كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

مهرجان البندقية الثالث والسبعون

يقدّم أفلاماً متماسكة تعبّر عن أوضاع العالم إيمان في تشيلي المنكوبة وكائنات فضائية في أميركا ورقص في زمن المصائب

البندقية - هوفيك حبشيان

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الثالث والسبعون

   
 
 
 
 

مفاجأة "البندقية 73" في أيامه الاولى: "المسيح الاعمى" (مسابقة) لكريستوفر موراي. قصيدة بصرية تخاطب العقل والقلب معاً، من خلال متتاليات حكائية تستلهم تجربة المسيح نفسه. انها محاولة البحث عن معنى الدين وصفاء الايمان، مقطّعة بسلسلة استعادات زمنية ومحطات تحملنا الى سير مختلفة. رحالة مؤمن بقدرته على شفاء المرضى وخلق المعجزات، يجوب مناطق المهمشين المتروكين لمصائرهم في تشيلي. النصّ موحٍ جداً. يمكن تحميله الكثير ويمكن تحميله القليل؛ كلّ شيء يتوقف على مدى قابلية المُشاهد لتقبل نمط من الافلام، ذي ايقاع متمهل وتطور بطيء، لكنه يفعل فعلته على المدى الطويل.

الدين في قلب الفيلم وحوادثه، الا انه ليس وسيلة للتبشير، بل تحريض على ايمان من نوع آخر، اكثر عقلانية ربما. ايمان لا تنظمه السلطة الكنسية ولا تجمله افعال القديسين. ايمان يتيح عبادة الله من دون اي دوغما. هذا ما يدعو اليه شاب مكسور الخاطر ومتشبث بمعتقده. هذا اول فيلم لموراي اخراجاً، مع انه سبق ان شارك في اخراج فيلم "مانويل دو ريبيرا". ألبرتو باربيرا، مدير البندقية الفني، وجد فيه ما يذكّر ببازوليني. انا ذكّرني بـ"المسيح توقف في ايبولي" لفرانتشيسكو روزي (1979). الحكاية اذاً عن مايكل (مايكل سيلفا). في مطلع الفيلم نراه وصديقه موريسيو في الصحراء. يطلب مايكل من موريسيو ان يدق مسماراً في كفّه ويصلبه على جذع شجرة. ثم ينتظر اشارة من الله، بيد انها لن تأتي الا على شكل اشتعال نار، يحسبه مايكل انتصاراً له، مؤمناً بأن الله يخاطبه عبر ألسنة النار. لكن فقراء المناطق التي يجوبها، حيث الايمان بكلّ شيء واي شيء هو الملاذ الوحيد من التهميش والاهمال والاستغلال الذي يعانون منه، يسخرون من مايكل وأفعاله ودعواته. بالنسبة له، الله هو داخل الانسان وليس فوق رأسه في الأعالي. خروجه عن المتعارف عليه في العقيدة المسيحية والمجاهرة به وخصوصاً لدى وصوله الى قرية يتضرعون فيها امام تمثال القديس لورنزو، يأتيان عليه بالضررين الجسدي والمعنوي.

يقول مايكل ان الدين شيء والايمان بالله شيء آخر، وهذه فكرة لم يتم الاشتغال عليها بشكل كاف. كذلك يدعو الى التوجه الى الله مباشرة بدلاً من وكلائه على الارض، وهذه فكرة ثورية ايضاً. الا انه يعود ويضطلع بدور يوحنا المعمدان ويعمّد الناس عندما يُمنح الفرصة. فمايكل في النهاية انسان، والانسان يتميز بضعفه امام السلطة، وها انه يستخدمها للوصول، حتى إن ناقض ذلك مبادئه. هناك جانب انثروبولوجي خفيف في تصوير البشر وعاداتهم والغبار الذي يلفهم. يتركنا "المسيح الاعمى" على ارض يابسة لا تصلح للزرع. لا يحصد الفقراء فيها سوى الخيبة. يجيد موراي تصوير لحظات وجدانية معينة، حيث الكاميرا تعانق السماوي والأرضي في حركة واحدة.

جديد دوني فيلنوف، "وصول" (مسابقة)، ليس عن الكائنات الفضائية بقدر ما هو عن البشر واللغة، وعن مخاوفنا من الآخر والمجهول. صحيح ان السينما الأميركية ذات الانتشار الواسع التي "يهاجر" اليها المخرج الكندي الموهوب، ظلت تبلور هذا الوسواس منذ عقود، الا ان "وصول" يأتي برؤية مغايرة ومقاربة فلسفية حميمية لغزو الكائنات الغريبة كوكبنا. عندما نقول كوكبنا، نعني به عملياً الولايات المتّحدة، فالكوكب في هذا النوع من الأفلام يقتصر على العالم الجديد، والباقي "تابع" يتجلى على شكل شريط اخباري في أسفل نشرة الأخبار. مخرجنا الكندي، الزاحف ظاهرياً الى سينما "ماينستريم" بعيداً من هموم كيبيكه الحبيبة، اذكى من ان يقع في الفخ الذي نُصب له. عمله المتسابق على "الأسد الذهب" لا يسلّي المراهقين ولا يقدّم الكائنات الغريبة باعتبارها كائنات شريرة تريد ابتلاع الأخضر واليابس، بل ينطلق من بعض كليشيهات ليحلّق بنصّه المقتبس من قصة لتد تشيانغ الى عوالم بسيكولوجية، تذكّرنا في بعض فصوله بتيرينس ماليك. هيتشكوك كان يقول: "الافضل ان ننطلق من كليشيه من ان ننتهي به". فيلنوف يأخذ بالنصيحة.

بطلتنا هنا، لويز بانكس (آيمي آدامز)، خبيرة اللغات التي تدرّس في جامعة، أمّ فقدت ابنتها في سن مبكرة. ذات يوم تستيقظ منطقة مونتانا على تهديد يأتي من الفضاء الخارجي، ويتجلى في مخلوقات تشبه العناكب الضخمة، فتستعين السلطات المحلية ببانكس كي تتواصل مع الكائنات وتعثر على معنى لكلامها، وتستنتج ما اذا كانت تريد للبشر خيراً ام شراً. هناك الكثير من التفاصيل المتعلقة بنشاط بانكس في المركز الذي تتعامل منه السلطات مع الكائنات، يمكن القفز فوقها، فهي لا تؤخر ولا تقدم في اطار مقالة نقدية. ما لا يمكن تجاهله، هو وجود فيلمين في فيلم واحد. فيلمان يتصارعان، وهذا يعبّر ربما عمّا يدور في عقل فيلنوف وقلبه: الأول مشهدي عريض نكتشف من خلاله المركبة ذات الشكل البيضوي الذي يمثّل نقطة اتصال بين عالمنا وعالم الكائنات التي تخاطب البشر برموز هيروغليفية، وعلى الدكتورة فك معانيها. اما الثاني فيتأتى على شكل مشاهد خاطفة، فلاشات عابرة، وهي انعكاس لعالم الدكتورة الداخلي، حيث تتطور الحوادث بالتوازي مع التعمق في دواخلها (امومتها فمأساتها العائلية)، حد ان الحكاية برمتها تصبح في النهاية مرآة لعقلها الباطني. يقدّم فيلنوف فيلماً دافئاً بحس انساني عالٍ جداً، مشبع بموسيقى يوهان يوهانسون الغامضة المبهمة. انها دراما متفذلكة لا شك، لها هناتها وهفواتها، لكنها تقدمية جداً في نظرتها الى العالم والانسان ومستقبل البشر والايمان باللغة والتواصل كالسبيل الاوحد لاستمرار الحياة.

قد لا يكون "أيام أرانخويز الجميلة" (مسابقة)، التحفة الفنية المنتظرة من فيم فندرز في أول عمل له ناطق باللغة الفرنسية ومصوَّر كلياً في ضاحية باريس القريبة، الا انه فيلم يستحقّ التحية لغير سبب. السبب الأهم في رأيي هو الآتي: المخرج الألماني الكبير على غرار آلان رينه ومانويل دو أوليفيرا وآخرين من قبله، لا يزال، بعد خمسين سنة من الاخراج، مشبعاً بروح التجريب والاختبار ومأخوذاً بحسّ المغامرة داخل مناطق غير مستكشفة من السينما، أعني بها التلاعب بين اللغة والصورة، أو ذاك الحوار الخفي بين ما نسمعه وما نراه (أو نتخيله). التفاوت هنا بين ما نسمع وما نرى، هائل وقد يخلق ارتباكاً عند المُشاهد المحصن بتقاليد تلقيه الاعتيادية. معظم الأفلام تكون الصورة فيها وصفاً للكلام، فندرز أرادها مختلفة. كان بامكانه التحوّل إلى مؤسسة سينمائية راسخة أو إلى مخرج يلهث خلف المشاريع المضمونة، لكن هذا لا يرضي تطلعاته. عمله الجديد (أفلمة لنصّ صديقه بيتر هاندكه) الذي لم يسلم من النقد اللاذع عقب عرضه في مهرجان البندقية (31 آب - 10 أيلول)، صوّره فندرز بالأبعاد الثلاثة، كما هي حال أفلامه الثلاثة الأخيرة.

تتسلل الكاميرا مع بداية الفيلم إلى منزل بورجوازي، وصولاً إلى مكتب حيث يجلس رجل أمامه آلة طباعة، من المفترض انه الكاتب، كاتب قصة نكتشفها تباعاً. انه الصيف والشمس ساطعة، والرياح تهب برقة على الأشجار فتتمايل الأغصان على ايقاعها. في الحديقة، رجل وامرأة يجلسان إلى طاولة. في الأفق، ظلّ باريس البهي. طوال ساعة ونصف الساعة، لن يكون الفيلم سوى حوار طويل بينهما. حوار متقطع يبدأ بالتجربة الجنسية الأولى ويلخص - اذا اضطررنا إلى تلخيصه - التفاوت في النظر إلى العالم بين الرجل والمرأة.

الديكور أقرب إلى الجنة منه إلى بقعة جغرافية مطلة على منطقة ديفانس الباريسية. "بطلانا" بقدر ما يتحدثان عن نفسيهما، يتحدثان عن كلّ واحد منا، عن هواجسنا ورغباتنا في البوح والكلام، وعن كلّ ما لا نجرؤ على الاعتراف به. الكاتب الذي يقطع عليه الفيلم بين حين وآخر، هل هو "كاتب" حوارات الشخصيتين، أم الشخصيتان هما اللتان "تكتبانه"؟ هنا السؤال الذي لا يحسمه الفيلم، أو لنقل يتركه ضائعاً بين سطور النصّ الذي يولد تحت أصابعه. كله في الفيلم ينخلق من الانعكاس والتضاد بين الأشياء. الطبيعة الفردوسية الهادئة التي تلقي بكآبتها الفظيعة علينا - تلك الطبيعة التي يجلس في أحضانها شخصان بلا إسم ولا يوجد أي سبب لنهتم بهما - (يبدأ الفيلم بلا مقدمة وينتهي بلا حبكة بالمفهوم الكلاسيكي للكلمة)، هي الأخرى مرآة ساخرة يصعب النظر فيها. الواضح ان الحوار بين رضا كاتب وصوفي سومان يتحول حواراً بين الانسان والعناصر الطبيعية التي تحيط به، الخضرة والأوراق وزقزقة العصافير والرياح.

"أرض اللا لا" (مسابقة) فيلم مبهج لا شكّ في ذلك، على الأقل في بعض جزئيته، ولو انه يدور حول نفسه طويلاً، صانعاً الحلقات الدائرية نفسها بتنويعات وأصوات وألوان مختلفة، ولكن متقاربة بعضها من بعض. ما يعانيه العمل هو ما يعانيه معظم الأفلام: المادة الشحيحة غير الكافية لفيلم من ساعتين؛ الحوادث القليلة التي تجعل مجمل المشروع يبدو مفتعلاً. الحكاية؟ هل هناك فعلاً حاجة لشرحها والدخول في تفاصيلها. فنحن هنا أبعد ما نكون عن المقاربة الشفهية. "أرض اللا لا" تجربة بصرية كاملة. شازل يعبّر بالصورة، لا يكترث إلى أي حوار، "كلوز أبّ" من هنا، "ترافلينغ" من هناك، ويصل إلى المتلقي ما يجب أن يصل. مشاهده قصيرة، لغته مختزلة، صورته حنونة، العلة ان كلّ ما كان يصلح لتوظيفه لمصلحة النصّ، يقف في لحظات حائلاً بينه وبين الفيلم.

"أرض اللا لا" يحتضر لحظات ثم يعود، ثم يموت ثم ينبعث من جديد. الافتتاحية بمشهد زحمة على احدى الطرق السريعة في لوس أنجليس المعاصرة. العالقون فيها سينتفضون لنراهم يغنون ويرقصون على سقوف سياراتهم. أوكي، النبرة صريحة والمقصد واضح. هذا فيلم انشودة لعصر السينما الذهبي، تحية للفنّ السابع، بحيث يستمد منه شرعيته. يستعير شازل من أفلام كثيرة، ندعكم تكتشفونها لأن عددها غير قليل. كوميديا جريئة، لا خلاف على ذلك، ليس فقط كمغامرة انتاجية غير مضمونة النتائج، بل لأن شازل أقدم على تصوير مجمل العمل، بأدق تفاصيله، على الطريقة القديمة المتلاشية. حتى البنية السردية، ومنها طريقة اللقاء بين الفتاة الحالمة بالتمثيل (ستون) والشاب الطامح إلى افتتاح نادٍ للجاز، لا تنتمي إلى عصرنا هذا ولا إلى المنطق المعمول به. الغناء بدل الكلام هو الآخر لا ينتمي إلى مفردات عصرنا المتشعب، المستعجل، البراغماتي.

فرنسوا أوزون يخرج أفلاماً غير متوقعة، مليئة بالحياة والوجوه المعبّرة والشغف والسينيكية. هناك دائماً ما يمكن أن نحبه في أفلامه. التمثيل أو الاخراج أو البنية السردية أو ببساطة النحو الجذاب الذي يحملنا بواسطته إلى حقب وأماكن مختلفة. فما بالك إذا اجتمعت هذه العناصر كلها في فيلم واحد؟ هذه حال جديده، "فرانتز"، المتسابق على جائزة "الأسد الذهب". المخرج الفرنسي النشيط جداً، الذي لا يتوقف عن العمل منذ العام 1988، أبدع في أحدث ميلودراما تشويقية له، هو الشاطر في هذا المجال لأنه يجيد التلاعب بمصائر الأفراد، من دون الوقوع في فخاخ التنميط، بل يشبّع عمله دائماً باللؤم والرؤية العميقة للطبيعة البشرية.

"فرانتز" مستوحى من فيلم لارنست لوبيتش أنجزه المخرج الألماني الكبير في العام 1932، وهو بدوره كان اقتبسه من مسرحية لموريس روستان. إنها عودة إلى غداة الحرب العالمية الأولى التي أحدثت ما أحدثته من خراب في أوروبا، لكن التركيز هنا هو على الحرب التي اندلعت بين الجارتين ألمانيا وفرنسا. آلاف الجنود قضوا على الجبهة من الجانبين. نبدأ من ألمانيا الذليلة بعد خسارة الحرب، الناقمة على فرنسا والفرنسيين، لننتقل بعدها إلى الدولة العدوة لها، التي بدورها تتباهى بنيلها من عدوها، وهي تغني المارسييز.

آنّا (بولا بير) كانت خطيبة فرانتز، الجندي الذي سقط خلال معركة مع الفرنسيين. في قرية ألمانية صغيرة حيث تعيش مع أهل خطيبها، تزور قبره بشكل دائم. ولكن، سرعان ما تكتشف انها ليست الوحيدة التي تزوره: ثمة شاب فرنسي يدعى ادريان (بيار نيني) يضع اكليلاً على ضريح الشهيد. من هو هذا الشاب؟ هذا ما سنعرفه في النصف الأول من الفيلم (نحو ساعة). يدخل ادريان بيت ذوي فرانتز باعتباره صديق ابنهم، حاملاً إليهم المشاعر الصادقة، وبعض التفاصيل كحبّه للوحة لمانيه. في المقابل، يرى والدا فرانتز فيه امتداداً لابنهما وما بقى من ذكراه، فيفتحان له قلبيهما ومنزلهما. كذلك الحال بالنسبة لآنّا التي تسلّم أمرها لأدريان، فترافقه إلى حفلة راقصة، متجاهلة نظرات الناس الحاقدة الذين لا يعجبهم هذا "الخرق" للعدو في بيئتهم غداة انتهاء الحرب. هي أيضاً تجد فيه "شيئاً" من الفقيد.

هذا الجزء الأول من الفيلم يلتقطه أوزون بغموض كبير غارق في السواد البديع. يلامس التعبيرية الألمانية، مستلهماً لوحات حقبة الرومنطيقيين الألمان، مستعيناً باللونين الأسود والأبيض (35 ملم)، مع لحظات سكون أو هروب من الواقع - حللها كما تريد - تتلون فيها الصورة كأنها إنتعاش للذاكرة. شيئاً فشيئاً تظهر الهوية الحقيقية لأدريان؛ فهو قد لا يكون الشخص الذي يدّعيه؟ لمَ جاء إلى هنا، ما الصلة الحقيقية التي تربطه بفرانتز، وعمّ يبحث تحديداً؟ هذا ما سنكتشفه تباعاً.

يستند الفيلم إلى مسألتين أساسيتين: الكذب والغفران. فالاثنان ضروريان للنهوض بالمجتمع المتصالح مع نفسه، وخصوصاً ذلك الذي شهد حرباً، وهي فكرة يشرعها حتى الراهب الذي تعترف عنده آنّا بذنوبها. سرّ كبير سيربط ادريان بآنّا وصولاً إلى علاقة الاعجاب وربما الحبّ بينهما التي ستتبدد حتى قبل ان تنشأ، وفي هذه النقطة تتجلى سينيكية أوزون الذي من بين كلّ الحلول الدرامية، يختار الأكثر لؤماً وقسوة: أن تقع بطلته في حبّ مَن قتل خطيبها.

البندقية ٧٣ - "سفاري" لأولريش زيدل: اقتل ما تشاء الدنيا أذواق!

المصدر: النهار - هوفيك حبشيان - البندقية

الدخول إلى فيلم أولريش زيدل، "سفاري"، لم يكن كالخروج منه. عددٌ منا كان ينتظر بعض السخرية القارصة كالعادة، من العِرق الذي ينتمي إليه هذا المخرج النمسوي القدير: البيض الأوروبيون الذين يضجرون في رفاهيتهم. إلا أنّ السخرية لم تكن بالحجم الذي توقعناه مع اتخاذ مخرج ثلاثية "جنة" منحى جديداً، ويمكن القول إنّ هذا المنحى أكثر جدّية هذه المرة. بحثتُ طويلاً بين طيات الفيلم عما يضمره زيدل، وإنما كلّ شيء كان واضحاً ومعلناً وصريحاً. الأمر الذي ضعّف قليلاً حجته السينمائية.

بعد السياحة الجنسية التي تمارسها نمسويات في افريقيا، يتطرّق زيدل في جديده المعروض خارج المسابقة في#مهرجان_البندقية (٣١ آب - ١٠ أيلول) إلى الصيد في ناميبيا (جمهورية في جنوب غرب افريقيا). هؤلاء الألمان والنمسويون الذين يقصدون القارة السمراء بهدف صيد الحيوانات البرية واستعمال الفرو والجلد وتحنيط الرؤوس، بعدما ينتقونها في كاتالوغ. حيوانات تصبح زينة لجدران منازلهم. الفيلم سلسلة من المقابلات مع صيادين من الأعمار كافة. إلى جانبها، ثمة مَشاهد يلتقطها زيدل لنشاطهم الدموي. بدلاً من التركيز على الفريسة، تقف الكاميرا في الخطّ الخلفي، أي خلف الصياد، منتظرة لحظة خروج الرصاصة من البندقية المصوبة بدقّة في اتجاه الحيوان، ملتقطة الفرح الذي يثيره سقوطه. الآلية نفسها معتمدة دائماً: لا نرى إلا الفعل، لا ردّ الفعل الذي يأتي بعد لحظة. ثم يمضي الصيادون في البحث عن فريستهم التي سقطت على بُعد أمتار من موقع الجريمة. هؤلاء الذين يعاملهم السكان المحليون كالأسياد، لا يكتفون بهذه الأفعال المشينة، بل يلتقطون الصور مع الحيوانات المرمية أرضاً وعلى وجوههم ابتسامات فخر عريضة.

في محاولة زائفة لفهم هذه السياحة الوحشية ومبرراتها ومردودها النفسي والمعنوي، يتأمّل زيدل ببرودة الظاهرة السقيمة. فالمبررات التي يأتي بها الصيادون تراوح ما بين المثير للشفقة والمضحك. أحدهم يدّعي أنّ الصيد هو لمصلحة الحيوانات - على سبيل المثال. في مشهد آخر، يسأل زيدل عن هوية الحيوان الذي يرغب كلّ صياد في قتله. "أسد، فيل..."، تتوالى الأجوبة. الدنيا أذواق. إلى ذلك، لا ينسى الفيلم الظروف التي يعيشها سكان ناميبيا الفقراء المنبوذين من الجهات الرسمية، وهي ظروف تبرر تعاملهم مع السياح مقابل فتافيت ينالونها منهم.

الفيلم امتداد لآخر أعمال زيدل، "في القبو" (٢٠١٤)، الذي صوّر النشاطات التي يقوم بها النمسويون في أقبيتهم. كالعادة، أحدٌ لا يستطيع التأكيد أنّ ما نراه ينتمي الى الروائي أو الوثائقي. ما لم يتغيّر عند زيدل، والأرجح لن يتغير البتة، هو نظرته الباردة شبه الآلية إلى الإنسان، فهو يطرح هنا عادية الشرّ، لا اكثر ولا أقل. ولو كانت البنادق مصوبة في اتجاه البشر، لما تغير شيء في النحو السلبي الذي يقف به خلف الكاميرا. فالأشياء عنده "مادة فيلمية" يلتقطها بلا عواطف. من فيلم عن هواية غير متحضرة، يتحول "سفاري" إلى مرافعة مقلقة محورها الطبيعة الآدمية، وأحياناً الى كاريكاتور للكولونيالية في زمن الهواتف المحمولة!

البندقية ٧٣ - "جاكي": بابلو لاراين يقول "لا" للسيرة التقليدية!

البندقية - هوفيك حبشيان

كانت جاكلين في الرابعة والثلاثين عندما اغتيل زوجها جون كينيدي، رئيس الولايات المتحدة. مقتله بين يديها أصابها بتروما. الأزمة هذه فتحت جرحاً عميقاً في وجدان واحدة من أشهر السيدات (١٩٢٩ - ١٩٩٤) المرتبطات بالتاريخ الأميركي الحديث، وأفضت بها إلى مساءلة نفسها ومراجعة إيمانها. فيلم السيرة "جاكي" لبابلو لاراين الذي يتسابق على "الأسد الذهب" في#مهرجان_البندقية (٣١ آب - ١٠ أيلول) يشرح تفاصيل هذه التروما، وتفاصيل نضالها للصمود في وجه التغييرات السريعة، ومحاولة حماية "إرث" زوجها من الاندثار وسط انتهازيي "البيت الأبيض". فآلة السياسة لا تكفّ عن الدوران ولا ترحم حتى في أحلك الظروف.

يقع الفيلم في الخطّ الفاصل بين الشخصي والعام. مقاربة المخرج التشيلياني حميمية تقدّم صورتين عن السيدة الأولى، واحدة تتمسّك بها في اطلالاتها التلفزيونية، وأخرى شخصية نكتشفها في هذا الفيلم المتقن الصنع. ناتالي بورتمان هي التي تجسّد دور جاكي. الشبه بينهما صادم. ولكن الممثلة الكبيرة لا تكتفي بالشبه ولا المظهر الخارجي، فتمثيلها يستند في شكل أساسٍ على اللعب على أوتار الصوت والتحوّلات الداخيلة، لتطل بهيئة سيدة لم تكن دائماً قديسة، ومن الآن يمكن تخيّل ماذا يعني قول "لم تكن قديسة"! فالفيلم لا يقدّمها أيقونة، بل يعرّيها من الداخل لنراها على حقيقتها ونلمس شعورها ونرافق براغماتيتها في تجاوز المحنة.

في الفيلم الأول له باللغة الإنكليزية، يقول لاراين "لا" كبيرة للسهولة. فالنصّ الذي وضعه نوا أوبنهايم للفيلم متشعّب يأتي على شكل طبقات متعدّدة، كلّ طبقة منها تُخفي ما تخفيه. تتطور فيه ثلاثة خيوط متوازية: الصحافي (بيلي كرودوب) الذي يحاور جاكي بعد مقتل زوجها في بيت العائلة بماساشوستس؛ استعادة الساعات القليلة التي تلت الاغتيال؛ اجراءات مراسم الدفن. سننتقل بين هذه الأجنحة الثلاثة، لنعايش - على غرار الفيلم الذي تتركّب أجزاؤه أمامنا - سيدة تحاول لملمة نفسها بعد حادثة مأسوية والتوفيق بين نظرة العالم إلى الاغتيال ونظرتها "هي" إليه، انطلاقاً من مقاربتها الشخصية للمسائل العملية. نتابع معها في الأيام القليلة التي تلت الاغتيال تطلعاتها إلى الحاضر والمستقبل، من دون أدنى حسّ ميلودرامي خبيث أو رغبة في استدرار التضامن. هنا قوة الفيلم الذي تحمله بورتمان في بؤبؤ عينيها، وتساعده في الارتقاء نحو خيارات جمالية مثل اللقطات القريبة أو الموسيقى التصويرية البديعة لميكا ليفي التي تضخ في الفيلم الجرعة المطلوبة من التوتر كقوة ضاغطة على صدور الشخصيات المصدومة من هول الحادثة.

يبرع "جاكي" في نقل النحو الذي يتم فيه التعبير عن الأحاسيس كافة: الخوف، الأسى، الحيرة. حتى عندما ترتسم ابتسامة صغيرة على وجه جاكي، فهذه تنم عن رغبة في ملامسة جوهر الحياة. ثمة مشهد بديع: عندما تبدأ جاكي في نزع ملابسها الملطخة بالدم، ثم نراها تحت الدوش. هذه الحميمية يبلغها الفيلم لقطة بعد لقطة، نتيجة اصرار كاتب النصّ والمخرج والممثلة في عدم الالتصاق الباهت بدقة التجسيد، بل في ايجاد حلول خيالية بديلة. وثمة تفاصيل أحدٌ لا يعرفها لحسن حظ مخيلة صناع الفيلم الذين سدّوا كلّ الثغر. في النهاية، نخرج من الفيلم من دون أن نعرف مَن كانت فعلاً هذه المرأة، إذ يتبين أنّ كلّ ما قالته يعزّز غموضها أكثر ويبدد التصنفيات الجاهزة، وهنا سحر "جاكي" لأنه يبلور جانبها الغامض بدلاً من أن يكشف كلّ أوراقها.

في أيّ حال، كانت جاكي سيدة ذات وجوه متعددة، تنزع قناعاً لتضع قناعاً آخر، لكن صريحة ومتصالحة مع نفسها. هناك أيضاً في الفيلم نقدٌ عابر لهوس الأميركيين بالاستعراض والـ"شوبيز". صحيح أنّ الفيلم عن موضوع سقيم كالقتل، إلا أنّ الكثير من مفرداته من عالم الاستعراض، حتى الاغتيال نفسه، وصولاً إلى المأتم، مروراً بالمقابلة الصحافية التي تحاول صناعة صورة جديدة لجاكي بناء على توصيات منها، واستناداً إلى هوس "القصة" ("ستوري") في الصحافة الأنغلوساكسونية.

النهار اللبنانية في

08.09.2016

 
 

الأوسكاري الايطالي باولو سورّينتينو: "فيلمي القادم سيكون عن بيرلسكوني"

وكالة (أي ْ جي آي) الإيطالية للصحافة

فينيسيا - أعلن المخرج الايطالي الحائز على الاوسكار باولو سورّينتينو بأن فيلمه المقبل "سيروي عن رئيس الحكومة الايطالية الأسبق سيلفيو بيرلسكوني وسيكون عنوانه «هم»". أعلن ذلك في حوار خاص مع مجلة «فاراييتي» السينمائية خلال حضوره الدورة الثالثة والسبعين لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي والذي قدّم خلاله حلقتين من مسلسل تلفزيوني بعنوان «البابا الشاب» من بطوله النجم البريطاني جاد لو، أنجزه سورّينتينو لصالح «إتش بي أُو»

. وقال المخرج النابوليتاني الذي حصل على الأوسكار عن شريطه «الجمال الباهر» بأن "الفيلم المقبل سيروي عبر الأحداث السياسية (وغير السياسية) الصفحة الطويلة والدراماتيكية لإحدى الشخصيات السياسية الهامة في هذا البلد، أي سيلفيو بيرلسكوني". وكشف سورّينتينو أنه منهمك في هذه الايام في كتابة النسخة الأخيرة من سيناريو الفيلم، مشيراً إلى أن بيرلسكوني، الذي سيحتفل بعيد ميلاده الثمانين في التاسع والعشرين من الشهر الجاري سيُروى عبر عرض العالم الذي أخاط ويحيط به، وهو العالم الذي تحرّك في داخله لعقود طويلة، ويعيد هذا المشروع إلى الأذهان فيلم سورينتينو الأسبق «إل ديفو» الذي تناول به حياة شخصية اساسية أخرى من عالم السياسة الإيطالية، جوليو آندريوتّي.

وكالة أجي الإيطالية في

08.09.2016

 
 

'رحلة الزمن': تأمل صوفي في بداية العالم ونهايته

العرب/ أمير العمري*

لم يرق بعض ما عرض من أفلام في مسابقة مهرجان فينيسيا السينمائي الـ73، إلى مستوى العرض في مسابقة مهرجان كبير بهذا الحجم والتاريخ، فهناك ما أدرج في المسابقة طبقا لمقتضيات الحضور “الضروري” بأكثر من فيلم من جانب الدولة المضيفة، إيطاليا، التي تتمتع بسينما ذات تاريخ طويل، وبعدد كبير من الأفلام التي تنتج سنويا، لكن الأفلام الإيطالية في المسابقة الرسمية لا ترقى بالقطع إلى مستوى التنافس.

فينيسيا - لا تزال أفضل الأفلام الإيطالية المعروضة حاليا في مهرجان فينيسيا السينمائي تأتي بكل أسف، من مخرجي الجيل الأسبق ومعظمهم تجاوز السبعين من عمره، باستثناء باولو سورينتينو (46 سنة) الذي عرض الجزأين الأول والثاني من أول مسلسل تلفزيوني يخرجه، وهو “البابا الشاب” خارج المسابقة في فيلم واحد يستحق أن نخصص له مقالا منفردا.

ولم يبرز ما يستحق التنويه به كثيرا من بين الأفلام الأميركية السبعة المشاركة في المسابقة (حتى الآن)، باستثناء فيلم “حيوانات ليلية” لتوم فورد الذي يتميز بمحاولة لخلق بناء جديد في السرد، وفيلم الافتتاح “لا لا لاند” وهو من أفضل ما عرض من أفلام، ولكن ربما يكون الأقرب إلى الحصول على إحدى الجوائز الرئيسية إن لم يكن “الأسد الذهبي”، هو الفيلم الأرجنتيني البديع “مواطن متميز” الذي اشترك في إخراجه مخرجان هما ماريانو كوهن وغاستيون ديوبارت، وهو عمل يستحق أيضا وقفة خاصة.

الإنسان بحماقته يساهم في تدمير كوكبه وتدمير ذاته من خلال اعتدائه على أمه "الطبيعة" التي صنعته

رحلة الزمن

“المفاجأة المتوقعة” -إذا جاز التعبير- جاءت مع عرض فيلم “رحلة الزمن” للمخرج الأميركي تيرنس ماليك (72 سنة)، هذا هو الفيلم الثامن لماليك خلال 43 سنة، وقد صرح غير مرة بأن فيلمه هذا اقتضى منه العمل لمدة 40 سنة، منذ أن كان الفيلم فكرة على الورق، إلى أن انتهى منه أخيرا وأصبح جاهزا للعرض في نسختين: الأولى نسخة قصيرة (40 دقيقة) بتعليق صوتي من الممثل براد بيت، والثانية نسخة طويلة (90 دقيقة) بتعليق صوتي من الممثلة كيت بلانشيت، وهي النسخة التي عرضت للمرة الأولى عالميا في مسابقة مهرجان فينيسيا في السابع من الشهر الجاري.

ماليك لا يظهر في مهرجانات السينما العالمية، ولا يشارك في مؤتمرات صحافية ولا ندوات لمناقشة أفلامه، ولا يدلي بمقابلات تلفزيونية، وهو بالتالي غير موجود في فينيسيا، فهو يفضل أن يترك أفلامه تتحدث عن نفسها وعنه أيضا، إنه في دور الغائب-الحاضر هذا يتشبه بإحدى صفات “الخالق” العظيم الذي لا تراه، لكنك ترى خلقه ومخلوقاته.

تيرنس ماليك الذي تربى على فلسفة هيدغر الباحث عن ماهية الوجود من خلال خوف الإنسان من العدم، أي الموت، مهموم بالبحث في المصير الإنساني، في علاقة الإنسان بالكون، في مقاربة الإنسان بالطبيعة، وتصوير عجزه عن الإحاطة بأسرارها، وكثيرا ما يصور أيضا غضب الإنسان واحتجاجه على القدر بقوة وقسوة، في نوع من الاندفاع الانتحاري الذي يؤدّي إلى الهلاك.

يمزج ماليك في أفلامه، بين التسجيلي والروائي، وبين الدرامي والواقعي والسوريالي، في سياق شعري “تأملي” ذهني، كما أنه مغرم بتصوير علاقة الإنسان بالطبيعة التي يراها أقوى من الإنسان، وليس من الممكن وصف فيلمه الجديد “رحلة الزمن” بأنه مجرد “فيلم وثائقي” أو “تسجيلي”، بل ولا يصلح حتى وصفه بأنه فيلم “غير خيالي”.

"جاكي" دراما دون دراما

أخيرا عرض الفيلم الأميركي “جاكي” الذي يتناول من خلال تفاصيل متخيلة، الأيام التي أعقبت اغتيال الرئيس الأميركي الأسبق جون كنيدي عام 1963، وتأثير حادث الاغتيال بشكل مباشر على زوجته جاكلين كنيدي التي تقوم بدورها في الفيلم الممثلة ناتالي بورتمان.

مشكلة الفيلم أنه يتعامل مع الحدث المأساوي الذي يعد من أكبر الأحداث الدرامية في القرن العشرين، من خلال عمل تغيب فيه الدراما غيابا تاما ويعتمد على الثرثرة الكلامية والبصرية، ويكاد لا يخرج عن سهرة تلفزيونية لربات البيوت من الطبقة الوسطى الأميركية من الجيل الذي عاصر كنيدي وجاكلين.

ولا شك أن الفيلم سيغضب جمهور السينما من الشباب الذي يود أن يعرف شيئا عن الماضي، عن تلك الفترة، لكنه سيخرج من الفيلم دون أن يعرف سوى محتويات الغرف الخاصة داخل البيت الأبيض التي تستعرضها بورتمان في مشاهد متكررة كثيرة أمام كاميرا التلفزيون (قبل حادث الاغتيال) بأداء مفتعل متكلف.

ربما كان المقصود منه محاكاة طريقة جاكي كنيدي المفتعلة في التحدث أمام الإعلام على خلاف صورتها الحقيقية كامرأة قوية الشكيمة كما يظهر الفيلم، ولكن ما الفائدة؟

صحيح أنه يتضمن الكثير من المشاهد التسجيلية والوثائقية، لكنه يجمع بين الوثائقي (مشاهد محددة يعود فيها بالصورة السينمائية على الشاشة إلى المقاييس القديمة، أي بنسبة (العرض إلى الارتفاع) 1 إلى 1، قبل أن يرتد إلى المنسوب الحديث لصورة الفيلم، أي 1.85 إلى 1) وبين التسجيلي (يتضمن مشاهد تسجيلية، حيث يتدخل المخرج في ما يصوره)، ولكن الفيلم بأسره عمل تشكيلي فني رفيع يجمع بين التسجيلي والخيالي وغير الخيالي والوثائقي، ويصل في الكثير من لقطاته إلى السوريالية.

ولا شك أن بعض لقطات الفيلم تذكرنا بالمشهد الشهير الذي يستغرق نحو 20 دقيقة من فيلم ماليك “شجرة الحياة” الذي فاز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان 2011، وهي لقطات اختارها ماليك مما كان قد صوره لحساب فيلمه هذا “رحلة الزمن”.

رحلة الخلق

لعل المعنى الأقرب إلى مغزى الفيلم ومحتواه الفلسفي هو “رحلة الخلق” من المنشأ إلى المنتهى، فهو أفضل من “رحلة الزمن”، فهذا ما يصوره ماليك في فيلمه الذي يتضمن الكثير من التكوينات البصرية الممتعة، واللقطات الفريدة من عالم الحيوان، من عالم الأسماك والكائنات البحرية التي تعيش تحت سطح الماء، ممزوجة بموسيقى تعتمد على نغمات قريبة من الابتهالات الدينية والأناشيد الكنسية.

ومع ذلك، فإن ماليك رغم تأمله العميق في معنى الوجود يقف أمام الطبيعة خاشعا، غير قادر على سبر أغوارها، وهو يعبر عن هذا العجز من خلال التعليق أو بمعنى أدق تلك المناجاة التي تتردد على لسان كيت بلانشيت، وهي تناجي الطبيعة، تخاطبها مباشرة معبرة عن ضمير ماليك نفسه عندما تستخدم كلمات مثل “من أنت؟ يا مانحة الحياة.. يا صانعة الضوء.. إنك تمنحين دون أن تسألي.. وتجددين شكلك دوما.. أماه.. إنك تخلقين ثم تدمرين ثم تخلقين وتجددين مرة أخرى؟ لماذا أنت صامتة؟ هل تخليت عن أبنائك؟”.

وهكذا في سياق فيلم تيرنس ماليك الباحث عن حقيقة الوجود، المؤمن بوجود القوة العظمى الخارقة الكائنة في ما وراء الطبيعة، لا ترد كلمة “الله” مرة واحدة في سياق الفيلم، بل إن المناجاة كلها تتجه للطبيعة، فما الذي وصل إليه ماليك وهو يصور قصة الكون من بدايتها، من أول الانفجار العظيم إلى التفاعلات الكوكبية التي تتشكل في لقطات متعاقبة بألوانها المذهلة، ثم إلى كوكب من صحراء جرداء مهجورة نائية مليئة بالبراكين، ثم تأتي الحيوانات الأسطورية (هناك مشهد لديناصور ووليده)، ثم يظهر الإنسان البدائي ويتشاجر مع أقرانه من أجل الطعام، ثم يكتشف الماء والزراعة، ثم ينحت البيوت في الجبال، ثم يعمر العالم ويشيد المدن العظيمة بقلاعها العملاقة وأضوائها المتألقة.

تتداخل في الفيلم البعض من المشاهد الوثائقية المستمدة من الواقع، لكنها تبدو كما لو كانت تتأسى لمصير البشرية وما بلغته من تدهور: مظاهر الكارثة الاقتصادية، الجوع، البحث في القمامة (في الهند مثلا)، ثم الثورة والاحتجاج والصراخ ولو على نحو غامض (كما في مشهد لجانب من ميدان التحرير أثناء انتفاضة يناير 2011)، ويبقى المعنى الأكثر رسوخا هو أن الإنسان بحماقته يساهم في تدمير كوكبه وتدمير ذاته من خلال اعتدائه على أمه التي صنعته، أي على الطبيعة.

سينما خالصة

كل المعاني المذكورة سابقا تتجسد في الفيلم من خلال لقطات ومشاهد نراها تارة من زاوية مرتفعة، من عين طائر، من طائرة تحلق، تنتقل بنا من حال إلى حال، ومن مكان إلى آخر في سلاسة وانسيابية وإيقاع شعري يمتزج بالموسيقى الكلاسيكية التي ترتفع مع بلوغ المشهد ذروته.

وفي لقطة ذات دلالة خاصة، تنطلق قذيفة، تعبر سماء الكوكب، تخترق الشهب وتنفجر في الأفق ليتحول الكوكب إلى صحراء مليئة بفوهات تتصاعد منها الأبخرة، والكاميرا تحلق مرة أخرى، ترتفع فوق المأساة ترصد حجم ما سببه الإنسان من دمار، بينما الطبيعة تتلقى الضربات صامتة، فهي قادرة على إعادة الخلق والتجدد. ورغم كل تشاؤمه ونبوءته بنهاية العالم، إلاّ أن ماليك ينتهي فيلمه بنغمة متفائلة تؤكد أن بوسع الإنسان أن يخلق عالما جديدا بالحب، وبالحب وحده.

الملاحظة السلبية أن الفيلم كان يمكن أن يستمر هكذا من خلال الآلاف من اللقطات، لساعات وساعات بلا نهاية، فبناؤه الفني يفتقد إلى التوازن الدقيق المحكم، وانتقالاته تبدو مفاجئة، ولقطاته غامضة في الكثير من الأحيان، وكان يمكن أن يقسم ماليك فيلمه إلى فصول محددة، كما أن التعليق الصوتي يعاني من التكرار، وربما كان من الأفضل الاستغناء تماما عنه وترك الصور تتحدث عن نفسها، لكن ماليك شاء أن يجسد الصوت الإنساني ويجعله صوت العقل أو صوته الشخصي، وهو يتضرع قبل النهاية المحتومة كما يرى.

رغم كل نواقصه، ينتمي فيلم “رحلة الزمن” إلى “السينما الخالصة” التي تعتمد على الصورة والمونتاج والحركة والموسيقى، والمرء يشاهد الفيلم كما لو كان يشاهد لوحة فنية تتجدد أمامه باستمرار، تخرج منها لوحات أخرى، تفور بالحركة والحياة، تتناغم اللقطات حينا، وتتنافر حينا آخر، ثم تتصادم لتعود إلى هارمونيتها، من خلال المونتاج، الوسيلة الأكثر تأثيرا في السينما والتي تميزها عن غيرها من الفنون.

ولا شك أن السينما الخالصة تقتضي مشاهدا من نوع آخر، لا يلهث وراء الحبكة ولا يبحث عن الدراما المباشرة، بل يكتفي فقط بالتأمل والاستمتاع.

*ناقد سينمائي مصري مقيم في لندن

هوامش وملاحظات: فيلم تسجيلي عن عزل رئيسة البرازيل

العرب/ أمير العمري

فيلم يطرح التساؤلات حول شرعية العزل نفسه من خلال التساؤل حول ما إذا كان المفهوم الأعمق للديمقراطية يتعرض للاغتيال ويتراجع في البرازيل حاليا.

بعد أيام من عزل الرئيسة البرازيلية، ديلما روسيف، من منصبها في الحادي والثلاثين من أغسطس، جاء إلى السوق الدولية للأفلام المقامة على هامش مهرجان فينيسيا فيلم تسجيلي طويل للمخرجة بيترا كوستا بعنوان “العزل: وزنان، وقياسان”، وهو لا يتناول تفاصيل عملية عزل الرئيسة بقدر ما يطرح التساؤلات حول شرعية العزل نفسه، من خلال التساؤل حول ما إذا كان المفهوم الأعمق للديمقراطية يتعرض للاغتيال ويتراجع في البرازيل الآن.

يصور الفيلم احتجاجات الشوارع في البرازيل ضد الدعوة إلى عزل الرئيسة صاحبة المشروع الاجتماعي والديمقراطي التقدمي الذي أفاد الملايين من العمال والأسر الفقيرة، كما يصور المداولات التي دارت وراء الكواليس داخل الكونغرس البرازيلي والقصر الرئاسي.

وقد صرح منتج الفيلم تياغو بافان، بأن “التشريعات الأخيرة التي صدرت في البرازيل تعتبر تراجعا في ما يتعلق بما حصل عليه العمال من حقوق، وأوضح أنه مثل المخرجة بيترا كوستا، من مواليد 1984، أي منذ أن بدأت البرازيل تعرف انتقالا إلى نظام ديمقراطي، وكنا نتصور أنها أصبحت دولة مستقرة بعد 30 سنة، واليوم ندرك أن هذا لم يكن صحيحا، فهناك تراجع عن التجربة”.

إعادة افتتاح الفندق التاريخي

في خبر أسعد جميع الذين يتابعون مهرجان فينيسيا منذ سنوات أعلن أن فندق “دي بان” (أي الحمامات) وهو الفندق التاريخي الذي شيد في أواخر القرن التاسع عشر، سيعاد افتتاحه كمعلم رئيسي من العلامات المعمارية الراسخة في جزيرة الليدو الفينيسية.

وكان هذا الفندق المشهور بطرازه المعماري الباروكي، قد ظل لسنوات عديدة يستقبل قسما من زوار وضيوف المهرجان، ولكنه أغلق قبل نحو سبع سنوات، بعد أن اشترته شركة أعلنت أنها تعتزم تقسيمه وعرضه للبيع كشقق سكنية مع المحافظة على الواجهة المميزة.

وفي المقابل، قامت شركة أخرى مؤخرا بشراء المبنى الأثري وأعلنت أنها ستنفق عدة ملايين من العملة الأوروبية على تجديده وترميمه، ثم افتتاحه كفندق يستعيد العصر الذهبي للجزيرة.

وكان المخرج الإيطالي الراحل، لوتشينو فيسكونتي، قد صور داخل هذا الفندق، في رواقه الشهير وسلالمه، بل وعلى شاطئه الخاص المقابل أيضا، مشاهد من فيلمه الشهير “الموت في فينيسيا” الذي تدور أحداثه في مطلع القرن العشرين، وهو إحدى كلاسيكيات السينما الإيطالية والعالمية.

العرب اللندنية في

09.09.2016

 
 

من فينيسيا إلى تورنتو.. مهرجان حافل بأفلام تحكي أحداثاً حقيقية

«الشرق الأوسط» في مهرجان فينيسيا السينمائي: يعرض 4 أعمال عن شخصيات سياسية

فينيسيا: محمد رُضا

وحدهم الذين يعتبرون مهرجان تورنتو أقرب إلى سوق كبيرة من الأفلام ويتحيّزون ضده على هذا الأساس، لا يعرفون قيمته بالنسبة للعالم ومنتجيه ومخرجيه. هؤلاء يعتبرونه المحطة الأولى التي سيتوقف على قطار العروض السينمائية المميّزة في موسم الجوائز المنطلق من مطلع هذا الشهر وحتى منتصف فبراير.

فنيسيا يطوي صفحته الثالثة والسبعين يوم غد العاشر من الشهر. تولياريد انتهى قبل ثلاثة أيام وتورنتو بدأ يوم أمس. بين الثلاثة تتوزع عروض أكثر 400 فيلم نصفها تقريبًا عروض برميير أولى إما دوليًا أو أميركيًا.

لكن تورنتو، بالنسبة لبعض النقاد العرب، لا يستطيع، وهو في دورته الجديدة بعد أكثر من ثلاثين سنة على إطلاقه، أن يقنعهم بأنه مهرجان كبير بأفلام فنية وجيدة وجادة كحال أي مهرجان آخر. لكن هل ترى تورنتو يهتم وهو محط إعجاب مئات السينمائيين الذين ينتقلون إليه كل سنة؟ لو كان دون الأهمية التي يحتلها اليوم هل واكب، في السنوات العشرين الأخيرة على الأقل، نجاحات متوالية؟

بعض هذه الأسئلة أجبنا عنها سابقًا ومردود عليها بأن التحفظ حيال فيلم ما أو مخرج ما أو مهرجان معيّن يعود إلى اعتبار منقوص لما هي السينما عليه. لذلك لا بد من القفز إلى بعض الأفلام المعروضة في نسخته لهذا العام التي تستمر حتى الثامن عشر، والتي تتوزع في تظاهرات تسودها أفلام بالغة التنوّع.

كندي وجونسون

أحد أهم اللافت للاهتمام وعلى نحو واضح هو كثرة الأفلام التي تتناول أحداثًا حقيقية أو سير حياة. ليس فقط بين الأفلام التسجيلية وغير الروائية عمومًا، بل بين الأفلام الروائية أيضًا. ليست المرّة الأولى، لكن بوجود أكثر من خمسة عشر فيلمًا روائيًا يبرر الاهتمام الذي قد يبديه الناقد وهو يجوب بين جديد هذا المهرجان.

فيما يمكن اعتباره الجانب الأكثر بروزًا بين هذه الأفلام، تتقدّم أفلام ذات حكايات شخصيات وأحداث سياسية. من بينها فيلمان يتعاملان وشخصيتي جون ف. كندي وليندون ب. جونسون، الرئيسان المتواليان في ستينات القرن الماضي.

في «جاكي» لبابلو لاران تحتل نتالي بورتمن البطولة. تؤدي دور زوجة الرئيس الأميركي الراحل في الفترة التي تم فيها اغتياله. يركز الفيلم عليها لكنه يتناول شذرات من حياتها معه، وكثيرًا من المشاهد المؤلّفة، عمليًا، ولو استندت إلى حقائق حول وقع الاغتيال عليها (وهو الذي حدث في دالاس سنة 1963). ليس فقط من حيث إنها كانت في السيارة ذاتها عندما قام أوزوولد بإطلاق النار من بندقية قنص فأصاب الرئيس في رأسه، بل تبعات ذلك على صعيد المسرح السياسي في البيت الأبيض.

LBG (الأحرف الأولى من ليندون ب. جونسون) هو موضوع فيلم آخر مخصص عنه يعرضه تورنتو جنبًا إلى جنب «كاكي». المخرج هو روب راينر والبطولة لوودي هارلسون في هذا الدور والفيلم هو دراما ترسم خطوطًا سوداء على نائب الرئيس جونسون الذي قفز إلى كرسي الرئاسة إثر اغتيال جون ف. كندي ومن ثم إلى محاولة بعثرة جهود كندي السياسية وإنجازاته خصوصًا الاجتماعية وما يتعلق بالتفرقة العنصرية.

الفيلم الثالث في هذا الاتجاه، «سنودن» يدور حول شخصية إدوارد سنودن كما يقوم به جوزف غوردن - ليفيت ومن منطلق يدين الحكومة الأميركية والإف بي آي ويمنح الموظف الذي كشف تجسس وكالات الأمن الأميركية على المواطنين صفة بطولية تناقض النعت الرسمي بأنه خائن لوطنه.

الفيلم للمخرج أوليفر ستون الذي سبق له أن طرح في أفلام روائية وتسجيلية شخصيات حقيقية، لكنه لم يعاملها بوضوح في كل المرّات. حافظ أحيانًا على خط رجعة يجنّبه مغبة حدوث انقسام بين مشاهديه.

فيلم آخر عن شخصية رئيس أميركي نجده في طيات فيلم أميركي آخر هو «باري» من إخراج الهندي فيكرام غاندي ويدور حول الحقبة الشابة من حياة الرئيس باراك أوباما. هذا كان أيضًا موضوع فيلم تسجيلي انطلق للعروض التجارية المحدودة أخيرا بعنوان «أميركا حسب» (Obama›s America).

هندي يبحث عن جذوره

المحيط العالمي يستأثر باهتمام بعض هذه الأفلام. وأحدها هو «الرحلة هي الوجهة» عن حياة المصوّر دان إلدون (يؤديه وجه جديد اسمه بن شنتزر) الذي قضى على أيدي صوماليين عندما قصد تغطية المجاعة التي وقعت في التسعينات. المخرجة برونوَن هيوز تعود بهذا الفيلم إلى السينما بعد 13 سنة من الغياب.

وفي «أسد» نتابع القصّة الحقيقية لشاب هندي عاش في أستراليا منذ أن كان في الخامسة من عمره بعدما تبناه والدان من هناك. عندما أصبح شابًا استخدم «غوغل» لتعقب القرية التي نشأ فيها والوصول إلى حقيقة والديه. الدور من بطولة دف باتل، الممثل الذي صنع اسمه انطلاقًا من بطولته لفيلم «مليونير العشوائيات» سنة 2008.

وفي حين لا يوجد فيلم روائي عن الحرب في سوريا أو العراق أو ليبيا، يقدم المخرجان فيليب نات وميكي يمين فيلما تسجيليًا من إنتاج ألماني عنوانه «نادي السيرف الغزاوي» ويدور حول شباب غزاويين يتنفسون شيئًا من الحرية المفقودة (بظروف الداخل والخارج) عبر رياضة السيرف.

ليست كل الأفلام التي تدور حول شخصيات حقيقية وأحداث واقعة سياسية. خذ مثلاً الفيلم الفرنسي «150 ملغ» لإيمانويل بركو الذي يسرد حكاية الممرضة التي اكتشفت علاقة بين ارتفاع نسبة الموتى في المستشفى الذي تعمل فيه وعقار جديد تم تداوله في فرنسا، إلى أن أثبتت الممرضة تلك العلاقة فتوقف إنتاجه.

على صعيد أخف وأكثر مرحًا هناك «مولد تنين» الذي يدور حول سنوات التمارين التي خاضها الممثل بروس لي وجعلت منه نجمًا عالميًا كبيرًا إلى أن قضى وهو ما زال في ذروة عطائه. هذا الفيلم الروائي (يقوم به الصيني فيليب نَغ) من صنع كندي - صيني أخرجه جورج نولفي الذي عرض في تورنتو سنة 2011 فيلمه الروائي «مكتب التعديل» مع مات دامون وإميلي بلنت.

المشهد: سباق الألف ميل

* سباق الأميال في موسم الجوائز بدأ. من فنيسيا إلى توليورايد وفي الوقت نفسه تورنتو. لندن ونيويورك وسان سابستيان ودوفيل على مرمى حجر. قرطاج، القاهرة، مراكش، دبي على بعد حجرين وأكثر من عشرة مهرجانات أخرى أصغر أو أكبر تترامى حتى نهاية العام.

* المهرجانات ليست المصدر الوحيد للجوائز، بل كذلك المناسبات السنوية وهذه أصبحت أكثر حضورًا من ذي قبل. على امتداد الأشهر الخمس المقبلة تعلن مؤسسات مثل جمعية المخرجين وجمعية الكتاب وجمعية الممثلين وجمعية المنتجين وكل جمعية تعمل ضمن اختصاصات السينما جوائزها.

* «البافتا» و«الغولدن غلوبس» و«لندن فيلم سيركل» ودزينة أخرى من المؤسسات النقدية ترفع قوائمها بالمرشحين والمرشحات في صناعات السينما المختلفة وصولاً إلى أم الجوائز الأوسكار.

* لا جوائز مماثلة في العالم العربي إلا على أضيق نطاق غالبها يقع في مصر، ولا واحد منها يحتوي على بانوراما تشمل كل ما تم إطلاقه من أفلام ونشاطات في التمثيل والإخراج والكتابة في كل أنحاء العالم العربي، وهو أمر جيد. لأنه لو بدأ لتوقف بعد عامين أو ثلاثة بسبب التناحر بين الأعضاء والرؤساء حول من سينال هذه الجائزة أو تلك. عندنا تمشي مثل هذه الأمور إلى الخلف ونتبعها.

* في باقي العالم تحاول كل مؤسسة الآن أن تسجل حضورها الفني في هذا الموسم وأكثر من ذي قبل. ليست كل جمعية نقدية أو صحافية سينمائية تستطيع إطلاق حفل يشبه حفل «الغولدن غلوبس». هذا يحتاج لملايين الدولارات تحصل عليها «جمعية مراسلي هوليوود الأجانب» من جراء بيع حفلتها إلى محطات التلفزيون ويبقى معها ما تصرفه على الأعضاء والمناسبات الصغيرة، بل وتتبرع به إلى جمعيات خيرية أو إلى طلاب سينما وجامعاتها.

* لكن هذا الحضور يتعاظم إعلاميًا على الأقل. من يتابع المجلات المتخصصة والمواقع السينمائية الجادة (والجيد منها في أميركا أكثر من مائة وحول العالم أكثر من ألف) يتلقف يوميًا أخبارًا عن هذه الجمعيات الصغيرة، كما عن تلك المؤسسات الكبيرة. ما جديد الأفلام المستحقة للترشيحات. توقعات النقاد. قوائم بالأفضل. قراءات نقدية مختلفة. مقابلات و... المزيد من التوقعات كلما اقترب موعد إعلان جائزة رئيسية.

* كل ذلك وسواه جزء من عيد دائم يمتد من الآن وحتى موعد حفل الأوسكار في الأسبوع الثاني من شهر فبراير (شباط). السينما بذلك كائن حي ينتقل من شاشة إلى أخرى ومن مناسبة إلى سواها ويجعلنا نلهث وراء الأعمال كما لو أن العالم كله سينما.

الشرق الأوسط في

09.09.2016

 
 

عزلة البشر وقراءات للمستقبل عبر خطايا الأمس

البندقية (فينيسيا) - عرفان رشيد

ليست دورات المهرجانات السينمائية، وبالذات مهرجان فينيسيا، إلاّ نتاجاً لحال الإنتاج السينمائي خلال العام، وعلى رُغم أن مديري المهرجانات الكبيرة لا يرغبون في حصر تظاهرتهم في موضوعات مُحدّدة، أو ربما محدودة، فإن طبيعة الإنتاج في سنة معينة قد تفرض عليهم (أو تُتيح لهم) فرصه إلقاء حزمة ضوء إضافية على عدد من قضايا الساعة. المدير الفني لمهرجان فينيسيا، ألبيرتو باربيرا، أكد بأنه لم يسعَ إلى صياغة برنامج بـ «ثيمات» محددة، إلاّ أن تكرّر بعض الموضوعات في اختياراته لأفلام المسابقة العشرين وبعض من افلام برنامج «آفاق» رسمت ملامح موضوعات سادت من دون غيرها، وإذا استثنينا «الموسيقى» التي تكررت في اكثر من فيلم كمفردة اساسية، بدءاً من فيلم الافتتاح «لا لا لاند» للكندي داميين شازيل فقد كانت «العزلة» و«الوحدة» و«انقطاع التواصل» بين البشر مفردات تكررت في غالب الأفلام. ما دلل على كونها قضية محسوسة، أو بالأحرى مُلحّة على ذهن كثير من المبدعين، وبصرف النظر عن أن تلك المفردات التي وردت في أفلام تدور أحداثها في الماضي أو في الحاضر، فإن حضورها، في زمان سيادة آليات التواصل الاجتماعي والاتصالات الفائقة السرعة، يؤكد بأن البشر الذين يعيشون في «القرية الصغيرة» كما يحلو للبعض تسمية العالم، إنّما هم أبعد عن بعضهم بأكثر ممّا كانوا عليه في ما مضي.

وبصرف النظر عن أهمية وجودة الأفلام التي عُرضت في مسابقة المهرجان أو ضمن برنامج «آفاق»، فلم تكن حالات العزلة في أفلام مثل «نورٌ ما بين محيطين» لديريك سيانفرانس و«الوصول» لدينيس فيلنيف و«فرانتز» للفرنسي فرانسوا أوزون و«المسيح الأعمى» للتشيلي كريستوفر مورّاي، و«الجبل» للإيراني أمير نادري و«الشبكة» للكوري المتميّز كيم كي دوك، نتاجاً لحبس أو سجن بل نتيجة لواقع اجتماعي أو ضرورة حياتية، لكنها، أي العزلة تتحوّل إلى معطى دراماتيكي ينتهي في الغالب إلى مأساة.

مسابقة في منتصف الطريق

على أنّ الأفلام العشرين التي عُرضت داخل المسابقة الرسمية للدورة الثالثة والسبعين لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي التي ستُختتم مساء غد (السبت) لم يكن جميعها يستحق التنافس على الأسد الذهبي لأعرق مهرجان سينمائي، وينطبق ذلك على افلام حملت تواقيع مخرجين كبار ومؤسّسين، كما هي الحال بالنسبة إلى مخرجين في مقتبل مسارهم الإنجازي، فيما جاءت أعمال عدد آخر من المخرجين تأكيداً إضافياً على ضرورة وفاعلية القراءات البصرية والفكرية التي قدّموها في اعمالهم، ليس لذائقة المشاهد فحسب، بل ايضاً لرسم صورة الحاضر الذي نحيا في ظله. فهم، وبصرف النظرعن تقديم اعمال تروي احداثاً معاصرة او ما وقع في الماضي، ثبّتوا منطق تفاعلية الاحداث التاريخية وترابط ما حدث في الماضي مع ما يحدث اليوم وما قد يتمخّض عنه الغد.

واحتل شريط «فرانتز» للفرنسي المتميّز فرانسوا أوزون موقع المقدّمة في هذا الإطار، ولا نستبعد ان ينال مساء غد أحدى اهم جوائز الدورة، لأهمية ما قدم سينمائياً وفكرياً. فكما قالها الإيطالي ناني موريتي قبل عامين في فيلمه «أمي»، أعاد فرانسوا أوزون مقولة أنّ «ما يوحّد أوروبا، هو جذرها الثقافي والفكري، وليس سياسيّوها أو بنوكها. فالأوائل، أي السياسيين، أدخلوا القارّة (والعالم معها) في حربين عالميتين، خلال قرن واحد، وفي حرب باردة استمرت لما يربو على نصف قرن، وتعود ملامحها الى الظهور مجدداً اليوم. أما الآخرون، أصحاب وأساطين البنوك، فقد أدخلوا القارّة العجوز، منذ ميلاد الاتحاد، في دهليز تغليب المال والاقتصاد على اي معطى آخر».

صوٌر أوزون فيلمه بالأسود والأبيض إلاّ في مشهدين قصيرين يعود اللون المضيء خلالهما عندما يحضر الرسم وتُسمع الموسيقى، وأدار ممثليه باللغة الألمانية، بتطعيم بسيط بالفرنسية في بعض المشاهد.

أنجز فرانسوا أوزون عملاً جميلاً، مصنوعاً بدقة الأساتذة وممثلين رائعين أُديروا في شكل متقن، ولا يُستبعد ان تحظى الألمانية الشابة باولا بير باهتمام خاص من لجنة التحكيم الدولية التـــي يترأسها المخرج السينمائي والمسرحي البريطاني سام مينديس، وهي حــقاً مـــنافسة للنــجمة الهوليوودية إيمّي آدامز التي تحضر المهرجان ببطولة فيلمين مهمّين في المهرجان «الوصول» لدينيس فيلنيف و«حيوانات ليليّة» للمخرج ومصمم الأزياء الشهير توم فورد، وكلتاهما تجدان منافسة مهمة وجــدّية مـــن جانب الممثلة الأسترالية الحسناء آليتشا فيكاندير التي تؤدي دور البطولة الى جــانب النجم مايكل فاسبيندر في فيلم «نور بين محيطين» وهو دور معقّد سواء على الصعيد الجسدي او على الصعيد النفسي، وقد أدّت الدور في شكل رائع. وأضافت الطبيعة التي سادت أجواء الفيلم إلى جمالها مسحة بهاء ضاهى بهاء الأصيل في الجزيرة النائية التي يقوم فيها الفنار الذي اختارت أن تعيش فيه برفقة زوجها توم «مايكل فاسبيندر» الذي أُرسل ليعمل حارساً لذلك الفنار.

خيبة أمل

وبقدر ما اقنع فرانسوا أوزون وتوم فورد الكثيرين بأهمية ما قدّماه في هذا المهرجان، فإن أسماءً كبيرة مثل الألماني فيم فيندرس والمكسيكي آمات إيسكالانتي والفرنسي ستيفان بريزيه خلّفوا في حلق من كان يترقّب منهم الكثير مرارة كبيرة. ففيما أغرق أيسكالانتي شريطه بلحظات قاسية للغاية، تاه فيم فيندرس وستيفان بريزيه في خضم الحوار الطويل والبطيء، المؤدّى بإيقاع مملّ. فرصة مهمّة أضاعها المهرجانيون للاستمتاع بأعمال مخرجين كبار كان يُنتظر منهم الكثير.

وبانتظار الأيام الأخيرة من الدورة الحالية من المهرجان لا يزال ثمة أمل بأن يُشكّل آندريه كونتشالوفسكي بجديده «بارادايس» وأمير كوستوريتسا «على درب التبّان» والإيطالي جوزيبّي بيتشوني بشريطه «هذه الأيام»، معادلاً موضوعياً يرفع من متوسّط المستوى للأفلام المعروضة في المسابقة الرسمية ببضع درجات، ويُنتظر أن يُعيد المخرج الإيطالي المتميّز جوزيبّي بيتشوني بعضاً من الألق الذي فقدته السينما الإيطالية في هذا الموسم، وهو ما اشتكى منه آلبيرتو باربيرا مؤكداً عسر اختيار الأعمال الإيطالية لمسابقته الرسمية وبأن «السينما الإيطالية وقعت في الآونة الأخيرة في شرك الكوميديا السهلة، ولم تتمكّن من الاستفادة من درس «الكوميديا الإيطالية» و«الواقعية الإيطالية الجديدة» التي مثّلت واجهة مهمة للسينما الإيطالية وحملت هذه السينما إلى العالمية».

أولى الجوائز لمخرج من أصل عربيّ

كما هي العادة في المهرجانات الكبيرة فإن الأسبوع الثاني يحفل بجوائز البرامج الفرعية والجانبية في المهرجان، وعلى رُغم غيابها شبه المطلق عن دورة المهرجان الحاليّة، فقد حققت السينما العربية في الثلثاء الماضي خطوة مهمة عندما منحت لجنة تحكيم جائزة «ميغرآرتي» التي تُنّظمها وزارة الثقافة الإيطالية، جائزتها الأولى للشريط الوثائقي إلى فيلم «No Borders» للمخرج الإيطالي (عراقي الأصول) حيدر رشيد والذى أُنجز بتقنيات الواقع الافتراضي. ترأس لجنة التحكيم في هذه المسابقة المخرج الإيطالي (تركي الأصول) فيرزان أوزبيتيك وضمّت في صفوفها عمدة جزيرة «لامبيدوزا» الإيطالية، التي «اعتبرت هذا العمل بارقة مهمة للتأكيد على أن المهاجرين القادمين إلينا، أو أؤلئك الذين ولدوا في بلادنا، إنّما يحملون إلينا قيماً وطاقة جديدة».

أما رئيس اللجنة فيرزان أوزبيتيك فقد أكّد دهشته إزاء الأعمال الـ ١٦ التي شاهدها برفقة لجنته وقال «إنجاز الأفلام القصيرة جهد شاق بالقياس مع الأفلام المتوسطة والطويلة، فلكي تروي حكاية في مساحة لا تزيد عن عشرين دقيقة ينبغي عليك امتلاك قدرة عالية على الاختزال والتكثيف» وأضاف: «لقد شاهدت الأفلام جميعها وكان كل واحد منها جميلاً في اختلافه وتميّزه عن الآخر، وكانت لهذه الأفلام طاقة إضافية قياساً إلى الأفلام التي نشاهدها خلال تظاهرات أخرى، فهي قادرة، ليس فقط على إثارة المشاعر، بل على جرّ انتباهك إلى الطرف الذي لم تنتبه إليه في ما مضى». وختم أوزبيتيك بقوله: «حاولت خلال المشاهدة التركيز على طرائق الإخراج، وعلى المشاعر والانفعالات التي تثيرها لدي الأفلام، بالذات في الروائي القصير، وكانت الانفعالات كثيرة، وما الجائزة التي منحناها مناصفة إلى فيلمين، إلاّ دليلاً على استحقاق هذه الأفلام أكثر من انتباه».

الحياة اللندنية في

09.09.2016

 
 

«جاكي».. اللمسات الإنسانية وسط عالم السياسة الأمريكية الصاخب

«فينيسيا» ـ صفاء الصالح

في خطوة جريئة جدا اختار المخرج التشيلي بابلو لارين في أول فيلم له ناطق بالانجليزية، “جاكي”، أن يقتحم كواليس البيت الأبيض في واحدة من أشد لحظات التاريخ الأمريكي حرجا، وهي لحظة اغتيال الرئيس الأمريكي جون فيتزجيرالد كنيدي في ستينيات القرن الماضي.

وانطلق لارين من البحث عن لمسة إنسانية وسط كواليس السياسة وعوالمها الصارمة في اختيار شخصية السيدة الأمريكية الأولى الأكثر شهرة والأيقونة الاجتماعية المعروفة جاكلين بوفييه كنيدي التي جسدت شخصيتها ناتالي بورتمان، وجعلها الشخصية المحورية التي تدور الأحداث حولها، بل وحرص على تقديم ما يمكن أن نسميه روايتها الشخصية للأحداث.

وقد تجنب السيناريست نوا أوبنهايم تقديم سيرة شاملة لجاكلين كنيدي، بل اختار تسليط الضوء على فترة قصيرة محددة من حياتها هي اللحظات التي أعقبت مقتل زوجها وإعدادها لجنازته المهيبة وتحضيرات خروجها من البيت الأبيض وتسليمه للرئيس الجديد ليندون جونسون وزوجته.

وقد وضع نوا ولارين هذه الأيام تحت عدسة مكبرة مركزين على رصد كل التفاصيل الصغيرة فيها واللمسات الإنسانية ومناخ الحزن والانكسار الذي يحيط بجاكلين ومحاولتها التماسك بعد هذه الصدمة القوية وترسيخ ما تبقى من آثار زوجها ومنجزه السياسي قبل أن يغمره النسيان بمجيء قيادة جديدة.

وهذا منبع الشخصية التراجيدية في الفيلم لجاكي الموزعة بين انكسارها وصدمتها ومشاعرها الحزينة وعجلة السياسة التي يجب أن تستمر في الجريان.

وينطلق الفيلم من لحظة وصول صحفي، لم يسمه في الفيلم، يجسد دوره الممثل بيلي، لاجراء مقابلة مع جاكلين في مجمع العائلة في هاينيس بورت بماشسيوست، بعد اسبوع من اغتيال زوجها. (واشار كثيرون إلى أنها تحيل إلى مقابلة شهيرة أجراها الصحفي والمؤرخ الامريكي ثيودور هارولد وايت معها). وتستقبل جاكلين الصحفي بشكل مباشر وتلمح له أنها ستقوم بمراجعة المقابلة ومونتاجها إذا لم تستطع ان تقول بالضبط ما تريد أن تعنيه.

وتصبح هذه المقابلة الصحفية مدخلا لحكاية إطارية تقدم مشاهد مختلفة من الأيام الأخيرة التي عاشتها زوجة الرئيس الأمريكي الراحل بعد اغتيال زوجها وسعيها لإقامة مراسم جنازة فخمة تليق به، ورغبتها في أن تخلد منجزه في قلوب الأمريكيين، وكواليس مستشاري وموظفي البيت الابيض، ومشهد اغتيال زوجها وهي إلى جانبه ببدلتها الوردية التي تلطخت بدمائه، والتي ارتدتها لاحقا، وهي تقف إلى جانب الرئيس جونسون وهو يؤدي اليمن الدستورية خلفا لكنيدي، ومشاهد استرجاعية لها في فترة رئاسة كيندي. كما تشمل المشاهد مشهدا لها وهي تعيش أيامها الأخيرة في البيت الأبيض تبتلع الحبوب المهدئة وتدخن وتشرب الفودكا، وتحاول في الوقت نفسه أن تبدو متماسكة.

أما أكثر المشاهد تراجيدية فهي عندما تبدأ بتجميع أغراضها بنفسها لا سيما لعب أطفالها وتحفها ووضعها في صناديق قبل أن تترك البيت الأبيض لسكانه الجدد الذين بالتأكيد سيفرضون ذوقهم على ديكوره الداخلي الذي حرصت على ترتيبه على ذوقها الشخصي.

يركز لارين واوبنهايم على هذه العلاقة بالمكان، والفراق التراجيدي عنه، وهو هنا البيت الأبيض الذي كانت هي ملكته غير المتوجة وحرصت على أن تضفي لمساتها على كل شيء فيه.

ويقدم لارين انتباهة سينمائية ذكية في الاعتماد على برنامج تليفزيوني يعود إلى مطلع 1962 تحت عنوان “جولة في البيت الأبيض مع السيدة كنيدي”، حيث تأخذ هي الفريق التلفزيوني في جولة في أروقة البيت الأبيض وتتحدث عن اللمسات والتجديدات التي اضفتها بناء على ذوقها فيه، مشيرة إلى “أن الأشياء والتحف الفنية تبقى لزمن طويل أكثر من البشر”.

هذه الجولة التليفزيونية تصبح القطب الثاني الذي يستعمله اوبنهايم ولارين في فيلمهما إلى جانب المقابلة الصحفية التي تحدثنا عنها، ليجمعا بين دفتيهما تلك المشاهد المتناثرة التي يقدمانها.

ويعمد لارين إلى إعادة تصوير مشاهد من البرنامج التلفزيوني ويصورها بالأبيض والأسود، لكنه يصور مشاهد لكواليس تصوير البرنامج التليفزيوني في البيت الأبيض ملونة، كما هي الحال مع حركة مساعدتها المخلصة نانسي توكرمان (جسدتها بلمسة حضور محببة وبحيوية الممثلة غريتا غيرويغ)، بين الكاميرات التلفزيونية محاولة اعطاءها توجيهات للتعامل مع الكاميرا وتشجيعها، وفي لقطة ذكية نرى عيني جاكلين تنظران جانبيا بعيدا عن الكاميرا في المشهد التليفزيوني بالابيض والأسود، ليقطع بمشهد ملون الى مساعدتها تقف خلف الكاميرا في الزاوية نفسها التي نظرت اليها لتحثها على الابتسام، ويقطع ثانية الى ابتسامة جاكلين بالأبيض والاسود.

ويقدم الفيلم صورة قوية لبوبي (روبرت كنيدي) شقيق كنيدي (أدى دوره بنجاح الممثل بيتر سارسغارد)، وهو يقف إلى جانبها في كل التفاصيل بعد اغتيال زوجها، ويركز على نقاشهما بشأن تخليد إرث كينيدي والتذكير بما كان ينوي انجازه ولم يكمله، وحرصهما معا على تحقيق ذلك وترسيخ صورة كينيدي ومحبته في أذهان الامريكيين. ويبدو بوبي قوي الشخصية في حديثه مع الجميع بمن فيهم الرئيس جونسون الذي ظل شخصية هامشية لم يركز عليها الفيلم كثيرا.

وثمة تركيز أيضا على عقد مقارنات بين الرئيسين، جون كيندي وابراهام لنكولن وكلاهما اغتيل في النهاية. فنرى في البرنامج التليفزيوني السيدة كنيدي تتوقف طويلا عند غرفة لينكولن متحدثة عما تحتويه من مقتنيات، كما ترد في الحوارات مثل هذه المقارنات والحديث عن دور لينكولن في مجال الحقوق المدنية وإنهاء الرق والعبودية في الولايات المتحدة الامريكية. وتصل هذه المقارنات ذروتها في مراسم جنازة كنيدي التي حاكت جنازة لينكولن، حيث حمل جثمانه على عربة تجرها الخيول وسار خلفه حصان بلا فارس، ثم المشيعون سيرا على الأقدام وفي مقدمتهم جاكلين وشقيقه بوبي حتى دفن جثمانه في مقبرة ارلينغتون.

لقد ركز الفيلم كثيرا على سعي السيدة كنيدي حينها لأن يحظى زوجها بمراسم جنازة فخمة تليق به، وعلى أن تستثمر حدث الجنازة والتأبين للتذكير بمنجز زوجها ومساره السياسي مشبهة إياه بالرئيس لينكولن، بينما كان المستشارون في البيت الأبيض يحرصون على أن يجعلوا التشييع والجنازة تمر بهدوء، لكي ينتقلوا إلى مرحلة سياسية جديدة.

ومن الطريف أن نذكر هنا أن سيدة بريطانية هي الليدي جين كامبل وصفت هذه الجنازة حينها في تقرير كتبته لصحيفة لندن ايفيننغ ستاندرد قائلة “لقد منحت جاكلين كنيدي الشعب الأمريكي شيئا لطالما افتقدوه، ألا وهو : الفخامة”.

ولتجسيد رؤية ورواية جاكلين للأحداث امتلأ الفيلم بمشاهد تتحدث فيها عما حدث، بل وعن مفاهيميها في الحياة والدين، كما هي الحال مع المقابلة مع الصحفي، أو المشاهد المتعددة التي ظهرت فيها متحدثة او معترفة للقس الكاثوليكي وسط الطبيعة وليس داخل الكنيسة (أدى دوره الممثل البارز جون هارت) أو احاديثها الحميمية مع مساعدتها نانسي توكرمان داخل البيت الأبيض.

ولقد اثبت لارين في هذا الفيلم قدرته العالية على إدارة الممثل فهو فيلم يعتمد بالدرجة الأساس على الأداء، وبراعة ممثليه، فقدم معظم الممثلين فيه أداء مميزا رغم قصر أدوار بعضهم، كما هي الحال مع سارسغارد، غيرويغ،هارت، كرودب، وبالدرجة الأساس الممثلة بورتمان، الذي شكل هذا الفيلم فرصة ذهبية لها لإبراز قدراتها في الأداء في تجسيد شخصية كانت ايقونة شعبية وفي لحظات تراجيدية حاسمة في حياتها.

وحرصت بورتمان على أن تدرس الوثائق البصرية المتوفرة عن جاكلين وتتماهى مع شخصيتها، وأن تجسد صورتها كشخصية تعيش حالة ما بعد الصدمة، متنقلة بين ألمها وانكسارها ورغبتها في الوقت نفسه بالظهور بمظهر المتماسكة في تلك اللحظة العصيبة.

وجاءت كل العناصر البصرية الأخرى لخدمة هذا العماد الذي قام عليه الفيلم: أداء الممثل، فراحت كاميرا مدير التصوير الفرنسي ستيفان فونتين، (من أفلامه: نبي، صدأ وعظام، كابتن فانتاستك) تركز على رصد أدق انفعالات الممثلين في لقطات قريبة متواصلة.

وكان الفيلم فرصة أيضا للموسيقية البريطانية الشابة، ميكا ليفي، لإثبات موهبتها في وضع الموسيقية التصويرية في السينما بعد تجربتها الناجحة في فيلم “تحت الجلد”، ولاسيما في تلك الموسيقى الجنائزية في مشاهد التشييع أو الوتريات الحزينة في تلك المشاهد الداخلية وسط مظاهر الصدمة والحزن.

اخيرا يمكننا القول أن ميزة لارين القادم من تشيلي الى الولايات المتحدة الأمريكية كانت بحثه عن الإنسان وتركيزه على اللمسات الإنسانية وسط عالم السياسة الأمريكية الصاخب.

ناتالي بورتمان تدعو لإفساح المجال أمام المرأة في الإخراج السينمائي

الوكالات ـ «سينماتوغراف»

قالت الممثلة الأمريكية ناتالي بورتمان إن العلاقات بين النساء لا تزال غامضة بالنسبة للرجال لتضم صوتها إلى دعوات تطالب صناعة السينما بإفساح المجال أمام المرأة للعمل في الإخراج.

وأدلت بورتمان بهذه التصريحات اليوم الخميس في مهرجان البندقية السينمائي خلال تقديمها فيلم «بلانتاريوم» الدرامي الذي تشترك فيه مع الممثلة ليلي-روز ديب في تصوير أختين تعملان في تحضير الأرواح أواخر الثلاثينات. والفيلم الذي يشارك خارج المسابقة الرسمية من إخراج ريبيكا زلوتوفسكي.

وقالت بورتمان قبيل العرض الافتتاحي للفيلم “من الجنون أنه في 25 عاما من العمل في الأفلام تكون هذه هي أول مرة أشارك في فيلم تخرجه امرأة.”

وأشارت إلي إنه لا توجد اختلافات جوهرية بين المخرجين الرجال والنساء لكن الفرص بالنسبة للمرأة – على الأقل في الولايات المتحدة – قليلة جدا.

وأضافت أن ذلك يؤثر بدوره في طريقة سرد القصص في ظل إبداء اهتمام قليل بالعلاقات بين النساء وهي “محورية في حياة أي امرأة لكن بالطبع غير مرئية في تخيل أي رجل لحياة المرأة.”

وتشارك في النسخة الحالية من أقدم مهرجان سينمائي في العالم العديد من الممثلات ومنهن آمي أدامز وداكوتا فاننج وبورتمان في فيلم آخر يحكي قصة السيدة الأمريكية الأولى سابقا جاكلين كنيدي.

لكن من بين 20 فيلما تتنافس على جائزة الأسد الذهبي التي ستعلن السبت تضم قائمة المخرجين امرأتين فقط وهما أنا ليلي أميربور بفيلم «ذا باد باتش» ومارتينا بارينتي بفيلم «سبيرا ميرابيليس» بالمشاركة مع المخرج ماسيمو دانولفي.

سينماتوغراف في

09.09.2016

 
 

البندقية ٧٣ - "جنة" كونتشالوفسكي جحيم!

المصدر: النهار - هوفيك حبشيان - البندقية

بالأسود والأبيض وبحجم صورة مربّعة على غرار بعض أفلام الأربعينات، قدّم الروسي أندره كونتشالوفسكي مساء الخميس فيلماً كبيراً عن الحرب والمآسي ومعسكرات الاعتقال والعقيدة النازية، في لحظة مهيبة حملت معها مخزوناً من الإنسانية في #مهرجان_البندقية  الذي تُختتم دورته الثالثة والسبعين اليوم السبت بتسليم جائزة "الأسد الذهب" إلى الفائز. وكونتشالوفسكي البالغ من العمر ٧٩ عاماً أحد أبرز المرشحين لها، علماً أنه يزور الليدو منذ خمسين عاماً وسبق أن نال فيها جائزتين.

كنّا ذكرنا أنّ الـ"موسترا" هذه السنة، وكما بات دارجاً في السنوات الأخيرة، ملتقى لغات، وها إنّ مخرجاً آخر هو كونتشالوفسكي يصوّر بغير لغته الأم، أي بالفرنسية والألمانية وبعض الروسية. فالكلّ يتحدّث بلغته في جديده "جنة"، حرصاً على الصدقية السينمائية والحقيقة التاريخية التي بقي مخرج "عشاق ماريا" أقرب ما يمكن إليها.

يروي "جنة" كيف التقت أقدار ثلاث شخصيات خلال الحرب العالمية الثانية: أولغا (جوليا فيسوتسكايا) وهي روسية من عائلة نبلاء انخرطت في المقاومة الفرنسية؛ وجول (فيليب دوكين)، متعاون فرنسي مع النازيين؛ وهلموت، ضابط نازي رفيع المستوى يتحدّر من عائلة أريستوقراطية.

تبدأ الحكاية العام ١٩٤٢ مع القبض على أولغا وسجنها بتهمة إيواء أطفال يهود في مسكنها، خشية أن يرسلهم النازيون إلى المعتقل، وتنتهي في المعتقل مع أولغا أيضاً. ولكنّ الفارق شاسع ما بين لقائنا الأول بها ولقائنا الأخير. في فرنسا، يستدرجها المتعاون جول فتعرض عليه خدمة جنسية، إلا أنّ المقاومة الفرنسية تغتاله قبل أن يحين موعد "التفاهم" بينهما. الأحداث المتلاحقة ستوصل أولغا إلى معسكر الاعتقال حيث تلتقي بالضابط هلموت الذي احتكّ بها ذات مرة. الضابط هذا مخلص أشد أنواع الإخلاص للمشروع النازي الذي يرى فيه تجسيداً للفردوس على الأرض. في حين بدأت النازية تلفظ أنفاسها الأخيرة، تُسند لهلموت مهمة جديدة هي كشف الفساد في المعتقلات. وعندما يكتشف وجود أولغا في المعتقل، يتقرّب منها مجدداً في محاولة لتهريبها... ولكن، أيتغلّب الحبّ على العقيدة؟

بدايةً، يجب التشديد أنّ هذا ليس فيلماً آخر عن الهولوكوست. صحيح أنّ ثمة تفاصيل عنها في آخر الفصول، ولكن الفيلم يوظّفها في إطار خطابه الشامل الذي يطال طرحاً عالمياً. في المؤتمر الصحافي، أعلن كونتشالوفسكي أنه أراد الانفصال عن موضوع المحرقة ليتحدّث عن الطبيعة البشرية والشرّ اللذين ينتميان إلى كلّ الأزمنة وليسا حكراً على ما جرى لليهود. وما أفضل طريقة للانفصال عن الشيء سوى الاقتراب منه أكثر؟

مفاجأة الفيلم هي في النحو الذي يرسم فيه السيناريو صورة النازي هلموت، وهي صورة قد يجدها البعض إشكالية، كونها حمّالة أوجه. اعتدنا في السينما (حتى الذكية منها)، صورة نمطية باهتة للنازي، وهي لم تسقط مع مرور الزمن، ولم تختلف كثيراً بين فيلم وآخر. فالنازي مثلاً يتم التعبير عن بذور الشرّ لديه عبر إظهاره شخصاً غير رحوم مع الحيوانات، يُسيء معاملة قطّ، إلخ. الحكاية هنا مختلفة تماماً. فهلموت شاب رقيق، مرهف الحسّ، يستمع إلى برامس ويقرأ تولستوي، يبعث برسائل إلى فتاة التقى بها فهتف قلبه لها. هلموت ليس الوحش المنتظر، إلا أنّ الأفكار النازية نخرت عظامه. وهي أفكار سيعترف لاحقاً بزيفها وعارها. عبر تبني هذه المقاربة، يأتي كونتشالوفسكي بفكرة مهمة هي أنّ الشر يتحقّق أحياناً من أجل بلوغ الخير، أي أنّ فاعل الشر يعتقد أنه يقوم بعمل إيجابي من أجل الإنسانية، ثم عند الحشرة يقول أنه ليس عليه أن يبرّر خياراته.

يوزّع السيناريو الفيلم على حصتين. مقابل التطوّرات الدرامية، ثمة أيضاً المقابلات مع الشخصيات الثلاث التي تدور عليها الحكاية برمّتها. المقابلات هي أشبه باعترافات وتعليقات على الخيارات التي اتخذتها الشخصيات، مصوَّرة بنسيج بصري مختلف (حبوب وقفزات مونتاجية، إلخ) عن نسيج الحكاية الأساسية. يحتاج المُشاهد إلى بعض الوقت ليستوعب كيف أن جول الذي قُتل أمامنا في بداية الفيلم لا يزال يعلّق على أحداث تخطّت تلك المرحلة منه، قبل أن يدرك ماهية الفكرة: فهؤلاء الثلاثة يخاطبوننا من الجنة!

مُشاهدة "جنة" تجربة قاسية تتطوّر لتكون رقيقة في أحايين كثيرة، ولكن ثمة إخراجاً صارماً يولي الاهتمام للتعبير الوجهي، وتقطيعاً مكثفاً وحركات كاميرا مدروسة وميلاً خفيفاً قد يزعج البعض للميلودراما. إلا أنّ كلّ شيء منضبط نصّاً وتمثيلاً وتصويراً، لدرجة أنّ كونتشالوفسكي يسمح لنفسه بالهروب إلى خارج دائرة العنف في مَشاهد نوستالجية باهرة، بهدف توليد صورة شعرية تكتفي بذاتها، كتلك اللقطة في آخر الفيلم، حيث نرى هلموت في مكتبه يدخّن سيجاره وينفخ في الهواء، فيما العالم ينهار في الخارج. من اللحظات المثقلة درامياً التي يكسرها الصمت والعزلة والحيرة والضياع، يستمّد الفيلم روعته السينمائية. "جنة" بعنوانه اللمّاح، فيلم ينزلنا في الجحيم والبؤس واليأس، حيث مصير واحد في انتظار الجميع أكانوا صانعي حياة أم صانعي مأساة أم بين بين. إنها ورطة الحياة، وورطة العيش في زمن الأفكار القاتلة. ولا فكاك عن هذه الورطة إلا بالموت.

البندقية ٧٣ - "على طريق الحليب": إنّه كوستوريتسا ولا أحد آخر!

المصدر: "النهار" - هوفيك حبشيان - البندقية

أحدٌ لا يصوّر الحيوانات كما يفعل أمير كوستوريتسا. مذ غاب المعلم الصربي عن السينما الروائية لتسع سنوات خلت، ونحن لم نشاهد فيلماً يحتفي بالحيوان بهذا القدر. فالدجاج والحمير والخراف والزواحف والدببة، جزء لا يتجزأ من قبيلته السينمائية التي يعيد إحياءها هنا في جديده "على طريق الحليب" (مسابقة)، المقتبس من ثلاث قصص حقيقية والذي استغرق إنجازه نحو أربع سنوات. أضف أنّ أحداً لا يوظّف الحيوان بهذا الشكل الظريف كما يفعل هو. باختصار، لن تتسنّى يومياً مشاهدة فيلم يتحوّل فيه الخروف انتحارياً بحزام ناسف أو أفعى تتذوّق الحليب. مخرج "أندرغرواند" صاحب مخيّلة خصبة تحمله إلى البعيد جداً. العلّة الوحيدة هي أنّ الإبداع عنده انفجر في مرحلة باكرة جداً من حياته (كان في الحادية والثلاثين عندما فاز بـ"السعفة" عن "أبي في رحلة عمل" عام ١٩٨٥)، فلا تتذمّروا إن بدا ما ينجزه الآن أقل إثارة للإبهار مما مضى.

أتفرّج على هذا كلّه من مقعدي في الصالة الكبيرة في "موسترا#البندقية (٣١ آب - ١٠ أيلول)، حيث سبق أن نال كوستوريتسا جائزتين منذ شارك فيها قبل ٣٥ عاماً. ثمة ما شاخ في هذا الديكور، وأشياء أصابها العتق، بدءاً من نظرتنا إلى هذا النوع الباروكي من السينما، وصولاً إلى كوستوريتسا نفسه الذي يأتي هنا بفيلم ديناميكي يحمل عوارض بعض الإرهاق، خصوصاً في الجزء الأول. هذه مناسبة أيضاً لنلحظ كم تحوّلت النكتة المجانية والطرافة السخية التي كانت تكفي في ذاتها إلى عنصر هادف درامياً، وصولاً إلى حال الأسى التي لا رجوع عنها، وهي ستضرب ختام الفيلم.

أياً يكن، يقدّم كوستوريتسا فيلماً يشبهه ويشبه عوالمه التي اعتدنا عليها؛ نوع من الواقعية السحرية في أبهى تجلياتها. إنه كالسمكة، يحتاج إلى البقاء في المياه. نحن الذين عشقنا أفلامه حتى "قطّ أسود، قطّ أبيض" (١٩٩٨)، وإلى حدّ ما "الحياة معجزة" (٢٠٠٤)، نجد في "على طريق الحليب"، كلّ مكونات سينما كوستوريتسا وتفاصيلها، من الموسيقى إلى الشخصيات الثانوية فالـ"بورلسك"، وتلك التيمات الكونية المنبثقة من المحلية. وثمة أيضاً الشريط الصوتي الغني جداً: صوت المروحيات والطيران والقنابل والحيوانات. ترافق هذا كله موسيقى تصويرية صاخبة من تأليف ستريبور كوستوريتسا، ابن المخرج الذي يخلف غوران بريغوفيتش بعد انتهاء العمل بينهما بسبب إشكال.

هذه المرة الأولى التي يمثّل فيها كوستوريتسا في فيلم من إخراجه، ويمكن القول أنه يتدبّر أمره جيداً قبالة الكاميرا وخلفها. سبق أن مثّل في أفلام لسينمائيين آخرين، ولم يسبق له الوقوف أمام كاميراه باستثناء فيلم قصير أنجزه قبل عامين ضمن عمل جماعي عن الأديان بعنوان "كلمات مع الله" بناءً على فكرة لغييرمو أرياغا. الدور الذي يضطلع به هنا بسيط جداً: رجل يدعى كوستا يوفر الحليب للمقاتلين على الجبهة من خلال نقله إليهم بالمستوعبات. نراه يتنقّل على ظهر حماره من قريته إلى أرض المعركة، متحدياً القنابل والرصاص. حياة الريف العجائبية ينقلها كوستوريتسا بسخرية مُرّة، ليتكوّن تدريجاً أمامنا عالم متكامل يتشكّل من هواجسه وعقده وزلاته التصويرية.

الحوادث تجري خلال حرب البلقان، لا تفاصيل حربية، فهي ليست سوى خلفية تُمسك الأحداث وذريعة ليُمرّر كوستوريتسا بعض مواقفه السياسية التي لا وزن لها ولا تستحق التوقّف عندها من فرط هزالتها وقلة الأهمية التي يمنحها. الفيلم ليس عن الحرب بل عمّا بعدها، "فمعظم المآسي تبدأ عندما تنتهي الحرب"، قال كوستوريتسا في المؤتمر الصحافي. روعة الطبيعة والمساحات الخضراء لا تحجب، يا للأسف، النار والحديد. في هذا الديكور، تتبلور علاقة كيمياء بورلسكية على طريقة كوستوريتسا بين صديقنا الذي ينقل الحليب ولاجئة صربية إيطالية تهرب من ماضيها ومن جنرال بريطاني يطاردها. هذه اللاجئة تضطلع بدورها مونيكا بيللوتشي، ويعود الفضل إلى المخرج في بعض "الشرشحة" المحببة التي يُلحقها بالممثلة الايطالية عبر جعلها تركض خلفه بمستوعب حليب أو تنام بين قطيع من الخراف أو تخيط له أذنه المصابة التي طارت من مكانها. في المقابل، فإنه يجعلها تغني وتبكي؛ فعلان لم يسبق لها تأديتهما في حياتها المهنية.

نحن إزاء صورة مختلفة لبيللوتشي، فهي المرأة رمز الأمومة والحنان، وليست مجرد مصدر رغبة عابرة. وهي أحياناً امرأة لعوب خارجة لتوّها من سينما الأربعينات. العنف والسخط يجاوران الغنائية والرقة كما العادة، بيد أنّ النصف الثاني من الفيلم هو الذي يحلّق عالياً في فضاء السينما. المغامرة التي ستحملنا إلى أعماق البريّة، في رحلة مدهشة عبر الأنهر والحقول والشلالات، تؤمّن قسطاً كبيراً من المردود المعنوي الذي ينتظره المُشاهد من فيلم لكوستوريتسا، وهي تتيح له برهان قدرته التي لم تهمد في صناعة لقطات عصيّة على التقليد. هذا الجزء من الفيلم يأتي بعد انتهاء الحرب ومطاردة عصابة الجنرال - الذي كان على علاقة باللاجئة - بغية قتلها. تتوالى المواقف والحلول السوريالية على طريقة كوستوريتسا، وصولاً إلى النهاية التي تقحم الفيلم في مزاج مختلف تماماً، فيه شيء من السينما التراجيكوميديا على الطريقة الإيطالية. بعد ٣٥ سنة على ولادتها، لا تزال سينما كوستوريتسا تصوّر الحروب والصراعات لتشهد على عبثيتها، وتوّفر حلولاً غالباً ما تكون أصعب من المشكلة نفسها. يعتقد كوستوريتسا بأنّ الفراشة التي تحوم فوق رؤوس العسكر أقوى منهم، ولهذا السبب نحبه!

النهار اللبنانية في

10.09.2016

 
 

ختام مهرجان فينيسيا اليوم وتوقعات بفوز الروسي آندريه كونتشالوفسكي بالأسد الذهبي

مهرجان «فينيسيا» السينمائي الدولي/ عرفان رشيد/

فينيسيا - ليست دورات المهرجانات السينمائية، وبالذات مهرجان فينيسيا، إلاّ نتاحاً لحال الانتاج السينمائي خلال العام، وبرُغم أن مدراء المهرجانات الكبيرة لا يرغبون حصر تظاهرتهم في موضوعات مُحدّدة، أو ربما محدودة، فإن طبيعة الإنتاج في تلك السنة قد تفرض عليهم (أو تُتيح لهم) فرصه إلقاء حزمة ضوء إضافية على عدد من قضايا الساعة.

المدير الفني لمهرجان فينيسيا البيرتو باربيرا أكد بأنه لم يسعَ إلى صياغة برنامج بـ «ثيمات» محددة، إلاّ أن تكرّر بعض الموضوعات في اختياراته لأفلام المسابقة العشرين وبعض من افلام برنامج «آفاق» رسمت ملامح موضوعات سادت دون غيرها، وإذا استثنينا «الموسيقى» التي تكررت في اكثر من فيلم كمفردة اساسية، بدءاً من فيلم الافتتاح «لا لا لاند» للكندي داميين شازيل فقد كانت «العزلة» و «الوحدة» و «انقطاع التواصل» بين البشر مفردات التي تكررت في غالب الأفلام. ما دلل على كونها قضية محسوسة، أو بالأحرى مُلحّة على ذهن كثير من المبدعين، وبصرف النظر عن أن تلك المفردات التي وردت في أفلام تدور أحداثها في الماضي أو في الحاضر، فإن حضورها، في زمان سيادة آليات التواصل الاجتماعي والاتصالات فائقة السرعة، يؤكد بأن البشر الذين يعيشون في «القرية الصغيرة» كما يحلو للبعض تسمية العالم، إنّما هم أبعد عن بعضهم بأكثر ممّا كانوا عليه فيما مضي. وبصرف النظر عن أهمية وجودة الأفلام التي عُرضت في مسابقة المهرجان أو ضمن برنامج «آفاق»، فلم تكن أفلام «نورٌ ما بين محيطين» لديريك سيانفرانس و «الوصول» لدينيس فيلنيف و «فرانتز» للفرنسي فرانسوا أوزون و «المسيح الأعمى» للتشيلي كريستوفر مورّاي، و«الجبل» للإيراني أمير نادري إو «الشبكة» للكوري المتميّز كيم كي دوك. فإن حالات العزلة التي ترسمها هذه الأفلام نتاجاً لحبس أو سجن بل نتيجة لواقع اجتماعي أو ضرورة حياتية، لكنها، أي العزلة تتحوّل إلى معطى دراماتيكي ينتهي في الغالب إلى مأساة. مسابقة في منتصف الطريق على أنّ الأفلام العشرين التي عُرضت داخل المسابقة الرسمية للدورة الثالثة والسبعون لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي التي ستُختتم مساء اليوم (السبت) لم يكن جميعها يستحق التنافس على الاسد الذهبي لأعرق مهرجان سينمائي، وينطبق ذلك على افلام حملت تواقيع مخرجين كبار ومؤسّٓسين، كما هو الحال بالنسبة لمخرجين في مقتبل مسارهم الإنجازي، فيما جاءت أعمال عدد آخر من المخرجين تأكيداً إضافياً على ضرورة وفاعلية القراءات البصرية والفكرية التي قدّمونها في اعمالهم، ليس لذائقة المشاهد فحسب، بل ايضا. لرسم صورة الحاضر الذي نحيا في ظله، فهم، وبصرف النظرعن تقديم اعمال تروي احداثاً معاصرة او ما وقع في الماضي، ثبّتوا منطق تفاعلية الاحداث التاريخية وترابط ما حدث في الماضي مع ما يحدث اليوم وما قد يتمخّض عنه الغد. واحتل شريط «فرانتز» للفرنسي المتميّز فرانسوا أوزوزون موقع المقدّمة في هذا الإطار، ولا أستبعد ان ينال مساء غد أحد اهم جوائز الدورة، لأهمية ما قدم سينمائياً وفكرياً. فكما قالها الايطالي ناني موريتي قبل عامين في فيلمه «أمي» أعاد فرانسوا أوزون مقولة أنّ "ما يوحّد أوروبا، هو جذرها الثقافي والفكري، وليس سياسيّوها أو بنوكها. فالأوائل، أي السياسيون، أدخلوا القارّة (والعالم معها) في حربين عالميتين، خلال قرن واحد، وفي حرب باردة استمرت لما يربو على نصف قرن، وتعود ملامحها الى الظهور مجدداً اليوم، أما الآخرون، أصحاب وأساطين البنوك، فقد أدخلوا القارّة العجوز، منذ ميلاد الاتحاد، في دهليز تغليب المال والاقتصاد على اي معطى آخر. صوٌر أوزون فيلمه بالأسود والابيض إلاّ في مشهدين قصيرين يعود اللون المضيء خلالهما عندما يحضر الرسم وتُسمع الموسيقى، وأدار ممثليه باللغة الألمانية، بتطعيم بسيط بالفرنسية في بعض المشاهد. تنافس الماني أمريكي أنجز فرانسوا أوزون عملاً جميلاً، مصنوعاً بدقة الاساتذة وممثلين رائعين أُديروا بشكل متقن، ولا يُستبعد ان تحظى الالمانية الشابة باولا بير باهتمام خاص من قبل لجنة التحكيم الدولية التي يترأسها المخرج السينمائي والمسرحي البريطاني سام مينديس، وهي حقاً منافسة للنجمة الهوليوودية إيمّي آدامز التي تحضر المهرجان ببطولة فيلمين مهمّين في المهرجان «الوصول» لدينيس فيلنيف و «حيوانات ليليّة» للمخرج ومصمم الازياء الشهير توم فورد، وكلتاهما تجدان تنافساً هاماً وجدّياً من قبل الممثلة الاسترالية الحسناء آليتشا فيكاندير التي تؤدي دور البطولة الى جانب النجم مايكل فاسبيندر في فيلم «نور بين محيطين» وهو دور معقّد سواء على الصعيد الجسدي او على الصعيد النفسي، وقد ادّت الدور بشكل رائع.و أضافت الطبيعة التي سادت أجواء الفيلم إلى جمالها مسحة بهاء ضاهى بهاء الأصيل في الجزيرة النائية التي يقوم فيها الفنار الذي اختارت أن تعيش فيه برفة زوجها توم «مايكل فاسبيندر» الذي أُرسل ليعمل حارساً لذلك الفنار. خيبة أمل وبقدر ما اقنع فرانسوا أوزون وتوم فورد الكثيرين بأهمية ما قدّماه في هذا المهرجان، فإن أسماءً كبيرة مثل الألماني فيم فينديرس والمكسيكي آمات إيسكالانتي والفرنسي ستيفان بريزيه خلّفوا في حلق من كان يترقّب منهم الكثير مرارة كبيرة، ففيما أغرق أيسكالانتي شريطه بلحظات قاسية للغاية، فقد تاه فيم فينديرس وستيفان بريزيه في خضّم الحوار الطويل والبطيء، المؤدّى بإيقاع مملّ. فرصة هامّة أضاعها المهرجانيون للاستمتاع بأعمال مخرجين كبار كان يُنتظر منهم الكثير.

المدير الفني لمهرجان فينيسيا :

"السينما الإيطالية حيوية رُغم الأزمة"

عرفان رشيد - من مهرجان (فينيسيا) السينمائي الدولي

مهرجان فينيسيا السينمائى الدولي- أكّد رئيس بيينالة فينيسيا باولو باراتّا بأن "الحضور الامريكي قوي لأننا نختار حزءاً من الافلام وثمة افلام اخرى تختارنا للعرض الأول، فبرغم التنافس الحاد ما بين المهرجانات فقد اختار الكثير من النجوم والانتاجات أن يتواجدوا معنا نحن في الليدو، وفضّلونا على الغير لاطلاق مسيرة افلامهم”.

بدوره فسّر المدير الفني لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي حضور عدد كبير من النجوم الامريكيين الى الليدو هذا العام بأن «النجوم موجودون معنا لأنهم رافقوا الافلام، والسينما الأمريكية حاضرة في البرنامج الرسمي هذا العام بسبعة أفلام داخل المسابقة الرسمية وخارجها". ووصف باربيرا الحضور الامريكي في المهرجان كونه "قوياً للغاية لأن الموسم الأمريكي كان ثرياً بالاعمال الهامة والمثيرة للاهتمام”. وقال بأن "هناك ثمة حاجة ماسّة إلى الانتباه الفطن حول عملية الاختيار، وقد نجحنا في ان نكون المهرحان الذي يتم اختياره، بدلاً من ان يختار هو الافلام، وهذا لا يعني بأنهم يفرضون علينا الافلام، بل ربما هم يعرضون علينا الافلام قبل عرضها مهرجان تورونتو، ومن بين اسباب صدقية فينيسيا هو صرامته وقدرته على رفض الافلام التي لا نُحب". وأعرب باربيرا عن قناعته بأن "المهرجان أبرز من خلال أدواته الخاصة التنوّع الكبير للسينما الإيطالية" وأضاف "أنا مقتنع بما اخترت من افلام ايطالية لبرنامج هذه السنة، وإلاّ سأكون مصاباً بالازدواجية. حاولنا ابراز ملامح مرحلة صعبة تميّزت بغياب الاساتذة الكبار". وأضاف ”وإذا كانت نسبة ٩٥ في المائة من الأفلام الإيطالية المعروضة في الصالات من الافلام الكوميدية، فإن هناك أيضاً سينما تسعى إلى البحث والتجديد، ولا تتوقف عند الرضى السطحي بالذات، وتتواجه مع موضوعات عسيرة”، كما هي الحال بالنسبة لباربيرا للوثائقي «سبيرا ميرابيليس» الذي عرض في المسابقة الرسمية ويقول "لم يخطر ببالنا أبداً أن نتخلى عن حضور الفيلم الإيطالي في برنامج المسابقة الرسمية" مشيراً إلى أن “الافلام الإيطالية التي عاينتها لجنة الاختيار بلغت ١٢٠ فيلماً”.

وكالة أجي الإيطالية في

10.09.2016

 
 

«البندقية السينمائي» يحتفي بـفيلم «معركة الجزائر» ويكرم ياسف سعدي

الوكالات ـ «سينماتوغراف»

كرّم مهرجان البندقية السينمائي المجاهد الجزائري ياسف سعدي، وذلك في إطار احتفاء الدورة 73، بفيلم «معركة الجزائر» ومرور 50 سنة على نيله جائزة الأسد الذهبي في المهرجان عام 1966، بالإضافة إلى مرور عشر سنوات على رحيل المخرج الإيطالي الكبير جيلو بونتيكورفو، الذي قدّم رائعة «معركة الجزائر»، حيث تحتفي السينما العالمية بمرور خمسين عاما على إنتاج الجزائر لهذا الفيلم التاريخي الهام، وقد تم بهذه المناسبة ترميم الفيلم في بولونيا.

وحضر ياسف سعدي إلى فينيسيا، وذلك للمشاركة في إعادة ذكريات فيلم «معركة الجزائر» الذي شارك فيه كمنتج وكاتب سيناريو، وكان اللقاء فرصة للتذكير بهذا العمل الكبير الذي حقق نجاحا لسنوات لاحقة رغم منع عرضه في فرنسا طوال 40 سنة، والفيلم يروي فترة من فترات كفاح الشعب الجزائري في العاصمة الجزائرية إبان ثورة التحرير الوطني ضد الاستعمار الفرنسي، ونال الفيلم بالإضافة إلى جائزة مهرجان البندقية عام 1966، جائزة النّقد خلال مهرجان «كان» في نفس العام، كما ترشّح لثلاث جوائز أوسكار كأحسن فيلم وأحسن إخراج وأفضل سيناريو.

سينماتوغراف في

10.09.2016

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)