ملفات خاصة

 
 
 

فيلم "أرزة"..

رائحة الخبز بطعم المرارة والضحك

القاهرة -نور هشام السيف

القاهرة السينمائي الدولي

الدورة الخامسة والأربعون

   
 
 
 
 
 
 

في فيلمها الروائي الطويل الأول "أرزة"، والذي عُرض ضمن مسابقة آفاق السينما العربية، في مهرجان القاهرة السينمائي بدورته الـ45، تُقدم المخرجة اللبنانية ميرا شعيب عملاً مميزاً يجمع بين السخرية الحادة والواقع المأساوي، مسلطة الضوء على تعقيدات الحياة اليومية في لبنان، حيث تتداخل الأحلام البسيطة مع العقبات الكبرى، وتتحول القضايا السياسية والطائفية إلى عوامل مؤثرة في تفاصيل الحياة الشخصية.

الفيلم الذي يعكس عبر عناصره البسيطة صورة مألوفة عن واقع مليء بالمفارقات، نال جائزتين في ختام المهرجان، الأولى جائزة شريف رزق الله لأفضل سيناريو للكاتبين لؤي خريش وفيصل شعيب، بجانب جائزة أفضل ممثلة لدياموند بو عبود.  

جدران من ورق

"أرزة" أم عزباء تكافح لتأمين حياة كريمة لها ولابنها المراهق "كنان" (يقوم بالدور الممثل السوري بلال الحموي). كنان الضال العنيد، دوماً ما يحقر من نفسه و يرثي لنفسه من نفسه، يزداد تذمره من الظروف المحيطة به، في أعماقه تدفق للحياة في الخارج، ونهم لحب ابنة الجيران، هذا الحب  العذري، الشيء الوحيد الذي ينفث الظلم والتعاسة من عينيه، أمام تفكيره المستمر في الهجرة.

بينما تعمل "أرزة" في إعداد وعجن الفطائر داخل منزلها المتواضع، وبيعها للزبائن، فهي لا تملك رفاهية المغامرة، كما لا تملك رفاهية اللامبالاة، إنها تفكر فقط في اليوم، في اللحظة، في الساعة الآنية، ولا تستطيع ترك الفطائر الساخنة حتى تبرد ويتذوقها أفراداً محدودين من سكان الحي بعد تلقي طلباتهم عبر الهاتف المنزلي.

ومهما حصرت "أرزة" تركيزها في الحاضر، وأسندت رأسها على جدار منزلها المتهالك، توقن ألا مفر من التحديات القاسية التي يفرضها ضيق العيش، فلا عجانة كهربائية تسهل عملها في عجن الفطائر، ولا وسيلة نقل مريحة لتوصيل الطلبات مع المحافظة على طزاجتها، خاصة بعد ملل ابنها من تنفيذ المهمة سيراً على الأقدام، بالإضافة إلى عدم امتلاك وسيلة تسويقية لتوسع مصدر رزقها.

وتقرر "أرزة" اللجوء إلى وسيلة ما لشراء دراجة بخارية بالتقسيط من تاجر جشع، تقتني الدراجة وتضع ابنها أمام الأمر الواقع في مهمته الجديدة كمندوب توصيل، يقبل الأمر رغماً عنه، لكن سرعان ما تُسرق منه الدراجة في لحظة غفلة، لتبدأ رحلة البحث عنها، ومن هنا يبدأ سرد المأساة الساخرة.

مفارقات الرموز والطوائف

يمزج الفيلم بين الحزن والضحك في معالجة أزمة الطوائف اللبنانية وعدم استقرار الأمن، في أثناء رحلة البحث عن الدراجة، ينفجر اللوم بين الأم والابن، لكنه لا يستمر على نفس الإيقاع، بل يعلو ويهبط وفقاً لسياق صُنّاع العمل في الخروج من الحيز الخاص إلى الحيز العام، ثم العودة لأزمتهما الداخلية عند الضرورة، مروراً بتزايد التعقيد نحو تسليط الضوء على الانقسامات الطائفية، ومخلفات الحروب خاصة عند التطرق إلى ذكر شخصيات ذكورية غائبة عن المشهد العائلي، بسبب القتل أو الاختفاء أو الخطف.

في هذه الأثناء، تضيق سبل البحث عن الدراجة المفقودة، وتضطر "أرزة" لتبني رموز دينية ولهجات متنوعة وتقمص شخصيات تتناسب مع المناطق  الطائفية التي تتوجه إليها قاصدة الرجال المعنيين، ذوي الخبرة في تجارة وبيع الدراجات المستعملة، مغلفة ذلك كله بعبارات شبه موحدة   "دلوني عليك".

كان طوق النجاة بالنسبة إلى "أرزة" هو متجر الهدايا الصغير، إذ تنشأ لحظات ساخرة بينها وصاحبة المتجر (تقوم بالدور شادن فقيه) التي تعبر بخفة ظلها عن دهشتها من الطلبات المتكررة والمتناقضة: حجاب، وقميص ساتر، ثم صليب، ثم سلسال ذو الفقار الذي يرمز للطائفه الشيعية، وفي كل مرة تعاود "أرزة" للمتجر فهي تطلب الشيء على أنه استحقاق بعد أن كان في البدء ترجي وتلطف

هذه المشاهد تتجاوز الظرافة إلى كشف الستار عن هوية لبنان المتشابكة وفائقة التعقيد، حيث يصبح التنقل بين الطوائف طريقاً وعراً، كما يتبين أن دخول مناطق معينة من أجل مصلحة ما، يتطلب استراتيجيات ذكية وحذرة، مثل استراتيجة "أرزة" مع صاحبة متجر الهدايا التي وصلت حواراتهما المقتضبة إلى مراحل تصاعدية، في التفاوض بعد أن نفذ المال لديها، لكن لم ينفذ أملها قط.

فقد وصلت شخصية "أرزة" إلى بطولة المتشكك الذي يشق الطريق، دون أن يتحقق من شيء، ودون أن يبالي أيضاً أنه لا يوقن الوصول إلى شيء.

الأمومة المبكية بصمت

ذهبت دياموند بو عبود في دور "أرزة" بانسياب، في انسيابيتها صنعت من الفرح والشجن انصهارات من الصعب تفكيكها في الأداء، وهذا ما يجعل التساؤل إذا ما كانت هذه التقنية السلسة مدروسة لشخصية ثلاثينية مرهقة من الصدمات، ومسؤولة عن ابن وحيد، وشقيقة كبرى منطوية تدعى "ليلى"، تعيش على أطلال الماضي "تقوم بالدور بيتي توتل" لا تعمل وتعاني من فوبيا الخروج من المنزل.

كل هذه التراكمات التي تحاصر البطلة الرئيسية بالقلق والخوف وانعدام الأمان، نسجتها دياموند بين الأداء العاطفي المفعم بالإصرار والصبر والهدوء والحس الساخر، وهي خلطة سحرية لجعل الشخصية قريبة من المشاهدين

على النقيض، تضيف شخصية "كنان" بُعداً آخر للعمل، حيث يعكس خطه الدرامي وطموحه بالهجرة باليأس الذي يعيشه الجيل اللبناني الشاب، ليواجه واقع والدته بحدية مناقضة لهدوئها. أما صاحبة متجر الهدايا، فتبرز كنقطة توازن في الفيلم، تخفف من وطأة الأزمات بروح فكاهية عفوية مرحة.

ماذا تصنع بنا الفطائر؟

على نسق فيلم "وهلق لوين" للمخرجة نادين لبكي، وفي المشهد الشهير حين تكاتفت سيدات وفتيات القرية لتهدئة الاحتقان الطائفي لدى شبان القرية ورجالها، فقررن حينها صنع كمية وافرة من الحلوى والمعجنات بخلطة من الحشيش والسكريات.

كذلك تأتي هنا رمزية الفطيرة الطرية والمحشية بالسبانخ في "أرزة" أداة فعالة في الإيقاع، رمزية الدفء والحميمية والحنان لرائحة المسكن والمطبخ المنزلي، مقادير مفقودة في يوميات عالم خارجي متوحش، وواقع مشحون يلتهم ذاته، ذكاء المخرجة "ميرا" في تقديم الفطيرة الشهية إلى الشخصيات الصلبة، لتليين العدائية والرفض الاستباقي، بدلاً من مغريات مادية أخرى، وهي دلالة على أن الجميع يحمل نفس الألم ويصدره حسب معيار القوة لديه، والجميع كذلك يتشافى بالطبطة أمام هذه الهشاشة العنيفة، وإن تمثلت هذه الطبطبة في فطائر منزلية.  

النص وجائزة الاستحقاق

مهما شاهدنا من تكرار الفكرة، لا يمكننا تجاهل أن النص كان يسير على حبل مشدود، أدرك الكاتبان أن السيناريو يتجنب النبرة الخطابية، وإن كان الحوار مألوفاً، إلا أنه نفض ما تحت السجاد الانشقاق السياسي والاجتماعي في لبنان، من خلال قصة تبدو بسيطة، لكنها متعددة الطبقات برؤية نقدية تتجاوز السطح، حيث طرحت الرموز العقائدية في هذا الإطار بخلفياتها الثقافية بمساواة ودون  تمييز، كما تم وضعها كعنصر مركزي في الحبكة بمسمياتها الواضحة والمحددة، وتوجهاتها الإيديولوجية والعصبية أحياناً، مثل اللهجة الزاعقة على لسان إحدى شخصيات المنطقة المسيحية "شو هالاسم؟ بلال؟ أنت مو من عنا!!"، البناء هنا ليس من موقف شخصي متأجج، بل من مجرد "اسم" باعتباره غريباً عن المنطقة، اسم يعكس قدرة السيناريو على التوظيف من خلاله تفاصيل الحياة اليومية لتقديم إسقاطات أعمق على واقع البلد المنقسم داخلياً.

"أرزة" ليس مجرد فيلم عن أم تحاول تحسين حياتها وابنها، ولا عن أزمة دراجة مفقودة، بل عن بلد مفقودة، وعدل مفقود، وأمل ينسل من المواطنين كالزئبق، هو صورة مصغرة للبنان بكل تناقضاته، ومعاناته، وجراحه وحبه العميق للحياة.

 

الشرق نيوز السعودية في

25.11.2024

 
 
 
 
 

«كعكتي المفضلة».. عن الموت الذي يلتهم الأشياء

حسن سلامة

وسط أجواء الدورة الخامسة والأربعين من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، كان الفيلم الإيراني «كعكتي المفضلة – My Favorite Cake» للمخرجين بهتاش صانيها ومريم مقدم، أحد الأعمال التي أثارت إعجابًا واسعًا داخل القسم الرسمي خارج المسابقة الدولية. فالفيلم لم يكتفِ بجذب الانتباه فحسب، بل نجح في تحقيق إجماع نادر على محبته بين الجمهور والنقاد على حد سواء، ليصبح علامة فارقة ضمن فعاليات المهرجان.

برؤية سينمائية تجمع بين البساطة والعمق، يسلط الفيلم الضوء على تفاصيل الحياة اليومية الرتيبة لعجوز سبعينية تُدعى «ماهين»، التي تعيش وحيدة بعدما غادر أبناؤها للعيش بعيدًا عنها، ووفاة زوجها منذ ثلاثة عقود وتركوها غارقة في عزلة خانقة. من خلال هذه الحكاية، يقدم الفيلم تأملًا شاعريًا في الوحدة، الحب، ورغبة الإنسان في كسر رتابة الحياة، حتى ولو جاء ذلك بتمرد هادئ على الواقع

نرى «ماهين» في البدء نائمة في بيت ذي إضاءة زرقاء خافتة توحي بأنه منزل بلا حياة، وكأنه بيت أشباح خالٍ من الروح، يقطع ذلك السكون القاتل صوت رنين الهاتف فنرى «ماهين» تتحدث إلى ابنتها بينما هي نصف نائمة. نراها أيضًا بينما تقوم بأنشطتها اليومية من تحضير الطعام والذهاب للتسوق والانتهاء بالسهر أمام التلفاز ليلًا أمام مسلسل مُغرق في رومانسيته.

من البداية نلحظ الوحدة المسيطرة بضراوة على حياة «ماهين»، كل شيء من حولها ساكن، ويمتد ذلك إلى طريقة حركتها حتى، فنراها أقرب للدب في حركته، حركة جسد ذات إيقاع بطيء خالي من الإرادة.
نرى أصدقاء ماهين مجتمعين على منضدتها، بينما هي شاردة، مستغرقة ببراءة الأطفال في حكيهم، ومن خلال ردود الفعل تلك يتبين أنها لم تعش الحياة منذ وقت طويل، وربما لم تعشها أبدًا
.

تقرر «ماهين» إيجاد الونس، والونس عندها هو شريك؛  رجل يشاطرها تلك الوحدة كما ترى في سهراتها الليلية، فتبدأ «ماهين» رحلة البحث عن ذلك الشريك، ورغم رومانسيتها الكبيرة إلا أنها واعية بشكل فطري بحدود واقعها، فهي مُدركة تمامًا لعمرها -بعيدة كل البعد عن محاولة إنكاره-، ويتبين ذلك من سؤالها المتكرر عن الأماكن التي يجلس فيها العجائز في الحديقة والمطعم، ويتم التوكيد على ذلك عندما تجلس ماهين وحدها في الحديقة ويدور بينها وبين عامل النظافة حوار عن الأماكن التي يعتاد كبار السن الجلوس فيها.

تنتهي رحلة بحث «ماهين» عن مكانها المنشود بالذهاب إلى مطعم خاص بكبار السن، وهناك تجد مجموعة من الرجال مجتمعين على منضدة طعام، ومستغرقين في الحديث، لكنها لا تهتم بأي منهم، ويراودها شعور بالملل حتى تقع عيناها على «فرامرز»، الذي يجلس وحيدًا في معزل عن الآخرين ويتناول طعامه في هدوء.

اللافت في اختيار «ماهين» لـ«فرامرز» أن معاييرها في الاختيار تعتمد على مقاييس مناقضة تمامًا لصورة فارس الأحلام. فـ«فرامرز» من الوهلة الأولى يبدو رجلًا منطويًا، ليس وسيمًا كثيرًا، بل تغلب عليه السذاجة. ويتبين أن السبب الوحيد الذي دفعها للانجذاب إليه هو كونه وحيدًا مثلها فقط. وهنا تخالف «ماهين» كل السرديات الرومانسية السابقة وتكسرها.

بعد لقائهما في التاكسي الخاص به، تطلب «ماهين» من «فرامرز» أن تصطحبه إلى بيتها ويقضي معها بعضًا من الوقت. وهو فعل مليئ بالمتمرد وغير تقليدي بالنسبة للمجتمع الإيراني والإسلامي بشكل عام.

ما يميز تصرف «ماهين» أنه ينبع من ثورة داخلية عفوية، متخفية تحت غطاء بسيط من البحث عن الرفقة والونس. هذا السلوك يمتد أيضًا إلى دفاعها عن فتاة شابة في الحديقة عندما أوقفتها الشرطة بسبب ظهور جزء من شعرها خارج غطاء الرأس. دفاع «ماهين» عن الفتاة لا يبدو كفعل سياسي أو ثوري بوعي مسبق، بل هو فعل إنساني وعفوي تمامًا، نابع من تجربتها في حقبة ما قبل الثورة الإيرانية، حيث تمتعت النساء بحرية طبيعية دون قيود صارمة.

هذه الأفعال تتسق مع سخط «ماهين» العفوي وغير المباشر على حاضرها، الذي يبدو مصطنعًا وتعسًا، ففي بداية الفيلم مثلًا نراها تستغرب من خبر وجود روبوتات تساعد في غسيل الأطباق وأعمال المنزل وتخوض الحوارات مع الإنسان، وفي وقت لاحق تستغرب أيضًا من فكرة الماسح الضوئي في المطعم. تلك الأمور تؤكد على إحساسها بالسخط، حتى وإن كانت غير واعية لذلك، وهنا تلهمنا بأن الفعل الثوري هو فعل إنساني في البدء من الدرجة الأولى. إن «ماهين» تحبذ العفوية بطبعها ولذلك عند طلبها من «فرامرز» الإقامة معها نجد فعلها متسق تمامًا مع شخصيتها- الثورية جدًا بلا تكلَف.

بعد دخول «فرامرز» إلى بيتها نشعر بخفة «ماهين» التي تبدو في حركاتها وكأنها أصبحت أقرب للفراشة، ترقص وتغني وتضحك، وهي صورة مناقضة تمامًا للصورة التي ظهرت عليها في البدء، فمن حركة الدُب الثقيلة – الكسولة جدَا – إلى حركة انسيابية – خفيفة ومرحة، من الأزرق الباهت الذي يخيم على أجواء البيت إلى أصفر دافئ وحميمي، ومن السكون القاتل إلى موسيقى مبهجة تحبذ الفرح والاحتفاء بالحياة.

الفارق الجوهري يكمن في دخول «فرامرز» إلى عالم «ماهين». المفارقة أن «فرامرز» لا يقوم بأي شيء استثنائي؛ فهو ليس مبادرًا ولا يسعى إلى تغيير حياتها، بل يكتفي بالإنصات والمراقبة. ومع ذلك، يكشف سلوك «ماهين» الحيوي أن كل ما احتاجته طوال الوقت كان وجود رفيق فقط، ليمنحها الشعور بالونس والتقدير.

أجواء الاحتفال وتبادل الأحاديث بين «ماهين» و«فرامرز»، يذكرنا بأفلام مثل «Amour» لمايكل هانكه، و«Vortex»  لجاسبر نوي، والتي تناولت قصص عجائز جمع بينهم الحب، لكن الفارق أن ثنائية «فرامرز» و«ماهين» تحبذ الفرح والاحتفاء بالحياة، وتراها كهبة لا تنتهي، لذلك نجدهما لا يتوقفان عن التمتع بالطعام والشراب والرقص، في مشاهد تذكرنا بنهاية «الحب في زمن الكوليرا» لغابرييل غارسيا ماركيز، فرغم مرور زمن طويل على حب «فلورينتينو» لـ«فيرمينيا» إلا أنهما يلتقيان ولمرة أخيرة وهما كهلان على سفينة، يحتفلان بالحياة بطريقة متطرفة، فيبدو احتفالًا أبديًا من فرط شاعريته.

الملفت في المشاهد الاحتفالية والتي تجمع ماهين بفرامرز هو تمردها على سينما محافظة- مألوفة ومعتادة تبعت الثورة الإيرانية، فبداية بسوهراب شاهيد ساليس ومرورا بمحسن مخملباف وكيارستامي وبناهي ورسولوف وحتى فرهادي، وضع المخرجون أنفسهم- وهو مفهوم ضمن سياق معاصر – خانق للفن والحريات- في تابوهات لا تكسر، فابتعدوا عن المشاهد الحميمية بكل أشكالها، وهذا ما يجعل من مشاهد الحب تبدو جافة في غالبية أعمال السينما الإيرانية، هنا الأمر مختلف، موسيقى عالية وحب وفرح واحتفاء بالحياة، فكرة الاحتفاء بالحياة كهبة هي أيضا مغايرة لسياق السينما الإيرانية المعتادة، فهي سينما تميل لنزعة تشاؤمية وباردة، مشوشة جدا تجاه الحياة، ولكن على النقيض كان فيلم كعكتي المفضلة، فأبطاله بمجرد اقتناصهم لحظة فرح يستغلونها بكل رغبة وإرادة، فتبدو تلك روحا جديدة تتخلل السينما الإيرانية، وتلك المعارضة تحديدا هي أكثر ما أثار إعجابي بالفيلم.

بعد ليلة استثنائية ينتهي الأمر بـ«فرامرز» جثة هامدة على سرير «ماهين»، موت مفاجئ يصعقها في ليلة عمرها، وبخبرتها السابقة في التمريض تحاول إنعاشه من جديد لكن بلا أية فائدة. عليه تتعامل «ماهين» مع الأمر كما تتعامل مع كل أمور حياتها، وبشاعرية تامة تدفن «فرامرز» في حديقتها. الحديقة التي نستشف أنها مجاز لقلب ماهين، والتي نراها من البدء تعتني بها بكل حب، وتؤمن بأبدية البقاء للنباتات، بالتالي تضع ماهين فرامرز في قلبها، فيبدو وكأنه حب أبدي لن يفنى بزوال الجسد.

 

موقع "فاصلة" السعودي في

25.11.2024

 
 
 
 
 

مهرجان القاهرة السينمائي.. دورة مثقلة بأفلام الوجع الفلسطيني

إسلام السيد

تزامنت النسخة الماضية من مهرجان القاهرة السينمائي مع ذكرى السابع من أكتوبر، وقد قررت وزارة الثقافة المصرية تأجيل المهرجان، تضامنا مع فلسطين.

افتُتح المهرجان يوم 13 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري بفيلم “أحلام عابرة” (Passing Dreams) للمخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي. وتحضر السينما الفلسطينية في النسخة الـ45 من المهرجان بكثافة.

كما أُطلق برنامج أفلام قصيرة بعنوان “أضواء على السينما الفلسطينية”، ومجموعة من الأفلام القصيرة جدا بعنوان “من المسافة صفر”، أطلقها رشيد مشهراوي، وقد صورت في قطاع غزة خلال الحرب، وتعكس الواقع الفلسطيني وألوان الحياة القاسية تحت الحرب، كما عُرضت عدة وثائقيات فلسطينية طويلة ضمن برنامج “آفاق السينما العربية”.

تعكس البرامج السينمائية الفلسطينية في مهرجان القاهرة اهتماما برصد الشأن الفلسطيني حاليا، فهناك آلية من الانتقاء تحاول تقديم تغطية متعددة على مستوى النوع السينمائي، وطبيعة الأفلام وأمكنتها، وتفاصيل تصويرها زمنيا، والرؤية المقدمة في الأفلام، سواء من داخل فلسطين أو من الخارج.

لذلك فقد حضرت فلسطين مركزا لنسخة المهرجان، لا مجرد نشاط جانبي على هامشه.

الإجازات في فلسطين”.. نظرة توثيقية من الخارج والداخل

جاءت فكرة فيلم “عطلات في فلسطين” (Holidays in Palestine) للمخرج الفرنسي “مكسيم ليندون”، بعد أن قابل لاجئا فلسطينيا في فرنسا يدعى شادي، خلال إحدى التظاهرات المناصرة لفلسطين.

عرف “مكسيم” حكاية شادي، ورحلة هجرته البحرية إلى أوروبا، والعقبات التي واجهته في سبيل الجنسية الأوروبية، لكن الأهم لدى مخرج الفيلم هو نية شادي العودة إلى بلدته بالداخل الفلسطيني، وهذا ما ارتكز عليه الفيلم.

انتقل “مكسيم” مع شادي، وصوّر عودته تصويرا مباشرا وحيويا. وقد خلقت العدسة تباينات طازجة بين نصفي شادي؛ الفلسطيني المحبط من تفكك وطنه وانغماس بلدته بين المستوطنات، والفرنسي الذي لا يجد طعما للحرية إلا بعيدا عن فلسطين، حيث يكون مواطنا بدرجة “لاجئ”، أي درجة إنسانية أقل لدى المجتمع الأوروبي.

أسئلة المواطنة والهوية الأجنبية.. عالم الفلسطيني الآخر

يعيدنا فيلم “عطلات في فلسطين” إلى نوع مختلف وجانبي من الوجود الفلسطيني، معني بمن أتيح لهم الخروج، ويضع أسئلة محورية بين الوجود في الداخل والخارج.

تنثر هذه الحيثيات أسئلة حول المواطنة، والعلاقة المركزية مع الأرض، والجانب القيمي الذي تكتسبه العوائل الفلسطينية، حين تصبح ذات هوية أجنبية.

وفي حديثه بعد عرض الفيلم، قال “مكسيم ليندون” إنه صوّر فيلمه من دون أي دعم، وقبل توليف مادته المصورة ترجمها لفهم الحيثيات الداخلية لحياة شادي وعائلته.

ولذلك يأتي الفيلم مفعما بالفهم والقرب من عالم الشخصيات المحلية، ولا يقوم على رؤية تراتبية تحاول تأطير الفلسطيني؛ إما في معاناة الحرب، أو في خلق تعريفات تابعة تنطلق أولا من وجود الاحتلال.

حوارات العائلة.. شذرات تعكس واقع الاحتلال المتأزم

منذ بدايته وتتبعه لمجيء شادي واستقبال أهل البلد له، يتبين أن المادة الوثائقية في الفيلم كثيفة، لا تعتمد على سرد تقليدي مباشر، يستدعي كثيرا من الثرثرة أمام الكاميرا، لخلق تعريفات وانطباعات عن العالم الفلسطيني داخليا، بقدر ما تحاول أن تترك هذا الواقع المأزوم يعبر عن نفسه.

يجعلنا ذلك نرى جانبا شديد الأهمية من طريقة العيش، فيخلق ارتجال الحوارات بين عائلة شادي قيمة جمالية في الفيلم، نرى بها الفلسطيني في يوم هادئ، بعيدا عن ثنائية ضحية الحرب أو المجرم فيها.

ومن جهة أخرى، وفي ظل حوارات حميمية وعائلية، يحضر الجانب السياسي ووجه الاحتلال في مركزه بوصفه ضرورة، فحينما يتحدث شادي عن رحلة دخوله فلسطين، يذكر تعقيدات الأوراق. وحين يحدثه أحد أفراد عائلته حديثا عشوائيا، يذكر له أن الاحتلال منعهما من بناء دور جديد للبيت.

فتحت غطاء من الصعوبة، وتعبيرات بسيطة مقتبسة من حياة يومية معاشة، وفي ظل استقبال دائم لتعطيل ما هو بسيط وأوّلي في الحياة، يحاول الفيلم التركيز على سياق العائلة الداخلي، فيعكس خصوصية العلاقة بين شادي وأهله، وما يمثل لهم من قيمة مجتمعية، بعد أن استطاع الخروج من المكان المحجوب.

شادي آتٍ من مناخ حار، وقد عرف جيدا قيمة العيش الآمن، لذلك يرى تمثيلات الاحتلال ذات تأثير أكثر إزعاجا، فيدرك قطع المستوطنات للترابط الجغرافي بين البلدات، ناهيك عن شبكات الطرق التي تجعل الفلسطيني معزولا عن محيطه، فيجد في كل عبور نقطة تفتيش، وذلك هاجس دائم للحجب والتعطيل.

وقد كان شادي انغمس قبل خروجه من فلسطين في العمل السياسي، وكذلك أخوه الذي اعتقل مدة، وحين خرج لم يقبل –أو ربما لم يستطع- أن يخرج من فلسطين.

يقدم الفيلم في أحد مشاهده الأخيرة حوارا بين الأخوين، يقوم على المكاشفة والمواجهة بين نموذج من قرر البقاء ومن اختار العيش في الخارج، فيهاجم الأخ الأصغر أخاه الذي سافر، فقد ترك كل شيء واختار وسيلة آمنة وناعمة من المقاومة، لكن شادي يتمسك بأنه فعل ما في يده.

وحين تعود الكاميرا إلى بيت شادي في فرنسا، يتبين لماذا آثر الاستقرار في فرنسا، إذ يقول “لم أذق طعم الحرية إلا حين خرجت من بلدي، وهذا شيء لن يفهمه أخي”.

غزة التي تطل على البحر”.. كفاح من أجل الحياة

من الداخل الفلسطيني، ننتقل إلى قطاع غزة في وقت الإبادة الجماعية، فنرى فيلم “غزة التي تطل على البحر” (Gazan Tales) للفلسطيني محمود نبيل، ويتناول 4 حكايات على هامش القطاع، تُعرض في توازٍ لا يحدد مكان كل حكاية.

وكأنها إشارة مباشرة إلى أن المكان الغزي موحّد، فمثلما يلاحقه هاجس القصف والموت، فإن في قلب هامشه هاجسا آخر للحياة والعمل على تمريرها.

تشترك النماذج الأربعة في الارتكاز على فكرة أن الفلسطيني له حق الاشتباك مع صعوبات الحياة، وأن يكون لديه على الأقل حق في هذه النوعية من المعاناة التي يمكن إمرارها، أو تدبير الظروف للتعامل معها، بدلا من ديمومة الاشتباك مع صعوبات الموت.

تعكس الشاشة أملا ما في أن تنتهي هذه الحرب، مع أن ذلك الأمل حبيس لكنه مستحق، فالشخصيات على اختلاف حكاياتها لها قدرة على العيش، ويليق بها أن تمر بالصعوبات الآدمية البسيطة، كما يليق بها أن تتجاوزها بهدوء وبساطة.

قصص الفيلم.. بحث عن ألوان الحياة في مناخ الموت

يقربنا الفيلم في الحكاية الأولى من بطله أبو إسلام، وهو يملك حظيرة صغيرة للدواب والحيوانات، ويتكسب من رعاية الأحصنة وتربية الكلاب وتغذيتها، مقابل أجر يعتمد على مدة الاستضافة.

وفي الفيلم، تتحول يوميات العمل إلى حالة تعكس العلاقة بينه وبين المكان الذي يتحرك فيه. إضافة إلى طبيعة التكاتف بينه وبين أبنائه الصغار، الذين نراهم بعيدا عن العمل، يتشاجرون بحيوية، يسحب كل واحد منهم حقه من قلب مناخ الموت.

توثق الحكاية الثانية حياة رجل لديه ورشة نجارة، لكننا لا نعرفه أولا من خلال عمله، بل نراه في مشهد ساخر بينه وبين زوجته العجوز، تتجلى سخريتهما العشوائية أمام الكاميرا، متجاوزة مجرد التفاعل معها بوصفها مشاهد مضحكة.

وذلك لأن حديث الزوجين عن ماضيهما -الذي لا يحضر واضحا- يعطينا انطباعا بأنهما يعبّران عن شيء أكبر من حضورهما البشري. لكل ذكرى هنا دلالة تاريخية، ولكل حكاية شخصية مسحة من المقاومة بالذاكرة، تقف قبالة حكاية أخرى مدجنة.

تنتقل الحكايتان الأخيرتان في الفيلم إلى حيز أكثر خصوصية. ففي إحداهما شيخ كهل يعمل مراقبا على شاطئ البحر، لا نعرفه بعمله كالنماذج السابقة، بقدر ما نكوّن انطباعات عن وجوده، من خلال علاقته المميزة بالمكان.

لا ينشغل المراقب بالحديث عن علاقته بالناس، بل يؤطر وجوده بتعاطيه الشخصي مع البحر، كأنه وجود كبير يكفيه عن العالم، لذلك فهو دائما يعطي للمدينة ظهره، ويستقبل البحر الذي يصبح صديقا محتملا، به مسحة بشرية، وكأن الأمواج حين تتدافع، تريد أن تتحدث معه وتخبره شيئا جديدا عن الحياة.

تتضافر هذه الحكايات مع أنها منفصلة سرديا، فتعطي صورة بانورامية عن طبيعة العيش، وعن شكل الحياة في غزة، وعلى هامشها عازف محترف يجلس في مكتب متواضع، ويتدرب معه اثنان من الهواة.

حكايات تعبر عن نفسها

على امتداد الفيلم، لا يتوجه طرف في الحكايات الأربع للحديث أمام الكاميرا، فهناك وعي إخراجي مميز بمدى قدرة كل حكاية على التعبير عن نفسها، بجانب الإتقان الفني في فهم خصوصية واقع هذه الحكايات، ثم عكس ذلك على الشاشة.

يجعل ذلك المادة الفيلمية نافذة حية وواسعة على واقع العيش، ويصبح المشاهد ضالعا في العيش داخل المكان السينمائي، حيث لا فواصل مجازية ولا جماليات بصرية تبسط حيثيات تتابع الحكي.

يتجاوز الفيلم الصيغة المعتادة في المحاولات المبالغ فيها، للتعبير عن المكان الفلسطيني وطبيعة الحياة فيه، ولا ينزع من المكان ملمح الحرب، لكنه أيضا يحتفظ بحق الحياة، بتقديم حكايات بسيطة لأفراد عاديين، لهم أزماتهم الشخصية، وقد عُرضت بآلية تتجنب استقطاب التعاطف المجاني والشفقة العابرة، لأنها ترتكز على صلابة إنسانية.

أحلام كيلومتر مربع”.. عوالم الصغار والكبار في مأساة فلسطين

في برنامج “أضواء على السينما الفلسطينية”، عُرضت 3 أفلام قصيرة لمخرجين فلسطينيين شبان، تنوعت ما بين الوثائقي والروائي، وعلى مستوى المكان انتقلت من مخيم جنين، إلى الحيوات المهدرة في غزة، ثم تنتهي في الداخل الفلسطيني تحت نظام صارم من المراقبة والانضباط، ونزع كل ملمح للحياة الشخصية.

في فيلم “أحلام كيلو متر مربع”، قدم المخرج قسام صبيح نظرة سريعة على مخيم جنين، وكانت مدة 16 دقيقة كافية لتقديم صورة ثقيلة، تشير بوضوح إلى نزع الحياة، سواء من داخل الأطفال المفعمين بالمرح والبهجة أمام الكاميرا، أو من عالم الكبار الذين كُتب عليهم الموت أو السجن مدى الحياة، لمجرد أنهم حملوا أسلحة ووقفوا للدفاع عن أنفسهم.

يؤطر الفيلم لعلاقة جيلية، تبدأ من حديث أحد الأطفال وهو واقف في غرفته القديمة، التي صارت حطاما بعد القصف، فيمسك أدواته ومكونات غرفته، ثم يتحدث عنها، فتكتسب بُعدا حيويا.

يتجلى المكان المحطم ليحدد بوضوح إلى أي شعب ينتمي، فيكتسب تعريفات جديدة مع أن معالمه غائبة، ويضفي حديث الطفل جزءا من تعريف المكان، فما زال موجودا حيا ولو في الذاكرة.

هناك تضاد غريب تعكسه الصورة، بين خجل الأطفال أمام الكاميرا، وبين طبيعة حديثهم الذي يشمل التطلع واستشراف الحياة والرغبة في التحقق، لدرجة أننا ننسى -نحن المشاهدين- أن هذه البهجة العابرة تمكث في مخيم لاجئين، عادة ما يكون عرضة للاستهداف في بداية كل حرب على فلسطين.

سن الغزال”.. طيف أخ صغير خطفته رصاصة الاحتلال

يستوحي وثائقي “سن الغزال” للمخرج سيف حماش، مادته الحكائية من مقتل الطفل عمرو لطفي، في منتصف يناير/ كانون الثاني 2023.

قُتل عمرو على يد الجيش الإسرائيلي بمخيم الدهيشة في بيت لحم، أثناء حملة لهدم منازل سكان المخيم، وقد قُتل عمرو مع 4 أطفال أثناء الاقتحام.

يسحب الفيلم الأساس الخبري العابر الذي نعايشه يوميا بشكل إحصائي، إلى محاكاة وثائقية ضيقة، تجعلنا نفكر في مدى كثافة الحيوات المهدرة في فلسطين عبر زمن طويل.

وهنا يبدو السؤال الإنساني لكثافة هذه الحيوات ثقيلا، بل أكبر من القدرة البشرية على الشعور بكل حياة طمس وجودها، وهي ما زالت تستبشر العيش.

رمي السن المخلوعة في البحر.. صراع الرمزيات المجازية

يبدأ “سن الغزال” من الانغماس في الحياة، عبر مشهد سريع بين عمرو وأخيه الكبير، فنراه يتمسك برمي سنه المخلوعة في البحر، ثم ينتقل الفيلم إلى واقع الموت.

تمنع مأساة مقتل عمرو أخاه من تجاوزها، فيتشكل صراع بين إمكانية التجاوز، وبين الذاكرة القهرية التي تعود إلى الماضي، وتجدد فتح جرح أحدثه الموت.

لكل ذكرى قيمة وجودية في الفيلم، لا ترتبط بوجود شيء متعلق بالطفل الشهيد فقط، بقدر ما تعطي أخاه شيئا من الثبات القائم على تحفيز الذاكرة، يتمثل ذلك في تمسكه بسن أخيه، التي يخوض رحلة خطرة ليدفنها بجواره، وحين يصل يتردد في ذلك، ويعود بها مرة أخرى.

يقدر الفيلم قيمة الموت، وإهدار الحياة مهما حاولت الحرب أن تستهلك ثمنها، لذلك يستمر خوف الأخ الأكبر من تجديد كل ذكرى منوطة بأخيه.

حتى أنه حين يتزوج وتطلب منه بناته الذهاب إلى البحر، يرفض بحدة، ويريد أن يقطع تتابع الموت، ويرفض أن يصبح المكان مقابر جماعية محتملة، يتجاور فيها أهله مع أخيه.

ولدت مشهورا”.. عراقيل السلطة المتعددة في البيت والخارج

فرض فيلم “ولدت مشهورا” للمخرج لؤي عواد، نوعا مغايرا من محاكاة الواقع الفلسطيني، من خلال تقديم عائلة ميسورة الحال، تعيش ببيت آدمي، لكنها مع ذلك تستقبلها مشكلات تعطل الحياة في الداخل والخارج.

يجد بطل الفيلم كامل صعوبة في نيل حياة تكفل له المساحة الشخصية المطلوبة، فلم يعد شابا يناسبه أن يعيش في بيت أهله، لكن الواقع يدفعه إلى العمل غسال صحون، ويكتشف أن آليات الانضباط والمراقبة لا تنحصر في سلطة والديه، بل هي مزاج عام يهدده في كل مكان، فكل الأماكن التي يذهب إليها يجد فيها كاميرا مراقبة، تخبره أن عليه أن يتحرك كالآلة، ولا يخرج عن السياق المتاح أبدا.

يشتبك الفيلم -على بساطته- اشتباكا ساخرا مع طبيعة السلطة الرقابية في المجتمع الفلسطيني، لا سيما تجاه الشباب، فهي تعطل مسار التطور في الحياة، وتنزع عن الوجود البشري إمكانية العيش المرتجل، وتجعل الرغبة المستحقة في الأشياء العادية تحديا يحتاج تجاوزه سنوات كثيرة.

وقد جاءت رمزية الكاميرا في هذا السياق، لتجعل كل شيء تحت عين السلطة على اختلافها، بما فيها من سلطة الاحتلال، وسلطة أخرى داخلية متمثلة في العائلة.

وبسبب تنويعات السلطة في البيت وخارجه، تصبح كل الفضاءات -التي يمكن لكامل أن يوجد فيها- مصادر تهديد محتملة، لأنها تفقده إمكانية الخصوصية، التي هي حق بشري بسيط، وطبيعي أن يكون في المتناول.

من المسافة صفر”.. وجوه إنسانية في عوالم الحرب

مع أن البرامج الفلسطينية الأخرى التي عُرضت في المهرجان، قد اشتملت على أماكن ونماذج مكانية وتجارب حياتية في قطاع غزة وخارجه، فإن برنامج الأفلام القصيرة جدا “من المسافة صفر” قد أسس -منذ أول أفلامه- حالة بصرية شديدة الاستثناء، لا تقوم على جودة سينمائية أو حكائية، ولم يبذل صناعها مجهودا تقنيا كبيرا، لأن كثيرا من الأفلام صُوّر بالهاتف.

جاء الاستثناء الكبير فيما عرض على الشاشة لسبب مباشر منوط بالعلاقة بين المكان وأشخاصه، فقد اشتركت جميع الأفلام في الاقتراب الشديد مكانيا وزمانيا من مناخ الحرب، فلا فارق كبير بين من بقي ليصور فيلما مكونا من مشهدين أو ثلاثة، وبين عائلة قتلت جميعا وأصبحت مادة للفيلم.

فكل شيء قريب من بعضه، الموت على خط التماس مع الحياة، والبقاء لا يمكن إلا أن يكون طموحا كبيرا لمدة يوم واحد، وفي صباح اليوم التالي تظهر تحديات جديدة، واحتمالات موت أكثر عنفا.

تتجلى هذه المقاربات لتعطينا انطباعا محرفا عن الزمن، فحين نرى تتابع الموت وتصاعد الأزمات التي تجعل هاجسه حاضرا، حتى من دون صوت الطائرات وإطلاق النار، فهناك شيء من الغرابة في أن كل هذا قد حدث خلال زمن طويل، وكل هذا الحطام يحتاج سنوات كثيرة للحدوث، فكيف يحدث خلال سنة وبضعة أشهر؟

مع تحول الزمن الواقعي إلى فخ يقتات على حيوات البشر، تبدو مبررة تلك البساطة التي تنطوي على قسوة شديدة في الأفكار العابرة للأفلام، ولها اتساق مع المدى المتطرف للوحشية التي يقبع المكان داخلها.

جنة الجحيم”.. كفَن للالتحاف به في شبه بناية

في فيلم “جنة الجحيم” نرى فلسطينيا بمنطقة مهدمة، يجد حيزا جانبيا صغيرا في شبه بناية، يمكن أن ينام فيه، لكن برد الشتاء يمنعه، وحين عجز عن إيجاد لحاف ذهب إلى جمعية تعاونية توزع الأكفان مجانا، فأخذ الكفن واتخذه غطاء في الليل.

افتتح “جنة الجحيم” مجموعة الأفلام، ليكون دفعة مبدئية إلى العالم غير المرئي في قطاع غزة، بما فيه من حكايات داخلية تمكث وراء الأخبار اليومية التي اعتدنا عليها.

يدفعنا الفيلم عبر فكرة الالتباس بين مفردات الحياة والموت، ليضفي على بقية الأفلام شيئا من القبول، بأن أي فكرة في أي فيلم ليست غريبة على مفردات الوحشية والإباحة الكاملة للبشر في غزة.

في فيلم “24 ساعة” ثمة لحظة فارقة، ينقذ فيها أحد العالقين تحت الأنقاض. في البداية يبدو انتشاله مشمولا بأمل استعادة الحياة، لكننا لاحقا ندرك أن بقية أهله قد ماتوا تحت أنقاض نفس البناية.

تاكسي ونيسة”.. عربة تحمل شتى الوجوه ونهاية مأساوية

قدم فيلم “تاكسي ونيسة” صورة أكثر شمولا وتعبيرا عن الفضاء الخارجي في غزة، على المستويين الواقعي والسينمائي.

تاكسي ونيسة عبارة عن عربة كارو، تنقل الناس من مكان لآخر، نراها تتحرك في الشارع، وعلى جانبيه محلات وأسواق مكدسة بالبشر، من الباحثين عن أي لقمة لتمرير الحياة.

يتنوع مستخدمو تاكسي ونيسة، فمنهم عجائز وصحفيون وشباب وفتيات. وفي منتصف الفيلم، يملأ الشاشة فيديو من المخرجة، تحكي فيه أنها أوقفت تصوير الفيلم بسبب وفاة أخيها.

كان ذلك تحديدا أحد أشكال نهاية الفيلم غير المخطط لها، ففي النهاية تموت ونيسة، ويبقى زوجها ليكمل العمل على التاكسي/ عربة الكارو.

 

الجزيرة الوثائقية في

25.11.2024

 
 
 
 
 

أبرز الأفلام العربية المشاركة في الدورة 45 من "القاهرة السينمائي" وجوائزها

مفاجآت سارّة من فلسطين ولبنان ومصر والسعودية وتونس والمغرب

أريج جمال

بعد غياب عام، عاد مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الخامسة والأربعين برئاسة حسين فهمي وإدارة عصام زكريا، مشحونا بالفعاليات، من تكريمات لشخصيات سينمائية ومحاضرات عن الفن السابع وعروض استعادية لأفلام قديمة رُممت، عروض حظيت بإقبال جماهيري كبير طوال أيام المهرجان، إضافة إلى مجموعة من الأفلام المهمة دوليا وعربيا. كانت الحرب على غزة، السبب في إلغاء دورة المهرجان العام الماضي، أمّا هذا العام، وبما أن الحرب لم تتوقف، بل توسعت للأسف، فقد بدا ضروريا أن يقول صنّاع السينما العرب أيضا كلمتهم، وأن يدخلوا في حوارات مفتوحة مع زملائهم الآخرين من صنّاع الأفلام، ومع الجمهور المتعطش للمشاهدة والتفاعل مع ما يراه.

اتسمت المشاركات العربية، التي توزعت على المسابقات المختلفة للمهرجان هذا العام، بالتنوع في الموضوعات والأساليب، وفي طبيعة الحال بتفاوت المستويات الفنية، لكن الأكيد أن السينما الفلسطينية حجزت لنفسها مكانا على خريطة العرض وكذلك الجوائز، وينطبق الأمر نفسه على السينما اللبنانية. حتى المصرية التي يعاني إنتاجها التجاري من الركاكة في الأعوام الأخيرة، قدمت فيلمين حظيا بالإقبال الجماهيري، والاستحسان النقدي والتتويج بالجوائز.

علاوة على المشاركة السعودية، بأفلام بين الطويل والقصير. في السطور التالية، استشكاف لبعض أبرز الأفلام العربية التي عُرضت هذا العام، والجوائز التي حصدتها.

"أرزة"... في التحايل على قسوة الحياة في لبنان

من إخراج ميرا شعيب، وسيناريو فيصل شعيب ولؤي خريس، يأتي "أرزة"، الفيلم الذي لا يناسبه وصف أكثر من حيوية الأحداث، وتطورها المنطقي السلس، وحيوية الحبكة والبناء المحكم للسيناريو. الفيلم إنتاج مشترك بين لبنان ومصر والسعودية. تؤدي دور أرزة، ديامان أبو عبود، هي ربة منزل مجتهدة، تصنع بيديها الماهرتين الفطائر كل يوم وتبيعها بالتوصيل لمن يطلبها بالتلفون. عمل يدر ربحا بسيطا وسط ظرف اقتصادي غير هيّن في بيروت، لكن أرزة المسؤولة عن ابنها الشاب كِنان (بلال الحموي)، وأختها نصف العاقلة ليلى (بيتي توتل)، تود التوسع في هذا العمل، لأن تلك هي تقريبا الطريقة الوحيدة للبقاء على قيد الحياة مع ارتفاع الأسعار، والشح في السلع.

تستميل حكاية أرزة المتفرج بسهولة، فهي في النهاية عن امرأة مكافحة، ومعيلة لا تكفّ عن التحايل على الحياة، ولا تعدم خفة الظل. أي أن أرزة تمثل في النهاية، العديد من النساء العربيات اللواتي يعشن الظروف نفسها، يقاسين منها في صمت. ولعلّ أمومة أرزة هي حاميتها من الجنون، ولولاها لتحولت إلى نموذج ليلى، شقيقتها، جرّاء وحدتها وأعبائها وتخلي المجتمع عنها.

يبقى الفيلم اللبناني "أرزة" فيلما ذكيا، نابضا، قادرا على عقد صلة فورية مع المشاهد

تقطع أرزة مع ابنها كِنان رحلة في المجتمع اللبناني وبين الطوائف والمناطق، بحثا عن الدراجة النارية التي كانت اشترتها له بشق الأنفس، لتوصيل فطائرها للزبائن. في رحلة بحثها عمن يساندها، تتقمص أرزة، هويات عديدة ومتغيرة، وتحاكي لسان أبناء هذه المناطق، مرتدية علاماتهم الدينية مؤقتا. هذه الحيلة، تخلق في طبيعة الحال، الكثير من المواقف الكوميدية، والعبارات الكاشفة عن تعقيد الوضع في بيروت واحتقانه، لكن من منظور مواطنة شبه محايدة، لا انتماء محددا لها، كما أُريد لها في الفيلم. إنها إنسانة تود تدبير أوضاع معاشها اليومي. وما الذي سيعبّر عن إلحاح العادي، واليومي أكثر من خَبز الفطائر وأكلها؟

قبل أن تنجح أرزة في تقمص هويات المجتمع اللبناني المتفرقة كي تصل إلى مبتغاها، نجحت ديامان أبو عبود في الدخول إلى جلد شخصية أرزة، حتى بدا تكوينها الجسماني النحيل والثابت، وعروق يديها المشدودتين وابتسامتها التي لا تغيب، تفاصيل لا يمكن تخيّل شخصية أرزة بلاها. في الفيلم لحظات من الدفء الإنساني، وبحث الشباب عن الحب في مواجهة الأزمة. صحيح أن حكاية ليلى التي جُنّت لغياب حبيبها منذ سنوات، قد لا تكون أكثر الثيمات جِدة في الأفلام العربية، إلا أن "أرزة" يبقى في المجمل فيلما ذكيا، نابضا، قادرا على عقد صلة فورية مع المشاهد

حصل الفيلم على جائزة أحسن سيناريو من المهرجان، كما حصدت ديامان أبو عبود جائزة أحسن ممثلة.

"أحلام عابرة"... حسن النية السينمائي إزاء واقع فلسطين المحتلة

بقدر ما نتطلع، كمشاهدين عرب، لمشاهدة أفلام تهتم بقضايانا، الكبرى منها والصغرى، نخشى من إفساد الواقع للفن، ومن المباشرة الزائدة التي يمكن أن تقود إلى نتيجة عكسية تماما. فيلم "أحلام عابرة" من سيناريو وإخراج رشيد مشهراوي، وهو كان فيلم افتتاح المهرجان، حاول العثور على صيغة معقولة بين القضية والفن، والأهم على تحقيق متعة سينمائية للمشاهد، ويمكن القول إنه نجح في بلوغ مسعاه. الفيلم إنتاج مشترك بين فلسطين والسويد والسعودية وفرنسا، من تمثيل عادل أبو عياش وأميليا ماسو وأشرف برهوم.

ميل رشيد مشهراوي لتأليف مزاج سينمائي حلو وحسن النية إزاء العالم رغم شروره، يجعل من "أحلام عابرة" فيلما يستحق المشاهدة

يروي الفيلم حكاية الصبي سامي، ذي الاثني عشر عاما، المغرم بالحمام، وإذ تضيع منه حمامته المفضلة ولا تعود إلى عشها، يبدأ رحلة في مناطق فلسطين، بحثا عنها. في هذه الرحلة يرافقه خاله، النحّات لتماثيل يسوع، وابنة خاله الصحافية المتدربة التي تريد معهما أن تستكشف أحياء المدينة. لا يوقِف الثلاثي شيء في رحلتهما، لا انتصاف النهار، ولا الحواجز الأمنية الإسرائيلية وعنت الضباط والجنود المفتشين. نتابع هذه المشاهد، وفي داخلنا غصة، وخشية من عنف مفاجئ يخضع له الأبطال، ونخضع له معهم على الشاشة، غير أن "أحلام عابرة"، ينذر نفسه للبحث عن الحمامة، التي قيل إلى سامي إنها ربما عادت إلى بيتها الأول، لكن أي بيت أول؟ وخصوصا أن بعض هذه البيوت صار يستوطنها اليوم أجانب غير مواطنيها الأوائل.

ولعلّ "أحلام عابرة" يعبّر بخطابه عن ثلاثة مستويات من الوعي. الأول هو الطفل سامي، الذي لا يرى من هذا العالم شيئا إلا ذكرياته مع الحمامة، وحاجته إلى عودتها، وهو المستوى الذي نخشى عنده على هشاشة الطفولة. ومستوى الشباب الذي تمثله الصحافية المتدربة وابنة الخال المخلص، وهو وعي اليافعين الباحث عن معرفة بلاده، وعلى طريقته يقاوم. أما المستوى الثالث فهو مستوى الخال، المتعب الذي يشعر باليأس من الخطابات السياسية، وبنوع من الذنب والمسؤولية تجاه الأجيال الأصغر، ولذا يكتفي بتسيير شؤون الحياة العادية، واتخاذ مسافة ملائمة من الأمل واليأس معا.

ربما اتسم الفيلم في بعض عباراته الحوارية بالمباشرة، وربما اكتنتفه درجة مكشوفة من الرمزية، ومع ذلك فإن ميل رشيد مشهراوي لتأليف مزاج سينمائي حلو وحسن النية إزاء العالم رغم شروره، وهو يحكي حكايته هذه، وبمعونة من الموسيقى المصاحبة الرقيقة التي ألّفها جوهان كورتيت، وتعتمد أساسا على العود، يجعل من "أحلام عابرة" فيلما يستحق المشاهدة.

حصل الفيلم على الجائزة الثالثة المقدّمة من إتحاد إذاعات وتلفزيونات دول منظمة التعاون الإسلامي.

ليس من المعتاد أن نشاهد أفلاما تسجيلية عن معتقلين سياسيين في عهد مبارك، وهو عهد أقرب نسبيا، ومع ذلك طواه شيء من النسيان

السياسي هو الشخصي في التسجيلي المصري "أبو زعبل 89"

مثّل عرض الفيلم التسجيلي "أبو زعبل 89"، من إنتاج مصري ألماني أحد أهم الأحداث السينمائية في دورة هذا العام من المهرجان. نفدت تذاكر الفيلم أكثر من مرة، واستجابت إدارة المهرجان بتخصيص عرض جديد للفيلم، سرعان ما نفدت تذاكره أيضا. الفيلم الذي نافس ضمن فئة أسبوع النقاد، يحمل اسم المعتقل الشهير السيئ السمعة، ليمان أبو زعبل، وهو عنوان كافٍ لتبرير الشعور بالانقباض مقدما، وقبل أي مشاهدة، لكنه كافٍ ربما أيضا للانجذاب والرغبة في المعرفة والفهم.

في السينما المصرية أعمال تصف الاعتقال السياسي والتعذيب في عهد عبد الناصر، لكن ليس من المعتاد أن نشاهد أفلاما تسجيلية عن معتقلين سياسيين في عهد مبارك، وهو عهد أقرب نسبيا، ومع ذلك طواه شيء من النسيان، مع التغييرات السياسية المتلاحقة في مصر، خلال العشرة الأعوام الأخيرة. في "أبو زعبل"، يروي صانع الأفلام بسام مرتضى، شيئا مما حدث لأبيه محمود مرتضى، حين اعتقل في مارس/ آذار 1989، وأودع في الليمان، بسبب مساندته حقوق عمال شركة الصلب ودفاعه عنهم. على وجه الدقة، يروي بسام قصته وهو الطفل الذي شهد حادثة الاعتقال العنيفة، ولا يفهم شيئا بعد من الدنيا، ويروي تأثير هذا الاعتقال على طفولته، وعلى نشأته النفسية، وعلاقته لاحقا بأبيه، الذي خرج من المعتقل شخصا آخر غير الذي دخل إليه.

يتمركز الشريط السينمائي تقريبا حول شخص بسام، حول سرده الصوتي وتعليقاته على الصور المؤرخة والجوابات والحوارات التي يرويها أشخاص عاشوا الحدث. في مشاهد عديدة، نرى بسام الشاب واقفا يولينا ظهره، يتفرج على نفسه، على شاشة كبيرة، يعيد فيها تمثيل ما اختبره والده وحكى عنه من تعذيب. في مشاهد أخرى، نرى الممثل سيد رجب، وكان أحد المعتقلين آنذاك، وهو يحكي ما جرى، بطريقة مسرحية، تبيح له اتخاذ مسافة آمنة مع الحدث. في أجزاء أخرى من الفيلم، نتابع شهادة محمود مرتضى نفسه عن الاعتقال، وبالتدريج ندرك موقع مرتضى كغائب من الحكاية، هو الذي يبدو بانفصاله العاطفي آخِر المتفاعلين مع الحدث الذي يتأسس عليه هذا الفيلم.

وبرغم تصدُّر بسام وأبيه للفيلم حكيا وتصويرا وتعليقا، تحظى السيدة فردوس، والدة بسام والزوجة السابقة لمحمود، بموقعها الحقيقي والمستحق، الذي لم تسع إليه، في البطولة المجازية للحكاية. هي التي ظهورها أقل وخيباتها أكبر، ورحيلها من الفيلم أسرع بموتها، لا يمكن إلا أن تترك بصمتها على روح المتفرج. وكأن "أبو زعبل 89" هو في النهاية عنها. فهي أكثر مَن تحدث بطبيعية، ولم تحسب حسابا لكلامها، ولا اهتمت بصورتها أمام الناس، خلافا للمناضل محمود مرتضى الذي جاهر في نهاية الفيلم بهاجسه الأشد حميمية: "أنتو شايفيني إزاي؟ أحيانا بحس إني متشاف غلط!".    

حصل "أبو زعبل 89" على جائزة أفضل فيلم وثائقي طويل مناصفة، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة.

يتسم "الموجا الزرقا" بتعدد مستويات حكايته، وثراء الزوايا التي يمكن من خلالها أن نشاهده، وبالتالي أن نتفاعل معه كتابة

"المرجة الزرقا"... عن الصحراء المغربية وفعل الرؤية

من إخراج داوود أولاد السيد، يأتي هذا الفيلم المغربي، الذي يتسم بتعدد مستويات حكايته، وثراء الزوايا التي يمكن من خلالها أن نتفرج عليه، وبالتالي أن نتفاعل معه كتابة. الفيلم من تأليف مجيد سداتي وحسين شاني، إلى جانب أولاد السيد. وهو يروي قصة يوسف الصبي الكفيف، المغرم مع ذلك بالتصوير، والذي يحصل على آلة فوتوغرافيا، ويريد أن يزور بحيرة المرجة الزرقا الشهيرة ليصورها بعد أن سمع جده، سائق التاكسي، يحكي لجدته، أن زوارا أجانب من الضريرين قد أتوا من بلادهم خصيصا لزيارة البحيرة وسط الصحراء.

يتمتع يوسف بخفة الظل، والذكاء، ويعرف أن وضعه كصبي يتيم الأبوين، يضغط على جديه القرويين ليحققا له أمانيه. هذه الأماني تتحدد جميعها حول فعل الرؤية، فهو يريد أن يرى النجوم المرصعة في الليل، ويريد أن يخوض رحلات ليحكي عنها لزملائه حين تبدأ الدراسة، وهو حتى يصوِّر ضباط الشرطة، على ما في هذا الفعل من تهديد أمني. يوازي فعل الرؤية هنا في طبيعة الحال فنّ السينما، ويتضمن كذلك التصوير، مما يضيف تلقائيا إلى جمالية الفيلم وشاعريته.

من جانب آخر، يتخذ الفيلم من الصحراء مدينة وحيدة له، وهي لا تبدو هنا موحشة ولا مقبضة، إنما محببة وأليفة عند الجد، الذي يسافر عبرها ليل نهار، لينقل الركاب، الذين يبدون بدورهم متآلفين تماما مع بيئتهم الأصلية. يسمح البعد التأملي في الفيلم، باختمار أسئلة يوسف الداخلية، عن حرمانه من الحاسة التي تشكل أساس هوايته في التصوير. كيف صار كفيفا؟ ولم عليه أن يفاوض جديه طوال الوقت كي يحصل على ما يريد؟ ولمَ تثير رغباته عادة استنكار الكبار، أولئك يرونه غير راضٍ بالانسحاب، بل متمتعا بجسارة في الاكتشاف، ربما لا يملكونها هم كأصحاء.

في بعض اللحظات يحجب الجد المتعب عينيه، ويحاول أن يتصوّر العالم بعيني حفيده المطفأتين، وفي لحظات أخرى، يجعلنا مدير التصوير علي بنجلون نختبر بدورنا محدودية الرؤية، كما يحدث عندما يصل الجد وحفيده أخيرا إلى البحيرة الأسطورية، لكننا لا نراها ولا نعرف إن كان يوسف وجده بإزائها حقا. وكأن "المرجة الزرقاء"، هو فيلم عن الرؤية، عن العين، والصورة والسينما، عن المشاهدة كفعل قدرة وإرادة أيضا.

حصل محمد خوي، الذي أدى دور الجد، على جائزة أحسن ممثل (يوسف شريف رزق الله) من المهرجان، ومع هذا يجدر التنويه بدور الطفل يوسف، الذي أدى دوره الحقيقي ربما في الفيلم.

"دخل الربيع يضحك" إحدى أجمل مفاجآت السينما المصرية الأخيرة التي تحاول تغيير المعادلة السينمائية الحالية

"دخل الربيع يضحك"... بوح وصراخ وشجن مصري خالص

يُعَدّ "دخل الربيع يضحك" من الأفلام القريبة من الواقع، أكثر من السينما، أو بالأحرى من المكرور عن فن السينما، وبالتحديد فن السينما المصرية. وقد يعطي للوهلة الأولى، ذلك الإيحاء بأنه فيلم تسجيلي، فشخوصه مستغرقون تماما في أحاديثهم، وتعليقاتهم تبدو عفوية، حتى سوء الفهم الذي يتطور في كل مرة إلى شجار وصراخ وربما حتى شتيمة، يجيء طبيعيا، وكأننا نحضر مشهدا من الحياة، لا من الأفلام.

هذه الطبيعية التي ظهرت عليها الأربع قصص التي يتكون منها العمل، وتجري أحداثها في الربيع، يمثل خلفها جهد إخراجي واضح، وصفاء في الرؤية السينمائية، للمخرجة نهى عادل في بداياتها. إنتاجيا، تقف مع الفيلم مخرجة شابة أخرى موهوبة، هي كوثر يونس، وتلعب كذلك دورا تمثيليا في القصة الرابعة.

تبدأ القصة كلها من نقطة عادية، اجتماع ودي للأشخاص في جلسة لتناول الشاي في القصة الأولى، أو في صالون كوافور نسائي، أو حتى جلسة نميمة بين الصديقات، وتبلغ القصص كلها ذروة ما من التوتر ثم تنفجر بطريقة كارثية. لكن حتى الكوارث التي تقع في ذلك الربيع لا تخلو من مفارقات كوميدية وساخرة. وإذا بالكوميديا هنا مساحة للنقد الاجتماعي والطبقي، وطريقة خفية للبوح، وحتى للتأسي الموارب.

الفيلم الذي مثّل مصر في المسابقة الدولية للمهرجان، يمكن القول إنه إحدى أجمل مفاجآت السينما المصرية الأخيرة، ويمكن النظر إليه في سياق أصوات سينمائية جديدة، لا سيما من النساء، تحاول تغيير المعادلة السينمائية الحالية.

حصد الفيلم جوائز عدة هي أحسن إخراج لمخرجته نهى عادل، وجائزة لجنة تحكيم النقاد الدولية (فيبرسي)، بالإضافة إلى تنويه خاص للممثلة رحاب عنان.

يوثق "حالة عشق" جانبا آخر من مشهد الحرب في غزة، وهو جانب الطبيب الذي يشاهد الموت، وينجح في منعه مرة، لكنه يفشل مرات

"حالة عشق"... قصة الطبيب الفلسطيني غسان أبو ستة جراح غزة

إضافة إلى أهمية مجموعة الأفلام القصيرة عن غزة تحت عنوان "من المسافة صفر"، التي عُرضت في المهرجان، يأتي هذا الفيلم التسجيلي "حالة عشق" ليوثق جانبا آخر من مشهد الحرب في غزة، وهو جانب الطبيب الذي يشاهد الموت، وينجح في منعه مرة، لكنه يفشل مرات، وفي الأثناء يغامر بحياته ليواصل عمله.

من إخراج كارول منصور ومنى خالدي، وإنتاج مشترك بين فلسطين والأردن ولبنان وإنكلترا والكويت، يتتبع هذا الفيلم حالة العشق التي يعيشها الطبيب الجراح المزدوج الجنسية غسان أبو ستة، مع مهنته من جانب، ومع فلسطين من جانب آخر، ومع الحياة نفسها من كل الجوانب، رغم قبوله بالموت. من الصعب أن نتصوّر أن طبيبا شاهدا على كل تلك الفظاعات التي تُرتكب في غزة، وهو واعٍ بفداحتها، وناجح حتى في التنظير حولها (حين يميز مثلا بين القتل المتسلسل الذي يعنى بالتفاصيل، والقتل الجماعي الذي لا يهمه إلا القتل، ويرى أن إسرائيل تمارس قتلا متسلسلا لأن ضباطها يستعرضون تفاصيل القتل ويباهون بها) ولا يزال يحتفظ بهذه البراءة في مواجهة العالم. يقلب السمعة السيئة للجراحين كباردي القلب، فيبكي أمام الكاميرا ويحمر وجهه، وهو يتذكر الحالات التي يداويها، والخيارات التي عليه أن يمارسها، مع سواه من الأطباء. يعالج مَنْ قبل مَنْ، والاولوية لمَن لا يزال لديه عائلة. وهي اختيارات تفرضها ندرة الإمكانات في المستشفيات.

تدردش كل من كارول منصور ومنى خالدي مع أفراد عائلة غسان، فنستمع إلى الحكايات التي تمس تاريخا عاما وخاصا في الآن نفسه، عن غزة وعن ارتباط الطبيب غسان بزوجته، وعن سفراته المستمرة إلى فلسطين في أوقات الحروب والمجازر وتقديم المساعدة. فيلم إنساني، وحميمي، يلعب دور أرشيفيا في لحظة تمحو إسرائيل ما تريد من مستشفيات ومبان وعلامات تاريخية.

حصل الفيلم على جائزة أفضل فيلم وثائقي طويل مناصفة، وجائزة سعد الدين وهبة لأحسن فيلم عربي.

"ثقوب"... فيلم سعودي مُختلف

بدعم من مسابقة ضوء، ورعاية هيئة الأفلام وبرنامج دورة الحياة، أتى عرض الفيلم السعودي "ثقوب" (الذي نتوقف عنده لأهميته رغم عدم حصوله على جوائز) ضمن آفاق السينما العربية في المهرجان، كنموذج مُختلف من السينما السعودية الناشئة. ينتمي الفيلم إلى نوع الإثارة والدراما النفسية الذي اشتهر به لا سيما ألفرد هيتشكوك، وهو من إخراج عبد المحسن الضبعان وتأليفه بالاشتراك مع فهد الأسطاء

يتصدر الفيلم اقتباس شهير ومُقبض لتولستوي: "كل العائلات تتشابه في السعادة، لكن للعائلات التعيسة طريقتها الخاصة في التعاسة"، والتي تُحيلنا فورا إلى العنوان، هل هي ثقوب الجسد العائلي ما سنرى؟ لا نستغرق وقتا طويلا حتى نُعاين الثقوب في كل مكان من حياة هذه العائلة. في جدار البيت الذي سينتقل للسكنى فيه الابن "راكان"، يؤديه مشعل المطيري، مع زوجته "ريم" (مريم عبد الرحمن)، بعيدا عن الوالدة التي تتمسك بحضور ابنها، لنفهم ضمنيا أن في هذا الانتقال شُبهة هروب من بيت العائلة الكبير، وماضٍ ما ننتظر أن نعرف أكثر عنه، لكنه لن يمنحنا نفسه تماما، حتى نهاية الفيلم. ولعلّ التفسير لهذه المراوغة يكمن في الطبيعة التشويشية للألم النفسي، الذي يعاني منه راكان صراحة، ويعاني منه بالمثل شقيقه التوأم تركي لكن معبرا عنه بطريقة أخرى، الدور الذي يؤديه أيضا الممثل مشعل المطيري

في الفيلم استخدامات تجريبية جمالية للعدسات، واجتهاد كبير في الأداء وفيه أيضا استكشاف سينمائي مُلفت

على طريقة "دكتور جيكل ومستر هايد" يبدو ظهور الأخوين في مشاهد الفيلم. من جانب، راكان هو المقبول اجتماعيا، والمُستقيم على الأقل ظاهريا، والذي يزعجه التجلي المُستمر للثقوب والدوائر في محيطه، وهو لا يملك سيطرة عليها، إلى حد أننا نستنتج أن في الأمر عقدة نفسية من أشكالها. وعلى الجانب الآخر، تركي المجرم سابقا، ولا يمتنع عن ممارسة بعض الأعمال الخارجة على القانون، إن منحته مالا ولو قليل يُعيل به أسرته. لكن تركي، لا يُفكر بهذا المنطق الذي تُكتب به هذه السطور مثلا، ولا الذي يُحاول به راكان أن يُدير حياته، بل هو يعيش حياته المُظلمة، والظلام قسم أساسي من صورة الفيلم، في نوع من الاجترار السيكوباتي، ولا يكفّ، خلاف أخيه، عن إحداث الثقوب، ربما انتقاما من العائلة، ومن الأخ، على ما لا نعرفه تحديدا.

قد يكون سوء معاملة من الأم، تفريق بين الأخوين، وربما من النبذ الاجتماعي الذي يتعرض له بعد خروجه من السجن، وعجزه عن عيش حياة طبيعية خارج الظلام. في المُحصلة، يهدم تركي ما يبنيه راكان، أو هذا على الأقل ما يتسرب إلينا، حتى إنه يُمكن تأويل حضور الشخصين في الفيلم، على أنه حضور لشخص واحد يُعاني من انقسام الشخصية، جرّاء عنف عائلي غير مُعلن.

في الفيلم استخدامات تجريبية جمالية للعدسات، واجتهاد كبير في الأداء عند مشعل المطيري، وفيه أيضا استكشاف سينمائي مُلفت لأزقة وأطفال حُفاة وعوالم فقيرة، تلك التي يتخبط فيها تُركي، صحيح أن "ثقوب" يُخلف لنا أسئلة وغموض وحيرة لا يحسمها، أو يُجيب عنها، إلا أنه يبقى تجربة فيلمية جريئة ومختلفة وسط الإنتاجات السعودية الحالية

"نوار عشية"... الحرقة التي تأكل شباب تونس

من تأليف وإخراج خديجة لمكشر، يأتي الفيلم التونسي "نوّار عشية"، المشارك في المسابقة الدولية للمهرجان (نتوقف عنده لأهميته رغم عدم حصوله على جوائز)، الذي يروي في مستواه الظاهر، حكاية يحيى (إلياس قادري)، الشاب المسكون بهاجس الهجرة عبر المتوسط، ومع ذلك يخشى الموت بحرا. هذا التناقض هو الذي يصنع في طبيعة الحال، الصراع الجواني عند يحيى، الذي يستعر مع وضعه الاجتماعي الهامشي، كإبن ناشئ في حيّ فقير، لأبٍ سكير عنيف، وإحاطته بأصحاب غير مستقيمين تماما. بؤس حياته العاطفية وانسداد أفق الحياة أمامه على البر، ذلك كله يغويه بشق البحر، إما ليبدأ حياة جديدة، وإما ليموت بين ذراعي حورية بحر متوهمة، يرسمها على جدران غرفته، ويحلم بها تتلقفه في كل مرة يسقط فيها إلى الأعماق. يخلق هذا الوضع، غضبا وكبتا في نفس يحيى، الذي يلزمه الكثير من الوقت حتى يلتقي دجو، مدرب الملاكمة (يونس ميكري)، ومساعدته روكي (فاطمة بن سعيدان)، وينخرط في ممارسة الملاكمة، ويحقق نجاحات سريعة، تجعل منه بطلا في الرياضة العنيفة. غير أن هذا كله، لا يبعد عن رأسه حلم الهجرة.

الهجرة من حيث هي حلم يحيى وكابوسه، ترمز لها المخرجة خديجة لمكشر، هنا في فيلمها الروائي الأول، بالبحر الأبيض المتوسط، الشاسع، المغوي، وخصوصا حين تُعبّر الصورة عن تدرجاته اللونية وتفاعلاتها مع المواقيت المختلفة للنهار، لكنه كذلك البحر المخيف بابتلاعه جثث المهاجرين الحالمين، ثم لفظهم المُفزِع لاحقا إلى الشاطئ التونسي. حتى إن المخرجة قالت في الندوة التي أعقبت عرض الفيلم إن عديدين من أهل البلد، يزورون البحر، بدلا من القبر، ويقرأون أمامه الفاتحة على أرواح أولادهم، مما يبين إلى أي حد تتفشى ظاهرة "الحرقة" حسب التعبير التونسي، أو الهجرة غير الشرعية وغير الآمنة في المجتمع التونسي.

على الرغم من هنّات السيناريو والمونتاج، يبقى "نوار عشية" ثرياً على مستوى الجماليات البصرية والصوتية

"نوار عشية"، تعني نوعا من الزهور ينبت في المزابل، ويموت في اليوم التالي، في إسقاط على أرواح الشباب. الفيلم لا يروي الحكاية بصورة خطية مرتبة، بل يعتمد على القفزات الزمنية السريعة، وغير المبررة أحيانا، واللقطات المبتورة، الموزعة، التي قد تبدو بلا معنى في عرضها الأول، لكنها تُفهم بشكل أفضل في النصف الثاني من الفيلم. هناك تتحوّر سردية الفيلم، أو تتضح، وبدلا من التركيز على يحيى، تضعه في سياق أوسع، هو الشعور العام بالاستياء، وكأن هذا اليأس هو الدافع الحقيقي للذهاب في اتجاه البحر.

على الرغم من هنّات السيناريو والمونتاج، يبقى "نوار عشية" ثرياً على مستوى الجماليات البصرية والصوتية، كما أن احتضانه صورة حورية البحر، برمزها الأسطوري والجنسي وحتى الطفولي، منح رقة ما للفيلم الأليم. وبدت الأغنيات المعبرة عن رحلة يحيى، وأصوات الحيتان التي لازمت الموسيقى، والغناء الأنثوي الناعم لحورية البحر تلك، أقرب الى نداء بديل من عالم آخر، ولو كان مظلما ومجهولا تماما.

 

مجلة المجلة السعودية في

24.11.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004