الفيلم الروسي
Philately..
رسائل الحلم والوحشة والانتظار
القاهرة
-نور
هشام السيف
هناك أفلاماً تأخذنا بعيداً عن واقعنا، لا لتسرد لنا قصصاً
فحسب، بل لتغزل أمام أعيننا عوالم شديدة الرهافة، مليئة بالحب، الوحدة،
والأحلام.
الفيلم الروسي
Philately،
للمخرجة نتاليا نازاروفا، والحائز على جائزة الهرم الفضي في مهرجان
القاهرة السينمائي الدولي في
دورته الـ45، ينتمي إلى تلك الفئة النادرة التي تشبه الطوابع ذاتها: صغيرة،
لكنها تحمل أوزاناً من الحكايات والمسافات.
حياة على هامش البريد
"يانا"
بطلة الحكاية، والتي تقوم بالدور الممثلة الشابة ألينا خوجيفانوفا، تعيش في
مدينة شمالية باردة، اعتاد والدها على جمع الطوابع، وواصلت هي المسيرة،
تنتظر "يانا" أباها المفقود، لكنها لا تأمل العودة، تعمل في مكتب بريد،
لكنها ليست مجرد موظفة في المكتب، بل أشبه برسالة لم تُفتح بعد، شخصية
مليئة بالأسرار والألوان.
تعاني "يانا" من آثار شلل دماغي، سببت لها إعاقة بسيطة في
طريقة النطق والسير، لكنها تحمل في داخلها عالماً مليئاً بالنقاء والبراءة،
تبدو غريبة عن الآخرين، مثل طابع من دولة مجهولة في مكتب البريد، حيث تصطف
الرسائل كأحلام مؤجلة، وجدت "يانا" عالمها.
الطوابع ليست مجرد صور صغيرة بالنسبة لها، إنها نوافذ تطل
على أراضٍ بعيدة، على غابات ومحيطات، على حياة لم تعشها لكنها حلمت بها
دائماً.
تمكنت ألينا من تقديم أداء مُتقن لشخصية معقدة تعاني من
إعاقة جسدية وضعف في القلب، رغم أنها في الواقع ليست معاقة، هذا الانصهار
الشديد في تقمص الدور، جعل الكثير من المتلقين يتجادلون حول حقيقة الممثلة.
في مشهد المقابلة التلفزيونية، وهو أحد أكثر اللحظات حساسية
وعاطفية في الفيلم، حيث تُسأل "يانا" عن هوسها بجمع الطوابع، فتجهش بالبكاء
بشكل مفاجئ قائلة: "هواية خالصة وممتعة ولا تلحق أي ضرر، بل تجلب السعادة
التي نفتقدها في الحياة في عالم صغير من الطائرات، المناطيد، الجغرافيا،
سلسلة علماء، إنه عالم مثالي وجميل، يتناقض تماماً مع قسوة العالم الخارجي.
الطوابع تحمل صوراً لأماكن لم نزرها قط، ونباتات وحشرات و مدن، وكأنها
استثمار في أحلام بعيدة المدى نعوضها عن الواقع".
لم يكن الحديث هنا مجرد وصف لهواية، بل كان كشفاً عن مدى
عمق الوحدة والضعف الذي تعيشه، البكاء جاء كرد فعل لا إرادي على حقيقة
مؤلمة، وهي أن هذا العالم الذي تراه من خلال الطوابع، جعلها تدرك في منتصف
اللقاء انه لا يمكنها الوصول إليه.
من جانب آخر، كشف انهمار دموعها انكساراً مؤقتاً لحاجز
القوة التي تحاول إظهارها، و عن صراعها الدائم بين الرغبة في الهروب من
نظرات الشفقة، وبين حاجتها العميقة للتواصل والقبول.
الطوابع و تفاصيلها هو مفتاح الحديث الأسهل و الأكثر إثارة
حديث يتدفق كشلال من المعلومات والحكايات والأسرار، لا تجد "يانا" ضيراً أن
تكون عضوة مع مجموعة أعضاء كبار في السن ينتمون إلى جمعية لمحبي الطوابع،
وهم بالمناسبة أعضاء حقيقيون من نادي هواة جمع الطوابع المحلي في مدينة
مورمانساك بشمال غرب روسيا، إلا أنهم وعلى الرغم من عدم احترافهم التمثيل،
قدموا أداءً تلقائياً ومميزاً، في مشاهد الجمعية، حيث تعاني "يانا" الرهاب
الاجتماعي، وتخجل من اعتلاء المنصة، بنظراتها القلقة التي تحمل الكثير من
التساؤلات والهلع، لكن سرعان ما أدركت أن وجودها هنا يرسم لها بطولة مؤقتة
لشخصية تعيش على هامش الحياة.
برعت الممثلة ألينا في المزج بين ردود فعل طفولية مفعمة
بالبراءة، وسلوكيات دفاعية عدائية تكشف خوفها من الشفقة أو السخرية، أضفت
أبعاداً فكاهية للشخصية جعلتها أكثر إنسانية وقرباً من الواقع.
"بيتر"..
البحر الذي عانق اليابسة
وسط هذا العالم الصغير، يظهر "بيتر"، البحّار الوسيم (يقوم
بالدور الممثل ماكسيم ستويانوف) الفائز بجائزة أحسن ممثل في المهرجان،
"بيتر" الشخصية التي تضفي الحيوية على حياة "يانا" المليئة بالعزلة، بدا
وكأنه رياح عاصفة تسللت إلى مكتب البريد، لكن على الرغم من جاذبيته
الواضحة، وعن كونه مختلفاً عن الزبائن العابرين بخفة ظله و ذكاء ردوده، إلا
أنه يظهر كائن غامض، يعيش في توازن دقيق بين الفضول والرغبة في العناية
بشخص آخر، شخصيته لا تتسم بالكمال، لكنه من خلال تفاعلاته مع "يانا"، يبحث
"بيتر" عن شيء غير محدد، شيئاً يشبه العزاء أو النقاء.
لم يرَ في "يانا "تلك الغريبة، بل رأى عمقها، أعجب بنقائها،
بحديثها الطويل عن الطوابع، بطفولتها التي كانت أشبه بملاذ من عالم بارد،
يسألها بعد أن دفعه فضوله الشديد: لماذا أنت هكذا مختلفة؟.
لم يكن "بيتر" مجرد معجب، أو صياد يستدرج فريسته، كان يحمل
قصةً دفينة: ابنته التي فقدها، والتي كانت تشبه "يانا" في حالتها المرضية،
في هشاشتها وبراءتها، ومع ذلك تبقى علاقنه مع "يانا" في حدود منطقة غير
محددة بين رغبة محتملة في الحب، وبين مسافة تتسع مع مرور الوقت.
الوجه الشرس للجمال
"فيرا"
زميلة "يانا" في مكتب العمل (تقوم بالدور الممثلة إيرينا نوسوفا) تتباهى
بجمالها الجذاب، دقيقة الملامح، دقيقة الأصابع، دقيقة الكلمات، نحيلة،
مسننة الوجه، ممشوقة القوام، شعرت "فيرا"بالغيرة، كيف يمكن لفتاة ذات شكل
متواضع، عرجاء وتعاني من قصور في القلب، أن تأسر اهتمام رجل مثل "بيتر"؟،
نرى لاحقاً كيف تحولت الغيرة في السرد الدرامي إلى مكائد.
على الرغم من قسوة أفعال الزميلة، كانت هذه الشخصية جزءاً
من رحلة "يانا" نحو فهم ذاتها وتحقيق استقلالها العاطفي، الشر الذي مارسته
لم ينجح في كسر البطلة، بل ساعدها بشكل غير مباشر على مواجهة نقاط ضعفها
واكتشاف قوتها الداخلية.
لغة الصوت والصورة
لا تستعرض المخرجة "نتاليا" عضلاتها الإخراجية حول مفهوم
العزلة، بل استثمرت كل جهدها في لغة جسد الممثلين وانعكاس دواخلهم، دون
استجداء مبتذل للعاطفة، ودون ترك السرد لمشاهد صامتة، كون المدينة ساكنة،
الشخصيات محدودة، وسقف أحلامها أيضاً.
اعتمدت "نتاليا" بشكلٍ كبير على الضوء الطبيعي الذي يضفي
شعوراً بالكآبة والبرودة في المشاهد الخارجية، تبدو السماء شاحبة، غارقة في
أضواء رمادية باهتة حتى في أثناء ساعات النهار، تعكس الغربة العنيفة التي
تشعر بها البطلة وسط زحام زبائن المكتب.
على النقيض، نرى دفئاً حميماً في الإضاءة داخل غرفتها
المنزلية، حيث تبدو المشاهد محاطة بألوان صفراء خافتة، بينما تهتم بشاي
الكركرديه، وتردد دائماً أنه غني بالبوتاسيوم، هذا الدفء البصري تكتمل
حميميته مع العالم الصغير المتمثل بألبوم الطوابع، لكنها أيضاً تُبرز ملء
الفراغ الموحش، حيث يصبح ألبوم الطوابع هو بديل لألبوم العائلة، وبديل
السفر، وبديل للشريك الحبيب، ألبوم الطوابع هو وسادتها الوثيرة، فراشها
وملاذها الآمن.
وعندما تدخل شخصية "بيتر" إلى حياتها، تبدأ الإضاءة بالتغير
تدريجياً، يظهر بيتر عادةً في مشاهد يغمرها غروب الشمس المنكسر أو الإضاءة
الخلفية الناعمة، كما تبرز مشاهد البحر والسماء الليلية، كملاذ خيالي في
حياة فتاة صدرت صورتها العدائية للآخرين وللجنس الخشن تحديداً، لكنها تلين
تدريجياَ مع بيتر، وهنا تسود الإضاءة الزرقاء الناعمة التي تعكس الأمل
والسكينة.
وعلى عكس السائد في الموسيقى التصويرية التي تعمل كنبض
داخلي للشخصيات، خاصة لشخصية مثل "يانا"، حيث تعبر عن مشاعر لا تُقال
بالكلمات، إلا أن الموسيقى في بعض المشاهد الخارجية رافقتها كلمات شعرية
خالصة العذوبة، ونقلت بسحرها الخاص الانفعالات الجمالية للحن والإيقاع،
أغنية قصيرة، تذهب وتجئ في مشاهد متقطعة، ترهف الأذن إلى نغمات ملائكية،
وتولد شعور تناوب المتعة والمعاناة، السعادة والتعاسة، هذه المقطوعة
الجمالية ختمت الفيلم بأن جعلت المشاهد يشارك معها الحب بكل الألم، ويشارك
الألم بكل حب.
البريد الذي لم يصل
فيلم
Philately
هو تفاصيل صغيرة تُخفي خلفها حيوات كاملة، بين الطوابع التي تحمل صوراً
لعوالم بعيدة، والبحر الذي يمتد بلا نهاية، و مكتب البريد الجاف حيث تتكدس
الأظرف والصناديق.
كل لحظة في الفيلم، من ابتسامة خجولة إلى دمعة على الشاطئ،
تشبه رسالة وُضعت في مغلف ولم تُرسل. كما لو أننا تلقينا رسالة مكتوبة بلغة
لا نفهمها، لكنها تترك فينا أثراً لا يُمحى. الفيلم أيضاً يذكّرنا أن
الحياة ليست في الرسائل التي نرسلها، بل في تلك التي ننتظرها دون أن تصل.
وتبقى حكاية "يانا" الفتاة التي تخشى الحياة، لكنها تحلم بها بصمت. |