغاء فيلم "آخر المعجزات" (20 دقيقة) للمخرج المصري عبد الوهاب شوقي الذي كان من المفترض ان يفتتح الدورة السابعة. الإدارة لم تحدد ولم تذكر سبب الإلغاء ومبرراته، وسرعان ما استبدلته بفيلم آخر في اللحظة الأخيرة، ("الرجل الذي لم يستطع إلتزام الصمت" للمخرج الكرواتي نيبويتسا سلييبتشيفيك الفائز بـ"سعفة" الفيلم القصير في كانّ الأخير)، الأمر الذي زاد مستوى الغضب عند البعض، اذ تلقّوه كاستخفاف بمسألة جادة كالمنع، وطالبوا المعنيين بموقف حازم، لكن لا قدرة لمهرجان لطالما جبه بانتقادات على مواجهة من هذا النوع مع سلطة دينية. قيل ان الفيلم مُنع شفهياً في اللحظة الأخيرة، وذلك من أعلى المراجع الدينية، الأزهر، كونه يتناول التصوف غير المحبب في مصر، لكن هذا كله غير مؤكّد ويقع في خانة التكهّنات والأقاويل، ويبقى استبعاده إلى اليوم محوطاً بالغموض. وبذلك، فوّت المهرجان فرصة ان يفتتح بفيلم قصير ويصبح رائداً في هذا المجال.

عبد الوهاب شوقي مخرج صاعد يبلغ من العمر 35 عاماً، سبق ان عمل مساعداً للعديد من السينمائيين (من بينهم السوداني أمجد أبو العلاء على "ستموت في العشرين")، قبل ان ينتقل إلى خلف الكاميرا مع "آخر المعجزات"، وهو اقتباس حر لقصّة قصيرة ("المعجزة") لنجيب محفوظ التي صدرت في إطار مجموعة قصصية "خمّارة القط الأسود" (1969) تتألف من 19 قصّة تتناول مواضيع مختلفة. يبدأ الفيلم داخل خمّارة، حيث سيتلقى يحيى (خالد كمال) مكالمة هاتفية من شخص غامض يُدعى الشيخ مأمون يخبره بأنه الكائن المختار. بعد ذلك، سينزلق صديقنا المتحمّس إلى جوف عالم جديد حيث الصوفية والدراويش والتأمل، وسيعيش ما يشبه الولادة الجديدة. لكن النهاية، للأسف، لن تكون كما يرغبها. الفيلم رحلة إلى القاهرة الإسلامية، بعالمها السفلي ورمزيتها وجمالياتها، رحلة تؤكد وجود فنان مثقّف خلف الكاميرا، له مرجعياته وفلسفته وحساسيته، على أمل ان تكون في قلب أعماله المقبلة. 

 

النهار اللبنانية في

21.11.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004