عناصر الفرجة الشعبية..
في وداع محمد كامل القليوبي
بقلم
:خالد
عزت
محمد كامل القليوبى شخصية سينمائية فريدة من نوعها,
ويبدو
لى أن تميزه الساحر المفصح عن نفسه فى وضوح كامل,
يكمن
فى طرقه لطرقات سينمائية غير مسبوقة,
أهملها
الآخرون، ونأوا بأنفسهم عن السير فيها وخوض غمارها,
ونأوا
أيضا عن جنى ثمرتها المشتهاة، من تلمس مواضع الدهشة والحيرة
الإنسانية لدى الشخصيات التى يختارها بعناية بالغة لأفلامه والتى
تستند إلى تراث مجيد من النفى والتهميش الباذخ.
إن
شخصياته الأثيرة
«عبر
فيلميه الأولين»
عن
صورة الهامشيين والعيارين من باعة الأسواق الفقراء وأرباب الملاعيب
والأوباش والعياق..
وأيضا
جماعة الخيالين من مبتدعى الملاهى الشعبية المرتجلة التى تحتل
مكانة متميزة فى مشهديته السينمائية,
والتى
تبرز عشقه وهوسه الشخصى بفنون الفرجة والأداء، وفضاءات الموالد
الشعبية,
وجماليات الازدحام والتلاصق ومأثورات عابرى السبيل من الرواة
الشعبيين الذى يحملون عبر ذاكرتهم السحرية كنزا حقيقيا من قاموس
البذاءة الإنسانية ذات الخيال الحسى الخصب.
ربما
يكون
«كامل
القليوبي»
المخرج
الوحيد فى تاريخ السينما المصرية الذى التفت بتقدير وإعجاب إلى
جماليات المخايلة
«خيال
الظل»
والى
تراث
«شمس
الدين بن دانيال»
وباباته الثلاثة وتضمين ذلك التراث عبر نسيج أفلامه.
فإلمامه بتاريخ الملاهى الشعبية بكل أنواعها ومصادرها التراثية
وطقوس اللهو والتسلية للطبقات الدنيا فى مختلف عصورها
–
القديمة والحديثة
–
وفنون
الخلاعة والمجون والتى هى باستعارة بارت:
كيمياء
جديدة للنص أو امتزاج وذوبان النص فى الجسد.
والتغنى بثقافة الحرافيش والعوام ومخيلة النفي,
وهى
بالطبع كنز لا ينضب معينه أبدا,
وأيضا
الاحتفاء بكل ما هو متروك ومهمل من نصوص سرية مختلسة كاختلاس لذة
محرمة.
وشغفه
الجمالي/
الحسى
بتلك الثقافة المتناقلة والحية فى تجددها وتقلب أهوائها وأيضا
حداثتها المعاصرة لكل زمان ومكان قد منح فيلميه
«ثلاثة
على الطريق/
البحر
بيضحك ليه؟»
مذاقا
مدهشا مؤطرا بسياق اجتماعى آن ومعاصر,
دافعا
بذلك
«الخطاب»
إلى
المتن بدلا من ظلال الهامش الذى ظل أسيرا وحبيسا له طوال قرون
طويلة وقد وسمته المؤسسات الرسمية بالابتذال والخروج عن الذوق
العام.
شىء ما
–
ساحر
وسحرى
–
فى ذات
الوقت يكمن فى توار خفى عبر نصّ فيلم
«ثلاثة
على الطريق»
هذا
الشىء الخفى والمقلق الذى يشير دون أن يفصح إلى كتابى الأثير
«الف
ليلة وليلة».
تماس
الفيلم مع الكتاب وتناصه مع نصيّة مخيلة المخايل للعبة
(خيال
الظل أو ظل الخيال)
هو
الباب الخفى الموارب الذى يخايلنى الآن إلى عبوره.
بالنسبة إلى فإن
«ثلاثة
على الطريق»
هو
واحد من درر قلائل انتجتها المخيلة السينمائية خلال العقد الأخير
من القرن الماضى المضطرب بأحداثه، ولوثة تغيراته الهزلية
والمفاجئة، وايضا موضاته السينمائية والأدبية التى لم يبق من اثرها
شىء، وهو يشكل مع صنوه
«البحر
بيضحك ليه»
كنزا
ثمينا لفن الفرجة وتراث المخايلة، وتضمينا معاصرا لتاريخ ارباب
السبيل والحرافيش.
فقيمة
العرض المطلوب والمرجو من مخرج مثل
«كامل
القليوبي»
لا
تكمن فى مصارعة هذا الواقع وإنما بالأحرى فى مشاكلته ومخايلته
والتلاعب معه وبه، مع خلق نصية موازية لنص الواقع/
العالم
وتخليق عوالم مصنوعة تحل تدريجيا محل العالم الأصلى وتأخذ مكانه
دون أن تفقده خواصه المضيئة وعواطفه الإنسانية الجياشة بالرغم من
استحالته إلى مجرد ظلال باهتة.
عند
هذا المستوى الجمالى فإن
(ثلاثة
على الطريق)
تعبير
فذ عن آليات عمل المخيلة فى علاقتها بالواقع وبظرف تاريخى معاش
قابل للفرجة عليه والتلاعب بمكوناته وعناصره التى تأخذ فى الذوبان
والانحلال شيئا فشيئا,
مفسحة
المجال لعالم الشاشة الذى يصبح أكثر إنسانية وانسجاما فى خليطه
الإنسانى العجيب عن عالم الواقع الذى يلفظ أنفاسه ويشحب وجوده
الإنساني.
لا
يلجأ
«القليوبي»
فى أول
أفلامه
«ثلاثة
على الطريق»
إلى
الحديث عن ماضى
–
بعيد
أو قريب
–
وثرثرات الحنين هناك لكنه يقرر الوقوف هنا والآن:
ان
يتحدث عن واقع معاش فى زمن انتاج الفيلم
«1993»
ومن
هنا تكمن صعوبة التلقى فى فيلم
«ثلاثة
على الطريق»
من حيث
ان نص الواقع نفسه لم يكتمل بعد.
فنحن
وشخصيات الفيلم نحيا فى التسعينات بكل عنفها الضارى وازماتها
الطائفية وافول الصراع بين اليمين واليسار,
وواقع
لم ينفض عنه بعد غبار
«حرب
الخليج»
التى
لا تزال صورها تبث من وقت لآخر عبر شبكة الـCNN
–
كعرض
هوليوودى غير مسبوق.
وظلال
التغيرات العالمية تشارك شخصيات الفيلم رحلتها عبر طريق زراعى يصل
الخريطة من أقصاها إلى أقصاها,
ونرى
أحداثها عبر شاشات التلفاز المنتشرة فى مقاهى الطرق السريعة
«الحرب
اللبنانية/
سقوط
جدار برلين/
أحداث
البوسنة/
اجتماعات البابا شنودة فى نقابة المحامين لمناقشة ازمة الفتنة
الطائفية/
الحصار
المضروب من قبل قوات الأمن المركزى حول قرى الصعيد/
المشروع العالمى الجديد للتفتيت/
الانحياز الما بعد حداثى المستند إلى تكنولوجيا البث الرقمى وتحويل
الإنسان إلى مجرد صورة مؤطرة عبر شاشة الكترونية قابلة للفرجة
والاستعادة والاستمتاع بها وقت العطلات الرسمية/
المجاعات والمذابح البشرية الجماعية التى تتوالى امامنا ولا تخلف
وراءها سوى ارقام لا تفيد شيئا غير التراكم الكمي.
ومن
هنا تطفو على السطح الإشكالية البنائية التى تطرحها مثل تلك
الأفلام التى تقف على أزمة حاضر يعصف بالدماغ
«وهى
نفسها الإشكالية الجمالية المطروحة عبر الأفلام التى تعرضت لأزمة
الحرب اللبنانية كما تتبدى فى مجمل افلام المخرج مارون بغدادى»،
والسؤال هو كيفية تمثيل هذا الواقع العشوائى الذى يحدث الآن عبر
الشاشة,
واقع
لم يزل فى حالة صيرورة وتكون,
يعيشه
المشاهد إلى حد التخمة ويستغرقه كليا بوحشية تياراته المتصارعة
بجنون هذيانى وسط خضم هذه الصور العشوائية التى تبث دون توقف عبر
شاشات التلفاز,
فى
نصوعها المضىء ودقتها الصارمة والنظيفة التى لا تشوبها شائبة تلاعب
تقنى ماهر
–
أو
يخيل لنا انها هكذا!!
غير
متورطة فى النهش اليومي.
فالصعوبة هنا تكمن فى الاختيار وحريته المحفوفة بمخاطر الانزلاق
والنمطية,
وتقديم
صورة غير حقيقية ومشوهة لتلك الآنية,
التى
هى الشَرَك.
فالسؤال الموضوع الآن هو:
كيفية
النفاذ عبر هذا التشوش الذى يهزأ بكل خيال ونظام من اجل استخلاص
معنى ما ينتظم فى سياق فنى له جمالياته,
وله
وجوده المستقل عن الواقع الذى من الممكن ايضا ان يستعير لنفسه
«الفيلم»
من
الواقع كل هذه الفوضى والتشوش والتحطيم وأن يكون مراوغا فى مواجهة
عالم مضطرب يسير فى فوضى العرى الكامل.
..
من
الممكن أن نقف قليلا فى تأمل لتلك الاستعارة المدهشة والماكرة أيضا,
والتى
اوجدها
«القليوبي»
كتيمة
رئيسية وعمود فقارى ينتظم جسد الفيلم وهى:
تيمة
الرحلة/
الطريق
(الحياة/
الوطن)
مشيدا
فيلمه مثل لوحة من الموزاييك تطاول مناح متعددة من العرض الإنسانى
وتتضافر فيها الخيوط من الحكى إلى السرد إلى التضمين
(مشاهد..
السيرك/
خيال
الظل/
مقاطع
تسجيلية/
نشرات
اخبار)
والموزعة بدقة مونتاجية عبر زمن الفيلم,
حيث
تنتظم كجزئيات متناهية فى الصغر، مشغولة بحذق ومهارة وتعمل بكفاءة
عالية لحساب الشكل الكلى للوحة التى ينتهى الفيلم دون اكتمالها,
ولكن
ايضا دون أن تكف عن ان تخايل الجميع فى اكتمالها الصعب والمضني.
أما
زمن تشييد هذه اللوحة هو الطريق الذى تقطعه السيارة وتستغرقه فى
الانطلاق بين نقطتين متباعدتين على الخريطة
«الصعيد/
الدلتا»
اما
النظر إلى اللوحة نفسها فربما يستغرق الحياة برمتها!!
والحاجة إلى عبور هذا الطريق حتمية وقسرية,
وعلى
كل شخصية من شخصيات الفيلم أن تعبره,
وعلى
الجميع أن يتساند فى زمالة انسانية صادقة لاجتياز الطريق الصعب
الذى يحتاج إلى رفقة لبعض الوقت لن تدوم كثيرا,
لكنها
ربما تترك أثرا مدهشا لن يمحى بمرور الوقت,
وعلى
كل شخصية مهما كانت ضآلتها وموقعها فى النص السينمائى أن تضيف إلى
تلك اللوحة شيئا من مخزونها ومخيلتها,
وسوف
يتحدد حيز المشاركة بالهدف الذى يعينه كل شخص لنفسه فى نهاية
الطريق.
وتيمة
العبور او الرحلة تستدعى فى التو فكرة التلاقي/
الفراق
والمصادفة العابرة التى تجمع
«بشكل
قدري»
اناسا
من كل فج عميق:سائق
عربة نقل
«قام
بأداء الشخصية محمود عبد العزيز يعمل على خط
«الصعيد/
الدلتا»
عفوى
لا يوفر جهدا ولا حيلة فى تغذية حواسه النهمة والاستمتاع بمطايب
وملذات الحياة/
صبى
يهجر بيته فرارا من قسوة زوجة الأب ليلحق بأمه التى تعمل راقصة فى
طنطا/
راقصة
«غازية»
تعمل
فى فرقة متجولة تطوف بين الموالد فى إقليم الصعيد,
يطاردها السائق من أجل ممارسة الجنس معها,
ثم
تنعقد صداقة بينهما فتقرر الرحيل معه/
شاب
يتهرب من الزواج بفتاة كان قد غرر بها يقابلان السائق على الطريق
فيحملهما معه/
مهرب
آثار يوصى السائق بتوصيل قطعة آثار مقابل بعض المال/
قوادون
وبائعو مخدرات يلتقى معهم السائق داخل احدى الغرز على الطريق/
حاو
يعمل فى سيرك شعبى متنقل يوزع تعليقاته الساخرة وتفشل العابه دائما
فى اقناع جمهور المتفرجين بمهارته كساحر/
ابنة
حاو يلتقى بها الصبى
«خليل»
فتنعقد
بينهما أواصر صداقة عابرة يحيطهما خلالها طقس من ظلال سحرية لخيال
الظل/
شابان
احدهما يسارى والآخر يمينى يهربان معا واحدهما مشدود إلى الآخر
بقيد حديدي/
خليط
غريب من البشر من مختلف المشارب والأصوات والانتماءات يقودهم حظهم
العاثر إلى الالتقاء داخل زنزانة احد اقسام الشرطة,
حيث
يجلس الشيخ إلى جوار القسيس والحاوى مع السائق والشيوعى مع المخبر
الذى ارشد عنهم جميعا/
صداقة
تجمع بين
«رجل»
مجرب
سملت عيناه بالمكرور والسائد,
وصبى
يسعى إلى اكتشاف العالم من حوله,
حيث
يقوده الصبى فى النهاية إلى اكتشاف نفسه واعادة الدهشة اليه من
جديد/
علاقة
تنشأ عبر الطريق بين صبى وراقصة مجرية لفنون الجسد حيث تمنحه
الراقصة لذة الكشف عن المخبوء
«
كهبة
بدائية»
وتعيد
اليه توازنه العاطفى الذى يفتقده مع عائلته,
وايضا
تقوده إلى الجنس وهو يقف على اعتاب مراهقته.
فالرحلة هنا تستدعى معها على الدوام شر الطريق ومجاهدات اهواله
المتوقعة والمفاجئة التى تخلب الألباب، ويتطلب من رواده ان يحرزوا
اللذة كشرط للاجتياز المضنى مثل لذة الحكى وشره,
سرد
الحكايات والحديث المسهب عن النفس لدفع الملل والرتابة التى
يستشعرها راكبو العربة اثناء الطريق,
فشر
الطريق مقرون بشر
«الحكي»
والافضاء والتنهدات والمراوغة النصية,
كما
يحمل داخله أيضا شر الشرور وهو الوصول إلى نقطة ختام,
او
الاستكانة إلى نقطة محددة فى السرد تغلق عندها الحكاية وتكف شهوة
المخيلة عن معانقة صورها.
وجمال
الحكى مرهون بمخيلة
«الحاكي»
وصنعته
وقدرته على الاستحواذ على اهتمام السامع,
وشغفه
بمعرفة مصير
«المروى
عنه»,
ويجب
بالطبع الا تنتهى الحكاية قبل نهاية الطريق,
والا
ستصبح كالكتابة على سطح ماء لا يحفظ قولا ولا يصون عهدا وشريعته
النسيان.
والطريق يستلزم دوما يقظة الحواس لإحراز لذة
«الرؤية»,
إذ
يستدعى نوعا من الإثارة والتهيج للنظر والاكتشاف مثلما نرى الصبى
«خليل»
وهو
يلوم السائق لأنه لا يبصر شيئا من الطريق الذى اعتاد ارتياده بشكل
مستمر,
فافقده
طزاجة الرؤية والكشف.
وجميع
شخصيات
«ثلاثة
على الطريق»
واقعة
تحت سحر الترحال والسفر وارتياد فضاءات مكانية تعج ايضا بالعابرين
ومرتادى الطريق,
الباحثين عن لحظة الإمساك بمعنى الذات الخفى وبرؤية ما غير معتادة
أو مكرورة للعالم من حولها.
وتبدو
تلك الأمكنة المخايلة مثل قدر
«طوبولوجي»
مستحيلة فشخصيات الفيلم من العوام لا انتماء لها إلى مكان محدد,
وسيارة
النقل تبدو
«عبر
الفيلم»
وكأنها
مكان/
بيت
متحرك يخوض غمار الأهوال,
وينضم
اليه,
بل
يسعى اليه عابرو السبيل والمحتاجون إلى مشاركة إنسانية.
إنها سيارة الإنقاذ التى تنتشل كل النفايات الإنسانية التى القتها
الظروف الاجتماعية والأحداث والفقر والقهر الإنسانى على جانبى
الطريق.
وأماكن
الفيلم موزعة إما إلى خيام الغجر والغوازى والملهيين المحترفين
الذين ينتقلون بين الساحات والموالد عبر البلاد,
يغشون
الأسواق وساحات المواد
«مسيحية/
إسلامية»
لكسب
معاشهم بتقديم أنواع التسلية المختلفة من عروض الفرجة الشعبية,
او
مقاة وغرز لخدمة حركة المسافرين على الطريق,
أو
اماكن اخرى تتركز داخلها علامات القوة والسلطة مثل اقسام الشرطة.
فالراقصة التى دفعتها الظروف إلى ان تهجر بيت عائلتها فى
«قرية
أبو قرقاص»
تقرر
فى النهاية أن تعود إلى زيارة مكانها القديم,
والصبى
الذى يهجر بيت اسرته من أجل بيت امه
–
الذى
لم يره من قبل
–
لكنه
ايضا يتركه فى النهاية ليواصل رحلته مع السائق.
والشخصيات تهجر حياتها من أجل حياة أخرى مجهولة تخايلها,
وربما
يكتنف نفس الشخصيات ايضا الشك فى أنها ستعثر بين جدرانها على
سعادتها النهائية,
أو على
الأقل تقدير سوف ينتظرهم جميعا فى جوف تلك البيوت التى يرتحلون
إليها نفس البؤس والإنهاك الذى عرفوه فى أماكنهم الأولى.
..
فالمكان فى
«ثلاثة
على الطريق»
–
علامة
متحولة
–
يعادى
الثبات ويكتنفه شىء سحرى مثل قصور ومدن الف ليلة وليلة التى تنقضى
فى لمح البصر وغمضة عين,
هو
العالم القابل للزوال
–
فور أن
تنظر اليه
–
حتى
يظل قابعا فى الحلم والمخيلة.
فالحيرة التى يجد السائق نفسه فيها عندما يستيقظ فى أحد مشاهد
الفيلم من نعاس غلبه وهو ينتظر الراقصة حيث يجد نفسه نائما فى
العراء وقد سرقت نقوده فيلتفت حوله متسائلا فى دهشة وكأنه سادر فى
غواية حلم:
أين
الخيام التى كانت قائمة هنا؟!
والحكمة المرصودة له:
لا
تندم على شىء فاتك منها!!
فعالم
«ثلاثة
على الطريق»
هو
ساحة عرض
«مولد»
يتلاقى
فيها
–
مصادفة
–
خليط
عجيب دون معرفة سابقة,
وهم
أنفسهم جزء من العرض الارتجالي,
والمحفظة التى تسرق دوما بصورة هزلية من السائق
«تحت
ثقل حواسه المخدرة»
لا
تلبث أن تعود اليه ايضا بطريقة المصادفة التى هى إحدى سمات اللعبة
فلا أحد يستطيع الفكاك من هذا السيرك,
والحكايات تتماس مع بعضها البعض,
والأفعال المضحكة الناتجة عن عماء الحواس واحتدامها مع من حولها,
كما
تتوالد الحرارة والوهج عن تلاصق الأجساد فى زحام المولد,
وايضا
المصير المقترن بالطريق,
فالفضاء المكانى هنا
–
رغم
اهميته الفنية
–
هو
خلفية للفضاء البشرى والوجودي.
فالبشر
هم الذين يحددون سمات ومذاق الأشياء والأماكن وأيضا الزمن
وايقاعاته.
فنظرة
الصبى
«خليل»
البريئة والمرتعبة قليلا إلى جسدى الراقصتين البدينتين تلك النظر
غير المعتادة فى براءتها المختلسة لكثافة اللحم المترجرج امامه هى
التى منحت كل هذه الحرارة والتوهج الحسى والموسيقى لهذا المشهد
الساحر,
فنظرة
الارتعاب المحملة بخياله عن امه
–
والممتزجة بالوسواس الجنسى
–
هى
التى اعطت ذلك البريق المحرق لكشف ما هو
–
داخلى
–
فى
الأساس وهى التى اخرجت جسدى الراقصتين من رتابتهما وهما يؤديان
رقصة هز البطن وسط رواد الغرزة الذين كفوا عن النظر والتشهى بلذة
الفرجة ما عدا
–
الصبى
–
فهو
بمفرده يحمل عناء المشهد كله,
وايضا
فرحة الاختلاس والعناق كانا من نصيبه وحده.
..
شىء ما
اشبه بجماليات المفارقة فى
«الليالي»
يحدث
فى
«ثلاثة
على الطريق»
وعلى
سبيل المقارنة:
اذ
يرتهن الكتاب برمته,
وتنويعات الحكي,
وصيغ
المروى عنه,
والصوت
وفضاءات الأمكنة والعالم,
والأنس
والجان وكل المصائد والسخريات اللاذعة,
والموت
والميلاد فى مخيلة
«شخص
واحد»,
برأس
امرأة,
فاذا
قدَّر لهذه المخيلة أن تموت فستموت معها
–
على
الفور كل العوالم التى شيدت,
وكل
القصور التى قامت,
وستختفى قماقم العفاريت,
وستنضب
كل البحار التى مخرها
«سندباد»
فى
رحلاته,
وتنقضى
كل الشهوات واللذات التى سفحت على مدار متون الحكايات على أفخاذ
النساء والجوارى، وفى
«ثلاثة
على الطريق»
يرتهن
العرض الارتجالى بمواصلة الرحلة,
بأن
يصل السائق إلى نقطة ختام هى نفسها نقطة البدء من جديد,
فاذا
مات
«السائق»
تنتهى
الرحلة وينطفئ هذا العالم فجأة
–
او
تظلم الشاشة
–
وفى
منتصف الرحلة يضع الصبى
«السائق/
الرجل»
أمام
ذاته,
لأول
مرة
–
رعب
الاختيار
–
ان
يحدد لنفسه هدفا وغاية وعليه أن يتمها رغم كل شىء حتى لو فقد
حياته، أن يحمل الصبى إلى امه
–
إنه
اشبه ببطل تاركوفسكى فى فيلمه
«حنين»
-ان
يضع البطل لنفسه غاية وحيدة ورغم تفاهتها فهى تموضع أمام البطل
إمكانية ان يلقى مصيره,
وهو أن
يحمل
«شمعة»
ليعبر
بها بركة كبريتية وعليه ان يحافظ حتى النهاية على الشمعة موقدة.
وعبر
الفيلم يظهر تأثير بابات المسرح الشعبى المعروف
«بخيال
الظل»
بل
يجرى عليها القليوبى نصه المعاصر مضمنا إياها مقاطع من تعليقات
الواقع اليومى فى تسعينات القرن الماضي,
وفى
مشهد ساحر يتداخل العرض بالحقيقة حيث يحتضن الصبى
«خليل»
ابنه
الحاوى امام شاشة خيال الظل,
فتظن
جمهرة المتفرجين بأن ما يرونه هو جزء من تمثيلية خيال الظل المؤداة.
إن
الاصالة الفنية تتبدى فى اختيار
«محمد
كامل القليوبي»
لموضوعاته السينمائية وشخصياته الدرامية وفضاءات المكان والزمان
التى تدور معها الحكاية,
فبعد
«ثلاثة
على الطريق»
يقتبس
فيلمه التالى
«البحر
بيضحك ليه»
عن
رواية الكاتب البرازيلى
«جورج
امادو»
-كينكاس
الذى عاش مرتين-وربما
يكون فيلم
«البحر
بيضحك ليه»
اقرب
إلى البرولوج الافتتاحى الذى يورد فيه المخرج كل عناصره الفنية
وشخصياته المحببة إلى نفسه والتعبير عن شغفه بعالم فنى بعينه.
فى
«البحر
بيضحك ليه؟»
هناك
تلك اللحظة الحاسمة للاختيار والانحياز والهجر.
هجر
المتن إلى الهامش نهائيا,
حيث
يترك
«بطله»
حياته
المريحة النظامية إلى رفاق التشرد والتساند الإنساني,
حيث
يجتمع عالم الشطار والعيارين الذى لا يستمد قيمة من المنظومة
التقليدية المحكمة,
وإنما
تنبع مباشرة من اليومى والحياة الحارة بكل تقلباتها وأهوائها
المرتبطة بالحاجة الغريزية المباشرة فى الرضوخ التلقائى لمتطلبات
الفرد
«المادية/
الجنسية»
حيث
ينضم إلى الحواة والسحرة والمهرجين والمشعوذين وبنات الهوى,
وحيث
يرتبط العرض ببدن العارض ذاته
–
هو
الأداة والقيمة فى ذات الوقت.
فالوجود الإنسانى كما يستعرضه
«محمد
كامل القليوبي»
عبر
فيلميه
«ثلاثة
على الطريق/
البحر
بيضحك ليه؟»
هو
سيرك وساحة يتعارك فيها البشر بكرامة,
وتتصارع فيها الأفكار والحواس,
وجمهرة
المتفرجين هم أنفسهم المؤدون على خشبة المسرح,
وإذا
كان العالم قد خلق فى حلم إله متعال,والليالى
رويت ارضاء لرجل ملول,فإن
«ثلاثة
على الطريق»
قد صنع
من اجل حلم لن يتحقق له الاكتمال. |