ملفات خاصة

 
 
 

فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف

وثائقي داخل المدارس وروائي يبحث عن عادات شبه منسية

هوفيك حبشيان 

الجونة السينمائي

الدورة السابعة

   
 
 
 
 
 
 

كثيراً ما كانت السينما الفرنسية سباقة في تصوير الشباب والأطفال والمراهقين، أي كل من هم في مقتبل تجربتهم الحياتية: اكتشاف المشاعر والوعي على الجنس والاصطدام بعالم الكبار والتمرد على القيم والتقاليد وممارسة الحرية بلا ضوابط… هذا كله ارتبط بفئة عمرية معينة، نقله عدد من السينمائيين الفرنسيين إلى الشاشة طولاً وعرضاً، ومن بينهم، على سبيل المثل لا الحصر، فرنسوا تروفو وموريس بيالا وجاك دوايون ولوي مال وسيلين سياما. 

الفيلم الوثائقي "يتعلم" للمخرجة الفرنسية كلير سيمون، الذي عرض في الدورة الأخيرة من مهرجان الجونة السينمائي، هو غوص في عالم الأطفال والشباب، إذ يحملنا إلى مدرسة ابتدائية في ضواحي باريس. يتابع الفيلم، ببساطة جميلة، الواقع اليومي للأطفال في سلسلة لحظات مرهفة، مما يعيدنا إلى مشاعرنا كتلامذة. تصبح المدرسة أمام كاميرا المخرجة المتمرسة "ميكروكوزماً"، في نمط مشابه لما كانت انتهجته في فيلمها "استراحة" قبل نحو ثلاثة عقود. يستمع المشاهد إلى قصص متنوعة، في محاولة للإجابة عن بعض الأسئلة. لا تركيز على طفل معين، بل اختيار ذكي لجعل الطفولة تتمثل في كليتها، الطفولة كحالة إنسانية ثابتة.

يتطور الفيلم مضيئاً على مهارة الوسائل والتقنيات المستخدمة في هذه المؤسسة التعليمية، وعلى ردود فعل التلامذة حيالها. هي أنشطة قد تبدو بديهية، لكنها في الواقع تذكرنا بمدى أهمية هذه السنوات الأولى في تشكيل الوعي عند الإنسان. أما البساطة فتواكب الفيلم طوال مدته ليذكرنا برائعة السينما الوثائقية "أن تكون ويكون لديك" للفرنسي نيكولا فيليبير. تطلب إنجاز الفيلم شهرين ونصف الشهر، تصويراً، وكان طموح سيمون قد انطلق من رغبتها في التقاط علاقة التلامذة بالمعلمين خلال استراحة الظهيرة، لكنه شيئاً فشيئاً تطور إلى هذا العمل. تقول إن رؤيتها وجوه الأطفال، أي جمال تلك العيون وشفافيتها، أحدثت تغييراً في مسار العمل. 

ولأن المدرسة حكومية، فالتلامذة في الغالب هم من أبناء المهاجرين. هويتهم الشرق أوسطية والأفريقية تصبح موضوعاً مهماً بذاته. لكن الفيلم يرفض أي صورة من صور المهاترات. بل يصالحنا مع المؤسسات التعليمية في حضور الشباب الذين سيبنون عالم الغد. من خلال تقريب المسافة بين السلطة التدريسية والمولودين من رحمها، توجه سيمون تحية من القلب إلى الطفولة وإلى هؤلاء الذين يمسكون بيدها لتلقي بهم في حضن الحياة.

فيلم آخر من الأفلام التي اكتشفناها في الجونة، يأخذ من الشباب مادة لها هو "20 إلهاً" للمخرجة الفرنسية لويز كورفوازييه التي نشأت في منطقة الجورا. فيلمها "مانو أ مانو" كان نال جائزة أفلام الطلبة في مهرجان "كان" قبل خمس سنوات. "20 إلهاً" هو باكورتها الروائية وكان قد عرض في مهرجان "كان" هذا العام، في قسم "نظرة ما" ونال جائزة الشباب، قبل أن تسند إليه جائزة "جان فيغو" المرموقة، التي سبق أن نالها سينمائيون كبار مثل جان لوك غودار وموريس بيالا.

من خلال قصة توتون (كليمان فافو) ابن الـ18، ترسم المخرجة لويز كورفوازييه، ملامح الريف الذي نشأت فيه وجمالياته. توتون شاب على قدر من الغرور لا يفعل كثيراً في حياته، يهوى الحفلات واحتساء البيرة. إلا أنه، بعد وفاة والده، يجد نفسه فجأة مجبراً على تحمل مسؤولية رعاية أخته البالغة سبع سنوات. ذات يوم، يخطر في باله صنع أفضل جبن كونتيه في المنطقة، على أمل الفوز بالميدالية الذهبية في إطار مسابقة زراعية. 

ولد الفيلم من رغبة المخرجة في الإضاءة على قريتها في منطقة الجورا الفرنسية، إذ كبرت بين شباب الريف. طموحها واضح، تصوير قصة شاب محطم يحاول النهوض، بأسلوب يجمع بين الحنان والفكاهة. في تعليق لها، تقول: "من الصعب الحديث عن منطقتي من دون ذكر جبنة الكونتيه التي تشكل جزءاً من مناظرنا الطبيعية وتشغل مزارعينا. أردت وضعها في قلب الحكاية".

لا ينقص الفيلم الحيوية، بل يدمج بسلاسة، أنماط أفلام الشباب و"الوسترن"، مع لمسات من الأمل على رغم التحديات التي تواجهها الشخصيات. استعانت كورفوازييه بممثلين غير محترفين، وهناك حب واضح من جانبها تجاه هؤلاء يترجم بإيجابية عالية. تتداخل أحلام شباب الريف وخيباتهم مع جبنة الكونتيه التي تحتل مكانة بارزة ضمن الأحداث، لتصبح رمزاً لحياة كاملة تدور حول إنتاجها. تأخذ المخرجة كل ما تحتاج إليه من وقت لتصوير مراحل صناعة الجبن، لدرجة تبدو معها طقساً وثنياً. ولكن خلف هذا السعي إلى الجبن المثالي، يأتي الفيلم برؤية اجتماعية أعمق، تتمثل في الانسجام بين المعرفة وإتقان العمل والطبيعة. في كل مراحل إنجاز هذا العمل، اعتمدت كورفوازييه على أداء ممثلين شباب يسعون إلى اكتشاف ذواتهم. هذا كله في عمل يتميز بالكتابة البسيطة والصادقة التي تأتي بدفء إنساني لا يقاوم.

 

النهار اللبنانية في

23.11.2024

 
 
 
 
 

«شكراً لأنك تحلم معنا»: الفلسطيني يسترد فرديته

هوفيك حبشيان

نادرة هي الأفلام الفلسطينية التي تتناول الفرد في فرديته العميقة. فالقضية والمصلحة العامة، وما هو «أكبر منا جميعًا»، كلها أمور تقمعه وتجعل متطلباته الشخصية ومعاناته وهواجسه مواضيع ثانوية، لا قيمة لها، وقد يعتبرها البعض أنها غير جديرة بأن نلتفت إليها، وسط المصير الجماعي وما يترتب عليه على المستوى السياسي والنضالي والوجودي، وهذا كله انطلاقاً من منطق «لا صوت يعلو فوق صوت القضية». 

لكن، في المقابل، من ولد وعاش في منطقة صراع متواصل، يعلم جيدًا أن الناس يعيشون حياة (شبه) طبيعية حتى في أصعب الظروف، ولهم اهتمامات عادية وغير عادية لا تنسجم مع ما يتوقعه منهم الآخرون بناءً على صورة مسبقة عنهم. بالتالي، أن الأعمال السينمائية الفلسطينية التي انكبت على الإنسان وقصصه «الجانبية» بمعزل عن القضية الكبرى، هي الأصدق والأكثر عمقاً وتعبيراً عن الواقع، وهذا ما يجعل أفلام مثل تلك التي أنجزها إيليا سليمان ومها الحاج وغيرهما استثنائية تخرج عن الإطار المستهلك للسينما الفلسطينية الشعاراتية التي لا ترى الإنسان أكثر من مجرد تفصيل ضمن المشهد العام.

هذا ما نكتشفه في «شكراً لأنك تحلم معنا» الذي فاز بجائزة أفضل إخراج في مهرجان سالونيك الأخير، قبل أن تُسند إليه جائزة أفضل فيلم في مهرجان «أجيال» السينمائي في الدوحة قبل أيام، وهذا بعدما كان عُرض في الجونة في أواخر الشهر الماضي.

 تحاول شخصيات فيلم المخرجة ليلى عباس حق استرداد الحكاية (ومعها الفردية) لتصبح ملكها، ونحصل نتيجة ذلك على عمل يسميه الأنغلوساكسون الـ«فيل غود موفي»، أي العمل الذي يمدّك بشعور الغبطة والمتعة والطاقة الإيجابية، رغم مأساوية الوضع في خلفية المشهد. بلى، نستطيع أن نتحدّث عمّا يزعجنا ولو في ظلّ أوضاع سيئة، لا بل يمكننا أن نقارب الأشياء ونتصدى لها بسخرية وخفة دم. هذا لا يتناقض مع ذاك

نتيجة هذا كله يصبح الدخول في فيلم ليلى عباس أشبه بالدخول في أي فيلم آخر، فيما الخروج منه يؤكّد مدى أهمية هذا النوع من الولوج. إنه ولوج محرر من كلّ وزر أو عبء. بضعة مشاهد مقتضبة، وها نحن نًألف المكان، الذي يشبه أماكننا، ونتعرف إلى شخصيات كتلك التي نلتقيها في طريقنا إلى العمل، مع الفرق أننا هنا نتأخّر عند ما تحمله من قصص وتجارب.

 شخصيات الفيلم تقيم في رام الله، والفيلم سيسعى مرارًا إلى تقديمها باعتبارها مرتبطة ببيئة وظروف وأوضاع، ومتحررة منها في الحين نفسه، أو ربما على الحد الفاصل بينهما، كي يتحول التركيز من الجماعة إلى الفرد، من دون أن يُعتم الفرد وهواجسه على الشرط الذي تعيشه الجماعة، ومن دون أن يربط الأول مصيره بالثاني. أما السياق العام الذي تواصل فيه الشخصيات عيشها، فلا يحتاج إلى أكثر من بضعة مشاهد تأسيسية، ليسدد بها الفيلم حسابه كاملاً.

«شكراً لأنك تحلم معنا»، أولى تجارب المخرجة الفلسطينية ليلى عباس لصنع فيلم روائي طويل. عباس درست السينما في لندن، وفي مهرجان لندن أيضًا انطلقت عروض الفيلم منذ نحو شهرين، قبل أن يشارك في عددٍ من المهرجانات الدولية، بالتوازي مع ما يحدث في غزة.

 ومن الجيد أن تُعرض أفلام كهذه في محافل دولية بعيدة من العالم العربي، حيث المشاهدون لا يعرفون من فلسطين سوى ما يُعرض في نشرات الأخبار التي تحول القتلى إلى مجرد أرقام. أما السينما فتعطي وجوهًا لهؤلاء بعيدًا من كونهم ضحايا حُشروا بين مطرقة إسرائيل وسندان الواقع الفلسطيني المأزوم الذي ينطوي على مشاكل داخلية كثيرة.

يمكن اختزال حكاية الفيلم في سطور: عند موت والدهما، تحاول شقيقتان (ياسمين المصري وكلارا خوري) الحصول على ما تركه الأب الراحل في حسابه المصرفي من مبلغ مالي محترم. هذا المبلغ من شأنه أن يوفّر لهما بعض الاستقلالية في مجتمع ذكوري يجعل الرجل مركز الكون.

 للحصول على المال، يجب عليهما الالتفاف حول القانون الذي يمنح الأخ حصّة أكبر. ولما كانت العلاقة بهذا الشقيق المهاجر إلى بلاد بعيدة غير جيدة، لكونه أهمل والده ولم يتمم أيًا من واجباته كابن وأخ (ومع ذلك سيكون الأوفر حظاً لنيل الإرث)، تعتبر الأختان أن من حقّهما اللجوء إلى هذا الحل. لكن الحصول على المبلغ لن يكون سهلاً. وثمة عقبات عليهما تخطيها، على شكل إجراءات يجب اتباعها، ممّا سيزجّ بهما في سلسلة مغامرات ومفارقات ويضعهما في سباق مع الزمن.

لكل منهما مشاكل شخصية ستتطور على هامش الأحداث. فالأخت الكبيرة متزوجة لديها ولدان، وعلاقتها بزوجها (أشرف برهوم) ما عادت كما في السابق بل يتخللها العديد من الأزمات تجعلها تبلغ نهايتها المرتقبة. أما الشقيقة الصغرى، المتمردة بطبعها، فـ«قلبها على لسانها»، هي التي اهتمت لسنوات بوالدها، ومن هنا يتأتى شعورها بالغبن، مع ذلك الوعي العالي عندها بكونها امرأة صاحبة حقّ مهدور

الأخيرة دلوعة الفيلم، الشخصية التي نتماهى معها بشكل كبير سواء كنّا رجالًا أو نساء، صدى أقوالها يتردد فينا، خصوصًا عندما تقول أن لا أحد من عائلتها مُعجب بها. لكن، هناك فجأةً قضية تجمعهما. وهي أقوى من أي خلافٍ، لا بل أن بعض الخلافات ما هي سوى دافع لإعادة المياه إلى مجاريها

من خلال حادثة عادية والمفارقات الظريفة الناتجة منها، تتناول المخرجة مسائل لها وزنها في المجتمع الفلسطيني، وأهمها موضوع الإرث والتمييز على أساس الجندر. لكنها لا تتطرق إليها مباشرةً بل مواربةً، فلا نوع الفيلم يتيح ذلك ولا الأسلوب الذي تتبناه، هذا الأسلوب المطعّم بالخفّة والجدية في آن واحد، الذي يدخل قلب المُشاهد بلا استئذان.

لن يتحول الفيلم في أي لحظة فيلمًا عن التوريث والذكورية والنضال النسوي، رغم أن هذه الأمور حاضرة بقوة في التفاصيل كافة. أينما حللنا سيكون هناك، شيء يعرقل مسار البطلتين (بالمعنيين الحقيقي واللفظي)، ذلك أن الموروث الاجتماعي سيتصدى لهما بشراسة لا مثيل لها، ولو بهدوء، بحيث يوهمنا بأنه غير موجود وغير خطير، وصولاً إلى آخر فصول المعركة. حتى الدين الذي منه يستمد هذا الموروث شرعيته، والذي يعطي الرجل (هذا الرجل الذي يستغرب حاجة المرأة إلى السعادة) ما لا يعطيه للمرأة، ليس سوى صوت يصدر في الخلفية، مما يعزز حضوره، فالغائب كثيرًا ما يصبح أكثر حضورًا

هنا تكمن قوة الفيلم الذي يمرر ما يودُ تمريره بأريحية ومن دون أن يصبح درسًا بيداغوجيًا ينفر منه المتلقي، وهذه تحتاج إلى شطارة وإلى فهم حقيقي لتعقيدات الواقع الفلسطيني، وإلى نبذ سينما تنهل من ينبوع الشعارات. قد يعتقد البعض أن الفيلم نسوي بامتياز، وهذا صحيح، لكنه يطرح مقاربة مسؤولة، وعندما تتأخّر الكاميرا على وجه ابن الشقيقة الكبيرة الذي يتسبب لأمه بوجع الرأس، ندرك أنه يعاني بدوره. فالنساء لا يعانين وحدهن في هذا الفيلم.

هذا كله لا يعني أننا أمام فيلم لا تشوبه شائبة، ولو أن الميزان يميل إلى الإيجابيات، خصوصاً أننا نتحدّث عن فيلم أول يحمل في داخله أفكارًا وطموحًا. فهناك العديد من المناطق الهشة والمهزوزة والضعيفة في السيناريو، من النوع الذي يجعلنا نسأل «ماذا لو؟». هذه الهشاشة تنسحب أيضًا على الأداء وخيارات بعض الممثّلين والممثّلات ومستوى الحوارات التي كان من الممكن أن تكون لمّاحة أكثر، فتزِجُ بنا بالتالي في المزيد من الكوميديا، في حين أن الفيلم يبخل بها، ويمدّنا بها بالقطارة. نبتسم حيث كان من الممكن أن نضحك.

 هذه ليست رغبة في جعل الفيلم ما لا يريده، بل رغبة مستمدة ممّا يوحي به مجمل العمل. أما الحبكة الثانوية الداخلية، أي حكاية ابن الشقيقة الأكبر وغيابه المتكرر عن الصف، فيا ليتها خضعت للمزيد من الشدشدة من هنا وهناك. بقدر ما نفهم حاجة الفيلم إلى أصوات أخرى في الخلفية، وذلك من باب التنوع، فإنها تبدو ثقيلة على الفيلم وغير مجدية

 

موقع "فاصلة" السعودي في

29.11.2024

 
 
 
 
 

"ماء العين" لمريم جعبر: عودة الابن الضال

هوفيك حبشيان

أفلام عدة شقت طريقها إلى مهرجان "أجيال" السينمائي في الدوحة (16- 23 الجاري)، من تلك التي تحض الشباب على التفكير. فهذه التظاهرة السينمائية التي قدّمت دورتها الـ12 هذا العام، تأسست على فكرة مخاطبة الشباب وبث الوعي (السياسي؟) في داخلهم من خلال لغة الصورة والمضامين التي تحملها. 

من جملة ما عُرض طوال الأيام الثمانية: "ماء العين" (دعمته مؤسسة الدوحة للأفلام - منظّمة المهرجان) للمخرجة التونسية الشابة مريم جعبر التي تواصل استكشاف موضوع الراديكالية الدينية في تونس ما بعد ثورة الياسمين، حيث شهدت البلاد انضمام آلاف الشباب إلى تنظيم "داعش" الإرهابي تحت لواء الجهاد. هذه القضية سبق ان طرحتها جعبر في فيلمها القصير "أخوان" (2018)، الذي وصل إلى ترشيحات الـ"أوسكار"، لكنها في "ماء العين" تعيد تناولها برؤية جديدة وأسلوب سينمائي مختلف.

"ماء العين" الذي عُرض في مسابقة الدورة الماضية من مهرجان برلين السينمائي، يحكي قصة شاب عاد إلى قريته بعدما ضل طريقه، مصطحباً معه فتاة سورية حاملا. وصوله يفجّر التوترات داخل أسرته، حيث يجد نفسه وسط معضلات أخلاقية وقانونية. والده يرفض بقاءه خشية الملاحقة الأمنية، بينما تحاول أمه التوفيق بين مشاعرها كأم ورغبتها في معرفة الحقيقة، خاصةً ما حدث لأخيه القتيل. نغوص في علاقات معقّدة، في ظل أجواء يسودها التوتر والخوف، وكأن الماضي لا يزال يطارد الجميع.

بينما انشغلت السينما التونسية في السنوات الأخيرة بمسألة التطرف وما خلّفه من تروما لا سيما عند الأهالي، يبرز هذا العمل بنهج فني يعيد صياغة المأساة بلغة أكثر جرأةً وتفرّداً. ربما لأن جعبر تنطلق من تجربة شخصية صادقة، كما تروي في ملف الفيلم الصحافي، إذ استلهمت الفكرة من قصّة شقيقين ريفيين تركا عائلتهما للالتحاق بصفوف الجهاديين. يعود أحدهما بعد حين، منهكاً وموصوماً بالخيبة، بينما يظل الآخر جثّة هامدة في ساحات حرب لا تمتّ الى شؤونه بصلة.

تحكي جعبر عن بداية الفكرة: "في شباط 2017، كنتُ في رحلة برية شمال تونس مع المصور السينمائي فنسان غونفيل (الذي صوّر الفيلم). عشتُ معظم حياتي في الولايات المتحدة، لذا كنت متحمّسة لاستكشاف وطني، خاصةً المناطق الريفية. خلال الرحلة، التقينا بالأخوين مالك وشاكر المشرقي اللذين يؤديان دوريهما في الفيلم، كانا يرعيان أغنام والدهما، ولفت انتباهي مظهرهما الغريب وغير المعتاد في تونس، بشعرهما الأحمر ووجهيهما المليئين بالنمش. رفضا التقاط الصور، لكن المعلومة التي صدمتني أكثر كانت ان هذه المنطقة شهدت بعد الثورة مغادرة عدد كبير من الشباب للانضمام إلى "داعش". كان الأمر محيراً بالنسبة إليّ: كيف يمكن لأشخاص من بيئة ريفية بسيطة ان يجدوا مبرراً للانخراط في صراعات بعيدة كلّ البعد عن واقعهم؟".

هذا التساؤل فتح الباب أمام محاولة أولى لرصد الجانب الإنساني للظاهرة، خاصةً العائلات التي تعاني الفقدان والحسرة نتيجة توجهات أبنائها وخياراتهم. في ذلك الوقت، كان هذا الموضوع لا يزال من المحرمات؛ الجميع يتحدّث عن ضحايا الإرهاب، لكن قلّة تناولت أولئك الذين انضموا إلى التنظيمات المسلحة، ناهيك عن أحوال عائلاتهم البائسة. 

تختار جعبر تقديم القصة من منظور سينمائي خالص، بعيداً من التفسيرات السياسية أو الاجتماعية المباشرة. الفيلم لا يقدّم سرداً توثيقياً، بل يركّز على البعدين العاطفي والإنساني داخل عائلة مزقتها التناقضات والندم. في إطار بصري مذهل، تستخدم المخرجة البيئة الريفية كعنصر درامي يعكس العزلة والاضطراب الداخلي للشخصيات. في رؤيتها نضج واضح، يتجلى في التفاصيل الجمالية من إضاءة وتكوين المَشاهد، في حين ان النص يضيء على قضايا ثقيلة كالعار والذنب في مجتمع ريفي. العمل في مجمله لا يقدّم إجابات مبرمة، لكنه يدعو المُشاهد الى التأمل في تعقيدات الحياة العائلية في ظلّ التطرف، مقترحاً تجربة سينمائية مكثّفة وملهمة.

 

النهار اللبنانية في

01.12.2024

 
 
 
 
 

فيلم «سيلَما» لهادي زكاك… شيء يشبه الأدب

سليم البيك

في روايته «أولاد الغيتو – اسمي آدم»، يكتب إلياس خوري حواراً بين شخصيته الرئيسية آدم، ومؤرّخ، حول رغبة الأول كتابة التاريخ من خلال ما سمعه من شهادات الناجين من مجازر النكبة:

«هذه معلومات صحيحة»؟ سألني.

«كأنها صحيحة»، أجبته.

«هادا شغل الأدباء مش المؤرخين»، قال.

«وإيش الفرق»؟ سألته.

هز رأسه باحتقار، ومضى».

في مواقع أخرى من الرواية يسخر خوري من المؤرخ الذي لا يدرس التاريخ سوى من خلال الوثائق الرسمية «الصحيحة». يمنح الروائيُ قيمة عليا للتاريخ الشفوي غير المكتوب، أو الموثَّق في أدراج الأرشيف، لتكون الأحاديث التي «كأنها صحيحة»، مساراً آخر للتاريخ يرويه الناس، ما عاشوه وما شهدوه.

من هنا يمكن مقاربة فيلم المخرج اللبناني هادي زكاك، «سيلَما» (إنتاج الجزيرة الوثائقية)، الذي وثّق التاريخ المعاصر لمدينة طرابلس من خلال صالات السينما فيها، بتوثيق تاريخ هذه الصالات من خلال كلام مرتاديها أساساً. واتخذ الفيلم لذلك شكلاً خاصاً، مانحاً الشهادات الشفوية مكانة المتن، المتربعة على طول الفيلم، فتأسس الفيلم على الكلام في الخلفية، مع صور ثابتة، وتأثيرات صوتية لخدمة الكلام والصورة.

من خلال أفراد وشهاداتهم، يسرد الفيلمُ أمامنا تاريخ مدينة، ومن خلاله تاريخَ لبنان، على طول النصف الثاني من القرن الماضي. كما يسرد تاريخ صالات السينما في هذه المدينة، من افتتاحها إلى إغلاقها ثم تحوّلها. ومن خلاله، مجازاً، يسرد الفيلم تاريخَ الصالات، لتماثل الأحوال، في لبنان والمشرق العربي عموماً. ليكون الفيلم، بالكلام المسترسل كأنه حوارات لا تنتهي، عملاً روائياً طويلاً، سينمائياً أو أدبياً لا خلاف كبيراً هنا. هو، بذلك، «شغل الأدباء مش المؤرخين».

لكن روائية الفيلم، أو خياليته، لم تكتف بمضمونه، بل امتدت إلى شكله، فلا صور متحركة هنا، بل كلام في الخلفية، وصور فوتوغرافية تتابع، ما يتيح للخيال العمل على ربط الكلمة بالصورة، على تحريك كليهما، والخيال أساس الأدب، والخيال متحرّر من سؤال «هذه معلومات صحيحة؟». خيال المتفرّج هنا، عنصر تكوينيّ ضمن الفيلم، كأن المُخرج لم يرِد التدخل ما بين خيالين، الشهادة والمُشاهِد، المتكلّم في الفيلم والمتفرّج أمامه، والصور الثابتة كانت صلة وصل بين الخيالين، ليبقيا على الصفحة ذاتها في هذه السيرة للمدينة وللسينما، ومن خلالهما للبلد بأكمله.

عنوان الفيلم، «سيلَما»، باللفظة المتحوّرة لهذه الكلمة الأجنبية، اللفظة التي «كأنها صحيحة»، كأنها «سينما». هي ليست صحيحة «علمياً» لكنها الأصحّ لموضوعها المستقى من أصحابه، أهالي طرابلس الذين حوّلوا الكلمة إلى أليفة تشبه الناس، تشبههم. ليكون الفيلم عن صالات السيلَما لا السينما.

في فصول تالية، يقدّم إلياس خوري حواراً على لسان آدم:

«لكني لا أكتب تاريخاً»، أجيبه.

«ماذا تكتب إذن؟» يسألني.

لا أدري، أكتب شيئاً يشبه الأدب، أقول».

الفيلم الوثائقي «سيلَما» شيءٌ يشبه الأدب، تمتزج فيه الذاكرة بالخيال. تموقعَت الذاكرة في المضمون وتموقعَ الخيال في الشكل. الذاكرة لأصحابها والخيال لسامعيهم. كأننا، أمام الفيلم، نستمع إلى قصص متفرّقة بدت عشوائية، جعل المونتاج منها ومن الصور، سرديةً جمعية واحدة مبنية على حيوات أفراد تقاطعت في هذه المدينة وفي صالاتها السينمائية. هي حكاية تشبه الأدب وتشبه التاريخ.

لكن هادي زكاك موثّق، مؤرشف. في عموم شغله السينمائي وثَّق لتاريخ لبنان الحديث، فلم يكتفِ بفيلم يشبه الأدب. الفيلم بمواضيعه وصوره، مبني على كتاب توثيقي، لمن يتقصّد التأريخ، وقد وجد من تقصّد الأدب مرادَه في الفيلم. الكتاب بعنوان «العرض الأخير: سيرة سيلَما طرابلس»، صدر عام 2021 (زاك فيلمز)، وهو أشمل من الفيلم لطبيعة العملين وحجم الأخير.

الكتاب الفنّي ضخم، بقطع كبير يفوق 600 صفحة، مُدعم بالصور التي رأيناها في الفيلم، ويغطي الجانبَ الآخر من تاريخ السينما في طرابلس. هو جانب بحثي، توثيقي بالمعنى العلمي لا الأدبي للكلمة، لا تعوزه المراجع والهوامش، ولا التأني في السرد لتوخّي الدقة، بخلاف الكلام وعفويته كما نسمعه في الفيلم. وتجول فصوله بين الجيل المؤسس، ونجمات الخمسينيات، ونجمات الميناء، ومدرسة السينما، وسينما الحرب، وغيرها.

التجربة التوثيقية متكاملة هنا، التاريخ الشفوي مرفقاً بالتاريخ المكتوب. ولأن العمل التوثيقي يمكن دائماً أن يزداد تكاملاً، سيرفق هادي زكاك كلاً من الكتاب والفيلم بمعرض فوتوغرافي بعنوان «سينما طرابلس: أركيولوجيا ذاكرة جماعية»، يقام في بيروت هذا الشهر، ما لم تحُل الحرب دونه. لا يترك هذا العمل الثلاثي المتكامل، الكتاب والفيلم والمعرض، مجالاً للتشبيه. العمل التوثيقي هذا أدبيٌّ وتأريخيٌّ وفنيّ.

 كاتب فلسطيني/ سوري

 

القدس العربي اللندنية في

02.12.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004