خالد محمود يكتب:
سوريا على الشاشة.. حياة معلقة
تبقى دائما للسينما شهادتها الخاصة فى مشهد الأوطان
ومتغيراتها وثوابتها، و يجئ المشهد السورى ليطرح السؤال.. كيف مثلت الأفلام
الأزمة بين واقع ومستقبل، هل اكتفت بالتوثيق من أجل أجيال قادمة، أم تجاوزت
رؤيتها لتتنبئ بما هو قادم بين يأس وأمل، كمرحلة فاصلة بين كابوس وحلم.
دون شك كانت هناك أفلام كثيرة تناولت عبر قصصها وحكاياتها
وصورتها مشاهد اليأس ومخاوف الأيام ورعب الزمن من تلاعب سياسات وأطراف
وجماعات كثيرة، وأيضا الآمال البسيطة في سوريا، بينها ما كان رمزيا والبعض
كان أكثر دقة و وضوحاً، والتي صنعها أشخاص على الأرض يستمعون إلى أصوات لم
يسمع بها أحد من قبل.
حتى سنوات قليلة مضت، أدت الحرب في سوريا إلى نزوح 13 مليون
شخص ومقتل نصف مليون شخص. ويحاول اللاجئون إيجاد لقمة العيش في مخيمات
اللاجئين في تركيا ولبنان والأردن أو يخاطرون بحياتهم بحثاً عن اللجوء في
أماكن أبعد.
أتذكر فيلم “مدينة الأشباح”
City of Ghosts،
الوثائقى الامريكى للمخرج ماثيو هاينمان والذى ألقى بظلاله على مشهد قاس في
مُحافظة الرقة السورية، خُصوصا بعد سيطرة تنظيم داعش على المدينة سنة 2014.
يتتبع فيلم “مدينة الأشباح” للمخرج ماثيو هينمان، مجموعة من
الصحفيين المواطنين الذين يطلقون على أنفسهم اسم “الرقة تُذبح بصمت”.
يتظاهر الرجال من أجل “الحرية والعدالة والمساواة والكرامة”، ولكن عندما
يُقتل رفاقهم ويتعرضون هم أنفسهم للتهديد، يفرون معتمدين على جهات الاتصال
المتبقية في سوريا لإرسال صور الفظائع حتى يتمكنوا من رفع مستوى الوعي في
العالم الأوسع عبر الإنترنت. يستخدم هاينمان لقطات فيلم “الرقة تُذبح بصمت”
لتتبع داعش أثناء استغلالها للفراغ في السلطة الذي خلفته الثورة، وهناك
مقاطع مرعبة لعملاء داعش الملثمين وهم يعدمون الرجال ويقطعون رؤوس
الجثث، ويعلقونها على المسامير، ويعذبون المدنيين، ويغسلون أدمغة الأطفال،
إلى جانب مقاطع فيديو لتجنيد أفراد داعش.
إن فيلم “مدينة الأشباح” هو تاريخ حديث قوي وسهل التذكر.
لقد أقام هاينمان صداقة مع الناشطين المنفيين، ولكن اللقطات الأكثر إقناعاً
في الفيلم هي لقطاتهم، وليس لقطاته.
إن تجربتهم الشخصية مؤلمة، فهم يعيشون في ألمانيا حيث يشهدون مظاهرات
عنصرية معادية للمسلمين؛ وفي الوقت نفسه، يصفق لهم الأثرياء الأميركيون
البيض في حفل توزيع جوائز حقوق الإنسان في نيويورك. وعلى الرغم من المخاطرة
بحياتهم لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، فإنهم كطالبي لجوء في
أوروبا ليس لديهم الحق في العمل.
وهناك أيضا فيلم “عن الآباء والأبناء” وهو وثائقى المانى
إخراج طلال ديركى حول الجهادية المتطرفة والتدريب الإرهابي في سوريا.
وأيضا “من أجل سما” هو فيلم وثائقي تم إنتاجه في سوريا
والمملكة المتحدة وصدر في سنة 2019، من إخراج ورواية وعد الخطيب وأنتجه
إدوارد واتس، والذى يحكى قصة حصار حلب، حيث تدور الأحداث حول مغامرة ملحمية
لوعد الخطيب وطفلتها الرضيعة سما على مدار خمس سنوات من الحب والزواج
والحياة في حلب وقت الحرب، تظهر معاناة المرأة خلال الحروب، حيث يركز
الفيلم على رحلة وعد كزوجة حمزة الخطيب أحد الأطباء القلائل الذين تركوا في
حلب أثناء قيامهم بتربية ابنتهم سما أثناء الحرب الأهلية السورية.
وهناك فيلم “آخر الرجال في حلب” إخراج فراس فياض، وهو فيلم
وثائقي صدر عام 2017؛ يحكي عن الثورة السورية وما خلفته من دمار. ويحاول
الفيلم الوثائقي توثيق الحياة في حلب خلال الحرب ويسلط الضوء بشكل خاص على
عمليات البحث والإنقاذ التي قام بها الدفاع المدني السوري (تُسمى أحيانا
بالخوذ البيض) المعترف بها دوليا، وهي منظمة تتكون من مواطنين عاديين هم
أول من يندفع نحو الضربات الجوية العسكرية والهجمات بالبراميل المتفجرة على
أمل إنقاذ الأرواح. كما يُسلط الفيلم الوثائقي الضوء على حياة ثلاثة من ذوي
الخوذ البيض المؤسسين، وهم خالد عمر هارا، صبحي الحسين ومحمود الذين لم
يجدوا بدا من الفرار من سوريا على الرغم من أن الفرصة أُتيحت لهم في العديد
من المناسبات، وفي المقابل يُفضلون البقاء في بلادهم والكفاح من أجلها.
كما كانت أفلام “قصص سورية: حياة معلقة” و”راديو كوباني” و”
طعم الأسمنت” تقدم تأملات حول سوريا، وكانت هناك مجموعة من الأفلام التي
تنقل التأثير الذي أحدثه نظام الرئيس بشار الأسد، وتنظيم الدولة الإسلامية.
وظهرت الأفلام بطابع مباشر للغاية، ففى “طعم الأسمنت” يصور عمال البناء
السوريين المنفيين في مواقع البناء في لبنان. وقد تم تصوير الفيلم على نطاق
ملحمي، مع تفاصيل مذهلة على الشاشة، فالمدينة الضخمة في بيروت تتناقض مع
صور المباني المدمرة التي تعرضت للقصف في سوريا، والمواطنين الذين ينتشلون
مواطنين آخرين من تحت الأنقاض بأيديهم العارية. والعمال المنفيون لا
يتحاورون، ويتم إطلاق النار عليهم في عزلة تأملية وهم يمثلون الرمزية
المؤلمة الصريحة المتمثلة في بناء منازل فاخرة بشكل غير مرئي ودون اسم
وبصمت لأشخاص لا يريدونها بعد تدمير منازلهم.
إن أفلاماً كهذه واضحة في صورها وسردها وهدفها لأي شخص يريد
التعمق في التاريخ السوري والأفلام السورية الحديثة.
كان الفيلم القصير الشهير “الخوذ البيضاء” للمخرج أورلاندو
فون والذي يتتبع فريقًا يتفاعل مع الضربات الجوية التي يشنها الأسد مؤثرًا
بقوة، وفيلم “آخر رجل في حلب” الذي يتناول نفس الموضوع، وينطبق نفس الشيء
على الفيلم الوثائقي “صرخات من سوريا” للمخرج يفجيني أفينيفسكي لعام 2017،
والذي يتضمن لقطات لانفجارات القنابل، والذعر الشديد، وإطلاق النار
المفتوح، والأقارب الحزينين، والأطفال المصابين بصدمات نفسية، والزعماء
الثوريين.
ويعتبر الأسوأ لهذا النوع من الأفلام هو فيلم “الجحيم على
الأرض: سقوط سوريا وصعود داعش” 2017 للمخرج سيباستيان جونجر ونيك كويست،
اللذين جمعا روايتهما من نشرات الأخبار وتقارير هيومن رايتس
ربما تسئ صناعة السينما العالمية إلى سوريا من خلال منح
الصفقات والدعاية والتوزيع فقط لأولئك المخرجين الذين لديهم الرغبة الشديدة
في ألعاب الحرب والذين يجمعون لقطات مجانية يتم التقاطها بمخاطر كبيرة
لتقديم الأفلام الأكثر إثارة لفهم ما يحدث في سوريا حقًا وإدراك عمق آلام
مواطنيها، والحقيقة لا ينبغي أن تُروى التجربة السورية من قبل آخرين
متحمسين لصورتهم الشخصية بتصوير الوضع مجرد كارثة ثم يبحثون عن غيرها بمجرد
ظهور كارثة أخرى فضلاً عن بساطة السرد والرؤية.
ويجئى فيلم
Lost in Lebanon
للمخرجتين جورجيا وصوفيا سكوت، يقطع شوطًا طويلاً فى المسار القاسى، حيث تم
تصوير الفيلم في مخيم للاجئين في لبنان، حيث يوثق الحياة اليومية لسكان
المخيم المحبطين، بما في ذلك فنان وسيم عالق بين الإبداع والهروب من
الكحول، وامرأة شابة، ريم، التي تحطمت آمالها في أن تصبح مهندسة معمارية
بعد إدراجها على القائمة السوداء في عام 2012 بسبب احتجاجها على النظام.
ويتحدث الفيلم الوثائقي عن تكرار الصدمات المتعددة الطبقات
التي يسببها الصراع، ويخلق دورات من الغضب والألم. وتتحدث ريم عن مشاهدة
حالات انتحار الأطفال، وعن الأطفال الذين شهدوا الحرب والموت والقتل
والتعذيب. وتقول: “هؤلاء الأطفال قنابل حية. هكذا تصنع الإرهابيين”.
وفيلم “حياة معلقة” من إخراج هبة ظهير حمدي وإسراء عبد
الحميد إبراهيم أواي وحماد عزمت اللباد، ويركز على قائد سابق في جيش الأسد
انشق بعد 35 عامًا ليجد نفسه في المنفى في الأردن. إنه أحد أفضل الأفلام
السورية توازن بين المشهد القاسى والجماليات الفنية يتضمن انتقادات مدروسة
للنظام؛ وموضوعاً أساسياً عن الهروب والمنفى، والخوف من الأماكن المغلقة
وعدم التسامح؛ وهو لا يتجاهل النساء؛ ويعكس مقاومة أجيال متعددة ضد داعش،
وضد بشار الأسد، وضد والده حافظ الأسد؛ ومع ذلك فإنه لا يتخلى أبداً عن
المستقبل من خلال أشخاص مثاليين، ومجموعة من الكتاب والفنانين الذين تتعرض
تحركاتهم السلمية نحو الحرية لتهديد متزايد، مما يزيد من تصميمهم.
في فيلمه “راديو كوباني” 2016 يرى ريبر دوسكي أن هيمنة داعش
ليست نهاية حتمية. ففي مدينة كوباني التي دمرها داعش، ينشئ المراسل ديلوفان
كيكو محطة إذاعية ويجري مقابلات مع المتمردين والناجين والمثقفين. وفي حين
يتضمن الفيلم لقطات مروعة لجثث محطمة معلقة في حفارات الطرق، فإن الرسالة
العامة التي تنقلها الكاميرا بنعومة ودفء هي عن الشباب الذين يؤمنون
بالمستقبل.
“راديو
كوباني” نجح في التعبير عن العواقب المتكررة للحرب، بطرق صارمة عاطفياً،
ومشحونة سياسياً، ومتطورة إبداعياً.
وفي فيلم “سوريا الحلوة” للمخرج عمار البيك لعام 2014،
يستخدم الفيلم لقطات تم العثور عليها، بما في ذلك لقطات التقطها جنود الأسد
داخل طائرة هليكوبتر وهم يسقطون القنابل على المدن الواقعة تحتها بمرح.
ويتخلل هذا الفيلم، الذي يحمل قدراً كبيراً من الرمزية، لقطات غير ذات صلة
من سيرك أجنبي، حيث يغضب فريق من الأسود ويهاجمون مدربيهم بينما يصرخ
المتفرجون في رعب. “الأسد” يعني الأسد ــ ولا شك أن أي سوري يشاهد الفيلم
سوف يستوعب الانتقادات الموجهة للنظام.
لم انسى الفيلم القصير الشاعري “بحرنا”
( Mare Nostrum)
لعام 2016 للمخرجين أنس خلف ورنا كزكز، وكلاهما سوريان من دمشق والذى
يُظهِر الفيلم الخالي من الكلمات رجلاً يعيش على شاطئ البحر الأبيض المتوسط
يرمي ابنته الصغيرة مرارًا وتكرارًا في البحر لتعليمها كيفية السباحة
بهدوء. إنها مصدومة ولا تعرف لماذا يفعل ذلك؛ ولكن عندما يفرون من سوريا في
الظلام ويحاولون الهروب عن طريق الماء، تكون هي الناجية الوحيدة.
وهناك فيلم “رغوة” للمخرجة ريم علي عام 2006 ويحكي قصة
بسيطة عن زوجين سوريين يعيشان حياتهما. وسرعان ما يتحول الفيلم إلى صورة
مدمرة لآثار القمع، حيث يتبين أن الزوجين كانا شيوعيين في شبابهما ونجيا من
السجن والتعذيب على يد نظام الأسد الأب.
كان والد المرأة يضرب زوجته، وهذا أصبح رمزاً ثقيلاً
للسادية الدكتاتورية التي لا مفر منها والتي لها عواقب طويلة الأمد. والآن
تتحدث الأسرة بشكل مهووس عن رغبتها في الرحيل، والأجواء القاتلة والضاغطة
التي يخيم عليها هذا الفيلم الذي تم تصويره قبل خمس سنوات من ثورة 2011.
تتطلع إلى المستقبل الذي يتفجر فيه الاستياء والخوف من الأماكن المغلقة. |