مهرجان القاهرة السينمائي.. دورة مثقلة
بأفلام الوجع الفلسطيني
إسلام السيد
تزامنت النسخة الماضية من مهرجان القاهرة السينمائي مع ذكرى
السابع من أكتوبر، وقد قررت وزارة الثقافة المصرية تأجيل المهرجان، تضامنا
مع فلسطين.
افتُتح المهرجان يوم 13 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري بفيلم
“أحلام عابرة” (Passing
Dreams)
للمخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي. وتحضر السينما الفلسطينية في النسخة الـ45
من المهرجان بكثافة.
كما أُطلق برنامج أفلام قصيرة بعنوان “أضواء على السينما
الفلسطينية”، ومجموعة من الأفلام القصيرة جدا بعنوان “من المسافة صفر”،
أطلقها رشيد مشهراوي، وقد صورت في قطاع غزة خلال الحرب، وتعكس الواقع
الفلسطيني وألوان الحياة القاسية تحت الحرب، كما عُرضت عدة وثائقيات
فلسطينية طويلة ضمن برنامج “آفاق السينما العربية”.
تعكس البرامج السينمائية الفلسطينية في مهرجان القاهرة
اهتماما برصد الشأن الفلسطيني حاليا، فهناك آلية من الانتقاء تحاول تقديم
تغطية متعددة على مستوى النوع السينمائي، وطبيعة الأفلام وأمكنتها، وتفاصيل
تصويرها زمنيا، والرؤية المقدمة في الأفلام، سواء من داخل فلسطين أو من
الخارج.
لذلك فقد حضرت فلسطين مركزا لنسخة المهرجان، لا مجرد نشاط
جانبي على هامشه.
“الإجازات
في فلسطين”.. نظرة توثيقية من الخارج والداخل
جاءت فكرة فيلم “عطلات في فلسطين”
(Holidays in Palestine)
للمخرج الفرنسي “مكسيم ليندون”، بعد أن قابل لاجئا فلسطينيا في فرنسا يدعى
شادي، خلال إحدى التظاهرات المناصرة لفلسطين.
عرف “مكسيم” حكاية شادي، ورحلة هجرته البحرية إلى أوروبا،
والعقبات التي واجهته في سبيل الجنسية الأوروبية، لكن الأهم لدى مخرج
الفيلم هو نية شادي العودة إلى بلدته بالداخل الفلسطيني، وهذا ما ارتكز
عليه الفيلم.
انتقل “مكسيم” مع شادي، وصوّر عودته تصويرا مباشرا وحيويا.
وقد خلقت العدسة تباينات طازجة بين نصفي شادي؛ الفلسطيني المحبط من تفكك
وطنه وانغماس بلدته بين المستوطنات، والفرنسي الذي لا يجد طعما للحرية إلا
بعيدا عن فلسطين، حيث يكون مواطنا بدرجة “لاجئ”، أي درجة إنسانية أقل لدى
المجتمع الأوروبي.
أسئلة المواطنة والهوية الأجنبية.. عالم الفلسطيني الآخر
يعيدنا فيلم “عطلات في فلسطين” إلى نوع مختلف وجانبي من
الوجود الفلسطيني، معني بمن أتيح لهم الخروج، ويضع أسئلة محورية بين الوجود
في الداخل والخارج.
تنثر هذه الحيثيات أسئلة حول المواطنة، والعلاقة المركزية
مع الأرض، والجانب القيمي الذي تكتسبه العوائل الفلسطينية، حين تصبح ذات
هوية أجنبية.
وفي حديثه بعد عرض الفيلم، قال “مكسيم ليندون” إنه صوّر
فيلمه من دون أي دعم، وقبل توليف مادته المصورة ترجمها لفهم الحيثيات
الداخلية لحياة شادي وعائلته.
ولذلك يأتي الفيلم مفعما بالفهم والقرب من عالم الشخصيات
المحلية، ولا يقوم على رؤية تراتبية تحاول تأطير الفلسطيني؛ إما في معاناة
الحرب، أو في خلق تعريفات تابعة تنطلق أولا من وجود الاحتلال.
حوارات العائلة.. شذرات تعكس واقع الاحتلال المتأزم
منذ بدايته وتتبعه لمجيء شادي واستقبال أهل البلد له، يتبين
أن المادة الوثائقية في الفيلم كثيفة، لا تعتمد على سرد تقليدي مباشر،
يستدعي كثيرا من الثرثرة أمام الكاميرا، لخلق تعريفات وانطباعات عن العالم
الفلسطيني داخليا، بقدر ما تحاول أن تترك هذا الواقع المأزوم يعبر عن نفسه.
يجعلنا ذلك نرى جانبا شديد الأهمية من طريقة العيش، فيخلق
ارتجال الحوارات بين عائلة شادي قيمة جمالية في الفيلم، نرى بها الفلسطيني
في يوم هادئ، بعيدا عن ثنائية ضحية الحرب أو المجرم فيها.
ومن جهة أخرى، وفي ظل حوارات حميمية وعائلية، يحضر الجانب
السياسي ووجه الاحتلال في مركزه بوصفه ضرورة، فحينما يتحدث شادي عن رحلة
دخوله فلسطين، يذكر تعقيدات الأوراق. وحين يحدثه أحد أفراد عائلته حديثا
عشوائيا، يذكر له أن الاحتلال منعهما من بناء دور جديد للبيت.
فتحت غطاء من الصعوبة، وتعبيرات بسيطة مقتبسة من حياة يومية
معاشة، وفي ظل استقبال دائم لتعطيل ما هو بسيط وأوّلي في الحياة، يحاول
الفيلم التركيز على سياق العائلة الداخلي، فيعكس خصوصية العلاقة بين شادي
وأهله، وما يمثل لهم من قيمة مجتمعية، بعد أن استطاع الخروج من المكان
المحجوب.
شادي آتٍ من مناخ حار، وقد عرف جيدا قيمة العيش الآمن، لذلك
يرى تمثيلات الاحتلال ذات تأثير أكثر إزعاجا، فيدرك قطع المستوطنات للترابط
الجغرافي بين البلدات، ناهيك عن شبكات الطرق التي تجعل الفلسطيني معزولا عن
محيطه، فيجد في كل عبور نقطة تفتيش، وذلك هاجس دائم للحجب والتعطيل.
وقد كان شادي انغمس قبل خروجه من فلسطين في العمل السياسي،
وكذلك أخوه الذي اعتقل مدة، وحين خرج لم يقبل –أو ربما لم يستطع- أن يخرج
من فلسطين.
يقدم الفيلم في أحد مشاهده الأخيرة حوارا بين الأخوين، يقوم
على المكاشفة والمواجهة بين نموذج من قرر البقاء ومن اختار العيش في
الخارج، فيهاجم الأخ الأصغر أخاه الذي سافر، فقد ترك كل شيء واختار وسيلة
آمنة وناعمة من المقاومة، لكن شادي يتمسك بأنه فعل ما في يده.
وحين تعود الكاميرا إلى بيت شادي في فرنسا، يتبين لماذا آثر
الاستقرار في فرنسا، إذ يقول “لم أذق طعم الحرية إلا حين خرجت من بلدي،
وهذا شيء لن يفهمه أخي”.
“غزة
التي تطل على البحر”.. كفاح من أجل الحياة
من الداخل الفلسطيني، ننتقل إلى قطاع غزة في وقت الإبادة
الجماعية، فنرى فيلم “غزة التي تطل على البحر” (Gazan
Tales)
للفلسطيني محمود نبيل، ويتناول 4 حكايات على هامش القطاع، تُعرض في توازٍ
لا يحدد مكان كل حكاية.
وكأنها إشارة مباشرة إلى أن المكان الغزي موحّد، فمثلما
يلاحقه هاجس القصف والموت، فإن في قلب هامشه هاجسا آخر للحياة والعمل على
تمريرها.
تشترك النماذج الأربعة في الارتكاز على فكرة أن الفلسطيني
له حق الاشتباك مع صعوبات الحياة، وأن يكون لديه على الأقل حق في هذه
النوعية من المعاناة التي يمكن إمرارها، أو تدبير الظروف للتعامل معها،
بدلا من ديمومة الاشتباك مع صعوبات الموت.
تعكس الشاشة أملا ما في أن تنتهي هذه الحرب، مع أن ذلك
الأمل حبيس لكنه مستحق، فالشخصيات على اختلاف حكاياتها لها قدرة على العيش،
ويليق بها أن تمر بالصعوبات الآدمية البسيطة، كما يليق بها أن تتجاوزها
بهدوء وبساطة.
قصص الفيلم.. بحث عن ألوان الحياة في مناخ الموت
يقربنا الفيلم في الحكاية الأولى من بطله أبو إسلام، وهو
يملك حظيرة صغيرة للدواب والحيوانات، ويتكسب من رعاية الأحصنة وتربية
الكلاب وتغذيتها، مقابل أجر يعتمد على مدة الاستضافة.
وفي الفيلم، تتحول يوميات العمل إلى حالة تعكس العلاقة بينه
وبين المكان الذي يتحرك فيه. إضافة إلى طبيعة التكاتف بينه وبين أبنائه
الصغار، الذين نراهم بعيدا عن العمل، يتشاجرون بحيوية، يسحب كل واحد منهم
حقه من قلب مناخ الموت.
توثق الحكاية الثانية حياة رجل لديه ورشة نجارة، لكننا لا
نعرفه أولا من خلال عمله، بل نراه في مشهد ساخر بينه وبين زوجته العجوز،
تتجلى سخريتهما العشوائية أمام الكاميرا، متجاوزة مجرد التفاعل معها بوصفها
مشاهد مضحكة.
وذلك لأن حديث الزوجين عن ماضيهما -الذي لا يحضر واضحا-
يعطينا انطباعا بأنهما يعبّران عن شيء أكبر من حضورهما البشري. لكل ذكرى
هنا دلالة تاريخية، ولكل حكاية شخصية مسحة من المقاومة بالذاكرة، تقف قبالة
حكاية أخرى مدجنة.
تنتقل الحكايتان الأخيرتان في الفيلم إلى حيز أكثر خصوصية.
ففي إحداهما شيخ كهل يعمل مراقبا على شاطئ البحر، لا نعرفه بعمله كالنماذج
السابقة، بقدر ما نكوّن انطباعات عن وجوده، من خلال علاقته المميزة بالمكان.
لا ينشغل المراقب بالحديث عن علاقته بالناس، بل يؤطر وجوده
بتعاطيه الشخصي مع البحر، كأنه وجود كبير يكفيه عن العالم، لذلك فهو دائما
يعطي للمدينة ظهره، ويستقبل البحر الذي يصبح صديقا محتملا، به مسحة بشرية،
وكأن الأمواج حين تتدافع، تريد أن تتحدث معه وتخبره شيئا جديدا عن الحياة.
تتضافر هذه الحكايات مع أنها منفصلة سرديا، فتعطي صورة
بانورامية عن طبيعة العيش، وعن شكل الحياة في غزة، وعلى هامشها عازف محترف
يجلس في مكتب متواضع، ويتدرب معه اثنان من الهواة.
حكايات تعبر عن نفسها
على امتداد الفيلم، لا يتوجه طرف في الحكايات الأربع للحديث
أمام الكاميرا، فهناك وعي إخراجي مميز بمدى قدرة كل حكاية على التعبير عن
نفسها، بجانب الإتقان الفني في فهم خصوصية واقع هذه الحكايات، ثم عكس ذلك
على الشاشة.
يجعل ذلك المادة الفيلمية نافذة حية وواسعة على واقع العيش،
ويصبح المشاهد ضالعا في العيش داخل المكان السينمائي، حيث لا فواصل مجازية
ولا جماليات بصرية تبسط حيثيات تتابع الحكي.
يتجاوز الفيلم الصيغة المعتادة في المحاولات المبالغ فيها،
للتعبير عن المكان الفلسطيني وطبيعة الحياة فيه، ولا ينزع من المكان ملمح
الحرب، لكنه أيضا يحتفظ بحق الحياة، بتقديم حكايات بسيطة لأفراد عاديين،
لهم أزماتهم الشخصية، وقد عُرضت بآلية تتجنب استقطاب التعاطف المجاني
والشفقة العابرة، لأنها ترتكز على صلابة إنسانية.
“أحلام
كيلومتر مربع”.. عوالم الصغار والكبار في مأساة فلسطين
في برنامج “أضواء على السينما الفلسطينية”، عُرضت 3 أفلام
قصيرة لمخرجين فلسطينيين شبان، تنوعت ما بين الوثائقي والروائي، وعلى مستوى
المكان انتقلت من مخيم جنين، إلى الحيوات المهدرة في غزة، ثم تنتهي في
الداخل الفلسطيني تحت نظام صارم من المراقبة والانضباط، ونزع كل ملمح
للحياة الشخصية.
في فيلم “أحلام كيلو متر مربع”، قدم المخرج قسام صبيح نظرة
سريعة على مخيم جنين، وكانت مدة 16 دقيقة كافية لتقديم صورة ثقيلة، تشير
بوضوح إلى نزع الحياة، سواء من داخل الأطفال المفعمين بالمرح والبهجة أمام
الكاميرا، أو من عالم الكبار الذين كُتب عليهم الموت أو السجن مدى الحياة،
لمجرد أنهم حملوا أسلحة ووقفوا للدفاع عن أنفسهم.
يؤطر الفيلم لعلاقة جيلية، تبدأ من حديث أحد الأطفال وهو
واقف في غرفته القديمة، التي صارت حطاما بعد القصف، فيمسك أدواته ومكونات
غرفته، ثم يتحدث عنها، فتكتسب بُعدا حيويا.
يتجلى المكان المحطم ليحدد بوضوح إلى أي شعب ينتمي، فيكتسب
تعريفات جديدة مع أن معالمه غائبة، ويضفي حديث الطفل جزءا من تعريف المكان،
فما زال موجودا حيا ولو في الذاكرة.
هناك تضاد غريب تعكسه الصورة، بين خجل الأطفال أمام
الكاميرا، وبين طبيعة حديثهم الذي يشمل التطلع واستشراف الحياة والرغبة في
التحقق، لدرجة أننا ننسى -نحن المشاهدين- أن هذه البهجة العابرة تمكث في
مخيم لاجئين، عادة ما يكون عرضة للاستهداف في بداية كل حرب على فلسطين.
“سن
الغزال”.. طيف أخ صغير خطفته رصاصة الاحتلال
يستوحي وثائقي “سن الغزال” للمخرج سيف حماش، مادته الحكائية
من مقتل الطفل عمرو لطفي، في منتصف يناير/ كانون الثاني 2023.
قُتل عمرو على يد الجيش الإسرائيلي بمخيم الدهيشة في بيت
لحم، أثناء حملة لهدم منازل سكان المخيم، وقد قُتل عمرو مع 4 أطفال أثناء
الاقتحام.
يسحب الفيلم الأساس الخبري العابر الذي نعايشه يوميا بشكل
إحصائي، إلى محاكاة وثائقية ضيقة، تجعلنا نفكر في مدى كثافة الحيوات
المهدرة في فلسطين عبر زمن طويل.
وهنا يبدو السؤال الإنساني لكثافة هذه الحيوات ثقيلا، بل
أكبر من القدرة البشرية على الشعور بكل حياة طمس وجودها، وهي ما زالت
تستبشر العيش.
رمي السن المخلوعة في البحر.. صراع الرمزيات المجازية
يبدأ “سن الغزال” من الانغماس في الحياة، عبر مشهد سريع بين
عمرو وأخيه الكبير، فنراه يتمسك برمي سنه المخلوعة في البحر، ثم ينتقل
الفيلم إلى واقع الموت.
تمنع مأساة مقتل عمرو أخاه من تجاوزها، فيتشكل صراع بين
إمكانية التجاوز، وبين الذاكرة القهرية التي تعود إلى الماضي، وتجدد فتح
جرح أحدثه الموت.
لكل ذكرى قيمة وجودية في الفيلم، لا ترتبط بوجود شيء متعلق
بالطفل الشهيد فقط، بقدر ما تعطي أخاه شيئا من الثبات القائم على تحفيز
الذاكرة، يتمثل ذلك في تمسكه بسن أخيه، التي يخوض رحلة خطرة ليدفنها
بجواره، وحين يصل يتردد في ذلك، ويعود بها مرة أخرى.
يقدر الفيلم قيمة الموت، وإهدار الحياة مهما حاولت الحرب أن
تستهلك ثمنها، لذلك يستمر خوف الأخ الأكبر من تجديد كل ذكرى منوطة بأخيه.
حتى أنه حين يتزوج وتطلب منه بناته الذهاب إلى البحر، يرفض
بحدة، ويريد أن يقطع تتابع الموت، ويرفض أن يصبح المكان مقابر جماعية
محتملة، يتجاور فيها أهله مع أخيه.
“ولدت
مشهورا”.. عراقيل السلطة المتعددة في البيت والخارج
فرض فيلم “ولدت مشهورا” للمخرج لؤي عواد، نوعا مغايرا من
محاكاة الواقع الفلسطيني، من خلال تقديم عائلة ميسورة الحال، تعيش ببيت
آدمي، لكنها مع ذلك تستقبلها مشكلات تعطل الحياة في الداخل والخارج.
يجد بطل الفيلم كامل صعوبة في نيل حياة تكفل له المساحة
الشخصية المطلوبة، فلم يعد شابا يناسبه أن يعيش في بيت أهله، لكن الواقع
يدفعه إلى العمل غسال صحون، ويكتشف أن آليات الانضباط والمراقبة لا تنحصر
في سلطة والديه، بل هي مزاج عام يهدده في كل مكان، فكل الأماكن التي يذهب
إليها يجد فيها كاميرا مراقبة، تخبره أن عليه أن يتحرك كالآلة، ولا يخرج عن
السياق المتاح أبدا.
يشتبك الفيلم -على بساطته- اشتباكا ساخرا مع طبيعة السلطة
الرقابية في المجتمع الفلسطيني، لا سيما تجاه الشباب، فهي تعطل مسار التطور
في الحياة، وتنزع عن الوجود البشري إمكانية العيش المرتجل، وتجعل الرغبة
المستحقة في الأشياء العادية تحديا يحتاج تجاوزه سنوات كثيرة.
وقد جاءت رمزية الكاميرا في هذا السياق، لتجعل كل شيء تحت
عين السلطة على اختلافها، بما فيها من سلطة الاحتلال، وسلطة أخرى داخلية
متمثلة في العائلة.
وبسبب تنويعات السلطة في البيت وخارجه، تصبح كل الفضاءات
-التي يمكن لكامل أن يوجد فيها- مصادر تهديد محتملة، لأنها تفقده إمكانية
الخصوصية، التي هي حق بشري بسيط، وطبيعي أن يكون في المتناول.
“من
المسافة صفر”.. وجوه إنسانية في عوالم الحرب
مع أن البرامج الفلسطينية الأخرى التي عُرضت في المهرجان،
قد اشتملت على أماكن ونماذج مكانية وتجارب حياتية في قطاع غزة وخارجه، فإن
برنامج الأفلام القصيرة جدا “من المسافة صفر” قد أسس -منذ أول أفلامه- حالة
بصرية شديدة الاستثناء، لا تقوم على جودة سينمائية أو حكائية، ولم يبذل
صناعها مجهودا تقنيا كبيرا، لأن كثيرا من الأفلام صُوّر بالهاتف.
جاء الاستثناء الكبير فيما عرض على الشاشة لسبب مباشر منوط
بالعلاقة بين المكان وأشخاصه، فقد اشتركت جميع الأفلام في الاقتراب الشديد
مكانيا وزمانيا من مناخ الحرب، فلا فارق كبير بين من بقي ليصور فيلما مكونا
من مشهدين أو ثلاثة، وبين عائلة قتلت جميعا وأصبحت مادة للفيلم.
فكل شيء قريب من بعضه، الموت على خط التماس مع الحياة،
والبقاء لا يمكن إلا أن يكون طموحا كبيرا لمدة يوم واحد، وفي صباح اليوم
التالي تظهر تحديات جديدة، واحتمالات موت أكثر عنفا.
تتجلى هذه المقاربات لتعطينا انطباعا محرفا عن الزمن، فحين
نرى تتابع الموت وتصاعد الأزمات التي تجعل هاجسه حاضرا، حتى من دون صوت
الطائرات وإطلاق النار، فهناك شيء من الغرابة في أن كل هذا قد حدث خلال زمن
طويل، وكل هذا الحطام يحتاج سنوات كثيرة للحدوث، فكيف يحدث خلال سنة وبضعة
أشهر؟
مع تحول الزمن الواقعي إلى فخ يقتات على حيوات البشر، تبدو
مبررة تلك البساطة التي تنطوي على قسوة شديدة في الأفكار العابرة للأفلام،
ولها اتساق مع المدى المتطرف للوحشية التي يقبع المكان داخلها.
“جنة
الجحيم”.. كفَن للالتحاف به في شبه بناية
في فيلم “جنة الجحيم” نرى فلسطينيا بمنطقة مهدمة، يجد حيزا
جانبيا صغيرا في شبه بناية، يمكن أن ينام فيه، لكن برد الشتاء يمنعه، وحين
عجز عن إيجاد لحاف ذهب إلى جمعية تعاونية توزع الأكفان مجانا، فأخذ الكفن
واتخذه غطاء في الليل.
افتتح “جنة الجحيم” مجموعة الأفلام، ليكون دفعة مبدئية إلى
العالم غير المرئي في قطاع غزة، بما فيه من حكايات داخلية تمكث وراء
الأخبار اليومية التي اعتدنا عليها.
يدفعنا الفيلم عبر فكرة الالتباس بين مفردات الحياة والموت،
ليضفي على بقية الأفلام شيئا من القبول، بأن أي فكرة في أي فيلم ليست غريبة
على مفردات الوحشية والإباحة الكاملة للبشر في غزة.
في فيلم “24 ساعة” ثمة لحظة فارقة، ينقذ فيها أحد العالقين
تحت الأنقاض. في البداية يبدو انتشاله مشمولا بأمل استعادة الحياة، لكننا
لاحقا ندرك أن بقية أهله قد ماتوا تحت أنقاض نفس البناية.
“تاكسي
ونيسة”.. عربة تحمل شتى الوجوه ونهاية مأساوية
قدم فيلم “تاكسي ونيسة” صورة أكثر شمولا وتعبيرا عن الفضاء
الخارجي في غزة، على المستويين الواقعي والسينمائي.
تاكسي ونيسة عبارة عن عربة كارو، تنقل الناس من مكان لآخر،
نراها تتحرك في الشارع، وعلى جانبيه محلات وأسواق مكدسة بالبشر، من
الباحثين عن أي لقمة لتمرير الحياة.
يتنوع مستخدمو تاكسي ونيسة، فمنهم عجائز وصحفيون وشباب
وفتيات. وفي منتصف الفيلم، يملأ الشاشة فيديو من المخرجة، تحكي فيه أنها
أوقفت تصوير الفيلم بسبب وفاة أخيها.
كان ذلك تحديدا أحد أشكال نهاية الفيلم غير المخطط لها، ففي
النهاية تموت ونيسة، ويبقى زوجها ليكمل العمل على التاكسي/ عربة الكارو. |