يسرى نصرالله من أكثر المبدعين فى كل المجالات تسامحًا مع
الأجيال الجديدة، كثيرا ما التقى بمخرجين مصريين من جيل الشباب يعرضون
أفلامهم خارج الحدود بالمهرجانات الكبرى، الاسم الذى يتردد دائما باعتباره
صاحب الفضل فى الوصول لتلك المكانة وفك الشفرة هو يسرى، وعندما كتبت ذلك
يوما على صفحتى، قال لى: «أنا لم أفعل شيئا، هم موهوبون، ولهذا شاركوا
بالمهرجان».
العلاقة بين الفنان وإبداعه ليست بالضرورة تعنى أنهما وجهان
لعملة واحدة، أحيانا يتناقض الوجهان، نعم قالها سقراط: «تكلم حتى أراك»، هل
حقا نحن نتكلم بما نشعر به أم قد نستبدل أحيانا حتى نبرة أصواتنا؟.
بين العديد من المخرجين تعثر على القليل الذى تتوافق مشاعره
مع أفلامه، يسرى نصر الله فى طليعة هؤلاء، قبل أن أسهب فى الحديث عن سينما
يسرى، أتناول إجابته عن سؤال حول الواقعية، فى الندوة التى أدارها فى
المهرجان المخرج الشاب تامر العشرى، سألوه عن الواقعية، قال إن الناس أحبت
وتجاوبت وأيضا النقاد مع فيلم داود عبد السيد «الكيت كات» الذى تم تصويره
فى ديكور، بينما (مرسيدس)، الذى صور فى الشارع لم يحظ بنفس الحفاوة.
مؤكد يسرى يدرك أن الواقعية لا تعنى بالضرورة أن تصور فيلمك
فى الحارة، ولكن أن تقنع الجمهور بـأنها حارة، قطعا «الكيت كات»، أحد أهم
الأفلام فى تاريخ السينما العربية وليس فقط المصرية، وحظى بالمركز الثامن
فى الاستفتاء الذى أجراه مهرجان دبى عام ٢٠١٣ عن أفضل أفلامنا العربية.
فنان الديكور أنسى أبوسيف أنشأ حارة دخلت تاريخنا، ولهذا
أهدى له داود فى التترات الفيلم؛ لأنها حملت روح الحارة المصرية أكثر بكثير
من مجرد ملامحها.
أفلام صلاح أبوسيف التى تصنف بالواقعية شيدت فى الاستوديو،
مثل «الفتوة» بعض السينمائيين كما قال لى الأستاذ صلاح أبوسيف، من فرط صدق
الفيلم اعتقدوا أنه تم تصويره فى «سوق السمك».
يسرى تستطيع أن تراه فى أفلامه، وكأنه يطيل النظر إلى
مرآته، منذ أن شاهدنا فيلمه الروائى الأول «سرقات صيفية» ١٩٨٨ حتى أخر
أفلامه «الماء والخضرة والوجه الحسن» ٢٠١٦، لم نكن فقط نشاهد شريطا
سينمائيا، ولكننا نشاهد فى نفس اللحظة يسرى، تتباين أفلامه فنيا، ولكنها
دائما وأبدا تحمل فقط أفكاره وصوته وحتى صمته.
لو سألتنى عن الفيلم الذى يهتف قائلا أنا يسرى نصرالله،
إليك إجابتى إنه «جنينة الأسماك»، إنه فيلم عن الحقيقة والزيف كما يراهما
يسرى.
الحقيقة فى الصباح منتقبة، بينما فى المساء تراها واضحة لا
يسترها شىء، تخلع حتى ورقة التوت، الإنسان فى الحياة العامة يرتدى قناعا
وراء قناع، يضع دائمًا مكياجا صارخا على مشاعره لا يبوح إلا بالقليل،
دائمًا هناك غطاء واق، يمنعنا من أن نكون أنفسنا، «الأنا الأعلى» كما يطلق
عليها علماء النفس، التى نسميها فى مفهومنا الضمير، ورجل الدين يُطلق عليها
(النفس اللوامة) هى تلك التى تراجعنا كلما حاولنا أن نقترب من أنفسنا، ولا
أقول نصبح أنفسنا.
فى «جنينة الأسماك»، التى قدمها لنا يسرى نصر الله ٢٠٠٨ نحن
غير مجبرين أن نرتدى هذه الأقنعة طوال ٢٤ ساعة فى اليوم، ولهذا اختار الليل
وأغلب مشاهد الفيلم ليلية ولم يكن ذلك عفويًا ولا هو لمجرد أن البطلة هند
صبرى تقدم برنامجا اسمه (أسرار الليل)، ولكن لأن المخرج يريد أن ينقلنا معه
إلى الحالات التى تعيشها الشخصية، إنها تلك التى يتسق فيها الخارج مع
الداخل عندما لا يصبح هناك مفر من أن نكون أنفسنا، برنامج «أسرار الليل» هو
حديث الفضفضة الليلى.
ولا أتصور أن الجمهور أو الأغلبية تذهب إلى هذه السينما
التى يقدمها يسرى، إلا أن عالم السينما الرحب الواسع من المستحيل أن نضعه
فى إطار محدد بنغماته الشعبية المستقرة فى وجدان الناس، ليس فقط فى مصر،
ولكن فى العالم كله، فدائمًا هناك تركيبات درامية سهلة الترديد تحقق
إيرادات ضخمة، وتركيبات أخرى تكسب جمهورا قليلا وشريحة ضئيلة جدًا ربما
تزداد مع الزمن، لكنها تظل مثل فن الأوبرا لا يمكن أن يصبح فنًا شعبيًا إلا
أنه يعيش مع الزمن ويكتسب أيضا جمهورا فى قادم الأيام، ونرى فيه الكثير من
الحقيقة التى نخفيها صباحًا وتجبرنا على أن نعترف بها ليلًا، حتى لو وضعنا
عليها شيئا من المكياج!.
يسرى لا يخاصم الناس عامدا متعمدا، ولا يمكن لمبدع أن يفعل
ذلك، وهكذا وجدناه عام ٢٠٠٩ يلتقى مع الكاتب الكبير وحيد حامد، الذى يدرك
تماما مفاتيح الجمهور، كتبت وقتها وقلت كيف يمتزج الزيت بالماء؟، كنت أشير
إلى فيلم «احكى يا شهرزاد» كل من الكاتب والمخرج لديه خصوصية، ودائما يسرى
نصر الله طوال تاريخه لم يتعامل مع كاتب سيناريو محترف، يشارك أو يكتب أغلب
أفلامه، ومن يتواجدون على خريطته السينمائية كمؤلفين إما أنها تجاربهم
الأولى، وبالتالى يخضعون لرؤية يسرى، أو أنهم يفكرون بعقله ويكتبون
بأصابعه، تستطيع أن تعتبر وحيد حامد نموذجا للكاتب الدرامى المحترف الذى
يشكل حجر الزاوية فى الفيلم السينمائى المصرى منذ السبعينيات، بينما يسرى
نصر الله يقدم رؤية تذوب فيها روح الكاتب تمامًا لنرى فقط أننا بصدد فيلم
ينتمى إلى عالم المخرج، ولهذا فإن أفلام يسرى تنمو كفكرة فى داخله يكتبها
أو يكلف بها غيره إلا أنه يظل هو المسؤول الأول عن نضوجها، أما فيلم «احكى
يا شهرزاد»، فهو أولًا سيناريو مكتمل متعدد المستويات الدرامية بمنهج وفكر
وأسلوب وحيد حامد، وبعد أن تشاهد الفيلم تستطيع أن تقول وأنت مطمئن إنه
ينطق باسم وحيد حامد مائة بالمائة، وتستطيع أن تقول أيضًا وبنفس الثقة وفى
نفس اللحظة إنه فيلم يهتف باسم يسرى نصر الله مائة بالمائة!.
علم الطبيعة يؤكد أن الماء والزيت لا يمتزجان، ويسرى ووحيد
تحديا علوم الطبيعة وامتزجا.. لم يسبح أى منهما فى اتجاه الآخر، الجمهور
كان يسبح إليهما!.
يسرى تلميذ نجيب للأستاذ يوسف شاهين، لكنه لم يكن يوما سوى
نفسه، وهذا هو الدرس الأهم الذى تعلمه من الأستاذ، أغلب تلاميذه لا يقلدونه
فقط فنيا، ولكنهم أيضا يتلعثمون مثله أيضا فى نطق بعض الكلمات، ويكررون
أحيانا بعض مفرداته مثل (دقدق) التى ينادى بها أغلب من يلتقى بهم.
لم تكن حياته مع يوسف شاهين كما يعتقد البعض كلها (سمن على
عسل)، شابها أحيانا منذ النصف الثانى من التسعينيات قدر من البصل، الوحيد
الذى يستطيع الحديث عن البصل هو يسرى نصرالله، وأتصور أن هذا هو الحوار
المسكوت عنه، الذى لا يمكن أن يبوح به يوما يسرى نصرالله، وسيظل أستاذه
الأول والأكبر منزها عن أى خطأ.
يسرى نصرالله لم يحصل على الهرم الذهبى، الهرم الذهبى حصل
على «يسرى نصرالله»!. |