كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

سمير فريد.. الفريد - ملف_خاص

سيد محمود يكتب:

التقدمى الأنيق

عن رحيل الأستاذ وعميد النقد السينمائي

سمير فريد

   
 
 
 
 

كشف موت الناقد السينمائى «سمير فريد» عن حجم الفراغ الذى يمكن للثقافة المصرية أن تعانيه فى غيابه، فالرجل لم يكن فقط ناقدا سينمائيا شهيرا وإنما كان أكثر من ذلك بكثير.. هو مؤسسة بكل ما تعنيه هذه الكلمة سواء على صعيد العطاء المهنى الممتد لأكثر من خمسين عاما أو على صعيد علاقاته الدولية والعربية فى المجال السينمائى أو حتى فى القضاء الثقافى العام، وقد قدر لى أن ألتقى به وأتعرف عليه بشكل مباشر قبل حوالى 12 عاما بعد سنوات كنت أحتفظ فيها بمقعد القارئ والتلميذ وخلال تلك السنوات وربما قبلها بقليل كتبت عنه عدة مقالات كان كريما فيها بكل المعانى.

لم يبخل بنصيحة أو بأى أنواع العطاء التى يحتاجها تلميذ بنى الجانب الأكبر من معرفته بالسينما واتجاهاتها على ما كان يكتبه هو والناقد العزيز الكبير رءوف توفيق فى مجلة «صباح الخير» فبفضلها تكونت ذائقتى  الجمالية فى هذا المجال وظل لهما القول الفصل فيما ينبغى أن أعرفه أو أراه، غير أن الأقدار المهنية قدرت لى التواصل مع الأستاذ «سمير فريد» وحده ربما لأن تركيبته الشخصية جعلته أكثر حرصا على تنمية علاقاته مع الأجيال الأصغر والتواصل معها بشكل حميم، والمؤكد أن النقد السينمائى فى الصحافة المصرية عرف مساهمات كانت تدور كلها فى إطار النقد الانطباعى الذى يفتقر إلى الرؤية والمنهج حتى جاء الراحل وأعطى لتعبير الناقد السينمائى وزنا، لم يكن قائما قبل احترافه لهذا المجال ويعرف المتابعون لكتاباته أنه وخلاف آخرين عاصروا تجربته وبدأوا معه ظل دوما حريصا على أن يمارس دوره كصحفى على استعداد لكتابة الخبر والتحقيق والحوار إلى جانب مقالات الرأى ومراجعات الأفلام، إذ لم يتعال أبدا على الممارسة الصحفية أو ينظر إليها تلك النظرة التى ورط فيها البعض بالتقليل من أهمية ما يمكن أن تقدمه الصحافة بين خدمة للقارئ الذى له الحق دائما فى أن يعرف أكثر. وتشهد مقالاته سيما مقالات «المصرى اليوم» على حس عميق بالخبر وكانت نادرا ما تخلو من الحس العالى بأهميته كمعطى أولى فى أى تجربة صحفية، وبالإضافة إلى هذا الجانب يظل للراحل فضل من نوع آخر يرتبط بقدرته الفائقة على دعم أجيال من الموهوبين فى الكتابة وصناعة السينما فى كل تجلياتها المختلفة، لكن لم تكن هذه القدرة محكمة بنظرة أبوية تسلطية تقوم على احتكار المعرفة أو الوصاية وإنما ترتبط برغبته فى الانفتاح على الأجيال الأصغر ودعم تجاربها وحريتها فى الاختيار والممارسة المغايرة لتجربة الجيل الذى كان أحد أفراد طليعته المميزة، لكنه بخلاف الكثير من هؤلاء لم تكن أفكاره تنطوى على التسلط، فقد ناضل كثيرا ودفع ثمن رؤاه القائمة على نبذ الاستبداد فى أشكاله المختلفة، ومن يرجع لمقالاته بإمكانه أن يكشف فيها عن الإيمان المبكر بأهمية مراجعة التجربة الناصرية والإيمان بالفصل التام بين ما كان يمثله نموذج الرئيس «جمال عبدالناصر» كزعيم وطنى حر وبين الإرث الثقيل لتجربته السياسية المحملة بولع بصورة «المستبد العادل»، غير أن هذه المراجعة لم تحمل أبدا تقديرا لما فعله زمن الانفتاح الاقتصادى وقيم الثورة المضادة التى أشاعها نظام الرئيس «السادات» لذلك مثل سمير فريد نموذجا واضحا ليس فقط للمثقف العضوى بالمعنى الجرامشى فيما يتعلق بالالتزام وإنما للمثقف القادر دوما على المراجعة والنقد الذاتى باعتبارها درجة من درجات «الاجتهاد» الذى لم يكن لصاحبه أو يخطئ أو يصيب، وهى قيمة أخرى كانت تشيع فى كتابات الراحل والتى تخلص فيها من صورة «المثقف الرسولى» «حامل الرسالة» لأنه كان يؤمن بالدور أكثر من إيمانه بالرسالة، لذلك ظل دوما من المتحمسين لنشاطات المجتمع المدنى والمطالبين دوما بمراجعة دور الدولة فى الثقافة طالما أصرت على أن تمارس دورا توجيهيا وإرشاديا واعيا إلى دور الرعاية وليس دور الإرشاد.

وعلى قلة الحوارات التى جمعتنا معا فقد دعوته مرارا  لكتابة سيرته الذاتية وكلى ثقة أنها سيرة رجل «عاش» بكل ما تعنيه كلمة «العيش» من معنى حتى بدلالاته الشعبية، عاش بالأناقة التى تلزم رجل كان ندا للنجوم يعرف أن لديه أصابع من نور تعطى الضوء الكفيل بإطلاق أى موهبة.

وكأى قاض نزيه ظلت أحكامه النقدية مرجعا فى كل الأزمات وخاض معاركه دفاعا عن قيمة جمالية وانحياز لقيمة وليس لمصلحة ويكفى هنا أن ذكر رهانه المبكر على مخرجى الواقعية الجديدة «عاطف الطيب ومحمد خان وداود عبدالسيد» والذين اتهموا بأنهم مخرجو أفلام «الصراصير» دافع «فريد» على أفلامهم بطريقة انتصر لها التاريخ، حيث أصبحت الآن من علامات السينما المصرية وأحسب أن هذا الانحياز هو ما يؤكد أن «سمير فريد» «الأنيق» فى سلوكه ولغته كان تقدميا طالما كانت هذه الكلمة تنطوى على انحياز للمستقبل ظل يلازمه حتى بلغ دار العودة.

####

سمير فريد.. الكبير

بقلم: أسامة عبد الفتاح

فى منتصف ثمانينات القرن الماضي، كنت مراهقا يعشق السينما ويرنو إلى العاملين تحت أضوائها حين كنت أزور زميل الدراسة، محمد سمير فريد، فى بيته بالزمالك، وأطلب منه أن يرينى خلسة غرفة مكتب والده الناقد السينمائى الكبير، الذى كنت أعرفه بحكم قراءتى لما يكتب، وعلاقة الود والزمالة التى كانت تربطه بوالدى رحمه الله.

قبل الأعداد الكبيرة جدا للكتب والدوريات السينمائية وشرائط الأفلام «فيديو وقتها، لم يكن هناك سواه»، أذهلتنى قدرته على الأرشفة والتوثيق، حيث كان يحتفظ بأرشيف مرتب أبجديا لكل ما كان يُكتب فى أو عن السينما، داخل وخارج مصر، فى ملفات أنيقة متشابهة، كما كان يمتلك أرشيفا مرتبا أبجديا لصور الأفلام، بحيث يكون هناك مظروف لكل فيلم فيه عدد من صوره الفوتوغرافية.. ولما كان كل ذلك الترتيب يدويا، لأن تلك الفترة لم تكن قد عرفت بعد الإنترنت وغيرها من أوجه التكنولوجيا، فقد أدركت حجم المجهود المبذول لتكوين مكتبة كهذه، وأدركت أيضا أننى إزاء كنز معرفى لا بد أن يكتب مالكه كما كتب سمير فريد، ولا بد أن يتميز كما تميز.

منذ ذلك التاريخ، ظل فريد بالنسبة لىموجودا، كبيرا، داعما ومساعدا ومرجعا، مثل المعرفة بالمكتبات، غير قابلة للغياب، لذلك كانت صدمة رحيله، الثلاثاء الماضي، كبيرة وقاسية وإن لم تقدر على الحضور الطاغى وكان الحزن عاما ومريرا وعظيما إلى درجة أدهشت من لم يعرفوه على حقيقته، وجعلتهم يلمحون إلى أن ردود الأفعال على رحيله مبالغ فيها، وأحدهم تساءل فى استنكار: هل كان ملاكا لا يخطئ؟

والإجابة عندي: لا طبعا، لم يكن سمير فريد ملاكا، وكانت به مثل كل البشر عيوب كثيرة أعتبر نفسى من أكثر الناس معرفة بها، وكنت أيضا من أكثر الناس اختلافا معه، بل ان خلافاتنا وصلت إلى صفحات الجرائد فى مقالات مباشرة وعنيفة، ولكن ذلك لا يمنع أبدا أن فريد شخص عظيم وخسارتنا فيه فادحة.. ولا أقصد هنا الصحافة ولا النقد ولا حتى السينما، بل ان رحيله خسارة للإنتليجنسيا العربية، للعقل الجمعى العربى كله كمؤرخ ورائد للتوثيق، وكمثقف تقدمى مستنير ومنير،  وكصوت عاقل مختلف يحتكم إلى الوقائع والمعلومات ولا ينجرف وراء الشعارات الإنشائية والحنجورية، وكرأى حر طليق يغرد خارج السرب ولا يعرف ترديد أهازيج الرياء والزيف وراء أى جوقة، والأهم من هذا كله: خسارتنا فيه فادحة كرمز حقيقى للتسامح يطبق روحه السمحة على خصومه قبل أصدقائه، ويدعو دائما للسلام، ويترفع عن الصغائر، ويتصرف طوال الوقت ككبير، ومن اختلفوا معه مثلى يعرفون ذلك جيدا.

مؤرخ ورائد للتوثيق ومثقف تقدمى مستنير وصوت عاقل مختلف يحتكم إلى الوقائع والمعلومات ولا ينجرف وراء الشعارات الإنشائية ورأى حر طليق يغرد خارج السرب

لم يتوقف منجزه عند حدود النقد السينمائي، الذى حوله إلى مهنة مرموقة يتطلع إليها شباب الوطن العربي، ولا عند نشر الثقافة السينمائية، حيث شارك فى تأسيس وإصدار العديد من الدوريات السينمائية، فضلا عن أكثر من 50 كتابا تحمل اسمه، ولم يتوقف كذلك عند دعم الجمعيات السينمائية المصرية والعربية، التى شارك فى تأسيس العديد منها، بل ساهم أيضا بفاعلية فى تأسيس وإدارة العديد من المهرجانات السينمائية المصرية والعربية. ولا بد هنا من التوقف عند رئاسته الدورة الـ36 من مهرجان القاهرة السينمائى الدولى عام 2014، والتى أراها تتويجا لمشواره الطويل بنجاحها الواضح والملموس للجميع.

ولأن فريد يدرك أن السينما يجب أن تصل إلى جمهورها باعتبارها ذاكرة البشر والشعوب، فقد كان لا بد أن يتغلب على مشكلة القاعات الفارغة التى تعانيها جميع المهرجانات السينمائية فى مصر، وقد نجح فى ذلك إلى حد كبير، ورأى كل من تابع العروض التزاحم والإقبال الشديد على معظمها إلى درجة التدافع والمشادات بين الجمهور وأفراد أمن قاعات دار الأوبرا المصرية التى احتضنت جميع البرامج والأنشطة.

ورغم أننى كنت من الذين استاءوا بعض الشيء من صعوبة دخولهم الكثير من العروض وعدم تمكنهم من الحصول على أماكن لائقة للمشاهدة، إلا أننى كنت فى نفس الوقت فى غاية السعادة لوصول السينما إلى مستحقيها، ونجاح المهرجان فى توصيل أفلامه، ليس فقط إلى النقاد والصحفيين، ولكن أيضا إلى السينمائيين والكثير من المشاهدين العاديين.. وقد أعلن فريد فى كلمته خلال حفل الختام أن عدد رواد القاعات وصل إلى 21 ألف شخص، كما بلغ إجمالى مبيعات معرض المطبوعات الثقافية الذى أقامه المهرجان فى مركز الهناجر إلى 100 ألف جنيه.

وفيما يخص نشر الثقافة السينمائية، من الإنصاف القول إن المهرجان نجح فى ذلك وقتها بامتياز، فقد أصدر 12 كتابا مجانيا لعدد من النقاد والصحفيين الجادين، فضلا عن نشراته اليومية ومعرض مئوية المخرج الكبير هنرى بركات ومعرض المطبوعات الثقافية الذى ضم مئات العناوين والأفيشات ونسخ الأفلام.. كما أُقيمت على هامش المهرجان حلقة بحثية عن هموم مهرجانات السينما فى العالم العربى أصدرت ورقة عن كل منها فى كتيب منفصل.

دورة يصفها الكثيرون بأنها من ضمن الأفضل فى تاريخ مهرجان القاهرة السينمائي، وكانت بمثابةالدرس الأخير من الأستاذ، وآن الأوان لكى نتعلم الدرس ونستفيد منه، فهذا هو التكريم الحقيقى لمن يرحلون بأجسادهم ويتركونعلما يُنتفع به، ويأتى فى رأيى قبل منح الدروع وإطلاق الأسماء على الشوارع والمنشآت.

####

دهشة السينما التى عرفناها من خلاله

بقلم: أمير رمسيس

بحكم أننى انتمى لجيل ما قبل الإنترنت.. كانت الكتب و الصحافة النقدية المنشورة هى تلك السفينة التى تعبر بنا محيطات مجهولة لنتعرف على قارات سينمائية جديدة لم تطرق من قبل وبلا شك كان سمير فريد بكتاباته قبطانا مفضلة للذة الرحلة «المقال او الدراسة المكتوبة»  ولدهشة القارة الجديدة «المخرج الجديد الفيلم الجديد» الذى كان يكشفها لنا بقلمه فى رحلاته التى لم تتوقف للمهرجانات الكبرى فى العالم ».

عرفت قلمه قبل ان اعرفه شخصيا.. مراهقا فى الصف الثانوى، السينما بالنسبة له هى كلاسيكيات فللينى وبازولينى وفيسكونتى ولا يعرف فى مصر سوى يوسف شاهين وصلاح أبو سيف وشادى عبد السلام.. يبحث المراهق عما يقرؤه فى السينما ليكتشف كتاب سمير فريد عن جيل الثمانينات ويخوض رحلته الاولى الى مكتبة غير مدرسية ليكون هذا الكتاب اول ما يمتلك عن السينما .. هذا كان أنا .. قرأت الكتاب وتعلقت بطريقة سمير فريد للتحليل السينمائى وكنت محظوظا لاكتشاف عوالم خيرى بشارة وداوود عبد السيد والميهى من خلاله قبل ان تتحدد رؤيتى بالنقد محدود الرؤية الذى حصر هؤلاء السينمائيين فى علاقة افلامهم بالصراع الطبقى او بالمهمشين .. نهلت من نبع تلك الأفلام التى قرأت عنها قبل أن أراها ورأيتها بعينيه كسينما خالصة .. كان سمير فريد هو ذلك المستكشف الاول الذى عرفت منه السينما فى بلدى بعد ان ركبت سفينته..

لم أتوقف عن متابعة كل ما امكن من كتاباته والتسلل لأى ندوة اعرف انه يعقدها سواء فى جمعية النقاد او أى مكان آخر.. حتى جاء اليوم و صار المراهق مخرجا يصنع الأفلام القصيرة وتعارفنا.

كان سمير فريد يبدو لى دائما كما لو كان يخرج من رواية ما.. بملابسه الرسمية التى لا يتنازل عنها صيفا او شتاء.. حين كنت أتخيل بيترو كريسبى الايطالى الوسيم المتأنق فى مائة عام من العزلة حين يكبر فى السن لم أكن لآتخيل صورة أخرى له.

بالرغم من رسمية ملابسه إلا ان روحه كانت ابعد ما تكون عن ذلك.. أتحدث عن أستاذ النقد الذى يتوجه هو اليك بالحديث بعد ان يرى فيلمك القصير الأول مسهلا عليك هاجس الاختراق الذى تخشى منه بشخصيتك الخجولة.. لتصير عادة أن يتحدث اليك عن افلامك ومعرفة رأيه فيها ادمانا لا شفاء منه.

جمعتنا صدف كثيرة فى السينما بحكم تفضيلنا لقاعات متشابهة وبالطبع التقينا فى مهرجانات عدة خارج حدود الوطن و لم يكن يبخل فى أى وقت سواء برأيه فى الفيلم الذى نراه.. او معلومة ما او نصيحة بفيلم جديد لا بد ان أراه .. ربما كان اللقاء الأخير المطول فى المؤتمر الصحفى لاحد المهرجانات والذى شجعنى فيه على تجربة فيلمى الأخير واننى لا ينبغى ان أتوقف عن صناعة الأفلام وأنه من السخف ان يضيع المخرج ست او سبع سنوات من عمره بين الفيلم والاخر عاملا حاسما فى قرارات كثيرة أخذتها لاحقا..

الشهادة الأخيرة التى ينبغى ان اذكرها هى موقف تعرضت له من سنتين انا ومجموعة من المخرجين العرب من مهرجان ما وقمنا بصياغة بيانا احتجاجيا على ممارسات هذا المهرجان وارسلته للعديد من الأصدقاء والأساتذة للمشاركة متوقعا الاعتذارات الكثيرة بحكم المواءمات و أن الكثيرين سيفضلون الا يخسروا إرادة المهرجان وتحديدا كبار الشخصيات.. تلقيت اتصالا تليفونيا منه بعد عشر دقائق من ارسال الايميل ليخبرنى بأنه يرغب بلا شك بالتوقيع معنا وكان من اول الأسماء المتضامنة ضاربا عرض الحائط بأى علاقة مع هذا المهرجان مفضلا ان يكون كعادته دائما : مع السينمائيين حتى آخر نفس فى قراءة افلامهم .. فى الدفاع عنها .. فى الدفاع عن حقوقهم

أستاذى سمير فريد ربما كانت كتاباتك سفينة أبحرت فيها الى السينما كما صرت اعرفها اليوم وربما كنت قررت أن ترحل وحيدا فى رحلة سنلحق بك فيها يوما ما.. ولكننى أشكرك على كل المتعة التى قدمتها لى ولمحبى السينما العرب و نحن ركابا على سفينة قلمك التى تحملنا نحو تلك الآفاق الجديدة للفن السابع.

####

سمير فريد الذى أُحبه

بقلم: د. أمـل الجمل

فى واحدة من تلك الليالى السود التى كانت تشتاق للنهار ولا يأتى أبدا، وقت اشتداد أزمة فيلم آخر أيام المدينة للمخرج تامر السعيد، والإصرار المتعنت من المسئولين على منع عرض الفيلم داخل أى قسم من أقسام المهرجان القاهرى نوفمبر 2016، فى تلك الليلة بينما كنت أتحدث مع المخرجة ذات البصيرة القوية هالة لطفى فجأة هلت علينا نسمات عطرة من سيرة سمير فريد، كان فى القلب والخاطر، الأزمات تستدعى الناس الجميلة صاحبة المواقف الصلبة، الكاشفة عن الثقافة الحقيقية. ليلتها عرفت أن المرض اشتد عليه، وأن زوجته والصديقة العزيزة منى غويبة تسانده وتدعمه بقوتها وروحها المرحة. حماس هالة وخوفها عليه والإشادة بدوره على أبناء جيلها وأجيال سابقة فتح باب فى قلبى لم يغلق للآن، وأظنه لن يفعل أبدا. المديح لم يمنعنا من ذكر مآخذ أو انتقادات لكن هالة ختمت حديثها معي: “يا أمل الحاجات الحلوة الكثيرة اللى عملها سمير ممكن تغفر له أى أخطاء تانية.. عاوزة تعرفى دور سمير فريد على جيل رأفت الميهى ومحمد خان وخيرى بشارة وعاطف الطيب وأبناء الواقعية الجديدة اقرى كتاب رسائل توفيق صالح إليه…”

كلمات هالة السابقة استدعت من ذاكرتى محادثة تليفونية طويلة لى قبلها بأسبوعين مع المونتير والباحث المدقق والمهموم بالسينما د. مجدى عبد الرحمن عندما أخدنا الحديث لترميم المومياء ووقتها ظل يُؤكد بإحساس يملؤه الامتنان بأن الفضل الأول يرجع لسمير فريد فى الوصول إلى مؤسسة مارتن سكورسيزى وفتح باب التواصل معها مما أدى للموافقة على الترميم.

كانت المحادثتان مثل الخلاط الذى يقلب أفكارى ومشاعرى رأسا على عقب، ثم يعيد الكرة مرات ومرات. شعرت بالارتباك. لكنى بدأت أُعيد تأمل مشوار الأستاذ. ولن أُنكر أننى منذ أفقت من صدمة خبر وفاته شعرت بالتناقض الكبير فى داخلي، كأنى غير قادرة على فهم نفسي، فكيف يكون سمير فريد من أكثر النقاد الذين اختلفت معهم فى الرأي، سواء فى تقييمه لبعض الأفلام، أو بسبب المبالغة أحيانا فى مديح بعض صُناعها، لدرجة أنى كتبت أحيانا بشكل يُغضبه، ولدرجة أننا كنا أحيانا نكتب ونرد على آراء بعض دون أن يذكر أى منا اسم الآخر؟ ثم كيف فى نفس الوقت أحمل له كل هذا الحب الكبير وأكن له كل هذا التقدير؟ ولماذا إذا كنا نختلف سويا فى بعض أو كثير من آرائنا فى السنوات الأخيرة، وإذا كنت أراه يجامل أحيانا فلماذا كان عموده صوت وصورة بالمصرى اليوم هو أول شيء أبحث عنه لقراءته؟

أحيانا فى محاولة لفض الاشتباك وغموض التناقض بداخلى أقول لنفسي؛ ان علاقتى بأستاذ سمير فريد كان فيها شيء أو ربما أشياء من علاقة الأبناء بالآباء؛ فيها الحب والاحساس بالفضل والامتنان له، لكن فى نفس الوقت فيها تمرد ومشاكسة وأحيانا غضب خصوصا عندما تتقاطع او تختلف وجهات النظر، مثل علاقة بنت مع أبيها، رغم أنها تحبه جدا ومعجبة جدا بجوانب كثيرة فى شخصيته لكنها تتمرد عليه، وتُعارضه، ولا تتورع أحيانا فى لحظة غضب من آرائه أن تنتقده علنا!

لكن، ورغم ذلك، لا أستطيع أن أُنكر، ولا أنسى أفضال الأستاذ عليَّ، فكلما أُعيد تأمل مشواره سأجدنى حتما أعترف بفضله على السينما المصرية والمكتبة النقدية، وبفضله عليَّ أنا أيضا ليس فقط لأنه كتب فى مقاله صوت وصورة بصحيفة المصرى اليوم يمتدح بعض كتبى أكثر من مرة ويدافع عنها، أو لأنه كان من أوائل الكتاب الذين كتبوا عنى فى بداية مشوارى النقدى وتحديدا عندما كتبت أنا تحليل لفيلمى يوم الاثنين وغير خدوني للمخرج تامر السعيد فكتب الأستاذ سمير مقالا بعنوان الأجيال وصُناع السينما واعتبر تحليلى للفيلمين وقتها بمثابة البداية الحقيقية لنقد السينما المستقلة لناقدة تنتمى إلى نفس الجيل وهو أمر منحنى قدرا من الثقة والاعتزاز لأتابع ما بدأت، وأيضا كان بمثابة صك الاعتراف بى كناقدة بين الآخرين، وهو ما أثر على شكل وطبيعة تعامل الوسط النقدى معى بعدها.

صحيح أننى لا أنسى ولا أُنكر أن أساتذة كبار وزملاء آخرين كتبوا مقالات امتدحوا فيها كتبى ودراساتي، لكن تأثير منهجية سمير فريد امتد إلى طموحى الكبير، وأسلوبى فى العمل البحثى من خلال مقالاته وكتبه وآرائه وأحاديثه عن غياب الأرشيف السينمائى وافتقاد قواميس علمية عن الأفلام العربية، فرغم أننا فى بعض الأوقات كانت وجهات نظرنا تختلف أو تتقاطع، وربما كانت آرائى تُغضبه فى أوقات أخرى مثلما كانت بعض آرائه تغضبنى أحيانا، لكن الأكيد أن أسلوبه فى الكتابة والتوثيق والتأريخ والتعامل مع الفيلم والقضايا السينمائية لعب دورا مهما فى تشكيل أسلوبى البحثي، وفى أهمية أن أحرص على تكوين أرشيفى الخاص، وعلى توثيق المعلومات، وعلى توظيفها فى مكانها الصحيح بالدراسة والمقال، وكان حلمى ولا يزال أن تتسم كتاباتى بدقة ومصداقية وموضوعية التأريخ. ولن أخجل أن أعترف أننى ذات يوم كنت أحلم بأن أكون النسخة الأنثوية من سمير فريد فى النقد وتدقيق، وتوثيق المعلومة، والتأريخ للسينما المصرية وعمل أرشيف لها؟ لكن للأسف لم أنجح فى مواصلة ذلك، بينما الأستاذ كان نفسه أطول، وأكثر دأبا وحماسا وإخلاصا لشغفه وعشقه الأول.

مع الأستاذ سمير فريد لم أشعر، ولو لمرة واحدة، بالغيرة التى تنتاب أبناء المهنة الواحدة، فقد كان يسعد بظهور نقاد جدد جادين على الساحة النقدية، ويفرح بهم عندما يراهم يجوبون المهرجانات السينمائية الدولية، فلا يخشى منافستهم له كما يفعل البعض، ولكنه يأخذ بأيديهم، ويشجع الباحثين وكأنه يبنى مؤسسة لا يرى جدرانها وهيكلها أحد غيره هو، كأنه يبنى بهؤلاء حلمه، أو يتوسم فيهم أنهم سيُكملون مشروعه الذى بدأه واستمر قرابة الخمسين عاما. كان يتأمل الكتابات من حوله، وتلتقط عينه وحاسته النقدية والثقافية وخبرته تلك الموهبة، ويدعمها ويساندها إذا لجأت إليه أو إذا أتاحت الفرصة لقاءهما، ويشيد بها على عموده الصحفي، فلن أنسى أبدا أننى قبل أن يكتب مقاله الأول عنى بحوالى خمس أو ست سنين، وقبل أن أفكر فى أن أكون ناقدة سينمائية، وقبل حتى ما أدرس النقد، كنت وقتها لا أزال أعمل على إعداد برامج للتليفزيون وكنت أفكر فى العمل على كتاب الإنتاج المشترك فى السينما المصرية واتصلت بسمير فريد بناء على اقتراح من أستاذ محمد عبد الفتاح ربنا يُمد فى عمره بالصحة وحكيت لأستاذ سمير عن الفكرة لعله يساعدنى باقتراحات أو مراجع، والمؤكد وقتها أنه لم يكن يعرف من أمل الجمل هذه، وربما لم يسمع عنها، لكنه فرح جدا بموضوع البحث وشجعنى قائلا: “خلصيه وأنا أنشره لك فورا فى مكتبة الاسكندرية”.. وبعدها بيومين اتصل بى وقرر أن يُقيم ندوة بمكتبة الاسكندرية كى أحاضر فيها عن أحد هذه الأفلام – “الصقر” – وكانت تجربة شيقة ممتعة لن أنساها. ثم حدد لى موعدا لأقابله وفوجئت به يقدم لى حقيبة مليئة بأوراق وكراسات مجلدة عن ندوات أقيمت عن الإنتاج المشترك فى باريس إلى جانب الكتب التى يعتقد أنها ستُفيدنى فى بحثي، فعل هذا هو فقط والأستاذ محمد عبد الفتاح بينما ساومونى آخرون على ما لديهم من معلومات.

سمير فريد لما كنت أسأله عن كتاب أحتاج إليه بشكل مُلح فى أى بحث أو فى مرحلة الدكتوراه كان يُصور لى نسخة من مكتبته ويجلده ويُرسل به إلي، هذا بخلاف الكتب التى أهداها لى فى أكثر من مناسبة، وغير كتبه اللى أرسلها إلى بالإيميل عندما أخبرته أننى لم أجدها فى المكتبات.

لن أنسى أبدا عندما التقيته فى مطار القاهرة نهاية أغسطس 2015 وابتسامته كم كانت جميلة مبهجة عندما علم أنى مسافرة لأحضر مهرجان فينيسيا للمرة الأولى، وقتها قال لى كأنى ابنته التى يفتخر بها تعالى أبوسك وضحكنا أنا ومنى زوجته الرائعة، وشعرت إنى كالطائر بجناحين من الفرح بعد أن كنت أشعر بالرهبة أنى أسافر لوحدى فى تجربة أعتمد فيها على نفسى كليا، لكن استقباله وفرحه جعلنى أنسى القلق والتوتر وأفرح جدا، جعلانى أشعر أنهما الاثنين سيكونان لى سندا فى الغربة.

سمير فريد مثلما ساند بكل قوته جيل الواقعية الجديدة لم يكتف بالكتابة عن الأجيال الشابة والواعدة والمتميزة، لكنه كان يساندها بالبحوث والمراجع، وبخبراته، كان يمنحنا من مكتبته وأرشيفه، وهو أمر نادر الحدوث وهو فى ذلك يُذكرنى أيضا بشخصية الرائعة د. نهاد صليحة.

الأستاذ والقامة الكبيرة سمير فريد ورغم أى ملاحظات واختلافات فى الآراء معه كان وما زال بالنسبة لى جبلا شامخ من الصعب على نقاد جيلى أو أجيال أخرى أن يصلوا لما حققه وأنجزه هو. صعب جدا. فمن الصعب إلى جانب منجزه النقدى أن تجد ناقدا مثله يمتلك تلك السماحة، وهذه الروح والرغبة والطاقة فى أن يُعطي، ويظل يُعطي، ويساعد ويدعم السينمائيين وشباب النقاد، سمير فريد كان عنده قدرة على العمل الجماعى دون أن يتخلى عن تلك الروح الحلوة المرحة، كان يستطيع أن يجمع الناس من حوله فى مشروع مهم، ويُقدرهم ماديا ومعنويا وأدبيا، دون أن يمارس عليهم السلطة.

حزينة أنا لفقدانه، لأنى لم أجلس معه كفاية، ولم أنهل من حكايته وخبراته وكرمه أكثر وأكثر، حزينة لأنى لم أنجح فى الإسراع بتحقيق الحلم الكبير الذى وعدته به، والسلوى الوحيدة التى تصبرنى أحيانا وتخفف من وطأة الإحساس بالذنب أنى كتبت له من فترة أعترف له بأفضاله على بشكل شخصى منذ كنت أدرس بكلية الإعلام جامعة القاهرة، منذ قراءة كتابه الصراع العربى الصهيونى فى السينما رغم أنى وقتها ولا كان فى بالى ولا فى خيالى إنى سأكتب نقد سينمائى فى أى يوم من الأيام..

لن أنسى عندما أرسلت له رسالة من فترة قصيرة أخبره؛ نفسى أعمل عنك كتابا يكون جزءا أساسيا منه حوارات معك، وأعدك سيكون كتابا مختلفا، متميزا، ويليق بك”… فكان رده يسعدنى ويشرفني:”… لما وصلنى الرد منه شعرت كأنى لمست السماء بيدي.. وظللت أقول لنفسي؛ معقولة الأستاذ وهذا الجبل الكبير بكل تاريخه يقول لى أنا يسعدنى ويشرفني؟!

الآن اعترف بالحقيقة أن الأستاذ سمير أثر فيَّ وفى أجيال، وفضله علينا كبير وممتد، الآن أقول إن حظى سيء، بل شديد السوء لأن واحدا من أهم وأجمل أحلامي، واحدا من أهم وأجمل الكتب التى كان نفسى أعمل عليها على شكل مشاغبات تقول الكثير عن رحلته ومشواره وفى نفس الوقت تدرس تجربته النقدية ومشروعه الضخم للأسف أُجهضت لأن سمير فريد الأستاذ والمعلم والصديق سافر وأخد معه الحلم الجميل.

####

السينما المصرية تطرق باب الخلود

بقلم: صلاح هاشم

علمت فقط فى التو بخبر وفاة الصديق الناقد السينمائى الكبير سمير فريد، خسارة كبيرة لثقافة السينما فى مصر والعالم، على درب التنوير .الله يرحمه، البنّاء الكبير، حزنت جدا..وبكيت.. لموته، ولسوف أفتقد دوما طيبته وإنسانيته، فكره وثقافته، ومصريته العميقة، وكنت أنتظر أن ألقاه قريبا جدا فى مهرجان كان السينمائى السبعين، لندخن سويا سيجارة فى شرفة المكتب الصحفى للمهرجان، ونحن نطل على البحر، ونتحدث عن حال بلدنا مصر، ونسافر مع أفلام المهرجان إلى هند أخرى أو يوتوبيا جديدة، لم نكتشف سحرها بعد، فيما وراء التلال ..

كان سمير فريد عندما التقى به فى المهرجان، ومنذ أن بدأت عام 1982 أغطى المهرجان وقائعه وأفلامه لمجلة الوطن العربى الاسبوعية فى باريس كان يمثل بالنسبة لى مصر كلها، بأرضها وسماها، وعيالها وشمسها، اى كل ما هو جميل وأصيل، ويفتقده مواطن فرنسى من قلعة الكبش، يعيش فى الخارج، وهو يحمل أطفال موطنه الأصلى حى السيدة زينب فوق جبهته،ويروح يطوف بهم العالم، ولا يستقر ابدا فى مكان..

سمير فريد سفيرا لحضارة السلوك الكبرى

كان سمير فريد سفيرا  لـ حضارة السلوك الكبرى” –السينما كما أحب أن أسميها  – فى بلدى مصر، ومحافظا على تراثنا السينمائى المصرى العريق، بأرشيفه السينمائى الشخصى الضخم، بل وأكثر المؤرخين المصريين بعد الأستاذ أحمد الحضرى -معرفة ووعيا بأدق تفاصيل المشروع السينمائى المصري” – عملية زرع السينما كفن وافد فى مصر مثلها مثل الرواية، وعلى اعتبار أن لو دققنا فقط طويلا أن السينما المصرية هى أعظم سينما فى العالم بلا جدال- وقد كان لها تأثيراتها الكبرى كـ مدرسة للحياة «على» الوعى الجمعى المصرى “ COLLECTIVE CONSCIOUSNESS تاريخه وذاكرته، وقد كان سمير فريد ضميرا لذلك الوعى، بقيمة السينما المصرية العظيمة فى حياتنا.ولذا كنت عندما التقى سمير فريد فى المهرجان وأعانقه، كنت أشعر وكأنى أعانق أهلى وأصحابى فى مصر، وكل تراث السينما المصرية بالأبيض والأسود التى صنعتنا.

حوار مع السينما المصرية

إن القيمة الكبرى لسمير فريد تكمن فى أنه كرس حياته كلها للتوثيق لذلك المشروع السينمائى المصرى الكبير، تاريخه ووقائعه، أفلامه ومخرجيه وذاكرته، وهو الذى خلق لذلك التراث السينمائى المصرى العظيم مرجعيته ، بمقالاته وتقييماته وكتبه، أكثر من أى ناقد آخر وحقق له أيضا حضوره القوي فى المهرجانات السينمائية العالمية، مثل كان و فينيسيا و برلين للتعريف بإضافاته من جهة.

والتذكير من جهة اخرى بأنه ما زال قادرا على العطاء، فى أعمال السينمائيين المصريين الجدد من الشباب، كامتدادات لذلك التراث السينمائى المصرى الرائع وتقاليده، على الرغم من كل الظروف الصعبة، وفى جميع المجالات،التى تعيشها حاليا مصر بلدنا ..

ومن أمتع كتب ذلك التراث السينمائى المصرى العريق من تأليف سمير فريد، أحب أن أذكر هنا بكتابه حوار مع السينما المصرية الصادر منذ أكثر من عشرين عاما عن مهرجان القاهرة السينمائى الدولى الذى يوثق للسينما المصرية وتاريخها، والذى يتصدر مجموعة كتب سمير فريد فى مكتبتي، ولا أمل من قراءاته،أو العودة إليه عند الضرورة وأعتبره كنزا من كنوز التراث السينمائى المصري..

إذ يضم الكتاب مجموعة من الحوارات الرائعة المهمة : مع نيازى مصطفى وأحمد كامل مرسى وهنرى بركات من جيل الأربعينات، ومع صلاح أبو سيف وكمال الشيخ ويوسف شاهين وتوفيق صالح من جيل الخمسينات، ومع شادى عبد السلام وحسين كمال وسعيد مرزوق ومحمد راضى من جيل الستينات، ومع ممدوح شكرى وعلى بدرخان من جيل السبعينات..كما يضم حوارا مع مدير التصوير المصرى العالمى الكبير عبد العزيز فهمي- مصور المومياء لشادى عبد السلام و درب المهابيل لتوفيق صالح وزوجتى والكلب لسعيد مرزوق، وحوارا مع نجمة لعصرها ولكل العصور كما يكتب سمير فريد- سعاد حسنى.

ويكتب سمير فريد فى مقدمة الكتاب: “هذا الكتاب هو احتفالى الذى أقيمه لنفسى بعيد ميلادى الخمسين، وقد دعوت اليه خمس عشرة شخصية من السينمائيين المصريين الذين تحاورت معهم عبر 25 سنة بالضبط، وهؤلاء المخرجون الـ 13 من الأعلام الذين لا خلاف على أهمية دورهم، ولكن هذا لا يعنى أنه لا يوجد غيرهم ممن لا خلاف على اهمية دورهم أيضا، ذلك لأن عندما نتحدث عن السينما المصرية فنحن نتحدث عن سينما كبيرة من سينمات العالم ذات تاريخ عريق ونحو 3 آلاف فيلم سينمائي“.

وتتحق بالفعل عند قراءته، ما كان يصبو ويطمح إليه سمير فريد، حين يضيف فى مقدمة الكتاب:

ما أتمناه أن يكون هذا الكتاب مرجعا من مراجع دراسة هؤلاء المخرجين، ودراسة مراحل تاريخ تطور السينما المصرية فى ذات الوقت.. لقد اخترت الحوارات التى يمكن ان تفيد القارئ فى القاء المزيد من الأضواء على هذه الشخصيات، والتى يمكن أن تجعل من الكتاب تاريخا للسينما فى مصر من خلالهم.

وربما يتساءل القارئ ولماذا التركيز على المخرجين وأين الحوارات مع النجوم من الممثلين والممثلات؟

هناك سببان لذلك : أما الأول فهو اننى جئت الى عالم الصحافة الفنية، ووجدت ان 99 فى المئة من الحوارات مع نجوم التمثيل، و 1 فى المئة مع نجوم الاخراج..

واما السبب الثانى فهو اننى لا أطيق سلوكيات النجوم واحساسهم عند اجراء الحوارات معهم انهم يخدمون الصحف ويروجون للصحيفة ويحسنون اليها. النجمة الوحيدة التى عرفتها ولاحظت انها لا تسلك هذه السلوكيات هى نجمة النجوم سعاد حسني”.

هذا الكتاب المهم حوار مع السينما المصرية لـ«سمير فريد» تكمن قيمته، ليس فقط فى التوثيق لمراحل تاريخ تطور السينما المصرية العظيمة التى صنعتنا، بل فى قدرة كاتبه او بالاحرى مخرجه، قدرته على أن يصنع من خلال كتابه فيلما حيا، ويجعله يحتشد بتلك الشخصيات المصرية البديعة، لكبار المخرجين المصريين،بحكاياتها وبذكرياتها وشهاداتها ودعاباتها وقفشاتها ويجعلها، حين تتكلم هكذا وبهذا الحس الفكاهى المصرى الأصيل وتتحرك فى كتابه.

تطرق هكذا باب الخلود- تحيا سينما مصر ضد الفناء والعدم.

####

سمير فريد.. البستانى

بقلم: عصام زكريا

اقتربت من الناقد السينمائى سمير فريد من خلال عملنا فى مهرجان القاهرة السينمائى الدولى الذى ترأسه لدورة واحدة يجمع الكثيرون الآن أنها كانت من أفضل دوراته.. بالرغم من أننا التقينا كثيرا على فترات متباعدة لأكثر من ربع قرن، كانت أولها عندما تولى رئاسة مهرجان الاسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة، وكنت لا أزال صحفيا تحت التمرين فى مجلة روز اليوسف سافرت لتغطية المهرجان لأول مرة فى حياتي هذا المهرجان الذى أتولى رئاسته الآن بينما رحل سمير فريد عن عالمنا، وهو ما يترك فى نفسى غصة وحزنا مضاعفا لأننى كنت أتمنى أن أقرأ أو أستمع إلى رأيه فى دورة المهرجان القادمة.

سمير فريد كان واحدا من أغرز المصريين إنتاجا، وأكثرهم انتظاما، وتنظيما، ومنهجية. وهو جمع خلال سنوات عمله التى تزيد على نصف قرن بين مهن مختلفة : الناقد السينمائى المتخصص فى كتابة الدراسات العلمية حول الأفلام وصناعها، والصحفى السينمائى الذى يجرى الحوارات ويكتب الأخبار والتحقيقات الفنية، وكاتب المراجعات الصحفية للأفلام والمهرجانات، والمؤرخ السينمائي، والناشط الثقافى الذى يدير وينظم المهرجانات والبرامج . وفى كل هذه المهن سوف تلاحظ أن سمير فريد يملك عقلا علميا منظما ودقيقا مثل ساعة سويسرية.

عرفت سمير فريد من خلال كتبه الكثيرة التى قرأتها، والتى أحتفظ بمعظمها، إن لم يكن كلها، فى مكتبتي. وقبل أن ألتحق بمهنة الصحافة، عندما كنت لا أزال هاويا للسينما والثقافة، كانت قراءة كتبه ومقالاته الصحفية شيئا أساسيا بالنسبة لتكوينى الثقافي، وربما لجيلنا كله. كانت أحكامه القاطعة، والقطعية أحيانا، على الأفلام والسينمائيين المصريين والعالميين تفرض نفسها على أذواقنا وآرائنا الغضة، ولم نكن نستطيع أن نقيمها أو نقاومها أو نتفق ونختلف معها إلا بعد سنوات طويلة من الخبرة والنضج.

لا شك أنه من ناحية التأثير فإن سمير فريد هو صاحب الشخصية الأقوى والأكثر نفوذا من بين النقاد، وهو ما أكسب كتاباته نوعا من السلطة، يتهافت على كسب ودها السينمائيون، ويحسده عليها النقاد.

امتلك سمير فريد نفوذا بطريركيا مخيفا يتمناه أى ناقد. وهو ينتمى لجيل مسيس من النقاد الذين بدءوا عملهم فى ستينات القرن الماضى وانصهروا وتشكلوا داخل دوامة من الأفكار والسياسات والثورات والمذاهب والتيارات السينمائية والأفلام المتميزة التى ظهرت فى الستينات.إنه العقد الأكثر أهمية، ربما، فى تاريخ السينما العالمية، وهو أيضا العقد الأكثر أهمية فى تاريخ مصر الحديث، والأكثر صخبا بالطموحات والانكسارات والآمال والآلآم.

تركت السياسة بصمات كثيرة بارزة على كتابات هذا الجيل ومنهم نقاد السينما. وهؤلاء نقلوا إلينا تصورا عن الفن يمزج بين التذوق الجمالى والموقف السياسى بشكل ليس فقط يصعب التخلص منه، ولكن أيضا يجعل محاولة التخلص منه مصحوبة غالبا بشعور الذنب الأخلاقى والوطني.. وهو تصور بدت بسببه قضية الفصل بين الفن والسياسة أشبه بمعركة الفصل بين الدين والسياسة التى أهدرنا فيها أعمارا.

كان سمير فريد واحدا من أكثر أعلام هذا التصور طلاقة وحماسا، ولكنه كان أيضا من أوائل الذين تمردوا على هذا التصور من داخل معسكره.

فى الحقيقة تسببت محاولات سمير فريد المبكرة للتخلص من التصور الدوجمانى المتصلب للفن باعتباره نشاطا سياسيا ملتزما ووطنيا، وربما أيضا قوميا واشتراكيا بالضرورة، تسببت فى صراعات كثيرة معلنة وغير معلنة مع زملاء المهنة ومثقفى الستينات والقراء المسيسين”.. ولكن الزمن، أفضل حاكم وقاض، أثبت أن سمير فريد كان صاحب رؤية أبعد ورأى أثقب فى معظم هذه المعارك ..وهى معارك لا تزال مستمرة بالمناسبة بأشكال وأسماء مختلفة. فى كل هذه المعارك تقريبا سوف تلاحظ أن سمير فريد يقف على ضفة النهر الأكثر تقدمية وليبرالية والأكثر إيمانا بالمستقبل والشباب.

من بين أبناء جيله والجيل الذى يليهم، ستجده مثلا أول من رحب وتبنى السينما المستقلة وصناعها، وأول من رحب واحتفى بالصحافة السينمائية ومجلات السينما الجديدة من الفن السابع وحتى سينما جودنيوز، وأول من رحب بالأفكار والأساليب الجديدة للمخرجين الشباب. ولو تابعت عموده اليومى الذى كان ينشر فى صحيفة المصرى اليوم لسنوات طويلة ستجد أنه لم يترك عملا أو نشاطا سينمائيا شبابيا لم يقم بتحيته والتنويه به حتى لو كان الكثير منها لا يستحق.. ولكنه الموقف المبدئى والإيمان الثابت بالمستقبل.

يجب أن أذكر أننى أختلف مع سمير فريد وخالفته فى العديد من المرات، حول أفلام أو شخصيات أو آراء سياسية .. وفى أكثر من مرة انتقدته علنا فى كتابات منشورة، ولكنه، للحق، لم يحول هذا الخلاف أو ذاك إلى خصومة شخصية، وعلى العكس أبقى على العلاقة الطيبة والاحترام المتبادل بيننا، ولم يسع أبدا كعادة المصريين إلى البحث عن، أو اختراع، أسباب ودوافع وهمية وراء هذا النقد.

يقودنى هذا إلى الجانب الثانى الذى تعرفت من خلاله على سمير فريد، وهو التعارف الشخصى والزمالة التى ربطت بيننا بعد أن أصبحت أنا أيضا صحفيا وناقدا سينمائيا يجمع بيننا العمل حينا والمناسبات السينمائية أحيانا.

أتذكر، عندما كنت أقوم بإعداد مقدمة لترجمتى لرواية العار للكاتبة البنجالية تسليمة نصرين فى حوالى عام 1996، أن الأستاذ سمير عرف ذلك بالصدفة أثناء حوار بيننا فدعانى لزيارته وأعطانى ملفا صحفيا قام بجمعه عن الكاتبة وأعمالها. وحتى يدرك القارئ قيمة هذا الملف عليه أن يتذكر أن العالم وقتها كان دون جوجل أو ويكيبيديا، ومصر كانت دون انترنت . ولم يكن لدينا أرشيف أو مصادر يمكننا الرجوع إليها سوى ما نقوم بجمعه فى بيوتنا من كتب ومجلات وجرائد وقصاصات صحفية بكل اللغات التى نعرفها . أضف إلى ذلك أن العلاقة بيننا كانت مجرد تعارف مهنى، وأضف إلى ذلك أنه لم يطلب استعادة ذلك الملف، الذى ما زلت أحتفظ به إلى الآن.

كان سمير فريد يملك أرشيفا فيلميا وورقيا مصنفا على الطريقة القديمة يضاهى أرشيفات المؤسسات الكبرى التى نهبت معظم أرشيفاتها على مدار السنين، وما فعله معى لم يكن استثناءا، ولكنها طبيعته وعادته، وقد أخبرنى الكثيرون عن مساعدات مماثلة قدمها لهم دون سابق معرفة.

سمير فريد كما ذكرت، كان لديه حماس مبدئى لكل جديد وللشباب، وهو كثيرا ما ساعد أو تبنى مواهب تبين فيما بعد أنها متواضعة، وهو أمر طبيعى بالمناسبة، لأنك إذا كنت تنوى تشجيع الجديد فليس دورك أيضا أن تعقد الاختبارات والتقييمات قبل أن ترى هذا الجديد. البستانى لا يمكنه تنقية الزهور السليمة من المريضة قبل أن يسقيها ويرعاها لتنمو أولا.. أو كما يقول المثل الشعبى الدارج: “لأجل الورد..ينسقى العليق”… وقد سقى سمير فريد كثيرا من الزهور الرائعة، وبعض العليق، ولكن فى النهاية، لن يحتفظ التاريخ سوى بالأعمال والمواهب الرائعة التى بشر بها، وبالكتابات البديعة التى أمتعنا بها، وبقيت للأجيال القادمة.

####

سمير فريد.. الإنسان

بقلم: محمود الغيطاني

لا أنكر أنى لم أدخل دار عرض سينمائى فى حياتى إلا بعدما أنهيت دراستى الجامعية، كما لا أنكر أنى لم أكن أفهم شيئا فى تحليل الفيلم السينمائى الذى كان مستغلقا عليّ من حيث آليات الصناعة والتكوين واللقطات وغيرها من مفردات صناعة السينما، حتى أنى كنت أنظر إلى العديدين من الأصدقاء مندهشا من قدرتهم على التحليل لأى فيلم حينما أراهم يتناقشون فى فيلم ما، لكنى كنت محبا للسينما وإن كنت أراها من خلال الفيديو كاسيت فقط.

أذكر أن حبى للتحليل السينمائى بدأ مع مجلة اليسار التى كان يصدرها حزب التجمع الديمقراطى من خلال المقالات الشهرية المهمة التى كان يكتبها الناقد السينمائى أحمد يوسف، ورغم أن رؤيته النقدية للسينما هى رؤية مغرقة تماما فى الأيديولوجية إلا أنها جعلتنى أعشق السينما والنقد السينمائى من خلال ما كتبه من مقالات هى فى رأيى مرجعا أساسيا ومهما لكل من يرغب فى تناول صناعة السينما بالنقد.

لكن منذ وقع فى يدى كتاب أضواء على سينما يوسف شاهين للناقد السينمائى الراحل سمير فريد وجدت نفسى أسيرا لما يكتبه هذا الناقد المختلف عن الآخرين؛ حيث يتناول الفيلم السينمائى بالتحليل النقدى بطرقة تتميز بالكثير من العذوبة والثقافة الموسوعية؛ الأمر الذى يجعلك تحب السينما بشكل لا يمكنك الفكاك منه فيما بعد.

فى ذلك الوقت حرصت على تتبع كتابات سمير فريد الذى جعلنى أعشق السينما؛ فقرأت له كتابه المهم الواقعية الجديدة فى السينما المصرية، ومخرجون واتجاهات فى السينما المصرية، وغيرها الكثير من الكتب التى كنت ألاحظ فيها موسوعية الرجل الثقافية التى كانت تغنيك عن الكثير من الكتب السينمائية بطريقة عرض بسيطة ومثقفة وبعيدة عن الأكاديمية المملة.

كنت أرى الرجل كإله فى النقد السينمائى لا يستطيع غيره من النقاد العرب أن يطاوله فيما يذهب إليه. فى عام 2003م انتهيت من كتابى السينما النظيفة، وقدمته إلى سلسلة آفاق السينما التى كان يشرف عليها كل من الناقدين أحمد الحضري، ومحمد عبد الفتاح، وأذكر أننى واجهت الكثير من العنت والتعسف من الناقدين فى ذلك الوقت، ورفضا نشر الكتاب بدعوى أن الكتاب 39% من موضوعاته سبق نشرها من قبل؛ والسلسلة لا تُعيد نشر الأعمال المنشورة على حد قولهما، كما صرح محمد عبد الفتاح أنى أكتب النقد بطريقة لم يألفها من قبل؛ ومن ثم رفضا تماما نشر الكتاب فى السلسلة بدعوى- كما قال أحمد الحضرى لي- أن هذا سيجعل كمال رمزى وسمير فريد وغيرهما يستاءان فى حالة نشر الكتاب؛ لأن لديهما أعمالا سبق نشرها ومن ثم فلا بد لهما بالضرورة أن يُعيدا نشرها فى السلسلة إذا ما تم نشر كتابي.

بالطبع كنت أعرف جيدا أن هذا الكلام غير صحيح، كما أن السلسلة فيها الكثير من الكتب التى أُعيد تجميعها من الغلاف للغلاف، لكنى لم أهتم كثيرا بالدخول فى معركة معهما، كما أنى كنت مندهشا من موقف محمد عبد الفتاح غير المبرر الذى أصر على عدم نشر الكتاب لأن طريقتى فى كتابة النقد لا تروق له، أو لم يألفها من قبل، لكنى أصدرت الكتاب فيما بعد عام 2010م، ولعل إصدار الكتاب كان أهم حدث حصل معي؛ لأنى من خلال إصداره تعرفت عن الناقد سمير فريد بشكل مباشر ووثيق.

كان لسمير فريد رأى نقدى سبق أن طرحه فى أحد الحوارات التى أجريت معه فى مجلة الفن السابع تحت عنوان: سمير فريد: السينما المصرية تعيش ديكتاتورية النوع الواحد، وهو الحوار الذى أجراه معه كل من نادين شمس، ومحمود الكردوسي، وعصام زكريا، وقد قال فيه الراحل سمير فريد: “إن كل ما يُكتب عن الأفلام من آراء هو نقد، لكن ما هى قيمته، وما مدى عمقه، وهل هو منهجى أم لا”. هنا اختلفت فى كتاب السينما النظيفة مع رأى الأستاذ سمير فريد، وذهبت إلى أنه ليس من المنطقى أو المقبول أن يُفتح باب النقد السينمائى هكذا على مصراعيه لكل من أراد الفتوى فى مجال النقد السينمائى سواء كان واعيا لمضمون هذا الفن أو غير واع؛ لأن هذا سيؤدى إلى كارثة نقدية وتضارب الآراء النقدية حول الفيلم الواحد؛ نظرا لاختلاف الثقافات وتباينها؛ ومن ثم سيصدق قول الكثيرين الذين يتهمون نقاد السينما بالكتابة تبعا لأهوائهم وحالاتهم المزاجية، أو تبعا لمصالحهم الشخصية، وأنه فى هذه الحالة- إذا ما فتحنا باب النقد على مصراعيه- سيكون هناك مجموعة من النقاد تُجمع على فنية فيلم ما، وفى المقابل ستكون هناك مجموعة أخرى تُجمع على عدم فنيته، وهناك مجموعة ثالثة ترى أمرا آخر، وبالتالى سيبدأ النقد السينمائى فى الدخول إلى دائرة مفرغة من الهراءات والعبث نتيجة دخول من ليس لهم صلة أو خبرة بهذا المجال إليه. هنا استرسلت فيما كتبته قائلا: بل نحن نرفض تماما قول الناقد سمير فريد برمته حتى لو استرسل فى حديثه ليقول: “لكن ما هى قيمته، وما مدى عمقه، وهل هو منهجى أم لا؛ لأن هذا يُعد تبريرا وترك الباب منفرجا لبعض هؤلاء الذين يدخلون هذا المجال وهم ليسوا على دراية به اللهم إلا أن الصدفة التاريخية قد وضعتهم فى مجال السينما مما أدى بهم فى نهاية الأمر أن اعتبروا أنفسهم أوصياء على السينما المصرية وخرجوا باصطلاحات جديدة ليس لها معنى سوى فى ءؤوسهم مثل السينما النظيفة وغيرها.

فى هذه الفترة لم أكن أعرف سمير فريد سوى كناقد مهم أتعلم منه الكثير وأقرأ له فقط، لكن فى يوم مناقشة الكتاب فى ليلة الخامس والعشرين من يناير 2011م، وفى الوقت الذى كانت فيه القاهرة على حافة الانفجار ويسودها الكثير من الصخب حيث بداية الثورة المصرية على حكم مبارك، فوجئت بما لم أكن أنتظره. كنت قد تهيأت لمناقشة الكتاب فى حزب التجمع مع الناقد الصديق عصام زكريا والناقد محمد رفيع بينما كان يُدير الأمسية الصديق أسامة عرابي، وبينما نستعد للمناقشة دخل الناقد القدير سمير فريد الذى أتى للمشاركة فى هذه الأمسية.

السينما المصرية تعيش ديكتاتورية النوع الواحد

أذكر يومها أنى لم أصدق نفسى بوجود الأستاذ، وأنه حرص على التواجد والحضور رغم أننا لم نلتق من قبل أو يحدث بيننا أى اتصال. لم أصدق اهتمامه بناقد شاب لا يعرفه الكثيرون؛ الأمر الذى جعله يكون حريصا على حضور مناقشة كتابه الأول فى النقد السينمائي، وأذكر أنه قال: قرأت عن مناقشة الكتاب الليلة، وأحببت أن أكون حاضرا ومشاركا. حينها تعلمت منه الكثير. تعلمت أنه مهما كنت كبيرا فى المكانة فالاهتمام بالآخرين حتى لو لم أكن أعرفهم بشكل مباشر من الأمور المهمة التى ستترك أثرا يدوم ما حييت.

تعلمت منه أن التواضع فى العلم أهم من العلم ذاته، ورغم أنه كان ذو ثقافة موسوعية فى السينما وغيرها من المجالات، ورغم معرفته أن الكثيرين ممن حوله يحاولون التطاول مع جهلهم،إلا أنه لم يفتعل العداوات مع أى ممن يحاول التثاقف رغم أن هناك الكثيرين منهم لم يحبونه يوما مع إظهارهم عكس ذلك. استمعت فى هذه الليلة لسمير فريد بثقافته الواسعة فى السينما وغيرها، وأثرى النقاش بشكل لم أكن أنتظره من قبل. فى الحقيقة كنت ممتنا كثيرا للرجل الذى لم أكن أعرفه من قبل وباهتمامه الذى رأيته مبالغا فيه بشاب ما زال يخطو خطواته الأولى فى النقد السينمائي. لم يعترض إطلاقا على خلافى معه فى أن كل ما يُكتب من الممكن أن نعتبره نقدا، بل ناقشنى فيه بسعة صدر.

بعد هذا اللقاء بعدة سنوات استيقظت من نومى على صوت الهاتف. كان على الطرف الآخر سمير فريد يخبرنى أنه قد تم اختيارى كعضو لجنة اختيار أفلام فى دورة مهرجان القاهرة السينمائى الدولى 2014م التى ترأسها سمير فريد. سعدت كثيرا باختيار الرجل وثقته فى هو وعصام زكريا رئيس لجنة اختيار الأفلام. لا يمكن إنكار أن العمل مع سمير فريد لا يمكن أن يتكرر مع شخص آخر. فهو يستمع جيدا للآخرين، ولا يمكن أن ينفرد برأى أو قرار إلا إذا استشار جميع من يعملون معه. وهذا ما كان يؤكده دائما بأننا جميعا فريق واحد. وليس من حقه كرئيس للمهرجان أن ينفرد بقراره إلا إذا استشارنا جميعا، وهذا ما كان يفعله معنا بالفعل.

كان الرجل حريصا دائما على الاهتمام بالجميع وتشجيعهم، كما احتضن الكثيرين من النقاد وعمل على دعمهم وتقديم كل ما يمتلكه للاستمرار فى العملية النقدية. كانت السينما والعمل عليها هى همه الأول؛ ومن ثم لم يكن يعنيه سواها؛ وهذا ما جعل دورة مهرجان القاهرة 2014م من أهم وأنجح الدورات السينمائية.

حاول الكثيرون معاداة سمير فريد فى الوقت الذى لم يحاول أن يفتعل أى عداءات مع أى شخص حتى مع من حاولوا معاداته. وكان حريصا دائما على القول: بأنه ما دمت فى وسط ما فلا تحاول معاداة من يعملون فى هذا الوسط؛ لأنك ستظل فيه؛ ومن ثم كان يقابل دائما من يعادونه بوجه مبتسم وترحاب قلما نجده لدى الآخرين. حتى أنه فى دورة 2014م حينما تم تشكيل لجنة مالية من قبل وزارة ثقافة جابر عصفور باعتبار أنه قد تم إهدار المال العام فى هذه الدورة. وبعدما أنهت هذه اللجنة المالية عملها وأثبتت أنه لم يتم إهدار أى شيء فوجئنا بأن جابر عصفور كوزير لم يعلن إبراء الذمة المالية لسمير فريد، بل وطلب منه فى نفس الوقت الاستمرار فى رئاسة المهرجان. هنا طلب فريد من عصفور أن يصدر إبراء الذمة المالية أولا، إلا أن جابر عصفور تنصل من ذلك ورفض؛ الأمر الذى جعل سمير فريد يرفض الاستمرار فى رئاسة مهرجان القاهرة السينمائى الدولي؛ لأنه لا يرضى بتشويه صورته التى تناولتها الصحافة حينما تم تشكيل اللجنة المالية. وحينما أثبتت اللجنة المالية العكس صمت جابر عصفور ورفض إعلان ما أثبتته اللجنة وكأنه يرغب ويصر على تشويه صورة الرجل الذى احترم نفسه وتاريخه واعتذر عن رئاسة المهرجان.

لا يمكن الحديث أو الإحاطة بسمير فريد الإنسان أو الناقد؛ فهو من احتضن كل الجيل النقدى السينمائى ووجهه وسانده ووقف إلى جانبه. وهو من أعطانا الكثير من ثقافته الموسوعية ولم يكن يبخل علينا بأى معلومات أو وثائق أو أفلام من الممكن أن تكون ذات فائدة لنا. أذكر أنه حينما كلفنى بكتاب غسان عبد الخالق.. سيرة سينمائية قال لي: أنت أصغرنا عمرا وأنت الوحيد الذى لم تر غسان ولم تكن لديك معه علاقة صداقة أو علاقة مباشرة؛ وبالتالى ستكون كتابتك أنت عنه أكثر موضوعية منا جميعا. وهنا أمدنى الرجل بالكثير جدا من الوثائق المهمة التى كانت بحوزته عن غسان. الكثير مما كتبه غسان بخط يده. والكثير من أعمال غسان. ومعظم ما كتبته الصحافة عنه. أى أن معظم مادة الكتاب حاول توفيرها لى لأكتبه كيفما أرى أنا. ولم يطلب كل هذه الوثائق والمواد منى مرة أخرى، وهى الوثائق التى ما زلت أحتفظ بها حتى اليوم.

سمير فريد قامة نقدية سينمائية وثقافية لا يمكن تعويضها، هذا فضلا عن عجزنا عن تعويضه على المستوى الإنسانى.

####

ستة مشاهد عن الأستاذ

بقلم: خالد عبد العزيز

مدخل

أُمسك بالهاتف المحمول، أفتح سجل الأسماء، يُطالعنى اسمه سمير فريد“. وقبل أن أضغط على زر الاتصال.. أتذكر أنه لم يعد.

الفقد مؤلم، يكسو النفس بمسحة شفيفة من السواد، تزداد ثقلها مع مرور الزمن، ولا يبقى سوى سلسال الذكريات المتدفق يكاد يكون هو الوحيد الذى يجابه تلك الكتلة الصماء السوداء المُسماه مجازا بالحزن.

مشهد (1) نهار / داخلي.. فى المكتب

ازيك يا فنان ؟

بصوته الهادئ الممزوج بالفرح كان يقابلنى دوما بتلك الجملة المشوبة بأبوية وترحيب لا يُضاهى، وابتسامته التى كان يستقبلنى بها، لتكن هى المُفتتح والإشارة لجولات من الحديث لا تنتهي، دروب مُمتعة من الفن والشغف والحكايات والذكريات التى تحويها ذاكرته. علاقته بجيل الشباب من الكتاب والنقاد علاقة شديدة الخصوصية، الجانب الإنسانى فيها يكاد يطغى على الجانب الإبداعى والنقدي، الكل يكن له ليس فقط التقدير لمكانته بل الأهم هو الإحساس بأن هناك من يُدعمهم ويقف خلفهم، الإحساس بأنك لست وحدك.

مشهد (2) ليل / خارجي.. فى أحد كافيهات الزمالك.

«ليه يا أستاذ سمير متكتبش الحكايات اللى عندك عن الوسط الفنى والصحفي.. خسارة لازم تدونها ؟».

رد يومها بعد أن سكت لدقائق «تعرف لما أقعد مع نفسى محسش بأهميتها، لكن لما أحكيها أعرف قد ايه هى مهمة».

مخزون الحكايات لدى صاحب الواقعية الجديدة فى السينما المصرية مُبهر، ما ان يشعر بحميمية المُحيطين من حوله، حتى يبدأ سرده الإنسانى البالغ الرقة، حديثه الممزوج بالحكم والأقاويل التاريخية، يُشى بثقافة عميقة موسوعية  لا تقتصر على السينما والفنون فقط. يكفى عموده اليومى فى جريدة المصرى اليوم بعنوان صوت وصورة“ – ومن قبله بالتأكيد صفحة السينما بالجمهورية ذلك المقال الذى ظل الأستاذ يكتبه لسنوات ليس عن السينما وأحوالها فحسب، بل تطرقت دوما للسياسة والتاريخ وغيرها، كما قال فى أحدى المرات العمود أسمه صوت وصورة.. الناس فاكرين أنه عن السينما بس، لكنه مساحة أكتب فيها عن السياسة أيضا وغيرها“.

مشهد (3) نهار / داخلي.. فى المكتب

أقف بجواره أمام المكتب، يقول «شاهدت أكثر من خمسة آلاف فيلم.. لذا أتمكن من قراءة الوجه وتعبيراته بسهولة» تعلمت مشاهدة وتذوق السينما عبر كتاباته، مقالاته وكتبه علامات أسترشد بها، مرجع يُمكن الاعتماد عليه، رأيه مُلهم، ويفتح آفاقا مُختلفة للتذوق. تعلمت الكتابة عن السينما من خلاله، السلاسة والبساطة والعمق فى نفس الوقت، يُمكنك بسهولة معرفة من الكاتب من فرط تفرده. كان الداعم الأكبر لكتابتي، لا أنسى فرحته فور أن تلقى نسخته من مجموعتى القصصية بعد صدورها، بعدها بفترة أخبرنى بمودة ومحبة لا توصف أنه قرأ الكتاب وينوى الكتابة عنه، لا أنسى صوته الودود وهو يُخبرنى برأيه الذى يحوى من الدعم أضعاف ما يوازى من الإطراء.. أعظم تقدير تلقيته ولن أتلقى مثله أبدا كانت كلماته التى أشعرتنى بالخجل وأدمعت عيني، يومها شعرت أننى أصبحتُ كاتبا.. لا أبالغ إن قلت اننى قبل تلك الكلمات لم أكن شيئا.

مشهد ( 4 ) ليل / خارجي.. فى الأوبرا

فاكر يا أستاذ سمير فيلم ظلال أجدادنا المنسيين للمخرج سيرجى براجانوف ؟

يرد بعفوية آآآآآآآآه.. فيلم بالغ العذوبة والجمال “.

أنطلقت بعدها كعادتى فى لقائتنا السؤال عن الأفلام العالمية التى يُقدرها ويُحبها، عند ذكر اسم كل فيلم كان وجهه يتهلل ويفرح أكثر وأكثر. لم أقابل أحدا يعشق السينما مثلما عشقها صاحب أدباء السينما والعالم “. فهذا الكتاب الذى تتبع فيه أهم الروايات والأعمال الأدبية التى حولت للسينما، يضج بولع حقيقى للسينما والأدب على التوازي.

فى آخر مكالمة هاتفية سألته عن آخر الأفلام التى شاهدها، أتانى رده بصوت حزين بأن حالته الصحية تمنعه من الذهاب إلى السينما وفقا لنصائح الأطباء بالابتعاد عن الزحام.. تألمت من كلماته لإدراكى التام أنه يُفضل مشاهدة الأفلام فى السينما وليس على الشاشات الصغيرة فى المنزل، يُحبذ أن تكون المشاهدات الأولى فى قاعات العرض.

مشهد ( 5 ) ليل / داخلي.. فى المجلس الأعلى للثقافة

أثناء التحضيرات النهائية للدورة السادسة والثلاثين لمهرجان القاهرة السينمائى الدولي، وخلال يوم عمل طويل امتد لبعد منتصف الليل، شعرتُ فجأة بالإجهاد ووضعت يدى على رأسي، لأجلس بعدها أمامه مرهقا. بعد أن القيت بجسدى المُنهك على المِقعد.

نظر إلى بحنو قائلا طول ما أنت تعبان عمرك ما هتعرف تشتغل.. هدئ أعصابك وأنت هتعرف تفكر“.

هدوء الأعصاب والتفانى فى آداء العمل، صفتان أساسيتان أقتنصتهما منه. أعتى المشاكل التى كانت تواجه فريق العمل كان يواجهها بحنكة شديدة وبهدوء يُحسد عليه.

الشغف.. تلك المفردة التى تُلخص من وجهة نظرى علاقة الأستاذ بالنقد والكتابة، كتابته موسومة بذلك التوق والرغبة فى لكتشاف العالم، فكما قال المخرج الروسى أندريه تاركوفسكى الاكتشاف الفنى يحدث فى كل مرة باعتباره صورة جديدة وفريدة للعالم، كتابته لا تطرح الأسئلة فقط ليُعمل القارئ عقله، بل تبحث أيضا عن إجابة وافية لها. تأثرت بشدة بمقاله عن فيلم زوجة رجل مهم للراحلمحمد خان، قد تختلف مع رأيه، لكن تحليله العميق ورؤيته قد لا يدفعانك لتغيير رأيك بقدر الإعجاب والتأمل والتعلم.

مشهد ( 6 ) نهار / داخلى فى مستشفى السلام.. اللقاء الأخير

يجلس على الفراش، يبدو عليه التعب وإجهاد المرض بادٍ على وجهه، لكنه لم يخف ألق عينيه الشغوفة والمُحبة، ألمس يده مُسلما برفق، خشية أن أؤلمه، يُرحب بي، أنظر إليه طويلا، قبل أن أطلب منه ألا يرهق نفسه بالحديث، يُبادر هو بالسؤال عن بعض الأمور المتعلقة بعمل ما، أُخبره بأنى سأنجره فورا. يشكرنى بود، وأنا اُسلم عليه قبل خروجي، يبدو أنه لاحظ تعبيرات وجهى التى بدأت فى التغُير من أثر رؤيته فى هذه الحالة التى لم أره عليها من قبل، يقول بصوت مُتعب هتعدى إن شاء الله .. ادعولى“.

اتجهت نحو السلم، وقفت أمامه مبهوتا، ثم بدأت خطواتى البطيئة ترتقيه نزولا، وكلماته ترن فى أذنى هتعدى هتعدى لم أُدرك أنها ستكون آخر كلمات أسمعها منه.. وأن تلك الرؤية ستكون التجلى الأخير.

أستاذ سمير فريد سأفتقدك كثيرا.

####

النبل يسير على قدمين

بقلم: محمد عبد العاطي

تبدو الكتابة عن هذا الرجل للوهلة الأولى بسيطة واضحة كبساطة الرجل ووضوح مواقفه ورؤاه، وهو الذى كان له عظيم الأثر فى نفوس ورؤى كثير من أبناء جيلى والأجيال اللاحقة.

ولكننى لن اكتب عن سمير فريد الناقد أوالمؤرخ السينمائى فالذين يدركون دوره وأفكاره وأثره فى تطوير النقد السينمائى أكثر منى، ولن أنعى سمير فريد المثقف والشخصية العامة فى مجال الصحافة والأدب والفن فربما يفعل الكثيرون ذلك.

بل سوف أتحدث عن سمير فريد الإنسان والشخص العادى والذى كنت قريبا منه لفترة طويلة بحكم عملى فى مجال الاستشارات القانونية والمجتمع المدنى وتجربته الرائدة فى إنشاء مؤسسة أهلية تدعم شباب الكتاب والفنانين والعاملين فى الحقل السينمائى تنمية الوسائل السمعية والبصرية كادر

ورغم الكثير من مناقشتنا الأولى حول إنشاء المؤسسة وشكل إداراتها وتيسير عملها ورغم محاولتى كمحام- يعمل على ضمان مصالح موكله الحالية والمستقبلية كان الرجل حريصا على أن يكون فى آخر الصف ومقدما كل الشباب قبله، حريصا على ديمقراطية فى الممارسة قلما يجدها الإنسان وقدرة على استيعاب الاختلاف ورفضا لكل أنماط الوصاية والأبوية والخبرة والدور المفترض للآباء المؤسسين، لا تجد لها أثرا فى الثقافة العربية.

كان الرجل هادئ الصوت كارها للصخب والضجيج رافضا للإطناب بسيطا واضحا سهلا يمتلك من التواضع والبساطة ما تندهش له، كان إيمانه بالآخرين الذين كانوا دوما الأصغر- سنا يفوق كل التصورات وكانت الحرية عنده تتجاوز مفهوم الحق إلى البوصلة التى يضبط الإنسان جميع أفعاله وتصوراته ومواقفه عليها.

كنا نتحدث كثيرا فى الثقافة والسياسة والأدب وبالطبع السينما ورغم أنى أخبرته كثيرا أن علاقتى بالسينما لا تتجاوز مفهوم بحب السيما إلا انه كما هو معرف- عاشق لها حريصا دوما على الاستماع إلى الآراء التى يختلف معها منتبها إلى رؤى جيلى والأجيال اللاحقة، اذكر وكان ذلك تقريبا فى العام 2007، وكانت المؤسسة قد دشنت مهرجانا فى الفترة من اليوم العالمى للمرأة إلى يوم المرأة المصرية 8-16 مارس، لسينما المرأة فى دول الاتحاد الأوروبى عقد بدار الأوبرا المصرية، انه قرر بعد التشاور مع الزملاء- عقد ندوة على هامش المهرجان تتناول حرية الرأى والتعبير فى سينما المرأة ونحن نتشاور حول الأسماء وكنت قد وضعت اسمه على رأس المتحدثين، رفض بشدة وقرر انه سوف يحضر فقط كأحد المدعوين رافضا أى إشارة إلى دوره فى المهرجان أوالندوة بل وأصر على أن أقوم رغم سابق معرفته بعلاقتى بالسينما بتقديم وإدارة الندوة وأصر على حضور فتاة شابة كمتحدثة أيضا- صارت الآن واحدة من أهم وألمع الناشطات فى مجال الدفاع عن حقوق المرأة، رافضا كل المبررات التى قد تعوق ذلك وأعطى الجميع محاضرة فى أهمية الإيمان بقدرات الشباب ودعهم وضرورة منحهم حق الإعلان عن أفكارهم ورؤاهم ذلك كان سمير فريد.

لا أريد أن أعدد مآثر الرجل فهى أكثر من أن تحصى ولا أن أنعيه فهو لا يزال بيننا بكتاباته وأفكاره ولكن مرارة الفقد هى ما تستحضر الذكرى.

رحم الله سمير فريد

محام

####

قائد الثورة البيضاء فى ساحة النقد السينمائى

بقلم: مجدى الطيب

فى البيان الذى أصدره مهرجان برلين السينمائي؛ بمناسبة تكريم الناقد الكبير سمير فريد (1943 – 2017) فى الدورة الـ67 (9 – 19 فبراير 2017)، ومنحه «كاميرا البرلينالي» التقديرية، كأول ناقد عربي، وأول شخصية مصرية، عربية، وإفريقية، يفوز بها، مذ بدأت عام 1986، لم أتوقف؛ مثل الكثيرين، عند عبارة الجائزة التى تذهب إلى شخصيات ومؤسسات ساهمت على نحو متفرد فى فن الفيلم، وكانت قريبة من المهرجان، وبها يعبر المهرجان عن امتنانه لمن أصبحوا من أصدقائه وداعميه»، لكننى توقفت طويلا عند وصف ناقدنا الكبير بجملة لها مغزاها ودلالتها تقول: «آراؤه يؤخذ بها فى جميع أنحاء العالم»!

حقيقة لا يمكن إنكارها أبدا؛ فالناقد الكبير، الذى غيبه الموت فى 4 إبريل الجاري، كان صاحب كلمة مسموعة بالفعل، بل كانت الأنظار تتجه نحو مقعده، فى كل مناسبة يحرص على حضورها، وهى تنتظر منه أن يُدلى بدلوه، وكثيرا ما كانت «المنصة» تُدرك أنه «مطلوبٌ بناء على رغبة الجماهير» فلا تتردد فى تغيير برنامج المناسبة أو الحدث، وتطلب منه الكلمة، لإدراك الجميع أنه سيثرى الجلسة، بحكمته وحنكته وموضوعيته وجرأته فى إبداء رأيه بشجاعة الواثق من نفسه، الثابت على موقفه، المتشبث بمبادئه، واسع الثقافة، الذى يُجاهر بوجهة نظره، مهما كلفه الأمر، بعكس بعض النقاد الذين يتذرعون بالموضوعية، والحيادية، كسبيل للهروب من إعلان مواقفهم، والتعتيم على جهلهم، وانتهازيتهم، ومحدودية اشتباكهم مع الشأن العام!

شاهد عيان على إضراب الفنانين

لم يكف «فريد» عن تسجيل انحيازه الدائم، والقاطع، لقضايا الواقع، وهموم المواطن، ولم تتوقف اهتماماته عند حدود الشأن المصري، والعربي، وإنما تجاوزه إلى القضايا العالمية التى ظلت، فى نظره، وثيقة الصلة بصناعة السينما العربية، وقضايا الأمة العربية، ومن ثم لم يكن غريبا عليه أن يكون سباقا إلى الكتابة عن «الفيلم الأمريكى كابوس السينما العربية» (القاهرة دار الكاتب العربى وزارة الثقافة 1967 الطبعة الأولى 32 صفحة)، ويتناول «الصراع العربى الصهيونى فى السينما» (القاهرة دار سعاد الصباح 1992 الطبعة الأولى 245 صفحة)، ويتحدث عن «السينما الفلسطينية فى الأرض المحتلة» (القاهرة الهيئة العامة لقصور الثقافة 1997 الطبعة الأولى 168 صفحة)، ويتوقف عند «تاريخ نقابة السينمائيين فى مصر (1987 – 1997)»، (القاهرة الهيئة العامة للكتاب 1998 الطبعة الأولى 239 صفحة)، ويرصد أول تجمع للفنانين فى مصر؛ وهو تجمع المسرحيين عام 1912، ويتتبع تأسيس جمعية أنصار التمثيل عام 1913، التى انبثقت عنها نقابة ممثلى المسرح والسينما فى نوفمبر عام 1943، وبعدها بأسبوعين فقط تتأسس نقابة السينمائيين. وأهمية هذا الكتيب فى رأيى تكمن فى اشتماله على الدراسة الوحيدة تقريبا عن الحدث الأهم فى تاريخ الحياة الفنية فى مصر، وهو إضراب الفنانين ضد القانون رقم 103؛ إذ يوثق الناقد، بدقة شاهد العيان، يوميات ووقائع الإضراب منذ احتدامه فى 11 يوليو 1987 وحتى انتهائه فى 6 سبتمبر 1987.

دوره مشهود فى اتحاد نقاد السينما.. ويوسف السباعى أغلق مركز الصور المرئية نكاية فيه!

غير أن منجزه الفريد بحق تمثل فى الدور الكبير الذى قام به فيما يتعلق بتدشين «جمعية نقاد السينما المصريين»؛ ففى أعقاب خروجه الأول من العباسية، وبالتحديد شارع فاروق «الجيش بعد الثورة» حيث يعيش مع عائلته، إلى مهرجان كان عام 1967، وحضوره مائدة مستديرة فى بيروت 1969، كانت المرة الأولى كما قال التى يعرف فيها أن ثمة اتحادات لنقاد السينما؛ بعد ما كان يراها للعمال فقط، وعندما عاد إلى مصر بدأ دعوته إلى تكوين اتحاد للنقاد، وقدم بحثا لتأسيس اتحاد النقاد السينمائيين، وتولى الأستاذ أحمد الحضري، بوصفه الأمين العام لمركز الصور المرئية التابع لوزارة الثقافة، توجيه الدعوة لنقاد السينما فى مصر للاجتماع بمقر المركز مساء الأحد 20 ديسمبر 1970 لدراسة الموضوع، ورغم انعقاد الاجتماع، بحضور عدد غير قليل من النقاد يمثلون الاتجاهات والأعمار كافة إلا أن الاجتماع فشل (!) ولم تتسرب مشاعر اليأس إلى نفس سمير فريد، الذى طرح الفكرة مرة أخرى على المجتمعين فى مهرجان دمشق لسينما الشباب (1972)؛ حيث كان عضوا بلجنة تحكيمه، وبالفعل نجح فى انتزاع الاعتراف بالفكرة، وإعلان إنشاء اتحاد نقاد السينما العربية، الذى أسندت إليه مهمة الدعوة إلى تأسيس اتحادات لنقاد السينما فى مختلف الدول العربية. وبناء عليه تم التوقيع، فى 14 يونيو 1972، على محضر تأسيس اتحاد نقاد السينما المصريين، الذى ترأسه أحمد كامل مرسي، واكتفى سمير فريد بعضويته!

حرب البيانات

نجح اتحاد نقاد السينما المصريين، فى فترة وجيزة للغاية، فى أن يلعب دورا فاعلا فى محيط المثقفين، وليس النقاد والسينمائيين فحسب، ما أثار استياء يوسف السباعي، الذى عينه «السادات» وزيرا للثقافة فى مارس 1973، فما كان منه سوى أن أصدر قرارا، بعد شهرين فقط من توليه منصبه، بمنع الجمعيات السينمائية من ممارسة نشاطها من خلال مقر المركز الفنى للصور المرئية، أو اعتباره مقرا لها، وبمجيء عام 1974 اتجه تفكيره حسب شهادة سمير فريد إلى إلغاء ترخيص «اتحاد نقاد السينما المصريين»، الذى جرى اتهامه بأنه يضم «شرذمة من التقدميين والشيوعيين» (!)، لكن د. عائشة راتب وزير الشئون الاجتماعية آنذاك رفضت الإلغاء، ورفضت تأسيس جمعية جديدة للنقاد، فما كان من «السباعي» سوى أن اتجه إلى تكوين جمعية جديدة ضم إليها كتاب السيناريو وأطلق عليها «الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما». والطريف أنها عقدت اجتماعها التأسيسى الأول فى نادى الجزيرة!

حدث هذا فى الوقت الذى كان القلق والغضب والتمرد يعتمل فى نفوس أعضاء «اتحاد نقاد السينما المصريين»، ممن آمنوا بشعار رفاق الثورة الطلابية فى فرنسا إبان انتفاضة مايو 1968، «الكاميرا تُطلق 24 طلقة فى الثانية وليس 24 كادرا»، وهنا وقف سمير فريد وراء تحرير، وإصدار، غالبية البيانات الوطنية التى أعلنها الاتحاد، ووصلت إلى ذروتها مع أحداث 18 و19 يناير 1977، التى وصفها «السادات» بأنها «انتفاضة حرامية» لكن اتحاد النقاد أيد الغضبة الشعبية العارمة، ما أغضب النظام، وعجل بحال الاحتقان لكن الصدام بلغ ذروته مع زيارة «السادات» للقدس، فى 19 نوفمبر 1977، وقيام اتحاد النقاد بإصدار بيان ندد فيه بالزيارة، وأعلن رفضه لها، والأمر المؤكد أن الاتحاد لم يكن وحده الذى دفع الثمن، بل دفعه أيضا سمير فريد، الذى شملته «اعتقالات سبتمبر» التى أمر بها «السادات» عام 1980، واستهدفت ما يزيد على 1536 من رموز المعارضة السياسية فى مصر، إلى جانب عدد من الكتاب والصحفيين ورجال الدين، لكن شيئا لم يغير قناعات «فريد»، ولم يترك لأحد الفرصة فى أن يساومه على مبادئه!

####

رحيل «سمير فريد» ونهاية حقبة

بقلم: ضياء حسني

رحل «سمير فريد» الناقد السينمائي، ليعلن عن نهاية حقبة، وجدت معه وانتهت برحيله، تلك الحقبة التى وجدت مع «سمير فريد»، صنعها بموهبته وذكائه، والتى جعل فيها النقد السينمائى فى مرتبة يتخطى فيها كونه ركن فى باب من أبواب الصحافة، يأتى فى الأهمية بعد ابواب الحوادث والرياضة، حيث كان باب السينما «والذى يضم النقد السينمائى بين ثناياه»، هو أول الأبواب التى يتم التضحية بها فى حالة وجود إعلانات أو أحداث مهمة. لقد كان «سمير فريد» واحدا من فريق من النقاد الذين جعلوا من النقد السينمائى مهنة مختلفة عن الكتابة فى الفن، أو أخبار النجوم، تلك النخبة التى لمعت فى الستينات مع أسماء مثل سامى السلامونى، ومصطفى درويش، وأحمد رافت بهجت، وفتحى فرج، وعلى أبو شادى وغيرهم، لتلحق بهم أسماء بعد ذلك مثل أمير العمري، ومحمد كامل القليوبي. ولكن «سمير فريد» كان مختلفا فى كونه منذ البداية أدرك أهمية كون أن الناقد يرتبط بصناعة وصانعيها بقدر ارتباط هؤلاء بكتابات الناقد، فوقف دائما وراء التجارب التى كان يرى أنها واعدة، بالرغم من كونها فى البدايات وبعيدة عن القوة الأكثر تأثيرا فى صناعة السينما، فدعم سيد عيسى وسعيد مرزوق فى بداياتهما، ووقف وراء شادى عبد السلام وفيلمه المومياء، بل ولآخر لحظة كان جزءا من دعم سينما يوسف شاهين بالرغم من عدم جماهيريته عند الجمهور العادي، واتهام أفلامه بأنها غير مفهومة. بالطبع فعل الكثير من النقاد السابق ذكرهم نفس الشيء، ولكن «سمير فريد» كان أكثر تأثيرا، لعله لأنه كان الوحيد الذى يكتب النقد السينمائى فى جريدة يومية، لكن الأهم قوة تأثيره كونه بشخصه كان مؤسسة وليس مجرد فردا. فقد عمل «سمير فريد» منذ البداية على الاحتفاظ بكل ورقة تكتب على السينما، ليقوم بأرشفتها، فى بلد تهمل أرشيفها، فما بالك بالسينما، حتى أنه كتب كتاب جمع فيه الرسائل المتبادلة بينه وبين المخرج توفيق صالح عندما كان منفيا خارج مصر، فحتى الرسائل الشخصية كان يحتفظ بها. كما أنه اهتم بكل نشاط يدعم هذا الفن فى كل المجالات. فدعم جمعية الفيلم فى أزمتها الأولى، وشارك فى إنشاء جمعية نقاد السينما المصريين، وكان منذ البدايات حتى النهاية من رواد المهرجانات الثلاث الكبرى «فينيسيا كان-برلين» وناقل لأهم الأحداث السينمائية التى تدور من خلالهما للقارئ المصرى والعربي. وكان يحلم بإنشاء مهرجانات مصرية للسينما، فبدأ بمهرجان راس البر للسينما المصرية، الذى لم ينعقد الا مرة واحدة، وكان صاحب فكرة المهرجان القومى للسينما المصرية، وعمل فى مهرجان القاهرة السينمائي، حتى رأسه إحدى دوراته.

وعندما تغيرت الأوضاع السياسية والاقتصادية فى مصر بعد فترة الانفتاح، هاجر الكثير من النقاد البلاد، أو عملوا فى السينما، أو ذهبوا للتليفزيون، أو اهتموا بالبحث السينمائى وكتابة تاريخ السينما، ومنهم من تولى مناصب إدارية فى الدولة، الا «سمير فريد» الذى ظل يكتب النقد ويصدر الكتب، فان مهنة النقد السينمائى والكتابة السينمائية، كان يرى أنها الأهم والأكثر تأثيرا.

وفى فترة من الفترات كان يسيطر على أوساط الكتابة السينمائية والمناصب الثقافية التى تخص السينما، أربعة من النقاد الكبار، على رأسهم «سمير فريد»، هو من ساندهم ودعمهم، ليصبحوا أصحاب المنح والمنع، وتولوا المناصب، فلقد أصبح «سمير فريد» عقلا مفكرا، للكثير من الكيانات، داخل وخارج مصر فى المنطقة العربية، واصبحت لديه المصداقية التى يعتد بها، واصبح اللجوء اليه هو وسيلة للخروج من المأزق، وهذا ينطبق على مهرجانات عربية عريقة، وعلى المبتدئين الجدد فى مجال النقد السينمائى، أو المخرجين الجدد. فقد دعم «سمير فريد» الكثير من النقاد الجدد والسينمائيين الشباب، بالرغم من أن هذا الدعم قد أثار فى الكثير من الأحيان الاعتراضات حول كونه غير موضوعي، الا أننا بصدد أمر يعتمد على الذائقة والتقدير الشخصي، ولسنا أمام أحد فروع العلوم الطبيعية.

عمل «سمير فريد» مستشارا لدى شركات إنتاج سينمائي، على أمل أن يساهم فى رقى ما يقدم فى السينما، وقد قيل انه قد أكمل المونتاج النهائى لأحد الأفلام بعد أن اختلف المخرج مع الشركة المنتجة، وكأننا أمام هوليوود فى مجدها التى كانت تقوم شركاتها بمونتاج أفلامها النهائي. ولكنه لم يستمر، قد يكون ذلك لأنه لم يكن يتجمل العمل لدى أحد، أو لأن السينما تدهورت للحد الذى لم تعد تحتاج فيه مستشارا مثل «سمير فريد».

هذا هو الراحل «سمير فريد» الناقد المؤسسة صنع العديد من الأشخاص والأشياء، ولم يصنعه أحد. كان مثقفا تواقا للفن والثقافة فسعى لرموز ثقافية كبرى منذ نعومة أظافره، وسعوا اليه كشخص مثقف واعد منذ بداياته. أعاد فى الفترة الأخيرة ترتيب أفكاره وانتماءاته، وكانت أراءه، تثير الكثير من الجدل، وتفتح المجال للاشتباك معه عبر الصحف، ولكنه كان -دائما رائقا فى جدله وردوده، ومع ذلك ظل دائما مع حرية الفكر والفن، وراغبا فى التغيير، ووضح ذلك مع تأييده لثورة 25 يناير واحتفائه بالسينما التى غبرت عنها.

عند الكتابة عنه لا نستطيع اختصاره فى عدد الكتب التى اصدرها، ولا عدد المقالات التى نشرها، ولا عدد المهرجانات التى قام بزيارتها، فهذا يتبع مع ناقد نابه، وليس مع الشخص الأكثر تأثيرا فى وسط النقد والكتابة السينمائية فى الثلاثين عاما الماضية، فوداعا «سمير فريد» وليترك للتاريخ تقيم تجربتك ونموذجك الذى بدأ معك وانتهى برحيلك.

####

حتى فى رحيلك تعلمنى شيئا جديدا

بقلم: محمد سمير

دائما أجد مشكلة فى كتابة المرثيات أو قراءتها، أكره الرثاء لأنه مهما عظمت كلماته ستعجز تلك الكلمات عن وصف معنى الفقد.. تعرف معنى الفقد عندما يرحل شخص ليترك رحيله فراغا بداخلك لا يمكن أن يملأه أحدُ سواه والآن أعرف هذا المعنى جيدا.. علاقتى بسمير فريد علاقة شخصية جدا وبسيطة جدا

كنا نلتقى بالصدفة بجوار منزله فتتحول المصادفة إلى حوار طويل يمتد أحيانا لساعات.. كان دائما كريما فى وقته.. كان يأتى لمقر شركتى ليشاهد أحد الأفلام التى أنتجها أحد الزملاء أو أحد الأفلام التى عملت عليها كمونتير.

كنت دوما كمونتير انبهر بذكاء ملحوظاته وبساطتها.. كان دقيقا وكانت علاقته بالأفلام علاقة فنية مثلها مثل الكاتب والمخرج.. بعد مشاهدة سمير فريد كان الفيلم يتحرك خطوة للأمام كان شريكا روحيا وعمليا لكل من وثق فيه.. كان دائما هناك نسخة من الفيلم ما قبل سمير فريد ونسخة ما بعد سمير فريد.

عندما تحولت للإنتاج بدأت أحضر المهرجانات بشكل دائم كان هو مرشدى الأول والأخير فى دروب المهرجانات الكبيرة مثل كان وبرلين وكان دائما شديد الكرم فى تقديمى كمنتج شاب للصحفيين ومديرى المهرجانات كان لسبب ما لديه ثقة فيما نحاول القيام به كجيل شاب إيمانه الصادق بالشباب لم يكن مجرد كلام أو شعارات بل كان يسخر بالفعل وقته وعلاقاته وقلمه لدعم السينما الشابة كان يقضى ليالى بطولها معنا نتناقش فى مشروع أحدنا.

تعمقت علاقتى به عندما اختارنى للعمل معه كمدير لمهرجان القاهرة فى دورة ٢٠١٤.. كما قلت كان مؤمنا بالشباب فقد اختارنى كمدير فنى وجوزيف فهيم الناقد الشاب كمدير للبرامج.. وفى بدايات العمل كان البعض يهاجمه لاختيار شباب صغير للعمل على مهرجان عريق.. وكان رده عظيما وبسيطا: ألم نقم بثورة لإتاحة فرص للشباب وعندما نأتى بالشباب تعترضون، فماذا تريدون؟

طبعا هذه كانت واحدة من المحاولات العديدة لمهاجمة سمير فريد وكان دائما يقابلها بذكاء وحكمة ويصنع من أفظعها نكت ونوادر عن البائسين من حوله الذين يعيشون على فشل الآخرين.. كنا نضحك كثيرا عندما يتهمه البعض بالمحاباة لاختيار ابنه لإدارة المهرجان وذلك لتشابه الأسماء بينى وبين ابنه الأستاذ محمد سمير.. كان يواجه كل هذه المعارك الصغيرة منها والكبيرة بثبات وذكاء وكنت اشهد كل يوم كيف أن القامات العظيمة يتسلقها دائما الصغار.

العمل مع سمير فريد عن قرب لأكثر من عام كان بلا مبالغة مرحلة فارقة فى علاقتى بالسينما كصناعة وفن.. كان لديه رؤية عظيمة عن معنى وأهمية المهرجانات السينمائية وكان يحترم ويجل صناع الأفلام بشكل استثنائي، وانتهت دورة ٢٠١٤ وهى تحمل اسم «دورة سمير فريد» وكان قد بدأ بالفعل- بسبب رؤيته واخلاصه فى وضع المهرجان على الساحة العالمية من جديد واستعادة ثقة صناع الأفلام محليا وعالميا فى المهرجان.

خطواته الواثقة الهادئة تجعلك عندما تقابله يتغير ايقاعك، وكأن العالم اصبح ابطأ وأدق الساعات التى كنا نقضيها معه كان لها زمنها الخاص، لم تكن ساعات ودقائق، كانت مجرد زمن كم من المرات دونت من كلماته أفكار وأسماء، فى كل مرة نتحدث كانت آفاقا تتفتح كان مثقفا بحق، ثقافة غير محدودة بالفن السينمائي ثقافة غير محدودة بمكان أو زمان ثقافة لا تخاف أحد ولكن تخيف الكثيرين.

أستاذ سمير

أنا وبقية الشلة، كنت تسمينا العصابة، هم يعرفون أنفسهم.. نعدك أننا سنكمل الدرب سويا غير عابئين بأى شىء  سوى حبنا وإيماننا بالسينما.. داعمين لأحدنا الآخر وأنت مثلنا الأعلى فى ذلك كما عشت للسينما ولإعلاء قيمة الثقافة وكنت لنا ولغيرنا سندا، عاهدنا أنفسنا أن لا شىء أهم من ترك إرث ثقافى.. فى احلك اللحظات وأصعب الظروف، تبقى السينما لنا نورا ومخرجا.. أرثيك كما لم أرثى أحدا من قبل، أبكيك كما لم أبكى أحدا من قبل.. الآن فقط أعرف معنى الموت الذى كنت أتعامل معه طيلة حياتى ببرودة شديدة كمجرد حقيقة لا مفر منها.. الآن فقط أفهم المعنى العاطفى للموت.

أستاذ سمير.. حتى فى رحيلك تعلمنى شيئا جديدا

####

أن تَجدَ ..! «أنا وسمير فريد وصندوقى القديم»

بقلم: خالد عزت

قرب النهاية بقليل، وبعد سنوات من النسيان سقطت يدى على الصندوق وأنا أنحنى داخل خزانة ملابسى أبحث عن شىء تافه ضاع منى فى زحمة الأيام، لكننى تعثرتُ فجأة بشىء آخر من مخلفات الماضى كان مختبئا فى ظلمة وفوضى الخزانة تحت ركام من الملابس والأشياء الأخرى.​

الصندوق كان يخصّ حذاء إشترته لى أمى من محلاتزلط للأحذية بميدان العتبة قبيل بدء العام الدراسى بأيام قليلة. على ما أذكر، كانت قد اشترتْ لى أيضا فى نفس اليوم: طقما من الملابس الداخلية، وحقيبة مدرسية جديدة، بالإضافة إلى بلوفر صوف كاروة سمبوكسة، وقميصين من ملابس الأهرام . أمَّا هى فلم تشتر لنفسها شيئا سوى زجاجة عطر دقيقة الحجم لحقيبة يدها من ماركة ياسمين الشبراويشى تقريبا، كنا عند منعطف النهاية لسنوات السبعينات، حيث كنت وقتها أمر برهبة العبور إلى السنة الأولى من المرحلة الإعدادية، وبالتالى هجر مدرستى الأليفة إلى عالم جديد لا أعرف عنه شيئا، ومن ثمَّ كانت أمى تحاول استرضائى طوال الوقت كى أقبل الذهاب إلى المدرسة الجديدة التى اختارتها لى رغما عنى.

فى نهاية اليوم، وبعد طول لف ودوران بين المحلات، دلفنا إلى امريكين عمادالدينونحن نلهث ونتخبط فى حمولتنا الثقيلة من المشتريات المدرسية.​

وبكرم مفرط غير معتاد، طلبتْ لى وجبتى المفضلة من الحلوى:طبق كبير ولذيذ منالكيشون التروبكال، بينما اكتفت هى باحتساء فنجال من القهوة السادة مشفوعة بسيجارة فلوريدا، ومن حولنا تناثرت فوق المقاعدالمجاورة أشيائى الجديدة، وبينها صندوقى العزيز، الذى كان يرقد بداخله حذاء أسود مقاس38 بنعل كِرِب ومقدمة فولاذية مستديرة حتى يتحمل لعب الكرة العنيف فى حوش المدرسة والشوارع الخلفية المحيطة بها.​

لكنه، وبعد شهور قليلة من ارتدائى له لم يتحمل رعونتى، ونزقى، فقمتُ بدفنه بيديَّ فى سلة القمامة المجاورة لباب الشقة، بعدإصابته بجروح وندوب مميتة.وفى اليوم التالى جاء الزبال وحمله مع النفايات الأخرى الى مصيره الغامض، حيث لم أعرف عنه شيئا بعد ذلك. أمَّا الصندوق فقد آل فى البداية إلى أمى التى لم تواتها الشجاعة أن تتخلى عنه بإلقائه فى سلة المهملات، ومن ثمَّ فقد أخذته ووضعته على التسريحة فى حجرة نومها.​ وعلى غير عادة صناعة الصناديق الكرتونية فى تلك الفترة كان لصندوق حذائى مظهر أنيق لافت للنظر بالنسبة لأقرانه من الصناديق الأخرى المتقشفة بشكل مزر، فقد كان مصنوعا من الكرتون المقوَّى المطلى بلون أخضر نضر، وقد زُخرفت جوانبه بنقوش منمنمة لاسم الفابريكة الشهيرة.

بقى الصندوق مكانه على حافة التسريحة حتى بعد رحيل أمى، وبذلك يكون قد عاش عمرا مديدا متجاوزا كل الأعوام التى قضتها أمى فى الدنيا، وايضا حياة الحذاء ذاته الذى قضى نحبه بعد شهور قليلة من خروجه الى العالم على يد صانع مجهول. واحتفظت أمى فى حياتها داخله بأشيائها الصغيرة التى لم يطاوعها قلبها على فراقها، حتى بعد أن صار وجودها بلا معنى، ولم تعد صالحة للاستعمال اليومى: ”فردة واحدة للساق اليمنى من جورب نصفى من النايلون . أصابع روج متآكلة الشمع تنتمى إلى موضات عفا عليها الزمن. مشط من العاج أسنانه محطمة، أربعة كعوب تذاكر دخول سينما قصر النيل حفلة التاسعة مساءً لحضور فيلم دقة قلب”. مجموعة من رولات الشَعْر متهتكة السلك. عشرات من القصاصات المقتطعة من جريدة الأخبار لأشعار أغانى أم كلثوم المنشورة فى صفحة ابو نظارة. بطاقات القطارات التى اقلتنا ذهابا وإيابا اثناء عطلات الصيف مشبوكة الى بعضها البعض- وفقا لتتابعها الزمنى- بمشبك غسيل من الخشب. صفحة مقتطعة من كراسة الموسيقى الخاصة بواجباتى المدرسية وقد كَتبتْ عليها أمى فى لهوجة بخط غير عابئ بحدود الصفحة مراحل إعداد صينية الكوسة بالبشاميل”. لم أعرف حينها لماذا كان على أمى أن تحتفظ بكل هذه الأشياء المضحكة، كما لو كانت كنوزا ثمينة، إلاّ بعد أن كبرت وعرفتُ اننى ورثت عنها شغفها القديم الذى لازمها منذ طفولتها: هواية اقتناء الأشياء التافهة التى لايأبه بها أحدٌ .

بعد موتها آلت التركة لى، الصندوق العجيب بكل كنوزه الزائلة، ولزمن طويل ظل يتنقل معى كظلى من بيت الى بيت دون أن أعره اهتماما. أحمله حائرا من الشرفة الى المطبخ الى الشوفينيرة إلى الكومودينو الى خزانة ملابسى، دون أن أدرى ما الذى يتوَّجب علىَّ أن أفعل به، أو حتى أفكر لحظة بمعاودة النظر داخله لكى أسترجع- ربما- بعضا من ذكريات الماضى، كما كانت تفعل أمى بين الحين والآخر، مستعيدة لحظات هشة وعابرة فى حياتها، لكنها كافية لإطلاق ضحكاتها أو دموعها وهى جالسة امام الصندوق تعبث بمحتوياته وتدخن سيجارتها المفضلة. بيد أنى هذه المرَّة حملتُ الصندوق كاشفا الغطاء بعد سنوات من الغياب، متأملا الأشياء القديمة المغبرَّة والتى كانت ترقد هادئة فى سلام راضية بنسياننا لها. وشعرت بظل ابتسامة يتمدد الىَّ وأنا أعاود رؤية فردة الجورب اليمنى المتبقية، ولاحت لى ذكرى اختفاء الفردة اليسرى من خزانة ملابس أمى، عندما ظللنا ليومين متتالين نقلب عليها البيت رأسا على عقب فى جنون هذيانى عسانا أن نجدها مختبئة هنا أوهناك، لكننا لم نعثر لها على أثر.وهكذا تحدد مصير الفردة اليمنى المنسية بأن تبقى أسيرة وحدتهاالنهائية فى قاع الصندوق دائما ما كانت الأشياء التى نحبها تضيع منا، وعندما يأتى ذكرها بغتة نوارب أبواب الأسى ليدلف إلينا قليل من الحزن على فقدنا أشياء لن تعوَّض ابدا.​

لكن أين اختبأت الفردة اليسرى من جورب أمى النايلون؟. ​

رأيتُ صفحة كراسة الموسيقى وقد اصفر لونها بفعل القِدِم، ومررت بعينيَّ على قائمة المقادير التى أملتها جارتنا على أمى عبر اتصال تليفونى جرى بينهما منذ زمن طويل، واعدتٌ قراءتها لنفسى سطرا وراء سطر، حتى توقفت فى ذيل القائمة عند جملة كتبتها أمى وراء الجارة فى نهاية المحادثة وهى تحذرها قائلة: ”خل بالك يا لولا ما ترجيش البيض جامد بالمضرب”!! . هكذا كتبت أمى بكل اخلاص نصائح جارتها الطيبة طبق الأصل كما خرجت من بين شفتيها، حتى لا تسقط من ذاكرتها عفوا تفصيلة دقيقة وهى واقفة فى المطبخ تدور حائرة بين الحلل وشعلة البوتجاز الموقدة والتطلع بين لفتة وأخرى إلى الصفحة. حركت برفق السطح وقد إزداد فضولى فى التوغل الى القاع، جارفا الى جنب أوراق أخرى منسية، فانفرط امامى سيل من الصور العائلية كأوراق الكوتشينة، ومن اسفلها ظهر لى كتاب سمير فريد”- العالم من عين الكاميرا- بغلافه المهترئ والذى تعود طبعته الأولى إلى نهاية الستينات من القرن الماضى.​

كان الكتاب هو الشئ الوحيد الذى ينتمى إلى عالمى الضيق من بين زحمة الأشياء الأخرى التى رحلت عنها صاحبتها، مثلما كان الكتاب نفسه ينتمى إلى عالم قديم من الأحلام الثورية التى لم يعد لها مكان على أرض الواقع فى الألفية الثالثة. أخرجتُ الكتاب بحرص وأنا أفكر فى أن كل ما اجتمع مصادفة داخل صندوق حذائى هو ما أصبحت عليه الآن.

فبإمكان الأشياء التافهة أن تقرر بشكل حاسم ما سيكون عليه المرء فى صيرورة حياته: كأن يكون شاعرأوقاتلا لاحبائه، فالاحتمالات جميعها تكتنف الفسحات الضيقة الكائنة بين الأشياء المرئية، والتى لا يمكن الاحساس بثقل وجودها الخفى ّ عَبَرْ النظر.

ولكن كيف انفلت الكتاب من ربقة رفوف المكتبة متسللا  خلسة الى ظلمة الصندوق؟ كنت قد نسيته وسقط اسمه من قائمة ذاكرتى للكتب التى حررهاالناقد خلال حياته المهنية. وفى الحقيقة كان هذا الكتاب الذى أقبض عليه الآن هو الكتاب الثانى لى فى سلسلة قراءاتى المبكرة عن فن السينما. امَّاالكتاب الأوَّل فكان فن الفيلم للناقد أرنست لندجرن -طبعة وزارة التربية والتعليم الإقليم الجنوبى هكذا كتب على الغلاف”- والذى قمت باقتناصه خلسة من مكتبة المدرسة بعد أن فٌتنتُ بين صفحاته برؤية صورة لوجه مُكبر مأخوذة عن فيلم المدرعة بوتِمكين، هذا ما كان يعنينى: ”صورة الوجه، حيث كنت وقتها شغوفا بتعلم مبادئ التصوير الفوتوغرافي، بعدما سمحت لى أمى باستخدام كاميرتها الخاصة لايكاالتى كانت تعمل بفيلم حساس مكوَّن من16صورة. ​

أمَّا كتاب سمير فريدفقد حزتُ عليه- دون قصدـ بعد صفقة عقدتها مع أحد بائعى الكتب المستعملة بسور الأزبكية، وبموجبها حصلتُ على غنيمة هائلة من كتب: “المغامرون الخمسة للناشئين/مجلد ضخم من مجلدات تان تان/عدد واحد من أعداد السلسلة العلميةكل شىء عن؟يدور حول الثعابين والأفاعى/العددالأول من مجلة ميكى جيب الذى فاتنى شراؤه عند صدوره، لكن عندما عدتُ الى البيت وألقيت نظرة خاطفة على الكتاب اصابتنى صدمة مروِّعة وشعرت بالخديعة، فقد حسبته فى البداية يدور حول مبادئ فن التصوير الفوتوغرافى بعدما قرأت لفظةكاميرا تتصدر عنوان الغلاف، لكنه لم يكن كذلك، والمصيبة الكبرى انه لم يحتو بين طياته على أية صور لممثلات عاريات من اللواتى كنت أحب مطالعة صورهن بمجلة الكواكب، فقط كانت هناك صورة واحدة سيئة الطباعة بالأبيض والأسود لفتاة صغيرة الِسنْ تظهر سُرِتها البائسةمن خلال فتق مصطنع فى قميصها، وقد خلا الكتاب مما يجذبنى اليه، فألقيت به غاضبا وأنا اشعر بالخيبة لاندفاعى فى إهدار مصروفى الصغير فى شراء ما لا يفيد من الكتب.​

أستطيع أن أكتب الآن متلعثما فى بضع كلمات هى كل ما تبقى لى، وأنا أقتفى تلك الآثار الغامضة التى سممت حياتى ودفعتنى الى السقوط فى الشَرَك بعد إحكام سجنى داخل قوقعة من الصور والكلمات.

لقد صيرتنى فى النهاية كتابات سمير فريدالنقدية عن السينما-التى شغفت بها منذ ذلك الوقت- الى كتابة النقد السينمائى وأنا فى السادسة عشر من عمري، متأثرا بطريقته الشاعرية فى الكتابة- والتى عجزت عن التحرر منها حتى الآن-والمرصعة بأفكار سارتر الوجودية، وتقنياته الأسلوبية فى قراءة الأفلام وفك شفراتها عبر جملة من الاستعارات الثقافية المنفتحة على التراث الأدبى والفنى والفلسفى.

إنهاالطريقة الإنسانية الوحيدة ليس فقط لفهم العالم الغامض، وترويضه، عبر دفعه الى متاهة من الاستعارات اللُغوية فى محاولة تأويله وهدهدته، بل ايضا الطريقة المؤكدة لتهذيبه من الرعب الوحشى الكامن داخله، أن تراه مٌتَخيَّلا كشريط سينمائى يجرى دون توقف، لكنه فى ذات الوقت، يستعصى على الإصلاح وتدارك الأخطاء بعد إنتهاءمرحلة التصويرأو بالأحرى الحياة. ​

لقدأرقنى طويلا الصراع بين المبدع /الناقد بداخلى، فكلاهما يسيران فى اتجاهين متعارضين الى حدالتنافر، لكنهما متلازمان كعاطفتى الحب والكراهية. واذا كان المبدع- أيَّا كانت مادة عمله- يقوم بتشييد عوالم موازية ومحاكية للعالم بحثا عن المعنى فيما وراء الأصل المتشظى، مستندا الى شروط جمالية اكثر تنظيماوعدالة فى اهدافها بأن يصيغ من الفوضى شكلا، ضمن صيرورة متصلة بالسؤال البدئى:”لماذا نموت؟، فشاغله الأساسى هو الخلود والدوام لعوالمه المختلقة.​

على العكس من ذلك، فإن عمل الناقد وشغله الشاغل هوالهدم، أن يقوض ما صنعه المبدع فى لحظة إنفعاله العاطفى اللاوعى، وهوسه الجنونى بالاصطناع، ليعيد كل شىء الى سيرته الأولى التى كان عليها فى البدء، ليصل الى الفكرة التى انطلق منها كل شىء، بأن يذيب الشكل الى عناصره الأولى .

وكما ان العالم لا يمكن أن يعاش هكذا غفلا من المعنى، كالخراء، كذلك الأفلام والأعمال الفنية والأدبية، لا تدوم حياتها دون تبرير لوجودها فى الزمن: ”لا تدوم حياة كائن إلاّ ما تدومه فكرة، مثلما يردد خورخى بورخيس فى قصصه.   والسؤال الفلسفى الخالد :”لماذا أنا موجود هنا؟ من الممكن أن ينسحب ايضا على الأعمال الفنية التى تظل تطارد الناقد وتسائله بذات السؤال الملِّح عبر فعل التلقى الجمالى المتغير من حقبة الى أخرى، بحثاعن المعنى من وراء خروجها إلى عالم الوضوح والتقنية بدلا من بقائها فى عالم المادة المظلمة الكاووسحيث التشوش والاختلاط الكامل، والوجود الغفل الأعمىالذى لا يفقه أسباب وجوده، وحيث يجد الناقد نفسه مجبرا على الإجابة عن ذات السؤال الذى يواجهه به العمل الفنى : ”ما الهدف من صنعى وسجنى داخل إطار أو كتاب أو عبر آلاف الأمتار من شرائط السلولويد ..؟”. ​

عندما اصدر سمير فريد كتابه العالم من عين الكاميرا كان يبلغ من العمر آنذاك 24 عاما، بينما لم تكد حصيلتى اللغوية قد جاوزت حينذاك خمس كلمات بالعدد .

كان الكتاب يتناول عبر منهجه فى النقدالتطبيقى أهم الأفلام التى عرضت عام 1968، إنه العام المحدد لإسدال الستار الفعلى على حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية بكل أفكارها وشعاراتها البراقة، عام نهاية الأحلام بتعبير برناردو بيرتولوتشى فى فيلمه الحالمون. عندما أحتل الطلبة فى احداث مايو شوارع باريس، لتتصاعد الاحتجاجات بعد ذلك، وتتواصل امام مشهد سحق الدبابات السوفييتية لتمردبراغ فى21 اغسطس من نفس العام. ​

فكل شىء كان يشرف على نهايته مثلما كان الناقد الشاب ايضا يشرف على مفارقة الشعارات والاحلام التى آمن بها وهو يقف عند مفترق طرق يواجه تحولات بلده بعد هزيمة حزيران والتى كانت تتويجا لفشل الحكم العسكرى لمصر فى مساره المضاد لحركة التاريخ.

لقد كانت حقبة مستعرة فى كل شىء، وبتعبير اخر: اكثر الحقب فى أدبيات تاريخ الثقافة صخبا وعجيجا باللغو الايديولوجى الذى كان يؤججه فى ذلك الوقت الصراع بين النظرية الماركسية والرأسمالية، وبين النظم الشمولية والليبرالية، والذى وصل الى ذروته بإعلان الحرب الباردة، والذى انعكس بدوره جماليا- وبشكل عصابى- على كل الفنون المقدمة فى تلك الفترة، وايضا النظريات النقدية المطروحة آنذاك فى السجال الثقافى الدائر حول مفهوم: الفن للفن، والفن والمجتمع، واشكاليات المثقف العضوى تجاه مجتمعه ودوره فى تثوير تلك المجتمعات النامية، ثم مسئوليته الأخلاقية تجاه النوع الإنسانى بكامله والذى لا يزال مهددا فى الحاضر بتكرار مأساتى هيروشيما وناجازاكى، بالإضافة إلى الانشغال بفضح اشكال وممارسات الهيمنة الاستعمارية والاستغلال الاقتصادى للمجتمعات الفقيرة. سنوات من الغليان مزدحمة بحروب السيمولوجيين وتناظرالعلامات المتطايرة فى كل اتجاه/ الصراع الحاد بين سينما النثر وسينما الشعر/انتشار الجماعات اليسارية والفوضوية المتطرفة واختلاط المفاهيم بين ما هو ثورى وما هو إرهابى.

لقد كانت حقبة مستعرة فى كل شىء، وبتعبير اخر: اكثر الحقب فى أدبيات تاريخ الثقافة صخبا وعجيجا باللغو الايديولوجى الذى كان يؤججه فى ذلك الوقت الصراع بين النظرية الماركسية والرأسمالية، وبين النظم الشمولية والليبرالية، والذى وصل الى ذروته بإعلان الحرب الباردة، والذى انعكس بدوره جماليا-وبشكل عصابى-على كل الفنون المقدمة فى تلك الفترة، وايضا النظريات النقدية المطروحة انذاك فى السجال الثقافى الدائر حول مفهوم: الفن للفن، والفن والمجتمع، وإشكاليات المثقف العضوى تجاه مجتمعه ودوره فى تثوير تلك المجتمعات النامية، ثم مسئوليته الأخلاقية تجاه النوع الإنسانى بكامله والذى لا يزال مهددا فى الحاضر بتكرار مأساتى هيروشيما وناجازاكى، بالإضافة الى الانشغال بفضح اشكال وممارسات الهيمنة الاستعمارية والاستغلال الاقتصادى للمجتمعات الفقيرة .سنوات من الغليان مزدحمة بحروب السيمولوجيين وتناظرالعلامات المتطايرة فى كل اتجاه/ الصراع الحاد بين سينما النثر وسينما الشعر/انتشارالجماعات اليسارية والفوضوية المتطرفة واختلاط المفاهيم بين ما هو ثورى وما هو إرهابى / صعود التجمعات النسوية المنادية بحق الإجهاض/ازدهار سينما المؤلف المتأثرة بكتابات المنظرالسينمائيالكسندر استروك ونظريته الكاميرا- قلم” / شيوع سينما الاغتراب والعصيان ضد الرأسمالية ومفهوم التشيؤ ووضعية الانسان المعاصر فى المجتمعات الصناعية الحديثة/ اختلاط منشورات الغضب السياسى ضد حرب فيتنام بمقولات سارتر وكامو الوجودية بالشعارات المنادية بالحرية الجنسية وأفكار هربرت ماركيوز/ظهور تيار ما يسمى بالسينما الثورية /اجتياح حمى موسيقى الروك اندرول العالم/ تنامى ظاهرة التجمعات الطابوية والمشاعية المنشقة عن مجتمعاتها المدنية .

تلك كانت المشهدية البانورامية التى كان عليها العالم خلال عقدى الخمسينات والستينات، والتى تقوت عليها الكتاب فى افكاره وتردد صداها عبر تيمات الافلام التى عكف سمير فريد على تحليلها.

أما عن الموضوعات التى كانت مطروحة فى تلك المرحلة فتتلخص فى خلق وايجاد صورة مجتمع جديد وحديث تقوم فية الثقافة بالدور الديناميكى الفعال فى معطيات وجوده وتثويره. ولم يكن هذا الوعى الاستراتيجى غائبا عن إدراك الناقد الشاب -ومعظم جيله- خلال تحليلاته النقدية للأفلام،  والتى كانت مشحونة بكل الإرهاصات السياسية والجمالية التى يتفجر بها العالم آنذاك، بالإضافة الى السعى نحو إيجاد تيار سينمائى جديد من داخل نطاق السينما المصرية كأحد الأهداف المهمة من وراء نشر الثقافة السينمائية بين قطاعات مهمشة اجتماعيا، من أجل خلق إدراكات ذوقية جديدة تناسب تطلعات المجتمع الاشتراكى الجديد.

####

سمیر فرید.. المتمرد

بقلم: هالة لطفى

أعتقد أن أسطورة سمیر فرید التى تجعل سیرته بهذا الغنى تكمن فى انحیازه للسینمائیین خاصة هؤلاء الذین یحاولون التمرد على السینما التجاریة وعلى القیم الاجتماعیة الجامدة والرجعیة.. دافع عنهم بقلمه ووضع إطارا نقدیا لما یصنعون وكان جسرا بینهم وبین الجمهور وأخیرا بینهم وبین المهرجانات والعالم الواسع.

أعتقد أیضا أنه آمن بأن السینما یمكنها أن تغیر الوعى وأن الفن یمكنه أن یغیر العالم للأفضل ولهذا ورغم تشاومه المقیم من الوضع العام كرس سمیر فرید حیاته للحلم وساعد الكثیر من الحالمین على مواصلة المحاولة رغم كل شيء.

كان سمیر فرید متمردا عظیما.. وكان یكن احتقارا عمیقا للبیروقراطیة والكهنوت ورجال الدولة، فى كل مرة قبل ان یتولى منصبا او یدیر مهرجانا كان ینتهى باستقالة ونفور شدید من البیروقراطیة الفاسدة وطبعا فى المقابل وبسبب نجاحه الصادح فى كل مهمة تولاها كانت البیروقراطیة تنهشه بكل انواع التهم الجاهزة لانه ببساطة یكشف احجامهم الضئیلة امام قامته الكبیرة ویبین كیف یستطیع ان یخلق حركة ثقافیة حقیقیة وهو ما یخیف الموظفین الذین یعتبرون المهرجانات احتفالات للتسلیة لا طریقة لنشر الوعى والثقافة.

سنة 1996 تولى مسئولیة ادارة نشاط مكتبة القاهرة الكبرى من عروض وندوات على هامش مهرجان القاهرة السینمائى بمناسبة احتفالات العالم بمئویة السینما، استكتب اهم المؤرخین العرب واصدر یومیا كتابا ضخما یحكى تاریخ السینما فى بلد عربى مختلف، كانت الكتب توزع مجانا وبأعداد ضخمة على المهتمین وكانت العروض والندوات تقام من الساعة السادسة مساء للساعة 12 مساء ویحضرها اهم سینمائیى مصر والعالم العربى وفیها یسأل سمیر فرید اسئلة كبرى تشى بعمق انشغاله الثقافى والإنساني.. فى احدى الندوات عرض فیلم «الزواج الممنوع فى الأرض المقدسة» للمخرج الفلسطینى میشیل خلیفى وبحضوره طبعا، وطرح سؤالا كبیرا عن المقاطعة التى نمارسها على عرب 48 بداعى الوطنیة والعداء لإسرائیل رغم انه فى الحقیقة حصار مزدوج وعقاب اعمى لانه یصب فى مصلحة اسرائیل ویمنعنا من فهم الأوضاع القائمة على التمییز والعنصریة ضد عرب الداخل.. وطبعا قامت علیه القاعة كلها وشتمه الحضور من نقاد وجمهور وصحفیین واتهموه بالتطبیع وظلت النقاشات حتى الساعة الواحدة صباحا عندما اضطر موظفو المكتبة لطردنا طردا هذا نموذج لمحاولات سمیر فرید طرح اسئلة كبیرة وخلق نقاش یستمر شهورا ویفتح الوعى على افكار غیر تلك التى یلقنوننا ایاها فى وسائل الإعلام الرسمیة والوحیدة وقتها.

علاقة سمیر فرید بالأجیال المتعاقبة من المخرجین فى مصر لیست علاقة ناقد بمخرجین لكنها علاقة من الدعم والصداقة والتقدیر والنصح والمساعدات المباشرة لتحویل المشاریع على الورق الى افلام.. معروف ان سمیر فرید كان صدیقا مقربا لتوفیق صالح ویوسف شاهین وشادى عبد السلام ومن یقرأ مراسلاته معهم یدرك كیف انه بحكم صداقته بهم كان یقرأ سیناریوهات الأفلام ویتوسط لدى الممثلین لانه كان وقتها صدیقا لمعظمهم ومستشارا لعدد من اهم نجوم مصر كسعاد حسنى مثلا.. وفى فترة الثمانینات كان هو صاحب القلم الذى قدم واحتفى بسینما الواقعیة الجدیدة وبحكم منصبه اللاحق كمستشار لشركة المنتج حسین القلا كان وراء انتاج عدد من اهم افلامها لمخرجین مثل محمد خان وداود عبد السید وخیرى بشارة.

سمیر فرید كان هو المسئول عن كل مسودات مشاریع صنادیق دعم السینما التى خرجت من وزارة الثقافة والتى تنصلت من اغلبها لاحقا.. ورغم انه ادرك مبكرا ان الدولة تعادى الثقافة والفنون الا انه لم ییأس ابدا ولم یتوقف عن تلبیة الدعوة فى كل مرة لصیاغة تعدیلات وقوانین للدفاع عن السینمائیین الشباب ضد الدولة وضد كیانات الإنتاج المحتكرة ولا اعتقد ان ناقدا غیر سمیر فرید كان یعرف جمیع المخرجین الشباب بالاسم وشاهد وكتب عن افلامهم.

كان بینه وبین المخرجین الشباب قبل الكبار خطا مفتوحا.. اظنه آمن بالشباب فجعلهم یؤمنون بأنفسهم.. كان یرى افلامهم الجدیدة واذا تحمس لها یفعل كل ما فى وسعه للمساعدة.. فمثلا هو من اخذ نسخة من فیلم ابراهیم بطوط «عین شمس» للناقد المغربى نور الدین صایل الذى كان وقتها مدیرا للمركز السینمائى المغربى لیساهموا فى عملیات ما بعد الإنتاج وبعدها اخذ نسخة الفلم معه الى مهرجان كان ووزعها على مبرمجى المهرجانات والنقاد وكان فخورا جدا عندما حصل الفیلم على الجائزة الكبرى من مهرجان تاورمینا الإیطالى وظل یكتب لصالح بطوط فى معركته ضد الرقابة وقتها.

سمیر فرید كان الناقد الوحید الذى یدعوه المخرجون المصریون على اختلافهم لمشاهدة افلامهم قبل انتهاء المونتاج وكانت ملاحظاته دائما محل تقدیر بسبب ذوقه الاستثنائى كسینمائي.

كان یقرأ الأفلام بطریقة تضیف الكثیر من المعانى التى ربما لا یدركها المخرج الا بعد ان یصیغها الأستاذ فى كلمات وبحكم ثقافته الكبیرة وذوقه المتطور والحداثى جدا ربما اكثر من سینمائیین شباب كثیرین كان یستطیع ان یعطى نصائح تغیر شكل الفیلم كله وكأنه یمارس نوعا من الإبداع الموازى على الفیلم.

فى افلام جيلنا ستجد اسم سمیر فرید دائما اول اسم فى الشكر الخاص بدءا من ابراهیم البطوط واحمد عبد الله وكریم حنفى وتامر السعید وصولا لمحمد حماد وغیرهم من شباب السینمائیین اللى كانت لدیهم علاقة خاصة جدا مع الأستاذ.

بشكل شخصى ومنذ عرفته عام ١٩٩٦ شملنى سمیر فرید بدعمه وبمحبته على كل المستویات وبشكل لا یمكن احصاؤه.. لكن یكفى ان اذكر انه قرر تخصیص مساحته الیومیة فى جریدة المصرى الیوم لمدة خمسة ایام متواصلة للكتابة عن فیلمى «الخروج للنهار» فى الأسبوع الوحید الذى عرض فیه فى السینمات وعندما كلمته لأشكره وكم كان یخجله المدیح والشكر اصر على التأكید ان هذا هو واجبه نحو هذا النوع من الأفلام، وكان تأكیده الجاد جدا رغم ما كان بالمكالمة من مزاح بمثابة بیان اخیر لم اكن احتاجه لاننى اعرفه جیدا عن مدى التزامه بدعم السینما الجدیدة وغیر الجماهیریة فى مصر وبث الطمأنینة فى نفوس صناعها المساكین البائسین المهزومین والذین كان سمیر فرید هو نصیرهم الأكبر.

مهما كتب عن سمیر فرید لا احد یمكنه فهم هذه العلاقة من الإخلاص المتبادل والأبوة والصداقة والدعم ولا اعتقد ان ناقدا آخر یمكن ان یبنى علاقة مثلها مع اجیال من السینمائیین على مدى خمسین عاما.

####

أشجار الغابة تقتلع

بقلم: حميد مرعى

ثقيل جدا على الروح أن تجلس لتكتب عن صديق غيبه الرحيل ولم تكن موطنا نفسك على تلقى مثل هذا الخبر المفجع، خبر رحيل الصديق والأخ العزيز سمير فريد. قد تكون الذكريات التى سأسردها عن سمير متفرقة أحاول سردها من خلال تجربتى فى المؤسسة العامة للسينما لما لسمير من أثر كبير وفعال فى مسيرة السينما السورية منذ انطلاقتها الأولى. فى بداية السبعينات من القرن الماضي، كانت السينما السورية تستأنف خطوها البطيء ليكون لها موقع على خريطة السينما العربية، التى تحتل فيها السينما المصرية الموقع الأكبر والأهم. أسندت لى وقتها إدارة المؤسسة العامة للسينما فى سوريا، المؤسسة ذات الطابع الاقتصادى أى التى كان عليها أن تؤمن نفقاتها من موارد نشاطاتها وإنتاجها، بشكل أساسي، وفى حال عدم إمكانها توفير ذلك تتلقى بعض المساعدات من الدولة، وكان إنتاج المؤسسة حينها يكاد يقتصر على إنتاج الجريدة الرسمية التى ترصد نشاطات مسئولى الدولة وتحركاتهم وتصريحاتهم.

وكانت المؤسسة تضم مجموعة من المخرجين والفنيين السينمائيين مصورين ومونتيرية وغيرهم من المتخرجين من البلدان الاشتراكية وفرنسا ومصر وإذا خرجنا من المؤسسة نفسها إلى فضاء دور السينما المنتشرة فى أرجاء البلد نرى أنها كانت غارقة فى الأفلام الهندية ذات المستوى الفكرى والفنى الهابط، وأفلام أمريكية وأوروبية من ذات المستوى، وتكاد تخلو من أى فيلم ذى مستوى فكرى وفنى رفيع أو حتى مقبول. ما العمل؟ قمت بحصر الاستيراد بالمؤسسة العامة للسينما مما حقق هدفين، أولهما اتاحة أفلام ذات مستوى فكرى وفنى جدى ومقبول وثانيهما تأمين موارد مالية تسد ليس فقط رواتب ونفقات المؤسسة الأساسية بل واتاحة موارد لإنتاج أفلام سينمائية. وكذلك قمت برفد المؤسسة بكفاءات أدبية وفنية سواء بالنقل من دوائر الدولة الاخرى أو بالتعيين.

ركزنا الاهتمام بشكل أساسى فى البداية على الأفلام القصيرة، سواءً روائية أو تسيجيلية وأعطينا اهتماما كبيرا للأفلام التسجيلية ولعدد محدود من الأفلام الروائية الطويلة. عندما بدأ يتوفر للمؤسسة عدد جيد من الأفلام تم التفكير بعقد مهرجان للمخرجين الشباب العرب لفيلمهم الاول والثانى وألا يكون قد أخرج فيلما ثالثا. الغرض من الفكرة كانت اتاحة الفرصة لهؤلاء المخرجين والفنيين الاطلاع على تجارب بعضهم وخلق قنوات تواصل وتعارف بينهم. للاعداد لهذا المهرجان العربى ولتنفيذه تم التعاون مع كوكبة من النقاد والمهتمين بالموضوع وبشكل أساسى من مصر ولبنان أتذكر منهم، سمير فريد وسمير نصرى والشخصية المنفردة الصديق وليد شميط والصديق الغالى بدر الدين عرودكى وعلى أبو شادى وفتحى فرج ومحمد رضا وسامى السلمونى وغيرهم.

هذه المرة الاولى التى ألتقى فيها بسمير فريد وجها لوجه، كنت قبلها أتابع ما استطعت كتاباته فى الصحف كما اتابع غيره كمحب للسينما ومولع بمشاهدة الأفلام رغم أننى كاقتصادى خارج هذا النطاق الفني. وبدأنا ننسج خيوط صداقة منذ اللقاءات الأولى بالأخص مع السميرين فريد ونصرى فعلى اختلاف شخصياتهما، يتشاركان بأنهما قريبان من النفس، واضحان ساطعان بلا تكلف أو ادعاء. لامتداد العمر مساوئ كثيرة فى نظرى أهمها، شعورك وانت فى عز الشباب وحولك كوكبة كبيرة من الاصدقاء بنفس العمر أنك فى غابة تظللك أشجارهاالوارفة ثم عاما بعد عام تقتلع الاشجار واحدة تلو الاخرى واذ أنت فى فراغ خال أو شبه خال، مع كل هؤلاء الأصدقاء حولك تحس بالقوة والعنفوان والمقدرة على الانجاز ثم مدة بعد مدة تحس أن اعضاءك بدأت تضمر فتفقد مرة يدك ومرةً ساقك ومرة عينك، وتشعر بالقهر وعدم الجدوى كلما فقدت عزيزا هو جزء منك. بالنسبة لسمير فريد ومنذ اللقاءات الأولى تحس بأنك تعرفه وبأنه قريب منك وأنك قريب منه، انسان يقدم نفسه بأريحية وود، انسان هادئ بلا انفعال، يتكلم بهدوء ورزانة لا يحاول أن يفرض آراءه على أحد. يتمتع بكبرياء طبيعي، هو جزء من تكوينه، يحميه من أى موقف ضعف، أو مساومة على قناعاته، يحترم الآخرين، ولا يسمح لأى كان بأن يمس كرامته. يحب مساعدة من يطلب مساعدته، جهده، دون أى انتظار لمقابل، انسان جميل ومحبوب ويبدو لى أنه لا يعرف ذلك أو لا يهمه ذلك، تأسرك ابتسامة عينيه فلا تملك الا أن تبتسم. عدا أن سمير ناقد سينمائى قدير ومؤرخ مهم للسينما العربية ولكننى أترك هذا الموضوع لأهل الاختصاص.

تعمقت معرفتى بسمير فريد مع السنين، تعرف على زوجتى يسرى وابنى تميم وبعدها ابنتى هديل وتوالت اللقاءات فى عدة مدن عربية و عدة مهرجانات عالمية، وتوثقت بيننا عرى صداقة متينة، فعندما لا نلتقى وجها إلى وجه نتواصل عبر الهاتف، نشتم ونضحك ونتحسر. كنا فى المؤسسة نذهب عدة مرات فى السنة إلى القاهرة لاختيار بعض الأفلام المصرية لأن المؤسسة هى الجهة الوحيدة المخولة للاستيراد لسوريا. أول شخص كنت ألتقيه، سمير، وتعرفت على زوجته الفاضلة العزيزة أم محمد. وكنت أقضى معظم وقتى فى القاهرة بعد انتهاء العمل مع سمير، على الغالب فى الحسين، حيث يحب سمير بائع حمام مشوى يعد حماما رائعا، أو فى بيته سمير كريم جدا، من العسير دائما أن يسمح لك بالدفع ويصل الأمر معه حد التدافع، أمزح معه وأقول يا أخى أنا مدير عام وأنت مجرد ناقد سينمائي، اتركنى أدفع، فيجيب ضاحكا أنت مدير عام فى سوريا ولكن ليس فى مصر. لا أذكر اطلاقا وطيلة السنوات والمرات التى كنا نذهب للقاهرة لاختيار الأفلام أن سمير طلب منى اختيار فيلم معين أو استبعاد فيلم آخر. علما بأن منتجى الأفلام السينمائية فى مصر يعرفون عمق صداقتى مع سمير فريد، لم يحدث ذلك أبدا. علمت بأن المخرج المصرى توفيق صالح دون عمل، فتحدثت مع سمير بشأن مجيء توفيق إلى سوريا للعمل فى المؤسسة العامة وطلبت رأيه فى ذلك، قال إن توفيق مخرج ملتزم وجيد ولكن التعامل معه ليس سهلا فهو إنسان شكوك وذو شخصية خاصة وعلى ضوء ذلك خذ قرارك. جاء توفيق صالح إلى سوريا وأخرج فيلم «المخدوعون» عن قصة الروائى الراحل غسان كنفانى «رجال تحت الشمس» وكان ما كان مع توفيق وليس هنا مجال بحثه، غادر بعدها إلى العراق وهناك غادر ماضيه.

اتصلت بسمير بشان الحاجة إلى شخص متمرس ليكتب لنا سيناريو لبعض الأفلام، اقترح على بعض الأسماء منهم العزيز الراحل أيضا فتحى فرج وكنت ميالا اليه وقد أثنى سمير فريد عليه، جاء فتحى رحمه الله إلى دمشق ومكث حوالى السنة فيها، يحاول أن يكتب سيناريو. تركت المؤسسة العامة للسينما عام ١٩٧٤ إلى هيئة تخطيط الدولة واستمرت علاقة الصداقة العميقة مع سمير كما هي. استمر سمير يأتى لدمشق لحضور المهرجان الدولى للسينما فيها وكنا نلتقى يوميا إما فى بيتنا فى دمشق أو فى مكان عام، هكذا كل عام واستمر سمير يحضر هذا المهرجان إلى أن قامت ثورة الشعب السورى عام ٢٠١١ واتضح موقف السلطات منها، فتوقف سمير عن الحضور وهذا يبين التزام سمير بمواقفه واحترامه لأفكاره، وعدم مساومته أو مهادنته ما يمس هذه المواقف والأفكار. هكذا تعودنا من سمير فى كل القضايا التى أعرفها وتطلب من سمير اتخاذ موقف منها. لا يمكن أن أنسى مطلقا روعة هذا الصديق الأخ العزيز سمير عندما دعانى إلى حضور مهرجان الأفلام السينمائية فى الإسماعلية فى مصر، وكنت وقتها قد تركت العمل فى المؤسسة وكان عملى الجدى بعيد كل البعد عن مجال الفن والسينما وعندما وضحت له ذلك، ألح علي، وشرح لى أنه من حقى الحضور كونى مديرا سابقا ذهبت إلى الاسماعيلية، وحضر كذلك الصديق العراقى العزيز قيس الزبيدى الموهوب الذى لم ينل حقه إلى الآن من التقييم والاهتمام بإنتاجه. قضينا أيام الإسماعيلية معا، سمير وقيس وأنا، سمير يتكلم عن مشاريعه فى الكتابة عن تاريخ السينما العربية. خاصية فى سمير، بمقدار حبه لمصر، وحنينه الدائم إليها، كانت تؤرقه الهموم العربية وقضاياها وهمومها، وهذه نقطة بحسبى تحسب لسمير، فعمق مصريته البينة والصادقة لم تحل بينه وبين بعده العربي. التقيت بسمير بمناسبة افتتاح مكتبة الإسكندرية، وعرفنى على معالم هذه المدينة وجولنا بها وعرفنى على أهم مطاعم السمك بها ولا داعى للذكر بأنه لم يفارق عادته فى الكرم الفائض والمحرج، حقا كان إنسانا كريم اليد والنفس واللسان. لم تقتصر علاقتى به على شخصه بل امتدت إلى علاقة عائلية، ابنى تميم كان صغيرا بالعمر، ورغب بزيارة خاله الذى حط رحاله فى القاهرة بعد أن ترك العراق. أعطيته رقم سمير فريد حتى يعرفه على القاهرة التى يحبها لأن خاله كان غريبا عنها وحديث العهد بها. اتصل تميم بعمو سمير وإذا به يحضر فورا ويأخذه معه ويطوف به ومعه فى انحاء القاهرة الواسعة الجميلة والرائعة.

وقبل أن يعود تميم الصغير يهديه سمير تمثال عصفور رقيقا وجميلا جدا لا يزال يحتفظ به حتى الآن مثلما يحتفظ بحب سمير وحب القاهرة. كم هو عسير أن تكتب عن صديق بمناسبة غيابه. أنه نوع من الأسى والألم، إنها لوعة الغياب المريعة. لوعة اقتلاع الاشجار السامقة حولك، تعمق شعورك أنك فى فراغ، شبه وحيد، شبه مذهول. وكأن امتداد العمر هو نوع من النقمة. نوع من العذاب. سمير فريد ستبقى فى أعماقى حيا أسمع صوتك الهادئ، بسمة عينيك، روحك العالية، موهبتك وصدقك فى عملك، أنت من الناس الذين لا يمكن نسيانهم أبدا. أتقدم وعائلتى من الأخت العزيزة أم محمد ومن محمد واخوته، ومن آل سمير فريد وأصدقائه ومن نفسى بأحر التعازى وليصبركم الله على تحمل لوعة الغياب. الشكر الجزيل للأخ الحبيب بدر الدين عرودكى الذى كان صديقا عزيزا ومحاربا باسلا فى كل المعارك التى تم خوضها فى المؤسسة العامة للسينما السورية عندما كنا نعمل معا، ولكل معاركه بعد ذلك فى باريس فى معهد العالم العربي. سيبقى بدر كما كان دائما أخا وصديقا عزيزا. أقول ذلك لشكر نبله إلى لفت نظر الأصدقاء الأعزاء فى مجلة القاهرة الى الاتصال بى لكتابة ما كتبت. وإن لم يكن ما كتبته معبرا وكافيا وهو مجرد ذكريات مبعثرة ممزوجة بالحزن والألم.

المدير العام السابق للمؤسسة العامة للسينما بدمشق

####

أستاذ سمير.. لا تتركنى الآن وحيدا

بقلم: كريم حنفى

الزمن الفاصل بين حلمى بالسينما وصناعة فيلمى الأول والذى يتجاوز خمسة وعشرين عاما يبدو الآن عصيا على الفهم لا أعرف كيف انتهت رحلتى التى بدأت بخطوات متعثرة فى شوارع ومقاه وبارات وسط البلد إلى عرض الفيلم فى مهرجان القاهرة السينمائى الدولى فى دورته الذهبية المعروفة بدورة سمير فريد وهو الأمر الذى لم أكن أطمح إليه عندما بدأت هذه الرحلة ولكنى أعرف أنها كانت رحلة تستحق العناء.

اللقاء الأول بالأستاذ سمير فريد كان بتوصية من الأصدقاء الأعزاء المنتج والمخرج محمد سمير والناقد السينمائى جوزيف فهيم لأعرض عليه على استحياء نسخة عمل مبدئية من فيلمى الأول.

التقيته فى مكتب الصديق محمد سمير للمرة الأولى ذات مساء فى العام 2014 وكنت وقتها شابا منهكا فى السابعة والثلاثين من العمر أحلم بالسينما وبالتغيير شاركت فى ثورة مهزومة ولم أنته من فيلمى الأول الذى تعثر انتاجه لسنوات طوال ولا أعرف أين يمكننى عرضه بعد.

فى لقائنا الأول كنت شخصا يائسا ومهزوما لم يعرف مرة واحدة فى حياته انتصارا ولم يستغرق الأستاذ سمير سوى خمسة وستين دقيقة فقط هى مدة مشاهدته لنسخة العمل ليغير حياتى كلها إلى الأبد.

فتح لى أستاذ سمير الأبواب التى عشت حياتى كلها أطرقها على مصراعيها وتحمل وحده مغامرة اختيار فيلم صامت مدته خمس وستين دقيقة فقط من كتابة واخراج شخص هامشى ما زال يبحث عن نفسه هو حرفيا لا أحد لم يتخرج من المعهد العالى للسينما ولا يعرفه المنتجون والنجوم والنقاد ولا ينتمى لأى دوائر نفوذ لتمثيل مصر منفردا فى المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائى الدولى وهوجم الأستاذ بسبب اختياره للفيلم منذ إعلان الخبر بعد لقائنا بأيام حتى ليلة العرض وتحمل الهجوم عليه بنبل أصحاب المهمات الكبيرة دون تململ أو وجل هذا هو سمير فريد لم يكن فقط أهم ناقد سينمائى عربى بجدارة بل كان صانعا للمبدعين كان الأستاذ مثقفا عضويا فاعلا فى مجتمعه قادرا على تثوير وعى قرائه ومستمعيه ومفكرا تنويريا كبيرا يشتبك يوميا مع قضايا مجتمعه والعالم ومفكرا تقدميا يعرف كيف يطرح الأسئلة الكبرى منشغلا باستمرار بدعم السينما الجادة والمغايرة يقدم يده للمواهب المحتاجة لدعمه وحمايته ولا يكترث للهجوم على شخصه كان الأستاذ يعرف دوره جيدا ويعرف أين ومع من ينبغى عليه أن يقف ولا يخشى أحد.

فيلم باب الوداع مارس نوعا من القطيعة الكاملة مع تراث السينما المصرية وكل ما هو سائد فيها ولهذا السبب بالتحديد لم يكن متوقعا لهذا الفيلم أدنى نجاح من أى نوع أو أى جماهيرية أو أضواء وكنت أصنع الفيلم وأنا أعرف ذلك وأحمل فى قلبى هذا الأسى وأسير به فى كل يوم فى النهاية ما قيمة أن تصنع فيلما لا يشاهده أحد؟

حتى التقيت الأستاذ للمرة الأولى فاتخذ قرارا لا يقل جذرية عن العمل ذاته وألقى بى وبالفيلم فى وجه الجمهور والنقاد والعالم ووضع الفيلم فى قلب المشهد فى أكبر حدث سينمائى بمصر بعد مشاهدة نسخة العمل فقط لا أكثر ولم يراجعنى الأستاذ مرة أخرى أو يطلب إعادة مشاهدة النسخة النهائية قبل العرض أبدا.

وثق بى الأستاذ سمير رغم أنه لم يكن يعرفنى وكان إيمانه بى وبالفيلم كاملا وصادقا منذ اللحظة الأولى وكأننى صنعت الفيلم من أجله وكانت هذه لحظة إعادة ميلاد مكتملة لم أعد بعدها الشاب الفقير المهزوم محب السينما الذى لا يعرف لها طريقا أصبحت على يديه بين ليلة وضحاها صانع الفيلم المثير للجدل الذى رشحه الأستاذ كأفضل أفلام العام دون منافس على حد تعبيره وهكذا منحت الأستاذ فيلمه المفضل فى هذا العام ومنحنى فى المقابل أسمى وجمهورى وحقق حلمى ورسم بيده مصيري هذا كل ما فى الأمر يكفى أن تصنع فيلما جيدا ليحبك سمير فريد ويدعمك ويدعم فيلمك ويغير حياتك إلى الأبد.

يعود الفضل لأى نجاح حققه باب الوداع لسمير فريد لأننى أعرف أننى قدمت عملا لم يكن أحدا سواه ليهتم أو يجرؤ على عرضه عرضا بهذا الحجم قدمنى الأستاذ وصنعنى وسأظل مدينا له بكل شيء حتى النهاية.

كان الأستاذ يلح على لأبدأ مشروع فيلمى القادم وعندما قدمت له المشروع كان يكفى أن يرفضه لألقيه جانبا أو يباركه فأكرس السنوات القادمة من عمرى وكان يعرف ذلك ويتصرف على أساس هذه المسئولية كان سمير فريد يقترح الممثلين المناسبين ويقترح بعض مواقع التصوير ويشجعنى على خوض مغامرة انتاج الفيلم مرة أخرى وللمرة الأولى لم أعد أعمل على مشروعى وحيدا كنت أكتب ليقرأ سمير فريد وأفكر لأناقش سمير فريد وأحلم لأشارك سمير فريد أحلامى ويمضى الوقت وأنا فى انتظار موعدنا القادم، وبرغم كل شيء ظل الأستاذ وهو يتلقى العلاج الذى يصيب جسده بالوهن يملك ما يكفى من الوقت لنلتقى ولم ينقطع عنى منذ لقائنا الأول يوم أن غير مسار حياتى حتى لقاءنا الأخير عندما أمسكت بيده فى غرفة المستشفى التى فارقت فيها روحه الجسد.

هذا الرجل كان أرحب وأجمل من العالم بأسره كان سمير فريد ملاكى الحارس كان يموت ويبقينى حيا قادرا على الحب والحلم والشغف.

ليس للموت وجود، الموت إعادة ميلاد، نهاية لهذه الحياة وبداية للأبدية ورحلة للاتحاد بالنور وأنت اكتملت بموتك.

أنا لست حزينا على فراقك فحسب يا أستاذ سمير أنا الآن وحيدا جدا، كنت أستعين بك على مواجهة قبح العالم وخوائه والآن لا أعرف كيف أواجه الحياة القاسية دونك الفراغ الذى خلفته لا يستطيع أن يملأه سواك كان حضورك طاغيا فى حياتى فى كل يوم طيلة السنوات الماضية منذ التقيتك حتى رحيلك.

كنت أنتظر أن تتحسن صحتك لأخبرك أننى انتهيت من السيناريو وأننى أنتظر طفلى كنت ستضحك وكنا سنذهب إلى مقهانا المفضل نختار سويا اسم الطفل ونتحدث عن السينما وأبثك قلقى وتطمئنى لقد منحتنى كل شيء يا أستاذ سمير وأخذت نصف قلبى ورحلت والآن هأنا ذَا على مشارف الأربعين أعرف الموت وأعرف الحب وأعرف الفقد اذهب لمقهانا المفضل وأجلس على نفس الطاولة بقلب نصفه لى ونصفه معك احتسى قهوتى وحدى وانتظرك وأنا أعرف أنك لن تأتى وأبكيك كطفل فقد أباه.

يبقى الإنسان بعد رحيله ممثلا فى عمله وما تركه وراءه للإنسانية وبهذا المعنى ستبقى حاضرا فينا منيعا على الموت عصيا على الغياب اطمئن يا أستاذ العصابة مستمرة والسينما كما علمتنا مستمرة وحياتك مستمرة وممتدة فينا نحن ابناءك وتلاميذك ومريديك.

لم يتغير شىء يا أستاذ سمير سأظل اذهب لنفس المقهى وأتذكرك وأكتب لتقرأ وأصنع أفلامى من أجلك أنت فكن بخير حتى نلتقى مرة أخرى على الجانب الآخر.

جريدة القاهرة في

11.04.2017

 
 

أستاذ سمير .. ليس للموت وجود.

الزمن الفاصل بين حلمى بالسينما وصناعة فيلمى الأول والذى يتجاوز خمسة وعشرين عاما يبدو الآن عصيا على الفهم لا أعرف كيف انتهت رحلتى التى بدأت بخطوات متعثرة فى شوارع ومقاهى الزمن الفاصل بين حلمى بالسينما وصناعة فيلمى الأول والذى يتجاوز خمسة وعشرين عاما يبدو الآن عصيا على الفهم لا أعرف كيف انتهت رحلتى التى بدأت بخطوات متعثرة فى شوارع ومقاهى وبارات وسط البلد إلى عرض الفيلم فى مهرجان القاهرة السينمائى الدولى فى دورته الذهبية المعروفة بدورة سمير فريد وهو الأمر الذى لم أكن أطمح إليه عندما بدأت هذه الرحلة ولكنى أعرف أنها كانت رحلة تستحق العناء.

اللقاء الأول بالأستاذ سمير فريد كان بتوصية من الأصدقاء الأعزاء المنتج والمخرج محمد سمير والناقد السينمائى جوزيف فهيم لأعرض عليه على استحياء نسخة عمل مبدئية من فيلمى الأول.

التقيته فى مكتب الصديق محمد سمير للمرة الأولى ذات مساء فى العام 2014 وكنت وقتها شابا منهكا فى السابعة والثلاثين من العمر أحلم بالسينما وبالتغيير شاركت فى ثورة مهزومة ولم أنتهى من فيلمى الأول الذى تعثر انتاجه لسنوات طوال ولا أعرف إين يمكننى عرضه بعد.

فى لقائنا الأول كنت شخصا يائسا ومهزوما لم يعرف مرة واحدة فى حياته انتصارا ولم يستغرق الأستاذ سمير سوى خمسة وستون دقيقة فقط هى مدة مشاهدته لنسخة العمل ليغير حياتى كلها إلى الأبد.

فتح لى أستاذ سمير الأبواب التى عشت حياتى كلها أطرقها على مصراعيها وتحمل وحده مغامرة اختيار فيلم صامت مدته خمس وستون دقيقة فقط من كتابة واخراج شخص هامشى مازال يبحث عن نفسه هو حرفيا لا أحد لم يتخرج من المعهد العالى للسينما ولا يعرفه المنتجون والنجوم والنقاد ولا ينتمى لأى دوائر نفوذ لتمثيل مصر منفردا فى المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائى الدولى وهوجم الأستاذ بسبب اختياره للفيلم منذ إعلان الخبر بعد لقائنا بأيام وحتى ليلة العرض وتحمل الهجوم عليه بنبل أصحاب المهمات الكبيرة دون تململ أو وجل هذا هو سمير فريد لم يكن فقط أهم ناقدا سينمائيا عربيا بجدارة بل كان صانعا للمبدعين كان الأستاذ مثقفا عضويا فاعلا فى مجتمعه قادرا على تثوير وعى قرائه ومستمعيه ومفكرا تنويريا كبيرا يشتبك يوميا مع قضايا مجتمعه والعالم ومفكرا تقدميا يعرف كيف يطرح الأسئلة الكبرى منشغل باستمرار بدعم السينما الجادة والمغايرة يقدم يده للمواهب المحتاجة لدعمه وحمايته ولا يكترث للهجوم على شخصه كان الأستاذ يعرف دوره جيدا ويعرف أين ومع من ينبغى عليه أن يقف ولا يخشى أحد.

فيلم باب الوداع مارس نوعا من القطيعة الكاملة مع تراث السينما المصرية وكل ما هو سائد فيها ولهذا السبب بالتحديد لم يكن متوقعا لهذا الفيلم أدنى نجاح من أى نوع أو أى جماهيرية أو أضواء وكنت أصنع الفيلم وأنا أعرف ذلك وأحمل فى قلبى هذا الأسى وأسير به فى كل يوم فى النهاية ما قيمة أن تصنع فيلما لا يشاهده أحد؟

حتى التقيت الأستاذ للمرة الأولى فاتخذ قرارا لا يقل جذرية عن العمل ذاته وألقى بى وبالفيلم فى وجه الجمهور والنقاد والعالم ووضع الفيلم فى قلب المشهد فى أكبر حدث سينمائى بمصر بعد مشاهدة نسخة العمل فقط لا أكثر ولم يراجعنى الأستاذ مرة أخرى أو يطلب إعادة مشاهدة النسخة النهائية قبل العرض أبدا.

وثق بى الأستاذ سمير رغم أنه لم يكن يعرفنى وكان إيمانه بى وبالفيلم كاملا وصادقا منذ اللحظة الأولى وكأننى صنعت الفيلم من أجله وكانت هذه لحظة إعادة ميلاد مكتملة لم أعد بعدها الشاب الفقير المهزوم محب السينما الذى لا يعرف لها طريقا أصبحت على يديه بين ليلة وضحاها صانع الفيلم المثير للجدل الذى رشحه الأستاذ كأفضل أفلام العام دون منافس على حد تعبيره وهكذا منحت الأستاذ فيلمه المفضل فى هذا العام ومنحنى فى المقابل أسمى وجمهورى وحقق حلمى ورسم بيده مصيرى هذا كل ما فى الأمر يكفى أن تصنع فيلما جيدا ليحبك سمير.

جريدة القاهرة في

11.04.2017

 
 

كنا مطمئنين فقط لأنه موجود

بقلم: أحمد نبيل

رحل سمير فريد، فهل من سبيل إلى تقبل الأمر شخصيًا سوى فى إطار أنه خطوة على طريق تفهم معنى اليُتم؟

أمد الله فى عمر والدَيّ ومتعهما بالصحة. أصبح لدى قدرة أكبر على تفهم معنى الأبوة بعد أن أصبحت أبًا منذ أكثر من ثلاث سنوات. أتفهم الآن الكثير من مواقفهما وأصبح لدى تفسيرات للعديد من ذكريات الطفولة التى ظلت مبهمة لسنوات. لا يوجد تعريفًا جامعًا مانعًا على حد علمي. أقرب ما قرأت عن العلاقة العادلة الصحية بين الأهل والأبناء هى ما كتب جبران خليل جبران فى كتابه النبي، والذى تُرجم مطلعه إلى العربية فى إحدى الترجمات ليكون أولادكم ليسوا أولادا لكم، إنهم أبناء وبنات الحياة المشتاقة إلى نفسها”.

قابلت الأستاذ سمير فريد لأول مرة فى عام 2008، فى نادى السيارات بوسط البلد فى القاهرة. قدمنى له المايسترو شريف محيى الدين لأول مرة لأبدأ العمل معه كمنسق لبرنامج السينما فى إدارة مركز الفنون بمكتبة الإسكندرية. كان محيى الدين هو مدير مركز الفنون فى هذا الوقت بينما كان فريد هو مستشار المكتبة لشئون السينما والقائم على برنامج العروض السينمائية الشهرية ومطبوعات السينما منذ افتتاح المكتبة عام 2002. فى هذه الليلة، قام الأستاذ بتسجيل رقم تليفوني، وأخبرنى أنه لا يرد على أرقامًا لا يعرفها عادة. يومها شعرت بقشعريرة. فهمت أنه منذ ذلك اليوم سوف يكون لدى القدرة ببساطة على التواصل بشكل مباشر مع الأستاذ. كان فى ذهنى عناوين عشرات الكتب ومئات المقالات التى طالعتها وكانت مذيلة بنفس الاسم الذى كنت أسجله فى تليفونى فى تلك اللحظة. ولكن لم يكن فى ذهنى هذا الكم الهائل من المشاعر الذى ترجمه جسدى إلى دموع منهمرة على مدار أيام مع رحيله. دموع اختلطت بتراب مقابر الإمام الشافعى وأنا أودعه مع العشرات من الباكين المحبين يوم الثلاثاء الماضي.

إن كم المعرفة السينمائية المهول الذى حصلت عليه بشكل مباشر منه، عبر عملنا المشترك فى مكتبة الإسكندرية أو عن طريق قراءة كتبه ومقالاته ومشاهدة حواراته الحية والمسجلة، لا يفوقه سوى كم المعرفة الإنسانية العميقة التى انتقلت إليّ عبر مواقفه الشخصية النبيلة معى ومع آخرين. كان صديقًا وأبًا فى آن. عايشت معه ترجمة فعلية لنص جبران. كما نهلت دروسًا فى فن الحوار والفضول للمعرفة والقدرة على التواصل مع من هم أصغر سنًا وأقل إدراكًا. تمنيت فى لحظة أن أستطيع ترجمة علاقته بى إلى علاقتى مع ولديّ. مازجًا بين الحب غير المحدود الذى شملنى أبى الحقيقى على مدار طفولتى ومراهقتي، بحب المعرفة والقدرة على استقراء الواقع الذى علمنى إياها أبى الثانى سمير فريد.

بعد أن وارَى التراب جسده، وبعد الدعاء، أقبلت أصافح ولده حسن. بصوت متهدج قلت له ان والده كان والدًا لي. فبادرنى بأن هذا هو وما قاله بالفعل والده عنى قبل ذلك.

أثناء حوارى مع الصديق كريم حنفى بعد الدفن، أخبرنى أنه كان يشعر دومًا أن الأستاذ سوف يكون موجودًا دائمًا. حتى أثناء المراحل المتأخرة من المرض، لم يستطع خيال كريم أن يُمهد لغياب الرجل. كان سمير فريد بالنسبة لكريم ولى وللعشرات من صناع الأفلام ومحبى السينما، بمثابة الظهر”. وجوده سند، بغير حتى أن يفعل شيئًا. كنا مطمئنين فقط لأنه موجود.

هذا رثائى لمن عددته أبًا ثانيًا لى على مدار سنوات عمره التسع الأخيرة. أما حصر الفراغ الذى سوف يتركه على المستوى الثقافى والسينمائي، وذكر ما كتب وحقق من كتب ودراسات ومقالات، فأتركه لكتابة لاحقة لى ربما ولمن هم أكثر تخصصًا منى من الكتاب والمؤرخين الكبار من أصدقاء الأستاذ وغيرهم. أما أنا فأكتفى بحدادى على والدى الذى لم ينجبني، إلى حين.

جريدة القاهرة في

11.04.2017

 
 

عن حكاية «الناقد السويدي» والمعلم الذى خسرناه

بقلم: أحمد شوقي

ذات صباح من شهر ابريل فى عام ماض تلقيت اتصالا من الأستاذ سمير فريد. اتصال صار دوريا فى كثير من أيام الثلاثاء والأربعاء فور قراءته للعدد الجديد من جريدة القاهرة، ثم قيامه بالاتصال بمن يريد أن يهنئهم على مقال أو يبدى لهم ملاحظة أو يناقش . معهم موضوع يتعلق بما كتبوه. فى جهد وإخلاص حقيقى لفكرة الثقافة كحراك فكرى لا بد وأن ينخرط فيه كل المثقفين بغض النظر عن عمرهم وقيمتهم.

ما حدث فى تلك المكالمة تحديدا هو انه لما يبدأها بندائه الشهير إزيك يا ناقد، وإنما رحب بى بلهجته التى لم تخلو أبدا من نبرة مرحة أو ساخرة ربما قائلا أهلا بالناقد السويدى أحمد شوقي”. ضحكت وسألته عن سبب هذا الوصف، فأجاب عشان انت كاتب مقال ميكتبوش غير ناقد سويدي”.

المقال المقصود كان تغطية لفعاليات إحدى دورات مهرجان الأقصر للسينما الافريقية، وأشرت فيه لنجاح المهرجان فى الارتباط بالمجتمع المحلى لدرجة أن صاحب أشهر مقاهى المدينة علّق على أحد الحوائط صورته مع المخرج الإثيوبى هايلى جريما وكأنها صورة مع أحد النجوم المعروفين. الأستاذ سألني: هل تعتقد حقا أن صاحب هذا المقهى يعرف أفلام هايلى جريما؟ هل ذهب يوما هو أو من يعملون معه لمشاهدة أحد أفلام المهرجان؟ يحبون المهرجان ويحتفون به بالطبع، فخلال أيامه يقبل عددا ضخما من الضيوف على مقهاهم، من بينهم أمثال جريما ممن يسمعون عنه أنه مخرج عالمي. لكن هل هذا نشر حقيقى للثقافة السينمائية أو ترسيخ لها فى حياتهم اليومية؟

أسئلة سمير فريد أصابت كبد الحقيقة، وجعلتنى أفكر طويلا أن محاولة منح مشهد طريف مثل صورة جريما على حائط المقهى أكبر من قيمته، بتقديم تفسير واستنتاج اجتماعى وثقافى منه هو فعل يشبه آراء المستشرقين الذين يأكلون وجبة مصرية واحدة ثم يكتبون طويلا عن ثقافة الطعام فى مصر. أى أننى كتبت مقالا يكتبه ناقد سويدى يزور الأقصر للمرة الأولى، وليس ناقدا مصريا تعامل مع الأهالى ويعرف دروب تفكيرهم وتصرفهم.

لا أبالغ إن قلت ان هذا الحوار صار يتردد فى ذهنى كل مرة أقدم فيها على كتابة مقال فيه ما يتعلق بالجمهور وعلاقته بالسينما، مرة كى لا أقع فى فخ النظرة السياحية وأتحول ناقدا سويديا يكتب عن المصريين، ومرة حتى لا أسمع ملاحظة ساخرة من الأستاذ الذى لا تفوته شاردة ولا واردة دون أن يقرأها ويقيمها ويضعها فى أرشيفه الأسطوري.

لاحظ الطريقة التى عبر بها سمير فريد عن ملاحظته، بمنتهى الكياسة وخفة الظل، والبعد عن كل أشكال الوصاية الأبوية التى يفرزها البعض بمعدلات هائلة فقط لأن القدر سمح لهم أن يولدوا قبلك بأعوام أو عقود. هذا رجل بلغ قمة ما يمكن أن يصل إليه ناقد سينمائي: تقدير واحترام وتكريم من العالم أجمع، مسيرة عطاء وإنجاز لا يتوقف لأكثر من نصف قرن، أكثر من ستين كتابا وآلاف المقالات التى تؤرخ للسينما الحديثة من وجهة نظر مفكر مصرى تقدمى ينتصر دائما وأبدا للحرية. لكنه أبدا لم يستغل الوضع للتعامل مع الآخرين باستعلاء أو فوقية، فظل دائما يدرك أن من تقديره لهامته أن يقدر الآخرين، وهذا هو أمهر أنواع الأساتذة وأكثرهم تأثيرا فى النفوس.

خسارتنا لسمير فريد ليست مجرد غياب ناقد أو مثقف أو مؤرخ، فما تركه يجعله لا يغيب أبدا. لكن الخسارة هى فقدنا لكل ما يمثله سمير فريد من تفتح ووعى واحترام لقيمة المعرفة والتأريخ، لا فى كونهما أداة للتنمر وإنما مخزون يؤسس نظرة نقدية شاملة للحياة، نظرة نقدية محبة تحلم بعالم ووطن أفضل، نظرة يؤمن صاحبها أن دعم من حوله وإن كانوا يصغرونه سنا وقامة وذخيرة وموهبة، هو فرض عين لبلوغ العالم الذى سعى إليه طيلة عمره، والذى ظل حتى اللحظة الأخيرة يتفاءل بتحققه.

حضرت آخر ثلاث مرات ظهر فيهم علنا: فى مهرجان القاهرة السابق لتوقيع كتابه سينما الربيع العربي، فى جمعية نقاد السينما المصريين لمناقشة أفلام المخرجات فى السينما العربية، ثم فى مهرجان برلين فبراير الماضى لاستلام كاميرا برليناله التكريمية عن مجمل أعماله. وفى المرات الثلاث لم يتوقف الأستاذ عن التفاؤل بالمستقبل، عن إعلان قناعته بأن الحراك فى مصر لا بد وأن يسفر عن وضع أكثر صحة وإن طال الانتظار.

فى المرات الثلاث لم يتوقف سمير فريد عن سرد ذكرياته باستفاضة وكأنه يودعنا ويمنحنا وصاياه بشكل مبطن على طريقة الناقد السويدي”. تحدث عن خرقه للقانون خلال زيارته للاتحاد السوفييتى كى يهرب من المراقبة ويشاهد فيلما ممنوعا لأندرى تاركوفسكى وكأنه درس فى ضرورة مخالفة القانون إذا ما كان يقيد الإبداع، روى رفضه دعوة مغرية للتكريم فى السعودية لأن الدولة التى تحرم السينما هى دولة تحتقره وتحتقر ما أفنى حياته من أجله لا تستحق أن يزورها.

حكى إصراره طوال حياته أن يُلقب بالناقد السينمائى وليس بـ الناقد الفني التى كانت شائعة قبله والتى يفضل البعض حتى اليوم استخدامها باعتبارها وصفا يزيدهم وقارا. وأبدى ملاحظة حاذقة عن أن أحد أكبر أزمات وزارة الثقافة المصرية هو اسمها نفسه، لأن فيه احتقارا ضمنيا لما تقوم به الوزارة فعلا: إدارة الفنون. وأنه الأجدى أن تُسمى بوزارة الفنون لأن هذا أولا وصف دقيق لعملها، وهو ثانيا إعلاء لقيمة الفن لفظا ومعنى فى مجتمع صار يعاديه، وهو ثالثا يحمى الوزارة من تحميلها مالا طاقة لها به، فتصرفات البشر ولغتهم وطريقة ملابسهم وحركتهم ومأكلهم ومشربهم وكل شيء هى الثقافة المصرية، وهو ما يجعل البعض يتساءل عند وقوع فعل مشين أين وزارة الثقافة؟ فقط لأننا نخجل من أن نسمى عملنا باسمه ونفخر به.

رحيل سمير فريد خسارة فادحة تفتح عيوننا عما نخسره برحيل عقولنا المستنيرة، عن عالم يتصحر شيئا فشيئا حتى وإن كان الأستاذ متفائلا بمستقبله. عالم يفرض علينا أن نستبدل فى كل يوم الذى هو أدنى بالذى هو خير. وعلينا للأسف أن نتصالح ونتعايش ونقبل. فلروحه السلام ولنا من بعده الصبر.

جريدة القاهرة في

11.04.2017

 
 

ضد الاستبداد

بقلم: عمرو عبد الرحمن

على الرغم من أنى غير مشتغل بالسينما ولا يتجاوز اهتمامى بها عتبة التذوق، فقد أسعدنى الزمان بالتعرف على الراحل سمير فريد عن قرب نتيجة ملابسات شخصية مختلفة ولا أملك ما أقوله فى رحيله إلا أن من لم يسعده الحظ مثلى فى التعرف على هذا الرجل فقد فاته التعرف على جيل كامل من المثقفين المصريين الذين دشنوا إسهامهم فى مرحلة مابعد نكسة ١٩٦٧ هو فعلًا جيل كامل بحد ذاته سواء بمعرفته الموسوعية المذهلة وأخلاقه الدمثة التى جمعت ما بين استعفاف الأعيان والأرستقراطية وتواضع ودماثة من عاش زمن التحرر الوطنى وأحلامه اليسارية مختلفة التلاوين.

ولكنه زاد على كل ذلك انفتاحًا مذهلًا على الأجيال التالية عليه سواء المشتغلين بالسينما أو أوجه العمل العام المختلفة وغيرها بل وانفتاحًا حتى على مراهقين يكبرهم فى السن بستة عقود على الأقل انفتاح ندّى حقيقى وليس أبويًا مصطنعًا كان يجعل كل لقاء معه متعة حقيقية وكذلك طوّر تشككًا ونفورًا عميقين تجاه ما وسم عقائد حقبته التكوينية من إطلاقيات وميل استبدادى سواء كانت تلك العقائد اشتراكية أو قومية أو إسلامية أتذكره عندما كان يقول أن حزب البعث الاشتراكى ومن لف فى مداره هم آباء كل استبداد لاحق حتى التيارات الشمولية التى تحاربهم اليوم فى سوريا.

تعاملت معه على المستوى العملى مرة واحدة فى عام ٢٠٠٦ كنّا نعدّ فى مجلة البوصلة ملفًا خاصًا عن المرأة والديمقراطية”… كنت فى منتصف العشرينات وقتها وفتحت أمامه الفكرة فى مناسبة اجتماعية ما فكان هو المبادر لطلب الكتابة فى العدد وليس العكس وشدد أن هذا سيكون بمثابة شرف كبير له بالنص وبالفعل بعد حوالى أسبوع عاد إلينا بورقة عن صورة المرأة فى سينما الواقعية الاشتراكية والواقعية الجديدة كانت من ألطف وأدقّ مواد العدد وتركنا بعدها فى الحقيقة فى حالة من الإكبار لهذا الرجل الذى كان التعامل معه على هذا القدر من السلاسة والمتعة.

مع رحيله، ورحيل الكثيرين غيره، تفقد مصر مكونًا من مكونات تراثها الديمقراطى والتحررى الذى لم يتح لجيل يناير ٢٠١١ التعرف عليه عن قرب خلال زمن مبارك الطويل الكئود الممل أو خلال زمن يناير العاصف الدرامى الذى لم يترك فرصة لالتقاط الأنفاس وواجب كل من يعد نفسه منتميًا لهذا الميراث هو أن يتولى بنفسه، أو بشكل جماعي، مهمة ربط حاضر هذا النضال الديمقراطى بماضيه إذ أن الزمن لم يسعف الأستاذ سمير وغيره للقيام بهذه المهمة.

جريدة القاهرة في

11.04.2017

 
 

حضرة المحترم

بقلم: أحمد حسونة

تربيت على احترام الكبير، لسنه وعلمه وخبرته فى الحياة، مما جعلنى أضع مسافة دائما بينى وبين الكبير، مسافة تزداد بقدر احترامى وإجلالى له، وقد تتوج هذا الاحترام بطبيعتى المنعزلة، وخجلى من التعامل مع الأشخاص إلى فقدانى الكثير من اللحظات الجميلة التى يتذكرها كل من قارب هامة عظيمة وشخصية فريدة مثل الناقد الكبير سمير فريد.

كانت معرفتى بالأستاذ سمير ترتبط بمراحل مختلفة بدأت منذ حضوره العرض الأول لمجموعة «بروهلفتسيا» لفن الفيديو وكنت أحد أعضائها، بمجمع الفنون بالزمالك فى بداية التسعينات، وقد خفق قلبى بشدة لحضوره حيث لم أتوقع شخص مثل سمير فريد يحضر فعالية لمجموعة من الشباب المبتدئين، وفن، علاقته بالسينما واهية، وقد فاجئنى أكثر عندما كتب بالجمهورية عن العرض، وذكر أسماءنا، وكانت أول مرة أرى اسمى بجريدة!

تمر العديد من السنوات ونتقابل فى مواقف عارضة، وكعادتى لا أنتهز الفرصة لكى أدعم معرفتى به. وقد فوجئت باتصاله بى فى عام ٢٠٠٥ تقريبا، وكان من الواضح أنه يتذكرنى جيدا ويعرف صديقى محمد الأسيوطي، وقد طلب منا تنظيم برنامج عن السينما المستقلة، وقررنا أن يكون بانوراما عن السينما المستقلة منذ بداياتها، بالاضافة إلى كتاب/ كتالوج عن هذه الفعالية، وأذكر أن منى غويبة شريكة حياته، والانسانة الرائعة، قد صارحتنى بعدها بأنها كانت قلقة جدا نتيجة طبيعة الأسيوطى وأنا الصامتة، ولكن الأستاذ طمأنها، وقد كانت بالفعل نتيجة أكثر من رائعة وقد أثارت المقدمة جدالا طويلا حتى هذه اللحظة حول السينما المستقلة ومعناها، وكل هذا كان بفضل الأستاذ سمير فريد ورؤيته الثاقبة، وبناء على هذا النجاح لهذه الفعالية التى تمت فى إطار المهرجان الأوروبى على ما أتذكره، قرر سمير فريد أن ننشئ مؤسسة تضم العديد من النقاد والمخرجين المستقلين الشباب لتكون نواة لفعاليات سينمائية جادة، وقد اختار لها اسم «كادر».

كان الجميع سعيد بمشاركة الأستاذ سمير بهذه المؤسسة، ولكن للأسف كان كل منا قد تغيرت خططه خلال هذه الفترة وأصبح من الصعب الاستمرار بالمؤسسة مما جعل الأستاذ سمير أن يترك المؤسسة، وبالتالى الجميع، وهو صاحب قرارات جريئة وسريعة لا ينتظر الوقت المناسب لاتخاذها.

ظلت علاقتى به على وفاق، ولكن تفصلها المسافة التى لم أستطع تجاوزها كما ذكرت من قبل، حتى ترأس مهرجان القاهرة، وقد اقترح فكرة البرامج الموازية، ومنها أسبوع النقاد الذى شرفت العمل به كمدير فنى حتى الآن، وقد سمعت من الكثيرين ومن الأستاذ سمير بأنه كان يرانى الأصلح لإدارته.

وفاجأنى مرة أخرى عندما يقترح عليه مدير مهرجان أسوان الدولى لأفلام المرأة، حسن أبو العلا ورئيسه محمد عبد الخالق بأن أكون المستشار أو المدير الفني، فيرحب جدا بالاقتراح، ويشهد لى بالكفاءة وغيرها من الصفات الكريمة.

حاولت أن أشكره، ولكن كان المرض قد بدء يداهم جسده، وقد داهم هذا المرض اللعين كل عائلتي، مما جعلنى غير قادر على الذهاب إليه، بالإضافة إلى آفة عدم احساسى بالزمن فأفقد الكثير وأفقد لقاء الأحبة. لا أعلم إذا كانت هذه الكلمات مرثية لشخصك الكريم أم مرثية لي. فالفرد يعلم قيمة الآخرين من خلال نفسه، وقد شعرت بالفقدان الشديد لك حتى بدون زيارات أو الحديث معك. فوجودك بيننا كان يضيف شيئا لا نعرفه إلا بفقدان لك ولكنك باق معنا فى كل لمحة، وفعل، وسطر نتج عن شغفك بالسينما، وحبك للمبدعين، ودعمك للشباب، ومحاربة السلطوية وداعا.

جريدة القاهرة في

11.04.2017

 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2017)