إنَّ الحوارَ مع عصام
زكريا أشبهُ
بالولوج إلى مختبرٍ فكريٍّ تتشابك فيه السينما بأسئلتها
الجمالية والفلسفيّة مع تعقيداتِ الوجود الإنسانيّ وينبثقُ من خلاله الفن
كنافذة لرؤية العالم بمعناه الأعمق.
اسمٌ بارزٌ غنيٌّ عن التعريف، ناقدٌ سينمائيٌّ متمرّس،
مؤلفٌ ومثقفٌ نهمٌ للمعرفة، مفكّرٌ يمزج بين الجماليات والرؤى السينمائية
ليَصوغَ من النقد لغةً تستجلي المعنى الخفي للسينما بوصفها انعكاسًا
لصراعات الإنسان مع نفسه ومع العالم من حوله. السينما بالنسبة له أداةٌ
بحثيّة وإبداعيّة تحرّضنا على التفكير، واكتشاف عوالمَ أخرى، تُفصِح عن
العلاقة المعقّدة بين الذات والآخر. رؤيته النقديّة تمزج بين التأمّل
الفلسفي والتحليل الدقيق، يقرأ النصوصَ البصريّة كأعمالٍ تَكْشفُ رؤى
حضاريّة وثقافيّة. زكريا لا يكتفي بتأمّل السرديات، بل يغوص في طبقاتها
العميقة لينسج مقاربة فريدة تجعل من السينما مرآةً
تُفكّكُ تناقضاتِ النّفس البشرية وتُعيدُ قراءةَ التوترات المُضمرة في
العالم من حولنا.
وفي خلفية هذه الرحلة النقدية، يكمنُ شغفه بالشطرنج، تجربة
فكرية أخرى تُعيد تشكيل منظوره للعالم. الشطرنج بالنسبة
له تمرينٌ على التوقّع، استراتيجيّةٌ للتأمل في احتمالاتٍ مُتعددة، وأداةٌ
لقراءة السينما كحركة
تكتيكيّة متشابكة، حيثُ تتداخل الطبقات البصريّة مع السرديات الفكريّة.
ينظرُ زكريا إلى الفيلم كرقعةِ شطرنجٍ مترامية الأبعاد، تتقاطع فيها
الفكرة مع الصورة، والجمال مع العمق، لتخلق رؤية نقدية متفرّدة تستند إلى
التفكير والتحليل بقدر ما تستند إلى البصيرة والإحساس.
وإلى جانب إسهاماته الفكرية، يتجلّى دوره كمُلهم ومعلّم
للأجيال الشّابة ينقل إليهم أصولَ النقد السينمائي بأسلوبٍ يعكسُ عمقَ
رؤيته وصدقَ التزامه بالفن.
وحول رؤيته للمشهد السينمائي والنقديّ العربيّ ودوره في
إدارة مهرجان القاهرة كان لنا معه هذا الحوار:
1-
إنَّ نجاح مهرجان
القاهرة السينمائي هذا
العام وتميّز الأفلام المعروضة فيه يعكسان رؤية استثنائية وإدارة واعية.
كيف ترى انعكاس هذا النجاح على مكانة المهرجان دوليًا، وما هي أبرز الدروس
التي استخلصتها من هذه الدورة لتطوير التجربة في المستقبل؟
يتطلّب النجاح في المهرجان فهمًا دقيقًا لكلّ تفاصيل
التنظيم، والقدرة على استشراف المشكلات وتفاديها قبل وقوعها، حيثُ لا تقتصر
مقوّمات التميّز على جودة الأفلام فقط، بل تشملُ الكفاءةَ اللوجستية وإدارة
التفاصيل بعناية. مِن تنسيق ترتيبات السفر والإقامة، إلى إدارة العروض
ولجان التحكيم والسّجادة الحمراء، كلّ عنصرٍ يتطلّب متابعةً دقيقة لتجنب
أيّ خلل قد يؤثّرُ على صورة المهرجان وسمعته الدوليّة. تميّزت دورةُ هذا
العام بحضورٍ جماهيريٍّ لافت وتغطية إعلامية عربية وأجنبية واسعة مقارنةً
بدورات المهرجان السّابقة، إضافة إلى مشاركات واسعة عريضة من النقاد وصناع السينما العالمية
والعربية، ممّا عزّز مكانةَ المهرجان كمنصّة استثنائية تجمعُ أطيافَ
الصّناعة، وقد تفتح آفاقًا جديدة للإنتاج المشترك. ومع ذلك، يبقى التحدي
الأكبر هو توسيع التغطيّة الإعلاميّة الدولية لتضاهي مهرجانات كبرى مثل كان
وبرلين، ما يتطلب جهدًا مضاعفًا لترسيخِ مكانة المهرجان كحدثٍ عالمي
يستقطبُ مئات الصحفيين والنقاد من مختلف أنحاء العالم. 2- كيف تنظر إلى
تجربتك في إدارة مهرجان
القاهرة السينمائي بوصفها
مواجهة بين رؤية إبداعية تسعى لتجديد المشهد الثقافي وبين التحديات
الهيكلية التي قد تُقيّد عملية اتخاذ القرار وتُعرقل تحقيق الأهداف؟ كيف
استطعت التوفيق بين طموحك الفني والواقع المعقّد الذي يفرض حسابات تتجاوز
الإبداع؟
في ظل المنافسة القويّة مع مهرجانات كبرى تجذبُ الأفلام
المميزة عبر ميزانياتٍ ضخمة، واجهَ مهرجانُ القاهرة تحدياتِ ميزانيته
المحدودة. لذا، كان الحلُّ في التفكير خارج الإطار التقليدي، بالبحث عن
أفلامٍ ذات جودة عالية لكنّها لم تحظَ بالاهتمام الكافي في المهرجانات
الأخرى. هذا النّهجُ تطلّب جهدًا استثنائيًا واختيارًا مدروسًا يتجاوز
المزايدات المالية، مع الحفاظ على المستوى الفني. أمّا على صعيد الضيوف،
فتمَّ التركيز على استقطاب شخصياتٍ تُحفّزها القيمة الثقافية للمشاركة في
نشاطٍ يضيفُ قيمةً حقيقيةً للمهرجان أو جمهوره أكثر من الحوافز المادية.
بهذا التوازن الدقيق بين الطموح الفنّي والقيود المالية، نجح المهرجان في
إبراز هويته الثقافية وتعزيز مكانته الفنية.
3-
في حوار سابق، أشرتَ إلى وجود خلاف مع رئيس المهرجان حسين
فهمي، وهو خلاف أُثيرت حوله تساؤلات عديدة، خاصة مع ملاحظات المشاركين
غيابك اللافت عن مشهدي الافتتاح والختام، رغم بصمتك الواضحة، وحضورك المؤثر
في إدارة كواليس المهرجان. هل يمكن أن تضعنا في عمق هذا الخلاف؟ هل كان
صراعًا جوهريًّا بين رؤى فنيّة متباينة، أم انعكاسًا لحساباتٍ شخصية؟
جوهر خلافي مع حسين
فهمي مرتبطٌ
بنزعة حبّ الظهور والسيطرة التي ظهرت عليه بعد إتمام تحضيرات المهرجان وبدء
تنفيذه. في أجواء العمل المعقدة، تميلُ الشخصيات البارزة أحيانًا للتعامل
مع من هم أقل شأنا منها ـ كما يظنّون ـ لتعزيز هيمنتهم والبقاء في دائرة
الضوء، بينما يصبح التعامل مع أصحاب الرؤى القوية والحضور المؤثّر تحديًّا.
هذه النزعات برزت كعقبة، لكننا تجاوزناها وطوينا الصفحة. الأهم بالنسبة لي
هو التركيز على العمل وتطوير المهرجان بدل الانشغال بتفاصيل تعرقل تقدمه أو
تمسّ جوهره. 4- رغم الاحترام الكبير الذي تحظى به والتقدير الواسع
لإنجازاتك، بالإضافة إلى محبة الكثيرين لك، واجهت انتقاداتٍ من بعض
الأطراف. كيف تقيّم هذه الانتقادات في ضوء التحديات الأعمق التي قد يعكسها
محيط ثقافي معقّد؟ ولماذا اخترت عدم تسليط الضوء على تجربتك في مهرجان
القاهرة بعد انتهائه، إذ لم تكن تفاصيل ما جرى واضحة، بل كانت مجرّد إشارات
وتلميحات وردت عبر منابر أصدقائك وزملائك في المهنة، وليس من خلال سردك
الشخصي؟
أؤمن أنّ العمل الجاد لا يحتاج إلى تسويق الذات، فالإنجازات
الحقيقية تفرضُ نفسَها على الواقع دونَ الحاجة لإيضاحها. في مهرجان القاهرة
95 بالمئة من العمل كان تحت إشرافي وتوجيهي، ما جعل بصمتي واضحة للمتابعين
ولمن عملوا معي عن قرب. أمّا محاولات بعض الأطراف نسب النجاح لأنفسهم، فهي
جزء من طبيعة بشرية مألوفة بالنسبة لي، يميلُ بعضهم إلى القفز بين المصالح
أو المزايدة لتحقيق مكاسب شخصية. خبرتي الطويلة في الصحافة والمهرجانات
جعلتني أدرك أن هذه السلوكيات رغم انتشارها لا تدوم أمام اختبار المواقف
الحقيقية. لذلك، أختار التركيز على العمل بدلاً من الانخراط في صراعات
عبثية، لأنَّ الزمن كفيلٌ بكشف الحقائق وإظهار من يملك القدرة على القيادة
ومن يقتصر دوره على الادعاء.
5-
في ظل المشهد الثقافي المصري الراهن، هل ترى أن هناك محاولة
ممنهجة لإقصاء النقاد المستقلين وإضعاف أصواتهم المؤثرة؟ وكيف انعكس ذلك
على إدارة المهرجانات والفعاليات السينمائية، خاصة فيما يتعلق بإثراء
الرؤية الفنية وتحقيق توازن بين حرية التعبير والضغوط المؤسسية؟
لا أرى الأمر يتخذ شكل إقصاء ممنهج للنقاد المستقلين بقدر
ما يعكس مناخًا ثقافيًا يميل إلى السطحية والبهرجة على حساب الإبداع
والعمق. هذا المناخ، الذي يكرّس تمجيدَ المظاهر وتهميش الفكر، يجعلُ
النقّاد المستقلين هدفًا للتجاهل، هم يمثّلون آخر خطوط الدفاع عن الفن
الأصيل. سواء في كتاباتهم أو أدوارهم الإدارية يواجهون تحدياتٍ من محاولات
إدخال أفلام ضعيفة بدافع المجاملة أو الانشغال بالسجادة الحمراء والظهور
الإعلامي بدلًا من التركيز على الجوهر الفني. بهذا، تصبح مهمة الناقد
صراعًا للحفاظ على القيم الفنية، ومواجهة بيئة تتخلى عن التوازن بين حرية
التعبير واستقلالية الرؤية النقدية 6- مصر، بتاريخها السينمائي الذي يمتد
لأكثر من قرن، تظل رائدة السينما العربية
من حيث الإنتاج والتأثير الثقافي، ويعدّ مهرجان
القاهرة السينمائي الدولي
أحد أبرز أعمدة هذا الإرث. لكن مع ظهور مهرجانات عربية جديدة مدعومة
بتمويلاتٍ ضخمة واهتمام استعراضي، هل يمكن لهذه المهرجانات أن تُعيدَ تشكيل
مفهوم الريادة الثقافية؟ وهل بإمكانها سحب الأضواء من مهرجان القاهرة إذا
ركزت على الجاذبية التجارية بدلًا من الأصالة الفنية؟ في ظلّ هذه التحولات،
كيف يمكن لمهرجان القاهرة الحفاظ على مكانته وريادته؟ هل يكفي تعزيز الهوية
الثقافية والفنية، أم أنَّ هناك ضرورة لإعادة هيكلة آليات العمل لمواكبة
المنافسة العالمية؟
ظهور مهرجانات جديدة في المشهد العربي ليس تهديدًا لأي
مهرجان آخر، بل دعوة للتجديد وللمنافسة الإيجابية. هذه المهرجانات تُعتبَر
فرصة لإثراء الحركة الثقافية وتعزيز التفاعل الإبداعي بين الأطراف
المختلفة. الثقافة لا تُحتكر، بل تزدهر حين تتحرر من قيود التمرّكز
والتفرّد، والمنافسة تساهم في تحفيز الجميع على التطوّر والنمو الفكري
المستمر. الاحتفاظ بموقع الرّيادة دون منافسة يشبه التقدير الذي يحصل عليه
شخص مثقف وحيد في قرية صغيرة، يحظى بالتصفيق دونَ أن يساءلَ أو يجابَه، هذا
النوع من الرّكود الفكري يؤدي إلى الجمود وربّما التراجع.
في المقابل وجود حركة ثقافية نابضة وتبادل مستمر للأفكار
بين المهرجانات يجعل الجميع في حالة تطوّر دائم. الميزانيات الضخمة، رغم
دورها كمساعد، لا تصنع مهرجانًا ناجحًا أو فيلمًا جيدًا. يمكن تعويض نقص
التمويل من خلال اختيارات فنية واعية ورؤية ثقافية عميقة تضيف هوية مميزة
للمهرجان. كما أنَّ الجمهورَ الشغوف بثقافة سينمائية رفيعة هو أساس نجاح
أيّ فعالية. بعض الفنانين يشترطون المال لحضور المهرجانات، لأنَّهم يُدركون
أنّ بعض المهرجانات تعتمد على المال كعامل جذب. المفارقة تكمن في أن هؤلاء
الفنانين لا يطلبون المال في المهرجانات الدولية الكبرى التي تتميز بثقلها
الثقافي والحضاري. هذا يكشف الفجوة بين المهرجانات التي تعتمد على البريق
المالي فقط، وتلك التي تبني حضورها على أسسٍ ثقافيّة وفنية قوية. لذا، يمكن
للمهرجانات التحرر من قيود الأسماء المرتبطة بالمطالب المادية عبر التركيز
على محتوى فنّي مميز وجمهور واعٍ. الأملُ أن يكونَ لكلّ بلدٍ عربيّ مهرجانه
الكبير، وسينماه المزدهر، وجمهوره الشّغوف، لتتحولَ المنطقة إلى مشهدٍ
سينمائيّ نابض ومتكامل.
7-
من خلال تفكيك الصورة السّينمائية واستنطاق طبقاتها
الجمالية والرمزية لتجاوز الظاهر نحو أبعاد أعمق من التأويل والمعنى. كيف
ساهم النقد السينمائي في إعادة تشكيل رؤيتك للعالم وكيف يمكن للناقد
السينمائي أن يمزجَ بين حساسيّته الإبداعيّة ومهاراته الإدارية لإعادة
صياغة المشهد الثقافي، وتحويل أفكاره النقدية إلى مشاريع مؤثرة تُحدث أثرًا
دائمًا؟
النقد السينمائي بالنسبة لي هو بوابة لفهم أعمق للفن
ولتعزيز متعة التفاعل معه. العملية الفنية بطبيعتها معقدة ومركبة، فهي أشبه
بلغز متشابك في الاستقبال والتلقي والتفسير، ما يجعل الناقد مشغولًا دومًا
بالسعي وراء المعرفة واكتشاف جوهر السينما والفن.
المحرّك الأساسي للناقد يجب أن يكون رغبة صادقة في الفهم.
في البداية، ينصبّ تركيز الناقد على تطوير ذاته وتثقيفها،
على أن تأتي المرحلة التالية، وهي نقل هذه الخبرة للآخرين، بمثابة مشاركة
جماعية تتيح لهم الاستمتاع بفهمٍ أعمق للأفلام وقراءتها على نحو أفضل.
الأمر يشبه تعلّم لغة جديدة ثم السّعي لإتقانها ومشاركتها مع الآخرين
ليُعبّروا بها عن أنفسهم.
الأحكام النقدية ليست الهدف الأساسي، بل هي نتيجة طبيعية
للبحث والتأمّل. عندما يقول الناقد إن فيلمًا ما جيد، فهو يعبّر عن
استمتاعه بجمالياته الظاهرة والخفية، وعن القيمة التي تجعله يستحق التقدير
وإعادة المشاهدة. أمّا في مواجهة الأعمال الضعيفة أو التجارية المبتذلة،
فإنّ خيبة الأمل تنبع من توقعات كانت تأمل في فن أعمق. ومع ذلك، فإن موقف
الناقد من هذه الأعمال ليس إدانة بقدر ما هو تعبير عن رؤيته الشخصية لما
يشكّل الفن الجيد، وسعيه لتعزيز معايير الجمال والمعنى في السينما.
8-
في ظل مقارنة غير متكافئة مع سينما عالمية تمتلكُ مدارسَ واضحة، وحرّية
إبداعية، وتمويلًا ضخمًا، تبدو السينما العربية
كأنّها عالقة بين محاولات فردية مشرقة وإطار إنتاجي هش. هل يمكن اعتبار السينما العربية
إرثًا حقيقيًا إذا كانت معظم إنتاجاتها تعكس ظروفًا آنية أكثر من كونها
تعبُرُ الزمنَ وتؤسّس لهويّة فنيّة مستدامة؟
السينما العربية تواجه سقفًا غير قادرة على تجاوزه رغم وجود
أفلام جيدة واكتشاف مواهب متميّزة كلّ عام. هذا الحاجز يمنعها من التطوّر
مقارنة بسينمات مثل الإيرانية، حيث توجد قيود ورقابة أشد، ومع ذلك تحقق هذه
السينمات تقدمًا في ظلّ تلك القيود. السبب في ذلك، من وجهة نظري، لا يتعلق
بالرّقابة فقط، بل بحرّية الخيال نفسها؛ حيثُ يعاني المبدعون العرب من قيدٍ
داخلي يحدُّ من قدرتهم على التحرّر الإبداعيّ. كما أنّ السينما العربية
غير قادرة على امتلاك لغةٍ سينمائيّة عالميّة؛ فالقصص قد تكون متشابهة،
لكنّ المعالجات الإنسانية والنفسية والاجتماعية تبقى محكومة برؤية محلية
ضيقة. إضافة إلى ذلك، هناك قصور في القدرة على استخدام اللغة السينمائية
العالمية في التمثيل والتصوير والإخراج، ما يجعلُ الأفلام العربية بعيدة عن
الفهم العالمي. كما أن هناك انحيازات شوفينية وعنصريّة تؤثر في رسم
الشخصيات وتقديم القصص، مما يعمّقُ الفجوةَ بين السينما العربية
والعالمية. لا يمكن إنكار وجود أفلامٍ عظيمة، لكنَّها تصل إلى سقف معين لا
تستطيع تجاوزه. علاوة على ذلك، يعاني العالم العربي من ضعف في الثقافة
العامة والفنية، خاصة في مجالات الأدب والفلسفة والفنون التشكيلية، وهذا
يؤثر على السينما بشكل
كبير. التعليم والتثقيف الفني في العالم العربي مسؤولان إلى حد بعيد عن هذا
الوضع، ممّا يعيق قدرة السينما العربية
على النمو والتطور. 9- كيف تنظرُ إلى مستقبل المهرجانات السينمائية
العربيّة في ظلّ هيمنة الحسابات السياسية وغياب الدعم الثقافي المستقل، وما
مدى تأثير هذه العوامل على قدرتها على أن تكون منصات حقيقية للإبداع
والتجديد، بعيدًا عن التوجيهات الموجهة والرؤى المقولبة؟
إنَّ استمرارية أيّ مهرجان سينمائي تتجلّى في تأثيره
الثقافي والاجتماعي، إلى جانب دعمه الجماهيري والثقافي المستدام. العديد من
المهرجانات تُقام لأهداف سياحية أو دعائية أو سياسية، وحين تنتفي هذه
الأهداف، تتوقف بسبب غياب رؤية ثقافية طويلة الأمد. ورغم أهمية التمويل
الكبير في الانطلاقة، لا بدّ للمهرجان من تحقيق تمويل ذاتي يُغطي تكاليفه
دون الاعتماد على مصادر قصيرة الأجل. فالمهرجانات التي تنجح في جذب الجمهور
المحلي وتقديم قيمة ثقافية حقيقية هي وحدها القادرة على البقاء. أمّا تلك
التي تفتقر لهذه المقومات، فإنها تتحول إلى أحداث عابرة تُروّج لأهداف
محدودة، ما يؤدي إلى اندثارها مع الزمن. بناءً على ذلك، يظل مستقبل
المهرجانات السينمائية العربية رهينًا باستقلاليتها المالية وقدرتها على
الحفاظ على جوهرها الثقافي والإبداعي بعيدًا عن التأثيرات السياسية والرؤى
المقولبة. 11- هل يمتلك النقاد العرب الأدوات المعرفية والمنهجية الكافية
لتوسيع نطاق تأثيرهم والوصول إلى جمهور عالمي، أم أنّ هناك خللاً في
الإمكانيات الفكريّة أو التِقْنية التي تحول دون تحقيق هذا الهدف؟ ما هي
العوائق التي تحول دون تمكينهم من التأثير على المشهد السينمائي الدولي، هل
تكمن المشكلة في نقص الرؤية النقدية المتجددة أم في غياب الفضاءات المناسبة
للتعبير عن هذا الصوت النقدي؟
لا يمكن التعميم، فالنّقاد العرب ليسوا كتلةً واحدة؛ هناك
تفاوت بين متمكنين ومتوسطين وضعفاء، الأزمات التي يواجهها النقد السينمائي
تتجاوز مستوى الأفراد لتشملَ بنيةَ النّقد نفسه إذ أنَّ المشهد النقدي
العربي عمومًا يعاني هشاشةً مشابهة لأزمات السينما العربية.
خاصة أنّ النّقد مُرتبطٌ بالصّحافة الفنيّة التي تفتقرُ إلى منابر جادة
ومستدامة، وتفتقر لدعم مادي يحفّز النّقاد.
التحدي الأكبر يتمثل في افتقار العديد من النقاد إلى
الأدوات المعرفية والمنهجية، أصبح من السهل لأيّ شخص يمتلك حضورًا مقبولًا
أو اطلاعًا محدودًا أن يطرح نفسَه كناقد، مستغلاً قبول الجمهور لسطحية
الطرح، ما يعزز ظاهرة الاستسهال، خصوصًا مع هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي،
حيث بات الهزل والتهريج يتصدران المشهد النقدي. ما أدّى لظهور ناقدين دونَ
أساسٍ معرفيّ عميق، رغم ذلك، يبقى الأمل معقودًا على عملية فرز طبيعية
تُميز الجاد من السطحي، متفائل بأنَّ السنوات القادمة قد تحمل تغييرات
وتحولات إيجابية لتطوير المشهد الثقافي والنقدي، وقد تُمكّن النقد العربي
من استعادة مكانته والمساهمة في تحسين مستوى الإنتاج السينمائي والتواصل مع
المشهد الثقافي العالمي.
12-
أنت ناقدٌ سينمائيٌّ متميّز ولاعب شطرنج محترف، كيف ترى العلاقة بين
التفكير النقدي الذي يتطلبه تحليل الأفلام والتفكير الاستراتيجي الذي
يتطلبه الشطرنج؟ وهل كان لشغفك بالشطرنج دور في تعزيز رؤيتك النقدية أو
العكس؟ وما الذي دفعك للترشح لرئاسة اتحاد الشطرنج في
مصر؟
لاعب الشطرنج يمتلك
مهارة فريدة في تبني منظور مزدوج، فيرى اللوحة ليس فقط من زاويته الخاصة،
بل من زاوية الخصم أيضًا. هذا النمط من التفكير يتيح للاعب استباق تحركات
الخصم وتحليلها بعناية، ما يعزز ما يُعرف بـ «التفكير متعدد الطبقات". هذه
المَلَكة ذات صلة وثيقة بالتحليل النقدي للأفلام، إذ إنَّ الناقد السينمائي
مطالبٌ بالنظر إلى العمل الفنيّ من زوايا متعددة واستيعاب الفكرة ونقيضها،
وهو ما يجعل من الشطرنج تجربة
ذهنية أثرت بشكل عميق في رؤيتي النقدية وساهمت في تشكيل طريقة تفكيري. إن
شغفي بالشطرنج والأفلام ينبع من تقديري للهوايات الفكرية التي تتطلب
التركيز والتأمل، وهو ما جعلني أندمج في كليهما منذ الصغر. هذا المزج بين
النقد السينمائي و"الاستراتيجية الشطرنجية " أتاح لي رؤية أكثر عمقًا ودقّة
في تقييم وتحليل الأعمال الفنية.أمَّا عن ترشّحي لرئاسة اتحاد الشطرنج في
مصر، جاء القرار استجابة لضغوط من الأصدقاء واللاعبين الذين رأوا أنّني
قادرٌ على النهوض باللعبة في ظل ما مرت به من تحديات في الآونة الأخيرة.
أتمنى أن تُسهمَ جهودي بالتعاون مع مجتمع الشطرنج، في تحسين أوضاع اللعبة
وتلبية احتياجات اللاعبين، وتحقيق واقع أفضل للشطرنج في مصر.
13-
هل سبق وأن واجهتَ في مسيرتك النقدية لحظةً تداخل فيها
الإبداع السينمائي مع مفاهيمك الشخصية عن الحياة والوجود بشكلٍ يفرضُ عليك
إعادة تقييم أفكارك حول الفن والواقع؟ وكيف أثَّرت تلك اللحظة على تطوّر
رؤيتك النقدية؟
السؤال مركب، لأنَّ السينما، كفن، لا تقتصر على تقديم
المتعة البصرية فحسب، بل تصبح مع الوقت جزءًا من معرفتنا بالحياة وتصوراتنا
عن العالم. أنا أعملُ حاليًا على كتاب يتناول كيف أعادت بعض الأفلام صياغة
مفاهيمنا حول موضوعات جوهريّة كالعدالة، والحب، والعائلة، وصورة الذات،
والآخر.
الأفلام تسهم في تشكيل ثقافتنا ورؤيتنا للعالم، حتى لمن لم
يغادر وطنه يومًا، إذ تقدم له نافذة على ثقافات وعوالم مختلفة. لكن هذا
الانكشاف يظل نسبيًا، فالأفلام لا تعكس الواقع بحد ذاته، بل تصور الواقع
كما يراه مبدعوها. هذه الرؤى السينمائية، رغم اختلافها، تكمل بعضها بعضا مع
تكرار المشاهدة والانفتاح على مصادر معرفية أخرى، كالأفلام الوثائقية
والكتب، مما يخلق صورة أكثر شمولًا للعالم.
كلما تزودنا بالثقافة والمعرفة واكتسبنا خبرات أعمق في
الحياة، أصبحنا أكثر قدرة على فهم السينما وتحليلها
بوعي أكبر. الأفلام التي قد تبدو لنا معقدة أو سابقة لتجاربنا الشخصية عند
مشاهدتها لأوّل مرّة في مراحل مبكرة من العمر، تكشف عن أبعاد جديدة ومعانٍ
أعمق كلما نضجنا. فالتجربة الحياتية تُزيد من فهمنا، إذ تجعلُنا أكثر
اتصالًا بمواضيع الأفلام، وأكثر قدرة على إدراك خلفياتها ودلالاتها. هذه
العلاقة الجدلية بين الفن والواقع هي ما يجعل النقد السينمائي رحلة مستمرة
لإعادة تقييم مفاهيمنا ومعارفنا.
14-
بعد سنوات من العطاء في مجال النقد السينمائي وإدارة
المهرجانات، ما هي المشاريع المستقبلية التي تأمل في تحقيقها لتطوير المشهد
السينمائي العربي؟ ما الذي تحضّر له في مجال التأليف لتطوير هذا الحقل
وتعميق تأثيره محليًا وعالميًا؟
أنا مشغول حاليًا في الكتابة السينمائية، وقد أنجزت مؤخرا
كتابا بعنوان (عُدّة الناقد) الذي حاولت من خلاله أن أضع خلاصة تجربتي في
الثقافة السينمائية والنقد السينمائي. هناك أيضًا العديد من المشاريع التي
أعمل عليها حول أفلام معينة أو اتجاهات سينمائيّة بعينها. بالإضافة إلى
ذلك، أجهز لعدة مشاريع كتب أخرى ستخرج للنور قريبا، إلى جانب الورشات
التدريبية التي أحاول من خلالها توجيه وتدريب الشباب المهتمين بالنقد
السينمائي، كما أواصل بانتظام كتابة المقالات النقدية لبعض المطبوعات.
15-
ما النصيحة التي تقدمها للنقاد الشباب الذين يسعون إلى
الجمع بين قوة التحليل النقدي وفن الإدارة الثقافية لتحويل رؤاهم إلى
مبادرات ثقافية مُلهِمة تدفع الإبداع إلى مسارات جديدة؟
أقول للشباب: النقد رحلة معرفية مستمرة تقوم على المشاهدة
الواعية، القراءة العميقة، والكتابة التي تخضع لمراجعة دائمة. جوهر النقد
يكمنُ في الشّك؛ فالنّقد عملية جدلية دائمة، لا تعرف الركون إلى الأحكام
المطلقة أو التصوّرات النهائية. على النّاقد أن يحتفظَ بذهنٍ منفتح، يُدرك
فيه أنّ لكلّ رأي نقيضه، ولكلّ مدرسة فنية أو رؤية سينمائية وجهة نظر جديرة
بالاعتبار. كلّ فيلم يشاهده النَّاقد يمثّلُ فرصة لإعادة تشكيل وعيه
النقدي، وإضافة أبعاد جديدة إلى فهمه للسياق الفني والثقافي. في هذا
الإطار، يجب أن يبقى الناقد في حالة استكشاف دائم، لا يتصور أنه بلغ الحكمة
أو امتلك القدرة المطلقة على التقييم. النقد، كالفنِّ نفسه، مساحة غير
مكتملة، تتطلب من الناقد استعدادًا مستمرًا للنقاش، قبولًا للاختلاف،
وشغفًا متجددًا لاكتشاف الجمال والمعنى في كلّ عملٍ سينمائيّ. |