«شكراً
لأنك تحلم معنا»: الفلسطيني يسترد فرديته
هوفيك حبشيان
نادرة هي الأفلام الفلسطينية التي تتناول الفرد في فرديته
العميقة. فالقضية والمصلحة العامة، وما هو «أكبر منا جميعًا»، كلها أمور
تقمعه وتجعل متطلباته الشخصية ومعاناته وهواجسه مواضيع ثانوية، لا قيمة
لها، وقد يعتبرها البعض أنها غير جديرة بأن نلتفت إليها، وسط المصير
الجماعي وما يترتب عليه على المستوى السياسي والنضالي والوجودي، وهذا كله
انطلاقاً من منطق «لا صوت يعلو فوق صوت القضية».
لكن، في المقابل، من ولد وعاش في منطقة صراع متواصل، يعلم
جيدًا أن الناس يعيشون حياة (شبه) طبيعية حتى في أصعب الظروف، ولهم
اهتمامات عادية وغير عادية لا تنسجم مع ما يتوقعه منهم الآخرون بناءً على
صورة مسبقة عنهم. بالتالي، أن الأعمال السينمائية الفلسطينية التي انكبت
على الإنسان وقصصه «الجانبية» بمعزل عن القضية الكبرى، هي الأصدق والأكثر
عمقاً وتعبيراً عن الواقع، وهذا ما يجعل أفلام مثل تلك التي أنجزها إيليا
سليمان ومها الحاج وغيرهما استثنائية تخرج عن الإطار المستهلك للسينما
الفلسطينية الشعاراتية التي لا ترى الإنسان أكثر من مجرد تفصيل ضمن المشهد
العام.
هذا ما نكتشفه في «شكراً لأنك تحلم معنا» الذي فاز بجائزة
أفضل إخراج في مهرجان سالونيك الأخير، قبل أن تُسند إليه جائزة أفضل فيلم
في مهرجان «أجيال» السينمائي في الدوحة قبل أيام، وهذا بعدما كان عُرض في
الجونة في أواخر الشهر الماضي.
تحاول
شخصيات فيلم المخرجة ليلى
عباس حق
استرداد الحكاية (ومعها الفردية) لتصبح ملكها، ونحصل نتيجة ذلك على عمل
يسميه الأنغلوساكسون الـ«فيل غود موفي»، أي العمل الذي يمدّك بشعور الغبطة
والمتعة والطاقة الإيجابية، رغم مأساوية الوضع في خلفية المشهد. بلى،
نستطيع أن نتحدّث عمّا يزعجنا ولو في ظلّ أوضاع سيئة، لا بل يمكننا أن
نقارب الأشياء ونتصدى لها بسخرية وخفة دم. هذا لا يتناقض مع ذاك.
نتيجة هذا كله يصبح الدخول في فيلم ليلى عباس أشبه بالدخول
في أي فيلم آخر، فيما الخروج منه يؤكّد مدى أهمية هذا النوع من الولوج. إنه
ولوج محرر من كلّ وزر أو عبء. بضعة مشاهد مقتضبة، وها نحن نًألف المكان،
الذي يشبه أماكننا، ونتعرف إلى شخصيات كتلك التي نلتقيها في طريقنا إلى
العمل، مع الفرق أننا هنا نتأخّر عند ما تحمله من قصص وتجارب.
شخصيات
الفيلم تقيم في رام الله، والفيلم سيسعى مرارًا إلى تقديمها باعتبارها
مرتبطة ببيئة وظروف وأوضاع، ومتحررة منها في الحين نفسه، أو ربما على الحد
الفاصل بينهما، كي يتحول التركيز من الجماعة إلى الفرد، من دون أن يُعتم
الفرد وهواجسه على الشرط الذي تعيشه الجماعة، ومن دون أن يربط الأول مصيره
بالثاني. أما السياق العام الذي تواصل فيه الشخصيات عيشها، فلا يحتاج إلى
أكثر من بضعة مشاهد تأسيسية، ليسدد بها الفيلم حسابه كاملاً.
«شكراً
لأنك تحلم معنا»، أولى تجارب المخرجة الفلسطينية ليلى عباس لصنع فيلم روائي
طويل. عباس درست السينما في لندن، وفي مهرجان لندن أيضًا انطلقت عروض
الفيلم منذ نحو شهرين، قبل أن يشارك في عددٍ من المهرجانات الدولية،
بالتوازي مع ما يحدث في غزة.
ومن
الجيد أن تُعرض أفلام كهذه في محافل دولية بعيدة من العالم العربي، حيث
المشاهدون لا يعرفون من فلسطين سوى ما يُعرض في نشرات الأخبار التي تحول
القتلى إلى مجرد أرقام. أما السينما فتعطي وجوهًا لهؤلاء بعيدًا من كونهم
ضحايا حُشروا بين مطرقة إسرائيل وسندان الواقع الفلسطيني المأزوم الذي
ينطوي على مشاكل داخلية كثيرة.
يمكن اختزال حكاية الفيلم في سطور: عند موت والدهما، تحاول
شقيقتان (ياسمين المصري وكلارا خوري) الحصول على ما تركه الأب الراحل في
حسابه المصرفي من مبلغ مالي محترم. هذا المبلغ من شأنه أن يوفّر لهما بعض
الاستقلالية في مجتمع ذكوري يجعل الرجل مركز الكون.
للحصول
على المال، يجب عليهما الالتفاف حول القانون الذي يمنح الأخ حصّة أكبر.
ولما كانت العلاقة بهذا الشقيق المهاجر إلى بلاد بعيدة غير جيدة، لكونه
أهمل والده ولم يتمم أيًا من واجباته كابن وأخ (ومع ذلك سيكون الأوفر حظاً
لنيل الإرث)، تعتبر الأختان أن من حقّهما اللجوء إلى هذا الحل. لكن الحصول
على المبلغ لن يكون سهلاً. وثمة عقبات عليهما تخطيها، على شكل إجراءات يجب
اتباعها، ممّا سيزجّ بهما في سلسلة مغامرات ومفارقات ويضعهما في سباق مع
الزمن.
لكل منهما مشاكل شخصية ستتطور على هامش الأحداث. فالأخت
الكبيرة متزوجة لديها ولدان، وعلاقتها بزوجها (أشرف برهوم) ما عادت كما في
السابق بل يتخللها العديد من الأزمات تجعلها تبلغ نهايتها المرتقبة. أما
الشقيقة الصغرى، المتمردة بطبعها، فـ«قلبها على لسانها»، هي التي اهتمت
لسنوات بوالدها، ومن هنا يتأتى شعورها بالغبن، مع ذلك الوعي العالي عندها
بكونها امرأة صاحبة حقّ مهدور.
الأخيرة دلوعة الفيلم، الشخصية التي نتماهى معها بشكل كبير
سواء كنّا رجالًا أو نساء، صدى أقوالها يتردد فينا، خصوصًا عندما تقول أن
لا أحد من عائلتها مُعجب بها. لكن، هناك فجأةً قضية تجمعهما. وهي أقوى من
أي خلافٍ، لا بل أن بعض الخلافات ما هي سوى دافع لإعادة المياه إلى مجاريها.
من خلال حادثة عادية والمفارقات الظريفة الناتجة منها،
تتناول المخرجة مسائل لها وزنها في المجتمع الفلسطيني، وأهمها موضوع الإرث
والتمييز على أساس الجندر. لكنها لا تتطرق إليها مباشرةً بل مواربةً، فلا
نوع الفيلم يتيح ذلك ولا الأسلوب الذي تتبناه، هذا الأسلوب المطعّم بالخفّة
والجدية في آن واحد، الذي يدخل قلب المُشاهد بلا استئذان.
لن يتحول الفيلم في أي لحظة فيلمًا عن التوريث والذكورية
والنضال النسوي، رغم أن هذه الأمور حاضرة بقوة في التفاصيل كافة. أينما
حللنا سيكون هناك، شيء يعرقل مسار البطلتين (بالمعنيين الحقيقي واللفظي)،
ذلك أن الموروث الاجتماعي سيتصدى لهما بشراسة لا مثيل لها، ولو بهدوء، بحيث
يوهمنا بأنه غير موجود وغير خطير، وصولاً إلى آخر فصول المعركة. حتى الدين
الذي منه يستمد هذا الموروث شرعيته، والذي يعطي الرجل (هذا الرجل الذي
يستغرب حاجة المرأة إلى السعادة) ما لا يعطيه للمرأة، ليس سوى صوت يصدر في
الخلفية، مما يعزز حضوره، فالغائب كثيرًا ما يصبح أكثر حضورًا.
هنا تكمن قوة الفيلم الذي يمرر ما يودُ تمريره بأريحية ومن
دون أن يصبح درسًا بيداغوجيًا ينفر منه المتلقي، وهذه تحتاج إلى شطارة وإلى
فهم حقيقي لتعقيدات الواقع الفلسطيني، وإلى نبذ سينما تنهل من ينبوع
الشعارات. قد يعتقد البعض أن الفيلم نسوي بامتياز، وهذا صحيح، لكنه يطرح
مقاربة مسؤولة، وعندما تتأخّر الكاميرا على وجه ابن الشقيقة الكبيرة الذي
يتسبب لأمه بوجع الرأس، ندرك أنه يعاني بدوره. فالنساء لا يعانين وحدهن في
هذا الفيلم.
هذا كله لا يعني أننا أمام فيلم لا تشوبه شائبة، ولو أن
الميزان يميل إلى الإيجابيات، خصوصاً أننا نتحدّث عن فيلم أول يحمل في
داخله أفكارًا وطموحًا. فهناك العديد من المناطق الهشة والمهزوزة والضعيفة
في السيناريو، من النوع الذي يجعلنا نسأل «ماذا لو؟». هذه الهشاشة تنسحب
أيضًا على الأداء وخيارات بعض الممثّلين والممثّلات ومستوى الحوارات التي
كان من الممكن أن تكون لمّاحة أكثر، فتزِجُ بنا بالتالي في المزيد من
الكوميديا، في حين أن الفيلم يبخل بها، ويمدّنا بها بالقطارة. نبتسم حيث
كان من الممكن أن نضحك.
هذه
ليست رغبة في جعل الفيلم ما لا يريده، بل رغبة مستمدة ممّا يوحي به مجمل
العمل. أما الحبكة الثانوية الداخلية، أي حكاية ابن الشقيقة الأكبر وغيابه
المتكرر عن الصف، فيا ليتها خضعت للمزيد من الشدشدة من هنا وهناك. بقدر ما
نفهم حاجة الفيلم إلى أصوات أخرى في الخلفية، وذلك من باب التنوع، فإنها
تبدو ثقيلة على الفيلم وغير مجدية. |