ملفات خاصة

 
 
 

"مهرجان الجونة السينمائي"... خطاب استثنائي لستة أفلام عربية

الاجتماعي يتقاطع مع السياسي ويشكّل مرآة موازية له

حسام الخولي

الجونة السينمائي

الدورة السابعة

   
 
 
 
 
 
 

اختتمت يوم الجمعة الماضي الدورة السابعة من "مهرجان الجونة السينمائي" (24 أكتوبر/ تشرين الأول – 1 نوفمبر/ تشرين الثاني) في مصر، التي شهدت عرض زهاء 55 فيلما روائيا طويلا ووثائقيا، من 40 دولة حول العالم، 6 أفلام منها في عرضها العالمي الأول، فيما قُدمت 12 تجربة سينمائية لمخرجين جدد، ولتمكين المرأة في صناعة السينما.

حملت الدورة برنامجا متنوعا الاختيارات، وبالرغم من تواضع الأفلام عالميا هذه السنة، اجتهد مبرمجو المهرجان في الوصول إلى بعض أفضل أفلام العام، التي حصلت على جوائز، من بينها عدد من الأفلام التي اخترنا الكتابة عنها انطلاقا من اشتباكها مع اللحظة العربية الحالية، فنيا وسياسيا.

ستة أفلام عربية بين الروائي والوثائقي، تروي قصصا مختلفة ومركّبة وتحمل خطابا جماعيا يبدو بوعي أو من دون وعي اختيار جيل سينمائي جديد أكثر تحررا تجاه الأشياء: من الأردن فيلم "إحكيلهم عنا"، ومن سوريا "ذاكرتي مليئة بالأشباح"، ومن لبنان "نحن في الداخل"، ومن المغرب "الجميع يحب تودا"، ومن تونس "ماء العين"، وأخيرا من فلسطين "شكرا لأنك تحلم معنا".

"إحكيلهم عنا" و"ذاكرتي مليئة بالأشباح"... تناقضات تنتج المعنى

في ختام المهرجان مُنحت "نجمة الجونة" لأفضل فيلم وثائقي عربي مناصفة لفيلمين، أحدهما "ذاكرتي مليئة بالأشباح" من سوريا للمخرج أنس الزواهري الذي يقدم فيلمه الطويل الأول بعد فيلمين قصيرين، "يوم عادي جدا" و"صيف... مدينة وكاميرا "عام 2022. يبدو "ذاكرتي مليئة بالأشباح" منذ اللحظة الأولى، مرثية بصرية متعددة المشاهد تحدّق في حمص/ سوريا المدمّرة، أحيانا بأسى على ما آلت إليه وأحيانا أخرى لاستيعاب التجربة ومحاولة البناء مرة أخرى. تتجوّل كاميرا الزواهري بين الشوارع والناس لتتذكر الحياة الشبحية التي صارت مفروضة على الجميع ولتبحث عن سبل النجاة منها.

يبدو "ذاكرتي مليئة بالأشباح" منذ اللحظة الأولى مرثية بصرية متعددة المشاهد تحدّق في حمص المدمّرة

لقطات طويلة ثابتة وخالية من القطع المونتاجي أو التدخل الموسيقي الذي يقلل حدة الفراغ في أحشاء الصورة النهائية. قد يبدو ذلك من باب بناء إطار للتشظي والدمار السوريين العامين اللذين باتت تعيشهما المدينة أو تبثّهما في روح سكّانها المهزومين. لكن الفيلم يعيد خلق صورة جديدة للمدينة، بات على الجميع التعايش معها أو عدم الهروب منها بصريا. يتحوّل المشهد الأول في الفيلم من صورة طويلة ثابتة على الحي المهدّم بالكامل تقريبا إلى حي تعود إليه الحياة رويدا رويدا بشكل هادئ. تدخل العجلات ونسمع أصوات الناس على خلفية الخراب. ثمة مأساة، على الجميع أن يقبلها ويعيد تخيّلها ذاتيا للبدء مرة أخرى.

في بداية الفيلم تظهر على الشاشة كلمات تقول "من جديد ها أنا في مدينتي القديمة عائدا لئلا ينال النسيان منّي". وفي آخر مشاهده تتساءل الفتاة التي نسمع الحكاية بصوتها عن الفئة الأكثر تأثرا بالحرب. يفتح ذلك التساؤل جراحا كبيرة بين الكبار والصغار. "ذاكرتي مليئة بالأشباح"، يمكن قراءته كدعوة الى تجاوز الماضي، ليس بتجاهله أو البكاء عليه بل بالتحديق مباشرة في المأساة من دون خوف. يحكي البعض قصص رحيل أهلهم، من بينهم فتاة تروي قصة تقبّل فدية والدها الذي قتله الشبّيحة هناك. تبدو قصة مثالية: فتاة تتقبّل قتل والدها أو تختار الحياة بذكاء لأنها تعرف أن القتلة لن ينالوا عقابهم الآن بينما تحتاج هي الى المال كي تسد رمق عيشها. من دون مزايدات عليها، تقف أمام الكاميرا مباشرة لتحكي ما آل إليه مصيرها ومستقبلها الذي عليها أن تبنيه، وإن بأموال قتلة والدها.

فيلم "ذاكرتي مليئة بالأشباح"

يخرج "ذاكرتي مليئة بالأشباح" في العام ذاته الذي يخرج فيه "أثر الأشباح"، الفيلم الروائي الذي فاز بـ"نجمة الجونة". كلاهما يحركه إبراز أشباح الحرب المخيفة للانتقام منها بأشكال مختلفة. المساجين هنا حرفيا ومجازيا ليسوا ضحايا أو مجرد مظلومين منسحقين أمام طاغية قوي، بل يتتبعون خطوات الرجل الذي يعتقد أنه كان يعذّبهم في السجن في كل خطوة له. يبدون ظلّه، عقابا له عن كل تلك السنوات.

لا يبتعد فيلم "إحكيلهم عنّا" الذي أنجزته الأردنية رند بيروتي، عن الفكرة المحورية ذاتها، وإن كانت الوجهة مختلفة نسبيا. تروي بيروتي حكاية مجموعة من الفتيات وصلن لاجئات مع عائلاتهن إلى ألمانيا، وتحولاتهن في سن المراهقة، بالتوازي مع صراعهن الخارجي في البحث عن فرص لتحقيق طموحهن، وسط مجتمع ينظر إلى المهاجرين باعتبارهم خطرا يتهدده. وفي حين يبدو أن قصة الفيلم لا تحمل جديدا، لكنها في سياق ما تبدو إعادة خلق لتقبل المأساة العربية كلها، وإعادة هيكلة لجيل جديد عليه أن يعي غربته ولا يرتضيها تماما. يبدو التعايش هنا حتميا، من دون نسيان اللحظة التي وضعت هؤلاء هناك معا.

يبدو أن قصة "إحكيلهم عنا" لا تحمل جديدا، لكنها في سياقٍ ما تبدو إعادة خلق لتقبل المأساة العربية كلها

يمكن أن تنقسم أفلام اللجوء رؤيتين مختلفتين، إحداهما تسرح تماما في تقبّل التعايش، والأخرى ترفضه تماما. أما "احكيلهم عنا" فيروي حكاية جيل جديد تعلّم لغة الآخر المهاجر إليه جيدا بخلاف آبائه. يحارب لتقبّله بشكل كامل، ويحلم بالانخراط والعمل. نتحدث هنا تحديدا عن بطلات الفيلم اللواتي يسعين إلى تجسيد أحلامهن كممثلات في المسرح. كل هذا المعنى يُنتج ذاته من التحديق في المأساة ومن تجاوزها، الأمر الذي بات ضرورة ملحّة على الجميع. هذا الجيل الذي لم يتمكّن حتى من اصطحاب مقتنياته الشخصية أثناء هجرته الإجبارية بعد أن حجزها البحر، بات يتقبل أن يحصل على أشياء جديدة مرة أخرى، للعيش هنا والعودة لاحقا. تغني إحدى الفتيات: "نفس البذور راح نرجع بس من غير ورق/ نفس البذور راح نزرع بس من غير قلق/ كل الحدود راح نقطع بس من غير غرق". في الحفل ذاته نشاهد عددا من جوازات السفر قد وُضعت في التورتة للاحتفال بعيد ميلاد إحداهن.

"نحن في الداخل" و"الجميع يحب تودا"... تمرد إلزامي لجيل جديد

رغم الحرب، كانت المشاركة اللبنانية في المهرجان لافتة نقديا وجماهيريا، إذ فاز بجائزة "سينما من أجل الإنسانية" فيلم "مشقلب" للمخرجين لوسيان بورجيلي وبانة فقيه ووسام شرف وأريج محمود، الذي يدور حول أربع قصص قصيرة مختلفة ترصد الوضع الراهن في لبنان وتأثيره النفسي والاجتماعي والاقتصادي على الجميع، وبخاصة الشباب، ومحاولات الجميع التعايش مع الظروف القاسية. عُرض أيضا الفيلم الأحدث للسينمائي اللبناني المخضرم هادي زكاك، "سيلّما"، الذي يحكي خلاله تاريخ وجود السينمات في طرابلس. وهو فيلم مبني على كتابه عن الفكرة نفسها. يتأمل زكاك حال السينمات اللبنانية المهدّمة كمجاز صريح عن البلد ككل. يقرر زكاك أن يكون الفيلم عبارة عن صور فقط، على خلفيتها يحكي ضيوف مجهولون عن تاريخ وجودهم في السينما بأزمنة مختلفة. أو كما يقول لاحقا في حديثه مع "المجلة": "كلها أفلام عن لبنان الذي بات استديو طبيعيا لتصوير الحرب، والتعايش من خلالها، في طرابلس ولبنان كله".  

غير بعيد من طرابلس، كانت المخرجة فرح قاسم تقدم فيلمها "نحن في الداخل" الذي فاز بجائزة "شبكة ترويج السينما الآسيوية" (نيتباك)، التي تُمنح لأحسن فيلم آسيوي طويل. وهو فيلم ذاتي تحكي فيه عن عودتها الى منزل والدها في مدينة طرابلس بعد غياب 10 سنوات، لتكتشف الهوة ما بين جيلها وجيل أبيها الشاعر المخضرم مصطفى قاسم. عندما تدرك أنها لن تتمكن من التقرّب إليه إلا من خلال الشعر الذي يكتبه، تقرر أن تنضم إلى منتدى الشعر الذي أسسه قديما مع مجموعة من أصدقائه الناصريين لتصبح أول عضو أنثى شابة بين مجموعة من الرجال المسنين.

لا يبدو "نحن في الداخل" مشغولا بالحرب أو السياسة بشكل مباشر. يرى أثرها في الأخبار، لكنه منشغل بالمقابلة بين نظرة جيلين إلى الأمور

لا يبدو الفيلم مشغولا بالحرب أو السياسة بشكل مباشر. يرى أثرها في الأخبار، لكنه منشغل بالمقابلة بين نظرة جيلين إلى الأمور. على مدار ما يقرب من ثلاث ساعات، تتحرك المخرجة لتأمل كيفية فهم والدها للأمور، التي تبدو تفهّما للوضع القديم والتعايش معه بالكامل. بدا ذلك مَخرج لبنان الوحيد.

عمرو منسي متحدثا في حفل الختام

الأب يكتب شعرا تقليديا مقفّى في مواجهة الفتاة التي تحاول أن تكتب قصيدة النثر. هو يرى أنه "لم يعد لدينا شيء نقدمه سوى الشعر"، بينما تتحرك هي على الأرض وتتعلّم كتابة الشعر/ فهم جيل والدها تماما. تجلس لتحدّثه عن خطأ في الاختيار بين المرشحين السياسيين رغم سخريته من ذلك. بات عليها أن تتقبل تماما موت والدها، أو للدقة رغبته في أن يموت، في اللحظة التي يبدو توثيقها تأملا لإعادة إنتاج حياة طبيعية. "نحن في الداخل" يتحرك في طريق وعرة ولا يبحث كثيرا عن اللحظة السياسية الخارجية، بينما يغوص أكثر في داخله، في هشاشة لبنان التي باتت لا تُحتمل لولا فهم اللحظة الراهنة

شهد المهرجان أيضا عرض أحدث أفلام المخرج المغربي نبيل عيوش، "الجميع يحب تودا". لم يتحرّك الرجل بعيدا عن قصصه المألوفة التي يدافع فيها عن قضايا المرأة ويربطها بالفن. يحكي هنا قصة الفتاة تودا الوحيدة مع طفلها الأصم والأبكم. تحلم أن تصبح فنانة شهيرة، "شيخة" في فن العيطة، المستمد من التراث الشعبي المغربي. تتنقل بين الأعراس والاحتفالات الشعبية، ضمن فرق فنية مختلفة، وتبحث عن فرصة لإثبات موهبتها، وتعمل بإصرار على تنميتها، رغم جهلها بالقراءة والكتابة، بينما تطاردها نظرات الطامعين في جسدها من جانب، وتحجيم الفرق الشعبية لدورها في الرقص.

ما يبدو نموذجيا للتعاطف مع تودا، هو إدراكها ضرورة حصول ابنها على تعليم جيد. كان ذلك الحسم الذي تريد به تعليم الطفل، مصدر البطولة الأقوى خطابيا في العمل. ولا يبدو أن البلد يتحرك أو أن الطفل سيجد مصيرا مختلفا عن والدته وأهله دون تعليم جيد. نظرة تتفوق ربما على تمردها الاجتماعي وحلمها في الشهرة والصيت. وبينما تسعى بطلة "نحن في الداخل" إلى التعلّم الذاتي من والدها الذي وفّر لها حياة جيدة رغم عدم توافقهما النسبي، تضع تودا خطة عكسية تؤدي الى المعنى ذاته. هذا الطفل/ البلد الذي لا يبدو لديه آمال وتطلعات كبيرة، لن يجد مفرا أبعد من التعليم الذي يأتي بعده كل شيء. في الفيلم يبدو فعلا أن الجميع يحب تودا، بينما تودا ذاتها يتحرك حبها في اتجاهات متناقضة تسعى من خلالها لجمع شتات الطفل.

في الفيلم يبدو فعلا أن الجميع يحب تودا، بينما تودا ذاتها يتحرك حبها في اتجاهات متناقضة 

"ماء العين" و"شكرا لأنك تحلم معنا"... مجازات للحديث السياسي

 جاءت جائزة "نجمة الجونة" لأفضل فيلم روائي عربي، مناصفة بين فيلم "ماء عين" من إخراج مريم جعبر و"شكرا لأنك تحلم معنا" من إخراج ليلى عباس. وربما كانت تلك الجائزة من بين كل جوائز الدورة، هي الأكثر استحقاقا للفيلمين.

الفيلم الفلسطيني "شكراً لأنك تحلم معنا"

يحكي الفيلم الأول مشاعر شاب يعود إلى أهله في ريف تونس بعد انخراطه في تنظيم "داعش" الإرهابي، اثر موت شقيقه، وبرفقته امرأة حامل تضع النقاب. نترقب الحياة الجديدة التي يحاولان التأقلم معها، خصوصا مع عدم قدرتهما على مغادرة المنزل خوفا من الملاحقة الأمنية. لا نشاهد تماما، لأن الكاميرا ضبابية وقريبة من الجميع. الشعور هنا أو تأمل المأساة هو أكثر من توثيقها. تماما كما نشاهد في الفيلم التونسي الآخر، "برج الرومي"، الذي اعتبره المخرج منصف ذويب "أول فيلم لأدب السجون هناك"، وهو عن المعتقل وكيفية تعايش المعتقل مع سجّانه الى ان يتحرر.

"ماء العين" قصيدة سينمائية مجازية عن شاب عربي مأزوم. اختمرت قصته جيدا بعد تحويل جعبر له من فيلمها القصير، "إخوان"، ليصبح على الشكل المثالي في الفيلم الطويل الذي تتداخل فيه صور الخيال مع الحقيقة لينتج صورة موتّرة لمشاهده وخالقة لأسئلة شخصية لا تنتهي. قد يبدو تأمل الانضمام الى "داعش" اليوم غير محمّل بخطورة نوعا ما، لكن على مدار ست سنوات لعمل الفيلم بدا يحمل خطابا فلسفيا سياسيا يحتاج إلى الطرح حول شبان يحاولون التأقلم مرة أخرى بعد إدراك جريمتهم بالانضمام الى الارهاب في لحظة يأس أو انهزام. الفيلم إقرار بلحظة لم يتجاوزها عدد غير قليل من الشباب العربي اليوم. رحلة تطهّر من ماض لا يجب نسيانه تماما، بل تفهّمه جيدا لعدم الوقوع فيه مرة أخرى.

يحمل "ماء العين" خطابا فلسفيا سياسيا حول شبان يحاولون التأقلم مرة أخرى بعد إدراك جريمتهم بالانضمام الى الارهاب

في آخر أيام المهرجان عُرض الفيلم الفلسطيني "شكرا لأنك تحلم معنا"، وقد ظلمته البرمجة بعرضه السريع المتأخر. يحكي الفلم قصة شقيقتين يتوفى والدهما ويترك ثروة كبيرة. وعلى رغم الخلافات القائمة بينهما، فإنهما تتحدان بسبب الثروة الكبيرة، بخاصة عندما تتعرضان لمشكلة كبيرة تتمثل في مواجهة القانون المستمد من الشريعة، الذي يمنح أخاهما ضعف ميراث الواحدة منهما. هذه القصة العادية تماما في سياقها الحالي، تبدو حالة أكثر استثنائية من كل ما سبقها وتترك تساؤلا مؤسسا ومفتوحا: ما الذي يجعله فيلما فلسطينيا رغم قصته المعتادة؟

حمل المهرجان مفاجآت عديدة كان من بينها هذا العمل الخفيف الاستقبال الثقيل الأثر. فإذا كانت كل الأعمال السابقة تعيد تخيل أو تركيب مجاز لفهم الواقع وقبوله، فإن هذا الفيلم يغرد في منطقة موازية تماما، متمردة الى الحد الأقصى. على اعتباره آخر الأفلام التي صوّرت في فلسطين، كان المتوقع أن يحمل القضية فوق ظهره في لحظة إبادة فلسطينية شاملة وسط دعم أميركي وتجاهل أوروبي وصمت عربي. يفتح الفيلم مسارا موازيا بعيدا من السياسة ملاصقا لها مجازيا تماما.

يفتح "شكرا لأنك تحمل معنا" مسارا تخييليا حول حق الفلسطينييين في تفاصيل حياتية تناساها الناس عنهم

يفتح الفيلم مسارا تخييليا حول حق الفلسطينييين في تفاصيل حياتية تناساها الناس عنهم، وربما يشعرون أنه لم يعد لديهم الحق أساسا في الحديث عنها. تفاصيل تخص كيفية العيش، محاولة إحدى الأختين الدخول في علاقة عاطفية أو تأمين حياتها المادية، في لحظة لا يلتفت إليها أحد. أو حتى محاولات إعادة حب ماض مع زوجها بعد أحداث حياتية شغلت الجميع ودمرت الشخصي والعام. حتى اسم الفيلم، مأخوذ من أغنية الانتظار للبنك الفلسطيني، التي تبدو سخرية نوعا ما من قبل أشخاص يواجهون الموت يوميا ولا تزال لديهم الرغبة في جمع المال والتشبث بالحياة.

في أحد المشاهد أثناء بحثهما عن رجل يساعدهما في الحصول على مال والدهما من البنك دون معرفة الأخ الأكبر، تفاجأ الشقيقتان بكمين لشبان فلسطينيين يسدون الشارع، يحرقون العجلات ويشتبكون مع صهيوني على مقربة. تحوّلان مسارهما الى شارع آخر دون أن يصيبهما ذلك بالجنون. تاهدانش فتى يافعا تخبره إحداهما بأن لا يتظاهر ويذهب الى المنزل. تمر تلك الأشياء وغيرها سريعا لكنها تبدو محركة لكل شيء. تختار المخرجة الابتعاد المباشر عن السياسة، لكنها تُظهرها بذكاء في مشاهد عابرة يدرك من خلالها المشاهد استحالة الحياة في فلسطين لغير الفلسطيني: من يتحمّل حياة كهذه؟ 

"شكرا لأنك تحلم معنا"، تهويدة حالمة، لا يمكن فصل الاجتماعي فيها عن السياسي. إدانة بصرية شديدة الذكاء عن حق الفلسطيني في سرد قصص بعيدة عن الحرب رغم قربها الدائم منها. نموذج للمجاز العربي الذي يحاول أن يحيا طبيعيا بينما يمنعه الآخر من ذلك بكل الطرق، يبدو استكمالا للأفلام الأخرى رغم اتجاهه المعاكس.

 

مجلة المجلة السعودية في

03.11.2024

 
 
 
 
 

بعد عرضه فى مهرجان الجونة:

مخرجا (رفعت عينى للسما): انتظروا عرض الفيلم تجاريـًا

كتب هبة محمد على

حظى فيلم (رفعت عينى للسما) باهتمام بالغ من قبل جمهور مهرجان الجونة السينمائى الذى شهد عرضه عربيًا لأول مرة، بعد حصوله على جائزة العين الذهبية لأفضل فيلم وثائقى من مهرجان كان سينمائى الدولى، وعرضه فى أكثر من مهرجان دولى، الفيلم أخرجه الزوجان «ندى رياض وأيمن الأمير» وتم تصويره بالكامل فى قرية البرشا بمحافظة المنيا.

يجسد العمل حكاية مجموعة فتيات من أهل القرية يقررن تأسيس فرقة مسرحية وعرض مسرحياتهن المستوحاة من الفلكلور الشعبى الصعيدى والتى تحاكى مشاكل واقعية مثل الزواج المبكر والعنف الأسرى وتعليم الفتيات، وفى حوارنا مع «ندى وأيمن» كشفا عن كواليس تصوير الفيلم، وعن إمكانية عمل جزء ثان منه، وعن موعد عرضه تجاريًا بدور العرض -وهو أمر نادر بالنسبة للأفلام الوثائقية- وإلى نص الحوار..

 كيف وجدتما ردود فعل الجمهور للفيلم بعد عرضه فى مهرجان الجونة؟

- أيمن: ردود فعل إيجابية للغاية، حيث خلق الجمهور علاقة مع بطلات الفيلم، وبدأ يسأل عن مصائرهن، وهل استطعن تحقيق أحلامهن أم لا، والبعض قال إن الفيلم ذكره بمراهقته وشبابه، حيث المعاناة من أجل تحقيق الأمنيات، خاصة أن الفيلم يعد تجربة حقيقية، عن قصة فتيات يعشن فى قلب الصعيد، ويتحدين مجتمعهن بالانضمام إلى فريق مسرح بانوراما برشا، وإجمالًا سعداء بكل الآراء التى استمعنا إليها بعد عرض الفيلم فى مهرجان الجونة.

 لكن كان هناك انتقاد وجه لبطلات الفيلم بأنهن شعرن بوجود الكاميرا، ولم يكن على طبيعتهن، وكان أداؤهن مفتعلًا فى بعض المشاهد؟

- أيمن: يوجد عند الجمهور توقعات كلاسيكية عن الأفلام الوثائقية بأن يشمل الفيلم مقابلات، وتعليق صوتى على الأحداث، ولوحات تشرح طبيعة المكان بشكل ممل، لكن على مدار 50 عامًا، تطورت هذه النوعية من الأفلام، ولم يعد هناك فروق كبيرة بين الروائى والتسجيلى، فقد كان هدفنا من الفيلم عمل علاقة بين الجمهور وبين هذه القرية من خلال هؤلاء الفتيات، وساعدنا علاقة الثقة الموجودة بيننا وبين أهل القرية.

- ندى: إذا كنت تقصدين مشهد خلاف «هايدى» مع خطيبها بخصوص عملها فى الفرقة، فالمشهد تم تصويره بتلقائية، الفكرة أننا عايشنا أهل القرية لمدة أربع سنوات، وتعرفنا على طباعهم، وتمكنّا من توقع ردود أفعالهم على بعض المواقف، مما يجعلنا نتواجد بالكاميرا فى اللحظة المناسبة، وفى النهاية هناك انطباعات مسبقة عن الناس فى الصعيد، الفيلم يثبت عدم صدقها تمامًا.

 وهل واجهتم انتقادًا بأن الفيلم ساهم فى تشويه سمعة مصر كما واجه فيلم (ريش) من قبل وأنه قد فاز فى مهرجان «كان» لأنه يبرز المناطق الفقيرة والمعدمة؟

- أيمن: أولًا فيلمنا يختلف تمامًا عن فيلم (ريش) وليس معنى ظهور «دميانة» بطلة فيلم (ريش) فى الفيلمين، أو تصويره فى الصعيد أنهما مرتبطان، كما أننا لم نتعمد إبراز الفقر والعوز، ولكن فيلمنا عن الأحلام والرغبة فى تحقيقها، وقد عاشرنا أهل البرشا، وقمنا بتصويرهم بحب، وقد شعروا هم بذلك، لذلك فتحوا بيوتهم لنا.

- ندى: القول بأن المهرجانات العالمية تحتفى بالأفلام التى تبرز السلبيات هو جزء من الصورة النمطية أيضًا عن هذه المهرجانات، فالمهرجانات تحتفى بالأفلام الأصيلة، التى تحمل طرحًا فنيًا واجتماعيًا ورؤية سينمائية مغايرة.

 استغرق تصوير الفيلم أربع سنوات متواصلة، وتمتلكون 300 ساعة تصوير اخترتم منها المشاهد التى عرضت فى الفيلم، فهل هناك نية لعمل جزء ثان من الفيلم؟

- أيمن: وجود ساعات تصوير طويلة لم تستغل هو أمر طبيعى فى الأفلام التسجيلية، ومع ذلك وجود جزء ثان من الفيلم وارد، خاصة مع وجود خطوط درامية وقصص لفتيات لم يتم عرضها، لكننا نحتاج أن نصنع تجارب أخرى مختلفة، وقد نعود مرة أخرى لـ (رفعت عينى للسما).

الفيلم يعد التجربة المشتركة الثانية بينكما كمخرجين، لماذا كان قراركما بالعمل معًا؟

- ندى: قدمنا سويًا فيلم (نهايات سعيدة)، ثم (رفعت عينى للسما)، ولكل واحد منا تجاربه المستقلة، وفى فيلمنا القادم الذى نعد له الآن، «أيمن» سيكون المخرج، بينما أنا سأنتج الفيلم، لكن تجربة (رفعت عينى للسما) تحديدًا كان لابد أن نصنعها سويًا، فالرجال فى القرية كانوا يشعرون براحة نفسية مع وجود «أيمن» بينما كان يفضل الفتيات التصوير فى وجودى.

التقيتم بمسئولين من الشركة المتحدة، هل سيتم ترجمة هذا اللقاء إلى تعاون مرتقب؟

- أيمن: بالفعل، فعقب عودتنا من كان استقبلنا السيد «عمرو الفقى» الرئيس التنفيذى للشركة المتحدة، و«شريف سعيد» رئيس القناة الوثائقية بحفاوة شديدة، وقد حدث حوار مطول عن سبل التعاون بيننا، لكننا انشغلنا برحلة الفيلم فى المهرجانات والتى أتمنى أن نتمها بسلام بعد عرضه تجاريًا فى دور العرض يوم 6 نوفمبر، وبعدها نتفرغ لتفعيل هذا التعاون الذى نمتن له.

 وماذا عن الفيلم الجديد الذى تعدان له الآن؟

- ندى: فيلمنا الجديد روائى، يدور جزء منه فى البرشا، والجزء الآخر فى القاهرة، ويتحدث عن طموحات مجموعة من الشباب، وتكرار التجربة فى البرشا مرة أخرى سببه بقاؤنا طويلًا هناك، وشعورنا بأن أهلها يمتلكون حكايات إنسانية لم تكتشف بعد.

 

مجلة روز اليوسف المصرية في

03.11.2024

 
 
 
 
 

السينما الإيرانية.. السؤال الحائر من «الجونة» إلى «القاهرة»!

طارق الشناوي

السينما الإيرانية كانت- ولا تزال- تشكل مأزقًا يواجه القائمين على المهرجانات السينمائية فى مصر، قبل نحو عشر سنوات أتذكر جيدًا أن وزير الثقافة الأسبق، الراحل د. جابر عصفور، بعد إعلان نتيجة المسابقة الرسمية لمهرجان (القاهرة)، وفوز الفيلم الإيرانى (ميلبورن) بجائزة (الهرم الذهبى)، أمسك بالميكروفون وكأنه يعتذر للدولة المصرية وللعالم كله، موضحًا لماذا حصلت إيران على الجائزة، ولسان حاله يقول للمتربصين (هذه نقرة وتلك نقرة).

أردف قائلًا: (إننا نختلف سياسيًا وفكريًا مع التوجه الإيرانى، ولكننا منحنا السينما الإيرانية الجائزة، لأننا لا نخلط الأوراق بين الفنى والسياسى)، وأشاد بالموقف المصرى، استغرق هذا الأمر نحو عشر دقائق للتبرير وإبراء الذمة، ومن بعدها ظل الفيلم الإيرانى يعامل بحذر، وكالعادة وأخذًا بالأحوط يميل مهرجان (القاهرة) مع تعاقب القيادات إلى عدم عرض الفيلم الإيرانى، وأتصور أن هذا أيضًا ما سوف يكرره حسين فهمى فى تلك الدورة من المهرجان ( ٤٥)، التى تفتتح ١٣ نوفمبر القادم.

يوجد نوعان وتوجهان يحملان اسم إيران، ما تنتجه أو تساهم فيه وتراجعه الرقابة الإيرانية ويتم تصويره تحت عيون الدولة، وهى فى العادة أفلام لا تحمل أى لمحة نقدية للأوضاع الحالية، وقطعًا لا يمكن فقط أن نصفها بأنها (الشرعية) بمعناها القانونى والدينى، ولكنها فى عدد منها تذهب بعيدًا وتنطلق من نقطة هادئة جدًا واعتيادية، فى العلاقات بين البشر تعثر على ومضة إنسانية تتأملها، إلا أنها تطبق بضراوة حرفيًا كل شروط الرقابة التى تتطلب البعد عن العنف وتجنب أى مشهد يحمل أو يوحى بعلاقة عاطفية مباشرة بين رجل وامرأة، ناهيك عن عدم تواجد رجل وامرأة فى مكان واحد تحسبًا من أن يصبح الشيطان ثالثهما، وطبعًا المرأة حتى داخل جدران البيت تظل مرتدية الحجاب، ولا سلام باليد مع من يؤدى دور زوجها، والحجة هى أنه ليس فى الحقيقة زوجها فكيف تصافحه؟، هذه التفاصيل وغيرها من المؤكد تكبل السينمائى فى إيران، فى نفس الوقت فإن البديل الذى يلجأ إليه قاس جدًا، من الممكن أن يزج به إلى السجن، أو كحد أدنى يمنع من السفر أو ممارسة المهنة، وهو مصير لاقاه كُثر من المبدعين فى إيران، مثل المخرجين جعفر بناهى ومحمد رسولوف، وغيرهما، ورغم ذلك، فإن عددًا من هذه الأفلام التى تصور بالداخل تصل بطريقة سرية للمهرجانات الكبرى، وتحصل على جوائز مثل الفيلم الإيرانى الذى اقتنصه مهرجان (الجونة) هذه الدورة (بذرة التين المقدس) لمحمد رسولوف.

(الجونة) أكثر حرية فى التعامل مع الأفلام، ويختار بلا محاذير سياسية مكبلة له، وهو ما يظهر فى حريته المطلقة بالاختيار.

عرض (بذرة التين المقدس) اختيار موفق للجونة، خاصة أنه لم يفعل مثل مهرجان (كان) ويعتبرها معركة سياسية، فقط اكتفى بعرض الفيلم، أتذكر أن المخرج الممنوع من السفر بأمر المحكمة، محمد رسولوف، كان عليه أن يقضى بالسجن ٨ سنوات واجبة النفاذ، ناهيك عن مئات من ضربات السياط يتلقاها يوميًا _ الجلد عقوبة لا تزال تطبق فى إيران _ تمكن رسولوف من عبور الحدود، وذهب لمكان آمن، لم يعلن عنه تخوفًا من ملاحقة السلطات الإيرانية، وغالبًا هو لا يزال فى واحدة من المدن الأوروبية، بعد أن وصل فى مايو الماضى إلى (كان) وحضر عرض فيلمه وتسلم بعد أيام جائزة لجنة التحكيم.

قطعًا حسين فهمى لا يملك المجازفة سياسيًا بعرض فيلم إيرانى مخرجه منشق عن السلطة، ولكن (الجونة) يستطيع.

للأفكار أجنحة قادرة على التحليق دومًا والطيران، بعيدًا عن مرمى النيران، وهكذا صار رسولوف من مجرد مواطن ينتظر حكمًا بالسجن ثمانى سنوات وجلدًا وتنكيلًا، إلى بطل.

(بذرة التين) فى الثقافة الإيرانية- كما يشير أكثر من مرجع- هى بذرة تنبت عشوائيًا، إلا أنها حتى تواصل النمو، تغتال كل النباتات الأخرى بجوارها لتنفرد بالحياة، ولا يقاسمها مصدر المياه أى ثمرة أخرى بجوارها.

استمد رسولوف حكاية البطل من تلك النبتة، فهو كما يبدو فى بداية الأحداث محبًا لأسرته، عاشقًا لزوجته وابنتيه، ناجح فى مهنته كمحامٍ، تفكر الدولة فى الاستعانة به فى منصب قضائى داخل النيابة حتى يصعد بعدها إلى درجة القاضى، يكتشف أن عليه الموافقة على كل أحكام الإعدام بحق المواطنين الذين تعتبرهم الدولة الإيرانية من الأعداء، يوافق على تلك المقايضة، يبيع من أجلها قناعاته، ولأنه يصبح مطلوبًا أمام أعداء الوطن_ كما يطلقون عليهم _ يتم تسليمه مسدسًا لحمايته الشخصية.

فى خط موازٍ تندلع المظاهرات فى الشارع الإيرانى، مطالبة بالحرية وبعدم فرض الحجاب على الرؤوس، العنف الذى مارسته السلطة أوضح أنها فاقدة السيطرة على مجريات الأمور.

النقاش بين الأب وابنتيه وزوجته أكد على التباين العميق فى الأفكار، بعد أن صار جزءًا من النظام، ولهذا يبرر القسوة والعنف اللذين تغالى الدولة فى توجيههما لمن يختلف معها. وفى المظاهرات نرى الفتاتين وهما تحاولان إنقاذ فتاة ثالثة بعد أن أطلقوا على وجهها رصاصهم المطاطى العشوائى.

نصبح دراميًا أمام رجل فى مواجهة قبيلة النساء داخل المنزل، يشكلون أفراد الأسرة، يزداد الأمر شراسة داخل الأسرة، عندما لا يجد المسدس، يعرضه فقدانه للسجن، ولهذا يقرر أن يبطش بالجميع.

إنه تجسيد حى لتلك البذرة التى لا تنمو وتزدهر مثل (التين المقدس)، إلا على آلام وسحق حياة الآخرين!!.

الخط العام فى السينما الإيرانية، ومن علاماته المخرج الراحل عباس كيروستامى، صاحب فيلم (طعم الكرز)، يبدأ هادئًا ولا ينبئ فى العادة بأى صراع، ثم ينتهى إلى الذروة بالقتل أو الموت أو الانتحار، ومن خلال تتابع السيناريو ينتقل رسولوف، بإيقاع لاهث، إلى تلك الذروة. المخرج بحنكة استعان بلقطات توثيقية تناولت المظاهرات الأخيرة فى إيران، وضعها فى سياق الفيلم كجزء درامى، لنرى كيف واجهت الشرطة المحتجين، خاصة من النساء، بكل هذا العنف المفرط.

رسولوف حافظ على إيقاع الأحداث وتدفقها، من خلال بناء يبدو فى البداية هندسيًا، ثم بعد ذلك يصبح مع تتابع المشاهد انسيابيًا، رجل قانون يواجه قبيلة من النساء هن أقرب الناس إليه، على استعداد أن يضحى بهن جميعًا من أجل أن يظل فى موقعه داخل السلطة، متجاوزًا كل مبادئ القانون.

يبقى السيناريو الواقعى (اللغز)، ولا أتصور أن محمد رسولوف سوف يبوح به على الأقل الآن، كيف تمكن من الهروب خارج البلاد؟، وكيف تم تنفيذ الفيلم وهو ممنوع عليه ممارسة المهنة وتحت المراقبة ٢٤ ساعة؟.

السينما الإيرانية تجسد فى عمقها إصرار مبدع على التعبير متجاوزًا كل المعوقات والمحاذير الرقابية والأمنية، عدد من مخرجيها صارت الصفة الأكبر والأهم لهم أنهم مناضلون بالكاميرا.

 

المصري اليوم في

04.11.2024

 
 
 
 
 

أمهات في المنفى..

قراءة في أفلام الدورة السابعة لمهرجان الجونة السينمائي

الجونة (مصر)-رامي عبد الرازق*

"ربما شعرت تلك المرأة بالراحة حين ولد طفلها ميتاً"، هكذا تبلور "نينا" طبيبة النساء والتوليد الجورجية، وجهة نظرها مدافعة ضد اتهامها بالإهمال في أداء مهمتها المقدسة، وهو الإهمال الذي أدى إلى ولادة طفل ميت من رحم أمه في ولادة طبيعية، كان من الأفضل لو أنها تمت بشكل قيصري.

تجرد هذه الجملة المرعبة الأمومة من قداستها بشكلٍ فاضح وجدلي، بينما تأتي على لسان شخصية الطبيبة في الفيلم الجورجي April  للمخرجة ديا كولومبيجاشفيلي، الذي عرض ضمن برنامج الاختيار الرسمي خارج المسابقة لمهرجان الجونة السينمائي في دورته السابعة.

لم تكن "نينا" أمّاً ذات يوم ولا تريد أن تكون، بل ولا تريد أيضاً أن تأتي النساء بالأطفال إلى هذه الطبيعة الجميلة التي نراها من وجهة نظرها في لقطات طويلة بالفيلم، هي تعتقد أن العالم مكدس بالبشر، ولا حاجة لمزيد من الأطفال لكي يتزاحموا على فتات الحضارة والحياة الخاملة.

من هنا لا تبذل جهداً في توليد المرأة، التي يبدأ الفيلم أولى مشاهده بعملية خروج الطفل ميت من رحمها، بل ولا ترى أي غضاضة في إجراء عمليات الإجهاض للفتيات الريفيات في الضواحي البعيدة، بل وتشجع مرتادات العيادة الخاصة بها أن يتعاطين أدوية منع الحمل في بلد يجرم الإجهاض ووسائل منع الحمل، أو كل ما يحول دون أن يمارس الإنسان همه الغريزي في التكاثر بلا عقل أو حساب.

تجريد الأمومة

شكلت تيمة تجريد الأمومة من قداستها عنصر مُلّح في العديد من الأفلام التي شهدتها عروض الجونة لهذا العام، سواء في المسابقة الرسمية التي ضمت 15 فيلماً طويلاً أو في الأفلام الرسمية خارج المسابقة، بل امتدت التيمة أو لنقل امتد خط الاعتماد على صورة الأم أو كيانها الدرامي أو الرمزي للعديد من التجارب القصيرة المشاركة في مسابقة الدورة السابعة.

على سبيل المثال، فالفيلم الفائز مناصفة بجائز أفضل فيلم قصير، هو البرتغالي How we got our mother back، الذي يحكي عن عائلة غريبة الأطوار يتقمص فيها الابن الأكبر دور الأم بإيعاز ومباركة من أبيه وتواطئ خام وصريح من أخواته الصغار، وما بدأ كلعبة استعادية لتمرير الحزن إلى خارج البيت، ينتهي بالابن الأكبر وقد صار صورة متحولة عن الأم مرتدياً ملابسها، وواضعاً مساحيقها، ومُعلقاً أقراطها، ومتحدثاً بنبرة صوتها الرخيمة المدركة لضرورة وجودها بينهم.

بينما تلعب شخصية الأم دوراً أساسياً في تأطير شكل الرحلة التي يقوم بها الشاب الفلسطيني المقيم بالخارج في الفيلم الفلسطيني "برتقال من يافا" للمخرج محمد المغني -أفضل فيلم عربي قصير مناصفة- حيث تلح عليه تليفونياً في القدوم لكي ينتهوا من زيارة خطيبته، بينما هو عالق بشكل مذل في أحد المعابر، وفي مقابل هذه الأم الغاضبة من سخافات الاحتلال، تأتي أم الضابط الإسرائيلي التي توبخه طوال الوقت على الهاتف أيضاً، مما يدفعه في عناد إلى إطلاق سراح الشاب وسائق التاكسي العجوز الذي يقله بعد احتجازهما عند المعبر لساعات، بحجة أنه لا يحمل هوية ولا تصريح في بلده!.

تلعب الأمومة دوراً استراتيجياً هاماً جداً في سرديات العديد من التجارب السينمائية هذا العام، وهو ما سبق وأن رصدناه قبل سنوات قليلة عندما تصدرت شخصية الأب بمختلف تجلياتها (الذكورية والسياسية بل والدينية) العديد من الأفلام على مستوى العالم!.

هذه الأمومة المتجردة من حمل القداسة الاجتماعي والتراثي والإنساني تعاني بالأساس من أشكال نفي متعددة، أي بقدر تعدد شخصيات الأمهات في الأفلام، تتعدد أشكال المنافي التي تؤطر علاقتهم بأبنائهم أو بالمجتمع أو بالسماء أو بذواتهم العميقة، بأرحامهم التي تشكل مصانع الحياة في أجل وأبسط صورها.

منفى الأمومة

في فيلمها الحائز على جائزة نجمة الجونة لأفضل ممثلة، Peace be upon you, Maria طرحت المخرجة الإسبانية مار كول، سؤال منفى الأمومة في واحدة من تجلياته المرعبة، فمريم بطلة فيلمها -ودلالة الاسم لا تحتاج إلى تأويل- كاتبة صاعدة، لكنها أيضاً أم جديدة، استقبلت تواً طفلها الأول في الوقت الذي بدأ اسمها يملع في عالم الكتابة، وصار لها معجبون ومريدون، لكنها فجأة تعثر على خبر حول امرأة فرنسية أغرقت طفليها عمداً في حوض الاستحمام، فيصيبها الخبر بالهوس، خاصة أن المرأة استطاعت الحصول على براءة من الحكم عليها بقتل صغارها، فلا يعود يسيطر على مريم سوى هاجس واحد، أن تلتقي بهذه الأم لكي تسألها عن أسباب ما فعلت، وعن شعورها بعد أن أتمت عملية التخلص من الصغيرين!.

دراما نفسية تتجاوز التقديس إلى سؤال الغريزة، هل الأمومة احتياج أم قرار! وهل تصلح كل امرأة أن تكون أماً؟ وهل تتعارض الأمومة مع الجموح الأنثوي للجسد؟ أو الطموح المهني في الحياة العملية!.

يتقاطع قلق مريم الخطير بخصوص الأمومة مع ما سبق وأشرنا له في بداية حديثنا عن منطق الطبيبة الثلاثينية "نينا" التي ترى أن هناك أمهات يشعرن بالراحة عندما يولد أطفالهن موتى! وهو نفس القلق الوجودي الذي يفرد له المخرج ماتياس غلاستر، في الفيلم الألماني "الاحتضار" الذي عُرض ضمن برنامج خارج المسابقة، فما يقرب من 15 دقيقة من زمن الفيلم البالغ 3 ساعات كاملة، حيث تتحدث الأم المريضة بالسرطان مع ابنها المايسترو والموزع الموسيقى الموهوب، عن كونها لا تذكر أن كان قد ألقت به من يدها! أو ضربته في الحائط وهو لا يزال رضيعاً يبكي! أم أنه سقط منها دون قصد!.

في مشهد طويل تنتقل فيه الكاميرا بين الأم والابن في كادرات منفصلة لا تجمعهما رغم جلوسهما على مائدة واحدة، تصارحه عينيها بأن الأقرب لما حدث هو الإلقاء وليس السهو! بينما يتأكد لديه شعوراً أنه لم تكن ترغب فيه أو في تربيته، وبالتالي نشأ وهو مهمل عاطفياً ونفسياً بشكلٍ كبير، وربما كان هذا هو السبب الذي دفعه لأن يظل على علاقة بامرأة أنجبت من رجل أخر غيره، لكنها تحبه هو، وبالتالي لا يستطيع أن يغادر هذه العلاقة السامة لأنها تشبع لديه الرغبة في أن يكون محبوباً! بعد أن لفظه رحم الأم مادياً ومعنوياً في أكثر فترات التكوين احتياجاً منه لها.

"شكراً لأنك تحلم معنا"

شكل أخر من أشكال المنفى تعيشه اثنان من الأمهات العربيات في الأفلام المشاركة بالمسابقة الرسمية للمهرجان، في كلًّ من الفلسطيني "شكراً لأنك تحلم معنا" للمخرجة ليلى عباس، والتونسي "ماء العين" لمريم جعبري، والحائزان على جائزة أفضل فيلم عربي طويل مناصفة، حيث تعيش الأمهات في منافي تخص علاقتهم الملتبسة جداً بالأبناء، لا عن كراهية أو نفور أو تساؤلات غريزية أو فلسفية، بل كنتيجة وانعكاس للاضطراب العام المحيط أو دائرة الخوف والقلق التي تؤطر طبيعة الحياة في مجتمعاتهن.

في التونسي "ماء العين"، تواجه "عايشة" الفلاحة الريفية خطر الاستسلام لفكرة أن ابنها الذي انتظرت عودته طويلاً هو وأخيه، ليس نفس الابن أو كتلة الحشا المنسخلة عنها! بل هو مصدر الظلام الذي يكسو القرية بالتدريج بعد أن تلبسته روح داعشية مهولة التأثير وفاحشة الرغبة في السيطرة والتدمير وكسر النفوس بحجة نصرة الدين. إنها تنفي نفسها بعيداً عن الفكرة، تقاومها، ثم لا تلبث أن تضطر إلى مواجهتها! ونقلب المنفى ليصبح عكسياً! لقد عاد ابنها من منفاه الاختياري -الجهاد في سبيل الله- لكنه أحضر معه كل موبقات هذا المنفى، لكي تصبح هي في مواجهة قدرها الأسود، إما أن تنفي أمومتها كاملة وتطرده أو تنفي وعيها وتستغرق في ظلامية أفعاله.

وفي الفلسطيني "شكراً لأنك تحلم معنا" ثمة الأم التي تحاول أن توازن اجتماعياً ونفسياً وجسدياً بين كل الذكور في حياتها! الابن المتمرد الذي ينفلت من البيت باتجاهات مجهولة لا تدري هل هو ضائع أم مناضل! والزوج المحمل بأثقال اجتماعية واقتصادية في بلد منكوب بالاحتلال، والأب الذي يغيبه الموت بشكل مفاجئ فتجد نفسها في صراع مع الضمير والشرع، مقابل تشبث أختها الصغرى بضرورة أن يستردوا مقابل سنوات عمرهم الضائعة في خدمته قبل أن يحضر الأخ المدلل من أميركا كي يقضم نصف التركة بلا تعب أو جهد أو دعم من أي نوع، ولكن من منطلق التفوق الذكوري الممنوح من قبل التشريعات السماوية.

إنها تعيش في منفي إجباري بعيداً عن ابنها الذي يعزلها تماماً عن حياته، حتى أنها تجد نفسها مضطرة أن تخبئ منه المحمول الخاص به، كي تعاقبه على تصرفاته الهوجاء من وجهة نظرها!، وتعيش في منفى إجباري من قبل الزوج الذي يعزلها عن باطنه وهمومه الخاصة ويلقي على رأسها فقط ما يزيد عن رغبته في التحمل! حتى أنه يتهمها بالفصام حين تطلب الطلاق وتعود آخر الليل لتستحم وتحتضنه من الخلف.

وتعيش في منفى ذاتي عن نفسها، ترفض مواجهة الواقع، أو الاعتراف بكل المنافي التي أجبرت عليها بحكم موقعها كأم قليلة الحيلة -كما في مشهد تشبثها بالابن كي لا يغادر البيت- وكأنثى وامرأة في مجتمع أعور لا ينظر إلا إلى نصف الأمور فقط.

صراع نفسي

تضم المنافي التي تعيشها الأمهات ضمن تجارب الأفلام التي عرضت في مهرجان الجونة أكثر من صيغة شعورية ونفسية معقدة، بعضها استثنائي جداً، وبعضها مربك وحاد في عموميته.

في فيلمه Sons يقدم لنا الدنماركي صاحب The Guilty جوستاف مولر، مواجهة خارقة القسوة بين أم تعمل سجانة لطيفة وعادية ومهذبة وحنونة، وبين الشاب الذي قتل ابنها في السجن في أثناء تقضيته فترة عقوبته، فتطلب أن تنقل إلى السجن المشدد وتتحول إلى جلاد حقيقي، ليصل بها الأمر إلى أن تتهم بمحاولة قتله.

صراع نفسي مرير ومركب، خاصة عندما تجد السجانة الأم نفسها في منفى اختياري من الكراهية والنفور والغربة العارمة في الانتقام، في مشهد عنيف جداً تدس في غرفته ممنوعات أثناء التفتيش وتدخل صراخه لتنهال عليه بالهرواة لتكسر له أنفه وجمجمته.

لكن وبينما تعد الخطة لكي تستدرجه خارج السجن كي يزور أمه وتتخلص منه بعيداً عن العيون، تكتشف أن علاقته بأمه الجامدة الصلبة صاحبة المشاعر الجافة هي السبب في انجرافه وجرائمه، وتدريجياً يحدث لها إسقاط شبه واعٍ على علاقتها بابنها! وتجد نفسها تواجه السؤال الأعنف: هل كانت أمومتها بنفس هذا الجفاء تجاه ولدها الذي لولا دخوله للسجن ما كان قد قتل؟ ويا له من سؤال مرعب لكل أم.

محمد روسولوف

أما في الفيلم الإيراني The Seed of the Sacred Fig للمخرج الهارب من جحيم الملالي محمد روسولوف، فإن الأم زوجة المحقق المرقى حديثاً والتي تريد لبناتها أن يدركن حساسية منصب أباهن الجديد، تنفي نفسها بوعي كامل عن كل ما يحيط بها وأسرتها من ظروف سياسية محتقنة حد الانفجار، بل أنها لا تصدق صديقة بناتها التي تأتي مضروبة بالرصاص البلي الدامي وترميه في المجارير بعد استخراجه من وجه الشابة، في مقابل تصديقها لأي وكل ما يقال في التلفزيون الحكومي الذي ينقل فقط نبأ انتصار الحكومة على المتمردين الأشرار الذين يريدون هدم المجتمع وتقويض النظام (العظيم) للجمهورية الإسلامية!.

لكن ما يحدث أن هذا المنفى الاختياري شبه الواعي يصطدم بالطبع بكابوس السياسة الدموي، حين يختفي مسدس الأب ويتحول هو نفسه إلى واحد من كلاب النظام الشرهة التي لا تملك سوى أنف تقودها نحو رائحة الدم وأنياب لا تعرف سوى نهش الأجساد والعقول.

وبعد أن كانت تلقي باللوم على بناتها اللاتي يردن لها أن تستعيد وعيها من منفاه الغريب، تصبح وإياهم في وضع مهدد بأن يقتلوا على يد الأب نفسه.

وتبقى الإشارة إلى منافي أقل حدة لكنها بلا شك شديدة التأثير على نفوس وتشكيلات المشاعر الخاصة بالأمهات في الأفلام، ويكفي أن نشير إلى تجربة الإسباني (قارئ المرأة) بيدور المودوفار في فيلمه The Room Next Door، والنرويجية ليليا انجولفسدوتير في شريطها Loveable، فـ"مارثا" الأم المصابة بالسرطان في الغرفة المجاورة تعيش وتتكلم وتحكي لصديقتها "إنجريد" عبر ذاكرتها الباقية كأحد ما في جسدها المتداعي عن ابنتها البعيدة وعن علاقتهما الغريبة منذ أن عرفت أباها وحتى موته، ثم تربيتها للفتاة التي حاولت فيها أن تجيب عن سؤال "أين ذهب أبي؟"، أن مارثا تعيش في منفى السؤال المفتوح الذي يجب أن ترد عليه قبل أن ترحل اختيارياً بالموت الرحيم، هذا المنفى المستعاد من ذاكرتها فقط، حتى أننا نشك في وجود الابنة في حد ذاتها، قبل أن تظهر بالفعل قبيل رحيل الأم بقليل لتغفر لها منفاها الاغترابي الحزين.

أما في Loveable فثمة مريم أخرى ولكنها على العكس تماماً من مريم الحاضرة في الفيلم الأسباني الذي أشرنا إليه، مريم هنا هي أم مفعمة تستغرقها تجربة الأمومة حد النفي التام عن كل شيء أخر، هذا الاستغراق الرهيب يصيبها بحالة من الغضب المستمر والرغبة في الصراخ وتهديد العالم بقبضتها الهشة، فيهجرها زوجها وتخفت علاقته بأبنائها ولا تجد في النهاية طريقاً للعودة من هذا المنفى سوى بالتصالح مع ذاتها الغاضبة والاعتراف بمنفاها الذي سارت إليه بكامل إرادتها لا مجبرة كما كانت تظن، وهو ما يساعدها على أن تؤطر حكمة رحلتها المشوشة، الأمومة الحقة تمر عبر ذات المرأة قبل أطفالها، والمرأة التي يصعب عليها أن تكون إما لنفسها قبل أن يمتلئ رحمها سوف تخسر كثيراً في محاولات أن تصبح أمّاً لأبنائها فيما بعد

* ناقد فني

 

الشرق نيوز السعودية في

04.11.2024

 
 
 
 
 

مخرج «برتقالة من يافا» بنينا نموذجًا مطابقًا للمعابر الإسرائيلية لتصوير الفيلم

أحمد عدلي

يحضر الاحتلال بأقدامه الثقيلة ليجثم على أنفاس البطلين والمشاهدين لفيلم “برتقالة من يافا” للمخرج الفلسطيني محمد المغني. هذا الحضور الكثيف الثقيل يصعب تجسيده والتقاط خشونته وجثامة حضوره سوى ممن اختبر هذا الحضور وعانى من تبعاته، وهذا ما يؤكده المخرج محمد المغني في حديثه إلى فاصلة، إذ يؤكد أن أحداث فيلمه القصير، مأخوذة من واقع عاشه أثناء تواجده في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إضافة إلى مواقف يتعرض لها يوميًا مئات الآلاف من أبناء شعبه، مشيرًا إلى انشغاله بالتعبير عن القضية الفلسطينية في مشاريعه السينمائية المختلفة.

حصل المغني بفيلمه الجديد على جائزة “نجمة الجونة الفضية” في مسابقة الأفلام القصيرة، مناصفة مع الفيلم البرتغالي “كيف استعدنا والدتنا”، كما حظي الفيلم بإشادات نقدية عديدة خلال عرضه الأول في المنطقة العربية.

تدور أحداث “برتقالة من يافا” حول شاب من غزة عاد إلى بلاده مؤخرًا من الدولة الأوروبية التي يقيم فيها دون أن يحمل جنسيتها، ويحاول العبور إلى يافا مستخدمًا بطاقة الإقامة الأوروبية التي بحوزته. ولكن بعد رفض دخوله من معبر يلجأ إلى معبر آخر، ليفاجأ بتوقيفه وتعطيل سائق التاكسي الذي أقله، بينما تنتظره والدته في يافا على أمل رؤيته لفتاة ترغب في أن يتزوجها ابنها.

يقول المغني في مقابلته مع فاصلة؛ إنه عاش غالبية حياته في فلسطين، لكن دراسته في بولندا منحته الإقامة الأوروبية، مما جعله يشعر بحرية الحركة داخل أوروبا بشكل عام دون قيود. لكن الوضع في فلسطين مختلف بالنسبة للفلسطينيين الذين لا يعرفون حرية الحركة، إذ لا يمكنهم توقع الوصول إلى أي مكان دون مفاجآت يومية.

وأضاف أن المواطن الفلسطيني لا يستطيع الحصول على كثير من حقوقه الأساسية داخل بلده، ومنها الحق في التنقل بحرية. لافتًا إلى أن والدته تجد أحيانًا صعوبة عند زيارتها لأقاربها في يافا، وهو الأمر الذي يواجهه أيضًا عندما يرافقها.

وأوضح الصغير أنه واجه صعوبات في كتابة السيناريو خلال فترة دراسته للسينما في بولندا، مما دفعه للعمل على معالجة نقطة ضعفه لتقديم سيناريو مكتوب بطريقة جيدة، مشيرًا إلى أنه اختصر مشاهد الفيلم التي كتبها في 70 صفحة لتكون في 30 فقط، ليصبح العمل أكثر تركيزًا.

ولفت المغني إلى أن ما حذفه من الكتابة كان مرتبطًا بتفاصيل عديدة حول دور الأم ومشاهد للقيود على المعابر، وهي أمور وصلت إلى المشاهد بطرق أخرى سواء من خلال التصوير أو عبر الحوار بين الأبطال.

لم يكن التصوير داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة سهلًا، حيث اضطر فريق العمل لبناء حاجز إسرائيلي بالكامل في إحدى المناطق الهادئة نسبيًا ليطابق الحاجز الحقيقي، نظرًا لاستحالة التصوير في الموقع الأصلي. وأكد المغني لـ فاصلة أن بناء الديكور الرئيسي للفيلم استغرق حوالي ثلاثة أسابيع للانتهاء منه تمامًا. يذكر أن تصوير الفيلم جرى قبل أحداث السابع من أكتوبر 2023.

ويؤكد المخرج الفلسطيني الشاب أن فريق العمل لم يكن يغادر موقع التصوير حتى الانتهاء من تصوير جميع المشاهد المرتبطة بالحاجز، بسبب صعوبة الوصول إلى المكان والخوف من حدوث أي طارئ يمنع استكمال التصوير في المواعيد المحددة. وأضاف أنهم تعرضوا للتهديد من بعض المستوطنين خلال تصوير أحد المشاهد، مما اضطرهم إلى تغيير زاوية التصوير لتجنب الاحتكاكات.

وأشار المغني إلى أن جزءًا من فريق العمل جاء من بولندا للتصوير، وأن تأمينهم كان مسألة يضعها في اعتباره باستمرار، لافتًا إلى أن المستوطنين الذين اعترضوا طريقهم خلال التصوير زادت حدة لغتهم عندما علموا بمشاركة بولنديين في صناعة الفيلم.

اختار المخرج الفلسطيني الفنان كامل الباشا لتقديم دور السائق، بينما أجرى تجارب أداء لاختيار ممثل دور الطالب، حتى استقر على سامر بشارات لتقديم دور “محمد” في الأحداث. وعبّر المغني عن سعادته بتواضع كامل الباشا كممثل وتعاونه الاحترافي، وموافقته على الاشتراك في فيلم هو الأول لمخرجه بعد تخرجه من الجامعة.

كان تمويل الفيلم صعبًا، لكن المغني يعتقد أن الطريقة التي كتب بها السيناريو كانت من الأسباب الرئيسية في سهولة الحصول على دعم لإنتاج الفيلم، مما سمح بخروجه للنور بشراكة بين جهات بولندية وفرنسية وفلسطينية.

ويقترب محمد المغني من الانتهاء من فيلمه الثاني “ابن الشوارع”، الذي يصوره في لبنان وينتمي إلى الأفلام الوثائقية. وتدور أحداثه حول طفل فلسطيني في مخيم بلبنان يحاول أهله استخراج بطاقة هوية له. وأشار إلى أنه سيعود قريبًا لاستكمال المتبقي من الفيلم أملًا في الانتهاء منه في أقرب وقت.

وقد حصل الفيلم على دعم من منصة “سيني جونة” خلال النسخة السابعة من مهرجان الجونة السينمائي، وهو دعم سيمكن المخرج من إنجاز مشروعه الجديد.

يبدي محمد المغني رغبته في تقديم فيلم روائي طويل عن غزة وما يحدث فيها، معتبرًا أن هذا المشروع لا يزال مجرد رغبة، ولم يبدأ بكتابة أي شيء عنه حتى الآن، نظرًا لصعوبة الأوضاع والمعاناة التي يدركها جيدًا، خاصة وأن شقيقته تقيم في غزة ولديه العديد من الأصدقاء والأقارب داخل القطاع.

 

موقع "فاصلة" السعودي في

05.11.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004