كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 
 
 

مهرجان فينيسيا وزّع جوائزه:

"الأسد" تدخل أميركا اللاتينية!

البندقية ــ هوفيك حبشيان

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الثاني والسبعون

   
 
 
 
 

لائحة الجوائز التي وُزِّعت مساء السبت في مهرجان البندقية (دورة 72، من 2 الى 12 أيلول)، عطّلت كلّ التوّقعات التي كانت تشقّ دربها المعتاد وهي كانت ترجّح كفّة ألكسندر سوكوروف وفيلمه البديع، "فرنكوفونيا"، أقله من وجهة نظر النقّاد. لكن المعلم الروسي لم ينل "أسداً" ثانياً، بعد "فاوست". مع فوز الفيلم الفنزويلي "من بعيد" بـ"الأسد الذهب"، والفيلم الأرجنتيني "العصابة" بـ"الأسد الفضة"، والفيلم الأميركي بثالث الجوائز من حيث الأهمية، أي "جائزة لجنة التحكيم الكبرى"، تكون القارة الأميركية، الجنوبية والشمالية، صاحبة "الغلّة" الكبرى هذه السنة، وإن لم يكن حضورها في المسابقة هو الأكثر تماسكاً، ومشاركتها هي الأكثر استثنائية. فالجوائز همّشت عدداً من المؤلفين المهمين، أولهم الروسي ألكسندر سوكوروف، وثانيهم الاسرائيلي أموس غيتاي، وثالثهم الصيني ليانغ زاو الذي أتحفنا بفيلمه "وحش" في الأيام الأخيرة للمهرجان.

لائحة كهذه تطرح علامات استفهام كثيرة حول الكيفية التي تعمل فيها لجنة تتألف من أناس، أحدهم مختلف جداً عن الآخر الى حدّ التناقض أحياناً. فظاهرياً (وحتى باطنياً)، لا شيء يجمع بين أفلام رئيس اللجنة، المخرج المكسيكي ألفونسو كوارون، والسينمائيين الثلاثة الأعضاء فيها: التركي نوري بيلغي جيلان، والتايواني هو شياو شيين، والبولوني بافيل بافليكوفسكي. مع ذلك، هم قادرون على الاتفاق على فيلم واحد. كيف يمكن كلّ هؤلاء أن يجتمعوا حول فيلم واحد، وهم، في نتاجهم، لا يلتقون ولا يتقاطعون؟ السؤال الذي يفرض نفسه: الى أي حدّ، يخضع اتفاقٌ كهذا الى مساومات و"حلول وسطى"؟

في كل حال، تطابَقَ رأي كوارون وزملائه مع ما كان يقوله مدير المهرجان ألبرتو باربيرا عند اعلان التشكيلة الرسمية، ان "أميركا اللاتينية تتضمن الوعود السينمائية الكبرى". تاريخياً، هذه الجائزة الأولى ينالها فيلم من أميركا اللاتينية، وكوارون مدرك لهذه الحقيقة، لكونه صرّح بها بنفسه. عسى الا يكون الانتماء الجغرافي لمنطقة، هو الدافع الوحيد خلف دفاعه عن فيلم "من بعيد"، علماً ان هذه ليست المرة الأولى يفتح فيها رئيس لجنة المجال لتهم الانحياز: ففي العام 2010، منح المخرج الأميركي كوانتن تارانتينو "الأسد الذهب" لـ"في مكان ما" من اخراج صديقته السابقة صوفيا كوبولا. سُئل كوارون عمّا اذا كانت "لاتينية" الفيلم مارست تأثيراً ما في قراره، فكان جوابه ان رئاسته للجنة التحكيم كانت بتأثير ملك أسوج نفسه في قرارات بلاده. واذا كان قيل عن المدير السابق لـ"الموسترا"، ماركو موللر، بأنه آسيوي الهوى، فمن الواضح ان مديرها الحالي ألبرتو باربيرا، عاشق لاتيني، بعد دورتين افتتحهما مخرجان مكسيكيان (كوارون وايناريتو) ودورة ثالثة يفوز فيها فنزويلي.

"من بعيد"، الفيلم الفائز بـ"الأسد" اذاً، هو باكورة أعمال المخرج الفنزويلي لورينزو فيغاس، البالغ من العمر 48 عاماً. انه ابن الرسّام الشهير وزفالدو. درس البيولوجيا في أميركا، ثم قبل بلوغه الثلاثين بقليل، التحق بجامعة نيويورك لدرس السينما، فخاض بعض التجارب في هذا الفنّ. في العام 2003، أخرج فيلماً قصيراً عنوانه "الفيلة لا تنسى"، أنتجه المكسيكي غييرمو أرياغا، وعُرض في أحد أقسام مهرجان كانّ السينمائي. بعد أكثر من عشر سنين، يأتي بهذا الفيلم الى الصرح الفينيسي ليقتنص فيه جائزة مهيبة قد تشرّع له أبواب الجنّة السينمائية. لدى تسلّمه "الأسد"، صرّح فيغاس بأن في بلاده بعض المشكلات لكنه ايجابي تجاهها، مضيفاً ان "فنزويلا بلدٌ مدهش وسيبدأ الناس من الآن فصاعداً بالمزيد من الكلام بعضهم مع بعض".

يحاجج الفيلم علاقة بين صاحب مشغل لطواقم الأسنان الاصطناعية وأحد الأولاد الزعران الذين ترعرعوا في العنف والاهمال فنمت فيهم القابلية على الجريمة. شريط هادئ، تتوزع حوادثه بين واقع كاراكاس الشوارعي الصرف، مع كلّ ما يتضمنه هذا من إمعان في الواقعية، ومنزل البورجوازي الخمسيني الصغير، صانع الأسنان، وهو على الأرجح مثليّ. يجوب الأخير الشوارع بحثاً عن صبيان، يشبع من خلالهم رغباته الجنسية. رغباته هذه غير تقليدية البتة. فهو يحب مداعبة نفسه والاستمناء ملتزماً طقوساً معنية، كأن يتأمل مؤخرة الشاب وهو جالس في الكنبة على بعد أمتار منه. الفيلم غوص بطيء، يكاد يكون مملاً أحياناً، في سلوكيات رجل يعاني أزمة منتصف العمر. لا ينطوي الشريط على أي ميل رومنطيقي. كلّ شي مقطّع، جاف، صارم. بيد ان الشخصيات على قدر من اللبس، لا تنطق بسهولة، وربما في هذا يكمن جمال الفيلم ومحدوديته. نحن ازاء خطاب من الدرجة الثانية، اذا صحّ التعبير، حميمي، من النوع الذي يجمع السياسي بالاجتماعي بالنفسي، مفاده ان البورجوازية الصغيرة تعيش نفاقاً رهيباً على مدار الساعة، وتكشف عن أنيابها ما إن يصل الموس الى رقبتها. خطاب قديم ينبعث مجدداً من خلال الواقع الفنزويلي الذي يشكو مثل باقي البلدان في أميركا اللاتينية من تردي الأوضاع وقلّة الفرص وتهميش شريحة من المجتمع لمصلحة شريحة أخرى. الممثل الشهير ألفرد كاسترو، الذي رأيناه أخيراً في فيلمين لبابلو لاراين، يقدّم دور الرجل الخمسيني ببراعة كبيرة، وجهاً لوجه مع لويس سيلفا، الشاب الوافد حديثاً الى السينما.

"الأسد الفضّة" (أفضل مخرج)، في المقابل، ذهبت الى الفيلم الأرجنتيني، "العصابة"، لبابلو ترابيرو. رواية حقيقية عن عائلة بوسيو التي كان اعضاؤها يخطفون جيرانهم بغية المطالبة بفدية مقابل اطلاق سراحهم. فيلم عادي على أكثر من صعيد، متكرر المواقف، يفتقر إلى اللمعة، بيد انه يعتنق اسلوباً رشيقاً في منتهى الديناميكية في سرد الحوادث. مرة أخرى، لا يرتكز الفيلم على خطاب كبير، جامع وشامل، كما الحال في كثير من الأفلام التي أُقصيت من اللائحة. ترابيرو، الذي اعتدنا مشاركته في كانّ، حيث كان رئيس لجنة تحكيم "نظرة ما" في دورة العام الماضي، يقدم فيلماً جماهيرياً حققّ ايرادات عالية لدى عرضه في بلاده.

الفيلم الجميل، "أنوماليزا"، أميركي الصنع، الذي أنجزه تشارلي كوفمان ودوك جونسون بتقنية الـ"ستوب موشن"، فاز بجائزة "لجنة التحكيم الكبرى"، وهي جائزة مستحقة بلا أدنى شكّ. هذه تجربة ممتعة الى أقصى حدّ وللسبب الآتي: اختار المخرجان اللذان انشغلا به طوال 3 سنوات، الحفاظ على صحّة المشاعر وواقعية السلوك الآدمي، بعيداً من كلّ ما يشوب فنّ التحريك من مبالغات وتفخيم. سبع سنوات بعد "سينيكدوك، نيويورك"، يأتينا كوفمان بعمل ينخر العقل ويسحق القلب، عبر الحساسية التي يتسلح بها ليروي أزمة رجل خمسيني (مرة أخرى) في تعاطيه مع الحبّ والجنس وكلّ ما يتحلق حول جحيمه اليومية. فيلم عن الأقنعة ومكننة الانسان في زمننا الراهن، سنعود اليه بشكل أوسع.
في حين ذهبت جائزة "كأس فولبي" الى الايطالية فاليريا غولينو في "من أجل حبّك" لجيوسيبي غوادينو (لم نشاهده)، فقد أصابت لجنة التحكيم عندما أسندت إلى الممثل الفرنسي الكبير فابريس لوكيني جائزة أفضل ممثل عن دور القاضي الذي اضطلع به في "القاقم" لكريستيان فانسان، وهو الفيلم الذي اقتنص ايضاً جائزة السيناريو. تبقى "جائزة لجنة التحكيم الخاصة" استحقّها فيلم المخرج التركي الشاب أمين ألبر، "فرنذي"، ثريللر سياسي ممتاز يثبت مكانة صاحب "خلف التلّ" في السينما التركية الحديثة.

لائحة جوائز الدورة الـ 72 لمهرجان البندقية

المسابقة الرسمية

"الأسد الذهب": "من بعيد" للورينزو فيغاس (فنزويلا – المكسيك).

"الأسد الفضة": "العصابة" لبابلو ترابيرو (الأرجنتين – اسبانيا).

"جائزة لجنة التحكيم الكبرى": "أنوماليزا" لتشارلي كوفمان ودوك جونسون (الولايات المتحدة).

"جائزة لجنة التحكيم الخاصة": "فرنزي" لأمين ألبر (تركيا – فرنسا – قطر).

جائزة أفضل ممثل: فابريس لوكيني في "القاقم" لكريستيان فنسان (فرنسا).

جائزة أفضل ممثلة: فاليريا غولينو في "من أجل حبك" لجيوسيبي غوادينو (ايطاليا – فرنسا).

جائزة مارتشيللو ماستروياني لممثل شاب: ابراهام عطا عن "وحوش اللاأمة" لكاري فوكاناغا (الولايات المتحدة).

جائزة السيناريو: كريستيان فنسان عن "القاقم" لكريستيان فنسان (فرنسا).

جائزة دينو دو لورينتيس: "طفولة زعيم" لبرادي كوربيت (الولايات المتحدة).

قسم "آفاق"

أفضل فيلم: "فري ان ديد" لجاك ماهافي (الولايات المتحدة – نيوزيلاندا).

أفضل مخرج: برادي كوربيت عن "طفولة زعيم" (الولايات المتحد).

"جائزة لجنة التحكيم الخاصة": "نيون بول" لغبريال ماسكارو (البرازيل – أوروغواي – هولندا).

جائزة خاصة لأفضل ممثل أو ممثلة: دومينيك لوبورن عن "عاصفة" لسامويل كولارديه (فرنسا).

فينيسيا 72 ــ

براين دو بالما في حفل تكريمه: أنا مثلكم أحبّ المشاهدة!

المصدر: "النهار" - البندقية ــ هوفيك حبشيان

براين دو بالما بدا هادئاً مساء الأربعاء الفائت عندما اعتلى المسرح ليتسلم جائزة "جاغير لو كولتر" التكريمية خلال الدورة الثانية والسبعين لمهرجان البندقية السينمائي. جائزة متواضعة لسينمائي كبير يعرف مهرجان البندقية جيداً، اذ عرض فيه أفلامه الأخيرة، ومنها "شغف" في العام 2012. على مسرح صالة الاستقبالات الكبرى، وقف دو بالما يبتسم، مقرّباً اذنه في اتجاه السيدة المترجمة التي كانت تتلقى الكلمات من الايطالية وتحوّلها الى الانكليزية. سينما المعلّم الأميركي هزلت في السنوات الأخيرة، بيد ان الرجل يزداد وزناً وضخامة، وفي عمر الخامسة والسبعين، بالكاد يستطيع المشي. مع ذلك، معروف عنه حبّه للمهرجانات ومشاركته فيها، سواء برلين أو البندقية أو كانّ. في الـ"برليناله"، قبل أن ينقطع عنه أخيراً، كان يجلس في الصفّ الأخير. في هذا الصدد، قال دو بالما وهو يتسلّم الجائزة: "عندما يراني الصحافيون في المهرجانات، يتفاجأون ويسألونني: ماذا تفعل هنا؟ هل لديك فيلم؟ فأقول لهم: لا، ليس لديّ فيلم أعرضه. فيكررون السؤال: ولكن ماذا تفعل هنا اذاً؟ عندها أجيب: أنا هنا لمشاهدة الأفلام، تماماً مثلكم".

في سياق تكريم صاحب الأفلام الذي قلب موازين العمل في هوليوود السبعينات مع رفاقه كوبولا وسكورسيزي وسبيلبرغ ولوكاس ("كنّا متحدين ومساندين بعضنا بعضاً")، عُرض فيلم تسجيلي في عنوان "دو بالما"، من اخراج نوا بومباك وجاك بالترو. الأول معروف بعشقه للسينما الأميركية المستقلة التي أهدى إليها قبل ثلاث سنوات فيلماً جميلاً اسمه "فرانسز ها"، والثاني أنجز في العام 2007 "الليلة السعيدة" من بطولة شقيقته غوينيث بالترو. واضح ان فيلمهما عن دو بالما ــ وهو عبارة عن مقابلة طويلة مقطعة بمجموعة لقطات من أفلامه ـــ عمل شخص يكن إعجاباً بلا حدود للمعلم، ولأصول شغله، وللهواجس التي دارت عليها أفلامه. الا انه، يا للأسف، لا يشكل مادة دسمة عند الذي يعرف دو بالما جيداً وحفظ أفلامه عن ظهر قلب، ذلك ان هذا الوثائقي يبقى في محاذاة الفيلموغرافيا الضخمة لدو بالما، مفضلاً الحكايات الجانبية بدلاً من التحليل والغوص في أعماق شخصية سينمائية غير مسبوقة.

الا ان "دو بالما" يبقى وثيقة نطلع خلالها على بعض الأشياء الجديدة ــ القديمة عند مخرج "سكارفايس"، من اكتشافه "فرتيغو" لهيتشكوك الذي سيكون عرّاب سينماه، الأب الخفي الذي سيستوحي منه كثيراً، من دون أن يخفي أيضاً الشيء الذي تركته فيه "الموجة الجديدة" منذ بداياته. يروي مثلاً ان ادارة كليف روبرتسون في "هاجس"، كان شاقاً، وانه حتى اليوم ليس راضياً على تمثيله. فوجهه لا يوحي بأنه وجه رجل فقد زوجته. عن روبرت دو نيرو وأورسون وَلز (الذي أداره في سنّ مبكرة) يقول انهما لم يحفظا السطور. أمّا شون كونري فأثار حفيظته أن يُقتل على النحو الذي قُتل في "المنبوذون"، في حين ان آل باتشينو هرب بالقطار من التصوير عندما كان يلتقط مَشاهد "طريق كارليتو". الموسيقي برنارد هرمان (يسميه بَني)، يحتل قسطاً مهماً من الفيلم، يتحدث عنه بحنان كبير، ويصف يوم جاء الى الاستوديو وفي يده عصاه، ليشاهد "هاجس" ويضع موسيقاه التصويرية عليه، ثم كيف ذهب الى الفندق بعد اتمام آخر عمل بينهما، وتوفي مباشرة بعد ذلك، ما جعل دو بالما يستعين ببينو دوناجيو الذي أنجز معه ثمانية أفلام.

لعل أهم ما ننتبه اليه في هذا الفيلم ان طريق دو بالما الى الجمهور لم تكن سالكة دائماً. فمعظم ما أنجزه كان نصيبه الفشل الجماهيري. ولا يتوانى المخرج عن تكرار كلمة "كارثة" في حديثه عنها، لا بل ترى النور على وجهه عندما يقول عن المنتجين بأنهم كرهوا فيلماً من أفلامه بعدما شاهدوه. فقط 3 أفلام حققت ايرادات عالية وكلّ شيء جرى فيها كما يجب: "مدرّب للقتل" و"المنبوذون" و"مهمة: مستحيلة". يروي دو بالما متاعبه الطويلة مع أرباب الاستوديوات التي كانت تفرض عليه قرارات لم تكن لتروق له، ويتذكر كيف تلقى اتصالاً بعد العرض الأول لـ"بادي دابل" (الفيلم الفضاح الذي أراق الكثير من الدم) يعلمه فيه المتّصل بـ"أنهم سيقتلونك غداً". في نظر دو بالما، هوليوود لا تحبّ المشاهد المستفزة والنافرة التي تولّد ردود أفعال قاسية وغير متوقعة عند المتلقي. والحقّ ان دو بالما كان اعتاد رؤية الدماء منذ طفولته، اذ ان والده كان طبيباً ويزوره في المستشفى، هذا الوالد الذي لم يكن قريباً منه، وكان يلاحقه ليأخذ صوراً له مع عشيقته. فكرة مطاردة أحدهم والتقاط صور له، تتكرر في أكثر من فيلم لدو بالما. للأسف، لا يتطرق الفيلم الى موضوع الازدواجية، بل يكتفي بالاشارة الى تقنية الشاشة المقسومة جزءين او أكثر، وهي تقنية استعملها منذ أفلامه الأولى.

يروي دو بالما أنه اضطر الى أن يخرج أحد أفلامه، فيما كان كاتبا السيناريو روبرت تاوني وديفيد كايبي مقيمَيْن في فندق بعد نشاب خلاف بينهما. لا يخفي امتعاضه من السياسة الأميركية الخارجية التي أسفرت عن حروب ومجازر وعدم احترام لثقافة الآخر، وهذا كله جعله ينجز فيلمين حربيين هما "ضحايا الحرب" عن فيتنام و"منقّح" عن العراق. ينتهي الفيلم بنظرية لدو بالما مفادها أنّ السينمائيين ينجزون أفضل أعمالهم عندما يكونون في الثلاثينات والأربعينات والخمسينات من أعمارهم. مرةً أخرى، يستحضر هيتشكوك لتأكيد تلك النظرية.

النهار اللبنانية في

14.09.2015

 
 

10 أفلام أضاءت مهرجان البندقية السينمائي

هوفيك حبشيان

مهرجان البندقية من أرفع المنابر السينمائية قيمة وأبعدها زمنياً في ذاكرة أوروبا والعالم. منذ 72 دورة، وفي أيلول من كلّ عام، تشهد جزيرة الليدو زحفاً بشرياً من كلّ أنحاء الكرة الأرضية. قطعة أرض معزولة لا تتعدى مساحتها الـ4 كلم مربع، تتحول خلال 11 يوماً "مركز الكون السينمائي"، حيث المتخصصون والجمهور يعاينون أفضل الأفلام وأحدثها. هذه السنة، نال الفنزويلي "من بعيد" للورينزو فيغاس "الأسد الذهب"، فيما ذهبت "الأسد الفضة" للأرجنتيني بابلو ترابيرو وفيلمه "العصابة". لجنة التحكيم بقيادة المخرج المكسيكي ألفونسو كوارون، انتشلت سينما أميركا اللاتينية من التجاهل الذي عانته في مهرجانات أخرى طوال السنوات الماضية. بيد أنّ أفلاماً كثيرة أخرى تستحق التقدير أيضاً. في الآتي، 10 أفلام شاهدها "المدن"، وتُعتبر علامات بارزة في الدورة المنتهية للتو.

"فرنكوفونيا" لألكسندر سوكوروف:

لجنة التحكيم ظلمت الفيلم. كان الأجدر على إدارة المهرجان عرضه خارج المسابقة كتحية لمخرجه. سوكوروف محوطٌ بهالة كبيرة، وسبق أن نال "الأسد الذهب" عن "فاوست" قبل أربعة أعوام. الأجداد الروس غير المنسيين يلقون بظلالهم على سجلّه المجيد. هذه المرّة، يضرب سوكوروف موعداً مع المُشاهد في متحف اللوفر الفرنسي، يوم كان الألمان يتدخلون في شؤونه. فيلمٌ يحملنا إلى زمن الاحتلال النازي لباريس: الثقافة، الفنّ، السياسة، العسكر، السلطة، كلّ شيء ينصهر بعضه بالبعض الآخر في نوع من كوكتيل بصري لا مثيل له إلا عند سوكوروف. بيد أنّ الهمّ الأساسي الذي يلحّ على باله هو الفنّ وكيفية الحفاظ عليه من أجل بقائه كشاهد بعد رحيل البشر. هناك باخرة محملّة بالتحف تغرق في عرض المحيط، وسوكوروف من خلف مكتبه يتواصل مع قبطانها عبر "سكايب". الاستعارة لا تنطوي على تأويلات مختلفة، كلّ شيء واضح، وإن حاول سوكوروف إخفاءها خلف خطاب متعددّ الطبقة. الفكرة التي شيّد عليها الفيلم حاضنةٌ لأفكار كثيرة، ولكن عبقرية صاحب "الفيلق الروسي" إنه حشرها في زاويته الخاصة، كأن العالم كله، بأمجاده وانهياره، لوحة معلقة على جدران اللوفر. 

"الحدث" لسرغي لوزنيتسّا:

الأوكراني لوزنيتسّا يتابع عمله بلا صخب. ينحت في الزمن بصمت لذيذ. فيلماً بعد آخر، يكبر الرجل في عيون معجبيه والذين يقدّرون أفلامه. لا يختلف "الحدث" عن كلّ ما جاء من قبل. الحيوية عينها  في التقاط اللحظة، الصور التي تتكفل بالكلام، وطأة التاريخ والفضول تجاهه، ووجوه البشر العاديين في لحظة مصيرية من وجودهم. يحملنا الفيلم الى العام 1991، لنتابع خروج آلاف الشيوعيين الى الشارع، معظمهم من مؤيّدي بوريس يلتسين، للمطالبة بإسقاط الشيوعية. لوزنيتسّا لم يصوّر لقطة واحدة من هذا الفيلم الذي يستعين بلقطات الأرشيف، إلا أنّ حضوره واضح في التوليف وإيجاد همّ مشترك بين صورة ذاهبة وأخرى آتية. 

"أنوماليزا" لتشارلي كوفمان ودوك جونسون:

الأميركي تشارلي كوفمان سيناريست شهير في هوليوود، ذاع صيته بعد انخراطه في العوالم الغرائبية لسبايك جونز وميشال غوندري، وتحديداً في "أن تكون جون مالكوفيتش". له أيضاً فيلم "سينيكدوك نيويورك" الذي طرحه مخرجاً. غاب عن الإخراج منذ سبع سنوات، وعاد الآن مع "أنوماليزا" الذي أخرجه مع دوك جونسون. الفيلم من نوع الـ"ستوب موشن"، تخرج منه بإحساس غريب بالاكتفاء. خمسينيٌّ على حافة اليأس، يزور سينسيناتي ليوم واحد لتقديم محاضرة حول كتاب له عن خدمة الزبائن. كتاب تحوّل الى "بست سيللر"، وبات الجميع يعرفه بسببه. يموضع النصّ القسط الأكبر من الأحداث في تلك الليلة التي تسبق المحاضرة. أما مسرحها فهي غرفة الفندق وأروقتها وبارها. يلتقي صديقنا بفتاة ويقع في حبّ صوتها. نعم صوتها! فهو اعتاد أن يرى النساء متشابهات وبصوت واحد يكاد يكون رجالياً ناشفاً. عَمِل المخرجان على التضاد ما بين بساطة الصور والديكور، وخلوّ الفيلم من التنميط، لمصلحة الشخصيات التي تحمل في داخلها كلّ قلق العالم، وينتهي بها الأمر في أكثر الأماكن افتقاراً للشخصية (فندق). لا فيلم أكثر حزناً من "أنوماليزا" في هذه الدورة من البندقية. 

"مارغريت" لكزافييه جيانولّي:

الفيلم دليل آخر إلى حيوية السينما الفرنسية وتنوّعها وقدرتها على أن تكون قريبة من الجمهور ومن هواجس مخرجه في آن معاً. هذا عملٌ آخر أمكن إبرازه في لائحة الجوائز، أقلّه التفافة صغيرة إلى الدور الذي تقدّمه كاترين فرو: سيدة من البورجوازية الرفيعة تعشق الغناء والأوبرا، وتكرّس وقتها لهذا العشق الذي يسكنها. تفصيل أساسيّ في الموضوع: لا أداؤها ولا صوتها يخولانها تحقيق هذا الحلم. لعلّها ليست مشكلة عندما تتعلق المسألة بالغناء في نادٍ مقفل أمام الذين يهزأون منها في سرهم، أما عندما تقرر أنّ موهبتها تسمح لها تقديم حفل موسيقي كبير، فهذا كفيل في وضعها ووضع زوجها أمام بعض المواقف المحرجة. جزءٌ من نجاح الفيلم يعود الى تمثيل فرو المتقن، التي تعرف كيف تجعلنا نغرق في الذنب من دون أن تقع في استدرار العواطف الرخيص. في النهاية، هذا فيلم عن النفاق المفضوح للبورجوازية. 

"مدام كوراج" لمرزاق علواش:

علواش بات يصوّر أسرع من دقات القلب. جديده عملٌ منضبط، مكثف، يعرف أين يبدأ ومتى ينتهي. والأهم، يدرك تماماً ماذا يريد أن يقول في الخراب الاجتماعي الذي يشمل بلاده الجزائر. الغريب أنّ هذا الفيلم الذي رُمي في قسم "آفاق"، كان يستحق أن يكون داخل المسابقة أكثر مما استحقّه "الأسطح"، فيلم علواش السابق. عمر مراهق غريب الأطوار، نشّال صغير، يجوب الشوارع بحثاً عن طريدة. في أحد الأيام، يسرق عقد ذهب مراهقة من عمره، منتزعاً إياه من رقبتها، إلا أنه يعيده إليها في اليوم التالي، فيبلور من جانبه إحساساً غامضاً تجاهها. بيت التنك حيث يقطن، يأوي أمّاً تهمله وشقيقة تعمل في الدعارة. كلّ شيء من حوله غارقٌ في البؤس، كحال البيئة الأوسع التي يعيش فيها. إلا أنّ عمر، بلامبالاته وطابعه العبثي (ينام أحياناً في كومة النفايات)، مُصّرٌ على البقاء مهما كلف الثمن. مرّ وقتٌ طويل منذ "عمر قتلته الرجولة" (1976)، أول أفلام علواش الذي اعتُبر حينها نقطة مضيئة في سجل السينما العربية. بين الفيلمين، صارت نظرة المخرج أكثر قسوة تجاه الواقع وطرحه أكثر راديكالية في ظلّ ما تعيشه الجزائر من جمود.  بيد أنّه لا يزال مقنعاً في طريقة تقديمه للشخصية الرئيسية، وجعلنا نميل إليها، وإن لم تكن دائماً من الملائكة. 

"رابين، اليوم الأخير" لآموس غيتاي:

فيلم آخر لم ينل نصيبه من لائحة الجوائز: "رابين، اليوم الأخير" لأموس غيتاي. المخرج الإسرائيلي لا يقدّم هنا عملاً دعائياً عن اغتيال رئيس الوزراء اسحق رابين الذي قضى بطلقات اليهودي المتزمّت يغال أمير قبل 20 عاماً. ما نتابعه خلال ساعتين ونصف الساعة تشريحٌ دقيق لعملية مدعومة ــ على ما يبدو ــ من المخابرات الإسرائيلية أدخلت الدولة الصهيونية في نفق مظلم "وأجهدت كلّ السعي إلى الاعتراف بالآخر"، وفق ما قاله المخرج للصحافة في البندقية. بالنسبة لغيتاي، العنف يجرّ العنف، ولن تنعم إسرائيل بالاستقرار ما دامت هناك مستوطنات ومتطرفين يهوداً يحرقون الأطفال. من خلال تصويب اهتمامه في اتجاه مناخَي الحقد والتخوين اللذين هيآ له التحضير لاغتيال رابين، يتحول غيتاي الى مخرج وقاضٍ ومحقق في آن معاً، ويعيد طرح أسئلة سياسية واجتماعية ودينية صرفت النظر عنها لجنة شمغار حين تولّت استجواب المسؤولين عن الاغتيال. "رابين"، فيلم أساسي لإدراك إسرائيل الحالية في ظلّ ماضيها (القريب). 

"القاقم" لكريستيان فنسان:

من أغرب أفلام المهرجان. منتهى الرقة والحنان والحشمة. عملٌ تتدفق فصوله كمجرى النهر. فرنسيّ الهوية حتى النخاع الشوكي. فابريس لوكيني الذي يضطلع بدور ميشال راسين، فاز عنه بجائزة أفضل ممثل (جائزة أفضل سيناريو ذهبت الى كريستيان فنسان). الفيلم برمّته دراسة دقيقة لشخصية مركّبة نتآلف معها شيئاً فشيئاً. إنها شخصية قاضٍ يقيم في الفندق ويبدو عليه القرف والتعب من الحياة. في الوسط القضائي، يلقبونه بـ"رجلٌ ذا الرقمين"، كون أقلّ فترة حكم يُصدرها في حقّ الجاني هي عشر سنوات وما فوق. بيد أنّ اختيار سيدة كان أحبها قبل ست سنوات يوم دخل المستشفى في عداد المحلّفين للنظر في جريمة، سيجعل الذكريات تنتعش في داخله من جديد. إنه الحبّ يا سادة، الذي سيجعل حياة رتيبة تدخل في المجهول، لكنه المجهول الإيجابي. سر الفيلم بأسره يمكن العثور عليه في أداء لوكيني، فهو قادر على أن يبدو مظلوماً ومقهوراً وهو يصدر الأحكام في حقّ الآخرين.

"وحش" لزاو ليانغ:

قصيدة بصرية باهرة أسلوباً ومضموناً تخطف النَفَس عن عمّال المناجم وغيرهم، سقطت علينا كمفاجأة في آخر أيام المهرجان. يصف الفيلم من جملة ما يصفه التأثير الذي يمارسه عملهم في جلودهم المتلفة، وتفاصيل حياتهم المسببة للأمراض. هذا الإرهاب الصناعي في مونغوليا يولّد بركاناً من الصور المتفجرة. لا شيء سوى لقطات ناطقة. الإحساس هذا، نفسه تقريباً، شعرناه عندما اكتشفنا قبل 9 سنوات، "ستيل لايف" لجيا زانغي. في آخر هذا الفيلم الذي أخرجه الصيني زاو لبانغ، يقول الراوي: "كلّ هذه التضحيات البشرية تتحول كتلة من الحديد". عمل جبّار يترك المُشاهد بين إحساسين متضاربين: السعادة والقرف. 

"تذكّر" لآتوم ايغويان:

بعد فترة هبوط، يعود ايغويان بفيلم يستحقّ التقدير. كثر كرهوه، بيد أنّ جمهور البندقية استقبله بحفاوة شديدة، مصفقاً طوال ربع ساعة للمخرج والممثلين الذين تكلّف ايغويان عناء نبشهم من بين الأسماء الكبيرة: كريستوفر بلامر، مارتن لاندو، برونو غانز. الحكاية التي يأفلمها ايغويان منتهى الغرابة، حدّ إنه يصعب تصديقها في بعض الأحيان، وربما هنا تكمن العلة الوحيدة في الفيلم. رجل ثمانينيّ فَقَد عائلته في مخيم أوشفيتز، يبدأ في البحث عن الضابط النازي الذي كان مسؤولاً عن مقتلها. هذا المتعطش الى الانتقام بالكاد يستطيع المشي، ومع ذلك فهو مصمم على إيجاد الفاعل والاقتصاص منه. حاملاً مسدساً في حقيبة يده الصغيرة، يمضي في رحلة سرعان ما تحوّل الفيلم الى "فيلم طريق"، نتائجه ستكون غير متوقعة البتة. ينهي ايغويان فيلمه بضربة مسرح يقول من خلالها موقفه من الهولوكوست. 

"دمّ دمّي" لماركو بيللوكيو:

في هذا الفيلم، يجمع المخرج الإيطالي الكبير عائلته السينمائية كلّها، وفي مقدمها ابنه وابنته اللذان يضطلعان بدورين مهمين. هذه مرافعة سينمائية أخرى، يرفع فيها بيللوكيو صوته ضد الكنيسة وممارساتها الظالمة في القرون الماضية. تجري الحوادث في بوبيو، حيث كان يمضي المخرج طفولته. تتشابك الأزمنة بين القرن السابع عشر واليوم، لتولد حكاية ركيزتها الأساسية الدين وما تنتج منه من مهانة. بيللوكيو يطرح أسئلة أكثر من رغبته في الإجابة عنها، وهذا ما يجعل الطرح إنسانياً شاعرياً يتفاعل معه المُشاهد. إنها حكاية فيديريكّو الذي يريد إصلاح ذكرى شقيقه الراهب المنتحر الذي أغوته راهبة. فيرحل الى دير بوبيو حيث الأخت بينيديتا التي زجّها الرهبان في السجن بعد اتهامها بالشعوذة. بعد سنوات، في المكان عينه، فيديريكّو آخر، يعمل محققاً تابعاً لإحدى الوزارات، يطرق باب أحد الأديرة الذي تحوّل سجناً، حيث يسكن كونتاً لا يخرج إلا ليلاً. 

المدن الإلكترونية في

15.09.2015

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)