كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 
 
 

للمرة الأولى فيلم فنزويلي يسرق "الأسد الذهبي"

في مهرجان فينيسيا!

أمير العمري- فينيسيا

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الثاني والسبعون

   
 
 
 
 

في واحدة من أكبر المفاجآت التي عرفتها مهرجانات السينما العالمية خلال السنوات الخمس الأخيرة على الأقل، أعلنت لجنة التحكيم التي رأسها المخرج المكسيكي الفونسو كوارون منح جائزة الأسد الذهبي الى الفيلم الفنزويلي الروائي "من بعيد" للمخرج لوزنزو فيغاس. وهذا هو أول فيلم من أمريكا اللاتينية يفوز بالأسد الذهبي في فينيسيا كما أنه أول فيلم من فنزويلا يشارك في مسابقة المهرجان العريق، وهو أيضا الفيلم الأول لمخرجه.

والفيلم من الانتاج المشترك مع المكسيك، وهو يروي قصة علاقة غريبة تنشأ بين رجل وحيد وشاب من الشباب الفقير من سكان الأحياء الهامشية. في البداية يخضع الشاب لرغبات الرجل الذي يستمتع بمشاهدته وهو يكشف عن مؤخرته أمامه، فيتطلع إليه الرجل الذي ينتمي للطبقة الوسطى ويعمل في صنع الاسنان الصناعية، ويأخذ في ممارسة الاستمناء أمام الصبي، والأخير يستجيب لرغبات الرجل من أجل الحصول على المال. صاحبنا يغدق بالفعل عليه، لكن الشاب يستنكر تمادي الرجل في رغباته، ويعتدي عليه بعنف شديد ويصيبه بجروح، يصفه بالشاذ المنحرف ويسخر منه ويهدد بفضحه، يسرق المال من بيته، لكنه تحت الرغبة في الحصول على مزيد من المال لشراء سيارة من صاحب الورشة التي يعمل فيها، يخضع مجددا لرغبات الرجل، وبعد أن يستمع لقصة صفولته ويعرف أنه أيضا قد عانى مثله من قسوة الأب، يتعاطف معه، ثم يقع تدريجيا في حبه فهو أيضا يبحث عم الأب الذي فقده في ضخص هذا الرجل الذي يحبه حبا شديدا، إلى أن يصبح رفيقا له برغبته.

يعاني هذا الفيلم من ترهل السيناريو الذي يسير ببطء شديد، دون أن يحدث فيه أي تطور درامي حقيقي لأكثر من ساعة من زمن الفيلم، فالمعنى نفسه يتكرر من خلال تكرار المشاهد، فالرجل الذي يشتهي الفتى كثيرا يرفض تقاربه منه في الفراش، اكتفاء بالتطلع إليه (من بعيدـ أو من على مسافة- حسب عنوان الفيلم)، ورغم كل ما يفعله الشاب بالرجل من قسوة وسوء معاملة، إلا أن الأخير يسامحه فهو يحبه تماما كما يحب الأب ابنه لكنه أيضا يشتهيه ويريده أن يصبح حبيبا له، وهو لا يقبل منه أي عطاء جسدي قبل وجود مشاعر، ولا يقبل تبادل الجنس معه سوى بعد أن يتأكد من وقوع الشاب في حبه.

فيلم تقليدي

بسبب تقليدية السرد والمعالجة السطحية للموضوع، لم يتوقع أحد من النقاد أو السينمائيين الذين تابعوا أفلام المسابقة الـ 21، فوزه بأي جائزة من جوائز المهرجان، خصوصا وأنه لا يطرح فكرة انسانية أو فلسفية كبيرة يمكن أن تثري نسيج الفيلم. غير أن من الواضح أن رئيس لجنة التحكيم المخرج المكسيكي الفونسو كوارون مخرج فيلم "جاذبية الأرض" (حصل على عدد من جوائز الأوسكار) ضغط على باقي أعضاء لجنة التحكيم من أجل منح هذا الفيلم الذي شاركت المكسيك في انتاجه مع فنزويلا، جائزة الأسد الذهبي، أرفع جوائز المهرجان، وهي جائزة لا يستحقها الفيلم بالتأكيد فقد كان هناك ما هو أفضل منه كثيرا!

ولم يكن هذا الفيلم ضمن قائمة توقعات النقاد الايطاليين، ولا الاستطلاع  اليومي الذي تنشره  مجلة "تشياك" التي يصدرها المهرجان وتشمل تقديرات عشرة من نقاد العالم، ولا قائمة ترشيحات الجمهور من خلال عينات محددة تصوت يوميا!

والواضح أيضا أن كوارون ضغط  أيضا ونجح، في منح جائزة الأسد الفضي التي تذهب عادة الى أحسن إخراج، إلى الفيلم الأرجنتيني "العائلة" The Clan لمخرجه بابلو ترابيرو، وهو الفيلم الثاني في المسابقة من أمريكا اللاتينية، وهو عمل جيد لكنه كان يستحق جائزة أحسن ممثل لبطله غليرمو فرانسيا الذي قام بدور أب لعائلة كبيرة، يتزعم عصابة تقوم باختطاف أفراد من الأثرياء واحندازهم في قبو بمنزل الاسرة التي يعلم أفرادها بالأمر ويشاركون فيه، ثم طلب فدية من أسر هؤلاء الأشخاص المخطوفين، والأب كان يعمل مرشدا للشرطة يتعاون معها في الوشاية بالمعارضين السياسيين إبان فترة الحكم العسكري الديكتاتوري في البلاد، وتستمر جرائمه بموجب صلاته الرسمية وتستر الأمن الخاص عليه مقابل الحصول منه على معلومات مفيدة لهم، ولكن الغطاء الأمني الذي يحميه يسقط عنه بعد سقوط النظام العسكري وتحول الأرجنتين الى دولة ديمقراطية في الثمانينيات.

وإذا كان من الممكن تفهم أن تذهب هذه الجائزة الى الفيلم الأرجنتيني، إلا أنه لم يكن من المتوقع أن تمنح لجنة التحكيم جائزتها للفيلم الأمريكي من نوع التحريك (انيماشن) "أناوماليزا"، للمخرج شارلي كوفمان، فهو رغم طرافته وبساطة فكرته ووضوحها إلا أنني شخصيا لم أجد أنه كان من المحتم أن يتم التعبير عنها من خلال الرسوم المتحركة بل وكان من الممكن أن يكون من خلال التمثيل المعتاد والشكل الكوميدي المعروف، وإن كان كثيرون قد رأوا أن الرسوم أكدت طرافة الفيلم وفكرته!

التمثيل

 جائزة أحسن ممثل حصل عليها الممثل الفرنسي فابريس لوشيني عن دوره في بطولة فيلم "فار البحر" وهي جائزة ربما يستحقها الممثل عن دوره كقاض يقع في حب امرأة- طبيبة من أصل دنماركي شديدة الفتنة- كانت ضمن فريق المحلفين الذين ينظرون قضية رجل متهم بقتل ابنته الرضيعة. ورغم براعته في تقمص الدور إلا أن بطل الفيلم الأرجنتيني "العائلة" كان أكثر براعة وتألقا في دور الأب، وربما كان قد حصل عليها لو لم يكن الفيلم نفسه قد فاز بجائزة الأسد الفضي لأفضل اخراج.

حصلت الممثلة الايطالية فاليريا غولينو على جائزة أحسن ممثلة عن دور البطولة في الفيلم الايطالي "من أجل حبك" للمخرج جيوسيبي غوادينو، وفيه تقوم بدور أم تعول ثلاثة ابناء منهم ابن معاق، تعاني من سوء معاملة زوجها الذي يمارس أعمالا غير قانونية، وسبق أن تعرضت للسجن لحماية شقيقها، وهي تتعرض الآن لاغواء ممثل مشهور يمثل فيلما في مدينة نابولي التي تنتمي اليها، وتعمل في موقع التصوير كمساعدة في تلقين الممثلين الحوار. وتمر بمرحلة صعبة للغاية في حياتها حيث عليها أن تحسم أمرها وتتخذ قرارا ينقل حياتها خارج تلك الدائرة الجهنمية. والفيلم لاشك يستحق مقالا خاصا.

وكان كثيرون قد رشحوا جوليت بينوش للفوز بجائزة أحسن ممثلة عن دورها في الفيلم الايطالي "الانتظار" كما كنت شخصيا أتوقع أن تفوز بها الممثلة السويدية الجميلة أليسيا فيكاندر (سبق أن تألقت في فيلم "إكس ماشينا") عن دورها في الفيلم البريطاني "الفتاة الدنماركية" لدينيس هوبر، أو الممثلة الفرنسية الكبيرة كاثرين فروت، التي تألقت بشكل لافت، في الفيلم الفرنسي "مرغريت" في دور غير مسبوق، بل وكان الفيلم نفسه يستحق جائزة من الجوائز الرئيسية ربما كانت جائزة لجنة التحكيم الكبرى.

وفاز بجائزو مارشيللو ماستروياني لأحس ممثل ناشيء الممثل ابراهام عطا الذي قام بدور طفل مراهق يخوض الحرب الأهلية في دولة افريقية ويكتوي بينرانها ويتحول من الطفولة الى الرجولة، في الفيلم الأمريكي- البريطاني "وحوش بلا أمة" للمخرج كوجي فوكوناغا.

أما جائزة أحسن سيناريو فقد حصل عليها كريستيان فنسنو عن الفيلم الفرنسي "فأر البحر" وهو من اخراجه.

وحصل الفيلم التركي "فزع" الذي خيب آمال أغلبية النقاد للمخرج أمين ألبر، على جائزة لجنة التحكيم الخاصة. والفيلم من الانتاج التركي الفرنسي القطري.

مسابقة آفاق

 أما بالنسبة لجوائز مسابقة قسم "آفاق"، فقد حصل الفيلم الأمريكي "متحرر من سند الملكية" للمخرج جاك مكافي عل جائزة أحسن فيلم.

وحصل المخرج البريطاني برادي كوربيت على جائزة الاخراج عن فيلمه "طفولة القائد" وهو انتاج مشترك مع المجر.

أما جائزة لجنة التحكيم الخاصة فذهبت الى الفيلم البرازيلي "ثور النيون" للمخرج غابرييل ماسكارو (مشترك مع أوروغواي وهولندا).

ومنحت لجنة تحكيم هذا القسم التي رأسها المخرج الأمريكي جوناثان ديم، جائزة لجنة التحكيم لأحسن ممثل إلى الممثل دومنيك ليبورن عن درها في الفيلم الفرنسي "تيمبيت" للمخرج صامويل كولاردي.

وهكذا أسدل الستار على دورة سيئة بم تشهد عرض أي تحفة من التحف السينمائية الكبيرة التي تبقة في الذاكرة كما كان الأمر في العام الماضي مع الفيلم السويدي "الحمامة التي وقفت على غصن تتأمل الوجود" لروي أندرسون مثلا، بل وقد ضمت المسابقة أفلاما لم تكن لترقى للاشتراك في مسابقة اي مهرجان في العالم ناهيك عن مهرجان فينيسيا العريق، مثل الفيلم الجنوب افريقي "نهر بلا نهاية" أو الفيلم الأمريكي "متعادلون" Equals  للمخرج درايك دورموس، أو الفيلم الأمريكي "قلب كلب" للمخرج لورين أندرسون.

عين على السينما في

12.09.2015

 
 

مهرجان فينيسيا الدولي: العالم تغير.. و كذلك المهرجانات

الدورة 72 لمهرجان فينيسيا وصلت إلى ختامها بعد أيام من الاختيارات الصعبة

فينيسيا: محمد رُضا

قبل أحد عشر يوما انطلقت الدورة الثانية والسبعين من مهرجان فينيسيا الذي كان موسوليني أسسه سنة 1932 واستمر إلى أن هزمت إيطاليا و«المحور» في نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم عاد يلملم جراح انحيازه للفاشية الإيطالية والنازية الألمانية، لكنه توقف بضع مرّات وإن كانت دوراته في السنوات الثلاثين الأخيرة أو سواها متواصلة على إيقاع منضبط.

حين بدأت الدورة كنا جميعا ننظر إلى الأمام محمولين على جناحي الأمل والتوقع.. واحد متفائل بدورة تكشف لنا أفلاما ومن خلالها ظواهر وتيارات، والآخر يحدو بنا لانتظار مفاجآت ما بقي من أفلام العام الكبيرة، تلك التي لم تعرض في برلين وفاتها «كان» (أو فوّتها) والتي وصلت إلى هنا لتدخل واحدة من المسابقتين الرئيسيّتين: الرسمية الأولى التي يرأس لجنة تحكيمها المخرج ألفونسو كوارون، والثانية المسماة بـ «آفاق» التي يرأس لجنة تحكيمها المخرج جوناثان دَمي.

الآن ننظر إلى الوراء.

فيلم الختام هو بمثابة إسدال ستار المهرجان وتنفس الموجودين الصعداء. لا أفلام بعد اليوم وحتى العام المقبل في هذا الصرح. قبله حفلة توزيع الجوائز التي يختلف من حولها النقاد ومن المنتظر أن يختلف من حولها أعضاء لجنة التحكيم أيضا. وليس هذا لأن هناك قلة من الأفلام التي تستحق، فما يسجل لمدير المهرجان ألبرتو باربيرا أنه نجح في جمع عدد لا بأس به منها وهو المحاصر بمهرجانين قويين قبله ومهرجانات متعددة بعده لا تقل قوّة.

* حكايتان

الأفلام الأبرز التي عرضت هذا العام، أي تلك التي شهدت الإقبال النقدي الأعلى، تعددت في مصادرها واهتماماتها. يقودها الفيلم الألماني - الفرنسي المشترك «فرانكوفونيا» للمخرج الروسي ألكسندر سوخوروف. بمعياره الفني الثري في التفاصيل والإيحاءات وقوّة المضمون، أنجز سوخوروف فيلما عصيا على التصنيف. لا هو تسجيلي ولا هو روائي ولا هو منتصف الطريق بينهما. إنه فيلم خواطري يقرأ في الفن وفي السياسة والعلاقة بينهما من خلال إلقاء نظرة على التاريخ الذي وحّد أوروبا ثقافيا وفنيا والذي انبثق عنه متحف اللوفر واحتواه عبر ألوف اللوحات التي يختزنها، وكيف تعامل مع الغزو الألماني الذي أراد وضع اليد على هذه الكنوز الضخمة.

سوخوروف يمضي لأبعد من ذلك مقدّما شخصية نابليون بونابرت وهو يستعرض تاريخه ويتباهى بما حققه لنفسه ولفرنسا (لكن لنفسه أكثر) من صيت.

من بين عشرين ناقدا قامت مجلة «كياك» الإيطالية برصد تحبيذاتهم، يجيء «فرانكوفونيا» الأول ولا يتأخر عنه كثيرا الفيلم الإيطالي «دم دمي» لماركو بيلوكيو: حكايتان متباعدتان في الزمن كما في الاهتمام القصصي. الأولى تقع في القرن السابع عشر عن شاب مسلح يدخل سجنا يديره الرهبان ليقابل المرأة التي اتهمت بالسحر فسجنت والتي أغوت شقيقه الراهب. ما يلبث الشاب أن يقع تحت سطوتها. حين ننتقل إلى الزمن الحالي نتابع حكاية مليونير روسي يقرر شراء ذلك الدير – السجن، ليفاجأ بأنه مسكون بمصاص دماء.

ليس فقط أن الفكرتين متباعدتان في النص ولا تمثل الثانية امتدادا فعليا للأولى إلا من خلال الموقع الواحد، بل تختلف المعالجة أيضا وإلى حد كاف ليثير انتباه المشاهد من دون أن يجيبه عن أي من الأسئلة التي قد يطرحها حول السبب في هذا الاختلاف.

من بين الأفلام الأخرى التي حظيت بأعلى درجات الإعجاب «11 دقيقة» الذي خاض به المخرج البولندي ييرزي سكوليموفسكي تجربة جديدة عليه وهي تقديم شخصيات متعددة بأحداث منفصلة ثم جمعها، على طريقة بعض أفلام أليخاندرو غونزاليز إناريتو، مثل «الحب كلب» و«21 غراما» و«بابل»، في لحظة واحدة فاصلة. لكن «11 دقيقة» إذ ينجح في الثراء البصري للعديد من مشاهده يفتقد المفاد لكل فيلمه الذي ينتهي بموسيقى عالية صاحبها تصفيق الحضور منفعلين على الأرجح بشريط الصوت.

* صور صادمة

السياسة طرقت الباب من خلال بضعة أفلام، ولكل سياسة وجهة نظرها في شأن أو آخر. أكثر أو أقل. هناك ذلك الفيلم التسجيلي عن الأحداث التي سبقت الحرب الروسية - الأوكرانية الأخيرة في فيلم «الشتاء على النار» لإيفنجي أفينيفسكي الذي ينتقل بين مواقع العاصمة الأوكرانية التي شهدت المظاهرات الشعبية التي كان البوليس يتصدّى لها بعنف، من قبل أن يلين موقف البوليس ويكون ذلك بداية لانهيار النظام السابق وتنحيه.

لكن الفيلم الذي أثار الإعجاب الأكبر بين الأعمال التسجيلية ذات الطرح السياسي هو «رابين.. اليوم الأخير» للإسرائيلي آموس غيتاي، الذي يتردد عادة على فينيسيا كل سنة بصحبة فيلم جديد وإن قصّر مرّة تراه مال إلى مهرجان «كان» بديلا.

كما يكشف عنوانه هو عن تلك المرحلة الأخيرة من حياة رئيس الوزراء الراحل قبل عشرين سنة عندما وضع المتطرّفون اليهود رصاصة قنّاص في جسده بعدما لمسوا صدق نواياه في منح الفلسطينيين دولة لهم حسب اتفاق أوسلو. الأمور بعد رحيله لم تعد كما كانت من قبل، وتأسيس كيان مستقل فعلا للدولة الفلسطينية لم يعد على جدول اهتمامات الحكومة الحالية (ولا تلك التي قبلها)، لكن غيتاي يحصر اهتمامه، في ساعتين وثلثي الساعة، بالفترة السابقة معيدا فتح ملفات أغلقت أو البحث عما تطرحه أخرى ما زالت مفتوحة. يحمل على سياسة المتطرّفين اليمينيين، لكنه لا يرغب في الإدانة المفتوحة.

فنيا، بقي أفضل ما شوهد من أفلام تسجيلية حتى وصول فيلم صيني يوم أول من أمس عنوانه «بهيموث» يحمل في ساعة ونصف الساعة صورا صادمة عن التحوّلات البيئية التي تقع في منغوليا بعدما فتحت البلاد ذراعيها لشركات التنقيب عن الفحم الصينية فإذا بها تنهب الأرض من زرعها وحصادها وتحوّلها إلى أتلال من الأتربة البشعة نافثة، عبر مصانعها، الدخان الملوّث الذي يكمل تهديده للبيئة بأسرها. في النهاية يفتح الكاميرا على مدينة بنيت لكي تستوعب الجاليات الصينية أو سواها للعيش بالقرب من تلك المناطق، لكنها بقيت خالية من السكان إلى اليوم. لا يفوت المخرج زاو ليانغ الحديث عن الثمن الذي يدفعه العاملون صحيا وسوء أحوالهم المعيشية.

* تحديات المستقبل اليوم

هذه الأفلام وسواها الكثير تؤسس، كالعادة، الكيان الفعلي لما تطلع به النتائج. وسواء فاز «فرانكفونيا» أو «دم دمي» أو أي فيلم آخر من تلك التي وردت هنا أو في تقارير سابقة، فإن المهرجان ما زال يقف على الحافة الصعبة متوسلا التوازن المطلوب لاستمراره على نحو متصاعد. مهمّة بالغة الصعوبة خصوصا في مثل هذه الظروف الحالية تحديدا.

الحال هو أن هذا المهرجان الإيطالي الأكبر سنا من كل مهرجان سينمائي آخر على الأرض يشهد تحولات كبيرة تصيب السينما التي يتعامل معها. الفيلم (كمادة مصوّرة سواء على كاميرا ذات فيلم أو بالديجيتال) باتت لديه الكثير من القنوات التي يستطيع سبر غورها بحثا عن العروض المناسبة. هناك وسائط متعددة يستطيع الجمهور عبرها مشاهدة ما كان عليه أن ينتظر عرضه وأن يؤم له صالات السينما. هذا الجمهور تم تدجين معظمه لكي يقبل الاختيارات الأخرى المتوافرة، فهو يستطيع أن يشاهد الفيلم في البيت أو في المقهى.. في مكتبه أو في القطار السريع بين لندن وباريس. والأفلام المتوافرة أثيرا ليست فقط التجارية بل الفنية أيضا.

فينيسيا ذاته قام هذا العام بإتاحة المجال لمن يرغب في مشاهدة بعض أفلام المسابقة لقاء ثمن يدفعه على «الإنترنت». أيضا أشرك في عروضه فيلما من إنتاج شركة «نتفلكس» هو «وحش بلا أمة»، والشركة هي مؤسسة لبيع البث على الإنترنت لا بعد استيفاء عروض تلك الأفلام في الصالات، بل تتجاوزها تماما قاصدة أن تستغني عن كلفة الطبع والتوزيع وتحصد أرباحها من خلال العروض المباشرة على الإنترنت.

وفي حين كان الناقد والسينمائي يشعر حتى سنوات قليلة سابقة بأنه من حسن الحظ أن هذا المهرجان يخلو من سوق سينمائية، من باب أنه يؤثر في صيته وهويته الفنية ويخدش ذلك التفرد بإعلاء قيمة ونوعية المعروض، بات الناقد والسينمائي ذاتهما يدركان أن حسنات هذا الغياب ليست بالضرورة أهم من سلبياته. أول الشاعرين بذلك هم العاملون في قمّة هذا المهرجان، وهم يرون كم من الصعوبة جمع أفلام ذات عرض عالمي أول، وكم من الصعوبة منع مهرجان تورنتو من المشاركة على نصفها، على الأقل، واستحواذ أفلام ربما كانت ستقصد فينيسيا لولا تورنتو.

في وسط كل ذلك، بات الموزعون والمنتجون أنفسهم يدركون أن اللعبة الآن ليست لعبة المهرجانات ومن يفوز ومن لا يفوز، رغم أهمية الجائزة بالنسبة للأفلام عموما، ولا حتى لعبتهم على النحو ذاته الذي كانت تمارس فيه من قبل، بل هي لعبة المشاهد يمسك بخيوطها ويؤثر في تحريكها تماما كما لو كانت لعبة فيديو رائجة.

طبعا، هناك عدد كاف من السينمائيين والنقاد والجمهور في كل مكان يحن للماضي الجميل. ذلك الذي كان الفيلم يُصور فيه باستخدام الفيلم (الأكثر جمالا وجودة) ويعرض في مكان واحد (قاعة السينما المعتّمة)، ويعيش بين الناس لأسابيع طويلة أكثر مما يفعل الفيلم المنتج اليوم الذي أمامه أيام معدودة ليترك أثره ويحقق نجاحه وإلا سيسقط تحت أقدام سواه.

* باربيرا يتحدّث

كل هذه الحقائق الناتجة عن الظروف المتغيرة لكل ما له علاقة بالسينما فنا وصناعة وتجارة وجمهورا ومهرجانات، كانت حاضرة وثقيلة رغم نجاح المهرجان في استقطاب النجوم والمخرجين والنقاد الدوليين. لكنك ستجد مدير المهرجان باربيرا أول من يعترف بأن الحال لم يعد كما كان سابقا. في لقاء ضمن حفل «جمعية مراسلي هوليوود الأجانب» في أحد أيام الأسبوع الأول من المهرجان استمتعت إلى مدير المهرجان وهو يقول: «لقد أصبح من الصعب على أي مهرجان بمفرده أن يعرض أفلاما لا يعرضها مهرجان آخر. ذهبت تلك الأيام التي كان من الممكن فيها الانفراد بكم كبير من الأفلام. أيام كانت المنافسة هي بين برلين وكان أو كان وفينيسيا أو فينيسيا وبرلين. الآن نحن وسط عالم متغير، والفيلم الذي تعرضه اليوم معروض غدا في المهرجان الكبير التالي».

حين ذكّره أحد الحاضرين بأنه في بعض الحالات يعرض الفيلم قبل أيام من عروضه التجارية رد: «هذا دليل آخر على المتغيرات الواقعة. لكن لننس مسألة (العرض العالمي الأول). بات الأمر أشبه بالنكتة. لم تعد لها القيمة السابقة ذاتها».

باربيرا يكشف في حديثه ما كان كشفه لبعض الصحافيين الأوروبيين قبل أسابيع، ويضيف عليه: «لقد اتبع مهرجان تورنتو سياسة الهجوم على المهرجانات المحاذية له، تحديدا فينيسيا وتوليارايد الأميركي. وخلال انعقاد مهرجان (كان) اجتمعنا وقررنا أن الوقت حان لكي نتوقف عن التنافس الشرس ومحاولة عرقلة عمل الآخر بنوع من خطف الأفلام على نحو أثار رد فعل سلبيا لدى المنتجين. المنتج يريد أن يختار ولندعه يختر من دون ضغط».

من نتائج الاتفاق أن فينيسيا أخر افتتاح دورته الحالية أياما قليلة ودفع تورنتو بتوقيت مهرجانه إلى الوراء أيضا فبات من الممكن لمن يحضر فينيسيا أن ينتقل إلى تورنتو من دون أن يخسر نصف الأول أو نصف الثاني.

لكن في حين أن هذا الإنجاز، على بساطته، منح المهرجان الإيطالي مساحة ليفرد قدميه، إلا أنه لا أحد يعلم بعد لماذا كان الإقبال خفيفا في مطلع المهرجان وازداد خفّة في نصفه الثاني. هناك احتمالات من بينها غلاء التكلفة ومن بينها الاختيارات المتعددة المتاحة أمام الجميع، ومن بينها أيضا أن صنع الفيلم وترويجه بات يتطلب مهرجانا أكثر فاعلية من مجرد اسمه وصيته وجوائزه.

على ذلك، الكثير مما عرض هنا كان من بين تلك الكنوز التي ينتظرها الهواة من كل التوجهات. والأمل في أن تستمر رغم الصعاب المذكورة.

الشرق الأوسط في

12.09.2015

 
 

اليوم تعلن الجوائز سكوليموفسكى يقدم فيلم القرن

بقلم: سمير فريد

تعلن اليوم جوائزمهرجان فينسيا السينمائى الدولى ٧٢ أعرق مهرجانات السينما الدولية فى العالم. جاء الفيلم البولندى «١١ دقيقة»- أحدث أفلام فنان السينما البولندى يرجى سكوليموفسكى الذى يعد من أهم المخرجين فى العالم منذ أكثر من نصف قرن حدثاً سينمائياً كبيراً، بل يمكن اعتباره فيلم القرن- الواحد والعشرين الذى بدأ زمنياً عام ٢٠٠٠، ولكنه بدأ تاريخياً فى ١١ سبتمبر عام ٢٠٠١ مع تفجير برجى مركز التجارة فى نيويورك.

بعد ١٥ سنة من الواقعة يتأكد كل يوم أننا نعيش فى عالم ما بعد ١١ سبتمبر، والتى لا تزال تداعياتها تؤثر فى كل الدنيا. وينظر سكوليموفسكى فى فيلمه إلى عين الحقيقة بعد مسافة زمنية أتاحت له أن يتأمل تلك الواقعة بعمق، ويعبر بقوة درامية جبارة وأسلوب سينمائى فذ عن «السيولة» التى يبدو معها العالم خارج أى منطق، أو بالتعبير الإنجليزى «أوت أوف كونترول». إنه رؤية «أبوكاليبسية»، أى من رؤى نهاية العالم.

مؤشرات الجوائز

لا أحد يستطيع توقع جوائز أى مهرجان، فلجان التحكيم قد تتخذ قرارات تأتى أحياناً مخالفة لكل التوقعات، ولكن هناك مؤشرات، ومنها استفتاء النقاد الدوليين، واستفتاء نقاد إيطاليا، واستفتاء الجمهور.

أما بالنسبة للاستفتاء الأول الذى تشترك فيه «المصرى اليوم» بواسطة كاتب هذه السطور، فإن أهم خمسة أفلام نشرت باسم الجريدة هى بالترتيب:

الفيلم البولندى «١١ دقيقة».

الفيلم الروسى «فرانكوفونيا» إخراج ألكسندر سوكوروف.

الفيلم الإيطالى «الانتظار» إخراج بييروميسينا.

الفيلم الإسرائيلى «رابين: اليوم الأخير» إخراج آموس جيتاى.

الفيلم الأرجنتينى «الجماعة» إخراج بابلو ترابيرو.

وتستحق السينما الفرنسية جائزة أحسن ممثلة (جولييت بينوش) عن دورها فى «الانتظار»، ولويس دو دى لانكوسانج عن دوره فى «فرانكوفونيا».

أما الأفلام الخمسة الأولى فى استفتاء نقاد إيطاليا فهى:

«فرانكوفونيا».

«رابين: اليوم الأخير».

الفيلم الإيطالى «دماء دمى» إخراج ماركو بيلوكيو.

الفيلم الفرنسى «الفراء الأبيض» إخراج كرستيان فينسنت.

«١١ دقيقة».

وأما استفتاء الجمهور، فكانت الأفلام الخمسة هى:

«فرانكوفونيا».

«١١ دقيقة».

الفيلم البريطانى «الفتاة الدنماركية» إخراج توم هوبر.

الفيلم الأمريكى «وحوش بلا هوية» إخراج كارى فوكوناجا.

«رابين اليوم الأخير».

صدمتان

عندما تشاهد فيلماً لمخرج جديد أو ليس له تاريخ مميز، ولا ينال إعجابك، لا تكون هناك مشكلة. أما عندما يكون لمخرج من عظماء السينما الإيطالية مثل ماركو بيلوكيو، أو مخرج مرموق مثل آتوم إيجويان، فإن الأمر يصبح بمثابة «صدمة».

كانت الصدمة الأولى حسب ترتيب العرض فيلم «دماء دمى» الذى جاء من جلد الرأس فى فقدان الإقناع وافتقاد المتعة الفنية. وجاءت الصدمة الثانية أمس الأول عندما عرض الفيلم الكندى «تذكر» للفنان الكندى من أصل مصرى إيجويان. لقد توقعت من العنوان أن الفيلم سوف يتذكر مذبحة الأرمن التى قام بها الأتراك عام ١٩١٥ فى ذكراها المئوية. وإيجويان الأرمنى خير من عبر عن الثقافة الأرمينية فى تحفته «آرارات»، ولكن الفيلم جاء ميلودراما سخيفة عن مذبحة اليهود التى قام بها النازى أثناء الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩-١٩٤٥)، وبحث بعض المنظمات اليهودية عن الضباط النازيين الذين هربوا إلى أمريكا وبلاد أخرى.

ثلاث جوائز تقديرية

إلى جانب الأسد الذهبى الشرفى الذى فاز به المخرج الفرنسى الكبير برتراند تافرنييه، هناك ثلاث جوائز تقديرية أخرى منحث لثلاثة مخرجين كبار أثناء المهرجان. جائزة «بيرسول» إلى الأمريكى بريان دى بالما، وجائزة «جاجير لى- كولترى» للأمريكى جوناثان ديمى، وجائزة من إدارة المهرجان للمكسيكى آرتور ريبستين بمناسبة مرور ٥٠ سنة على إخراج أول أفلامه عام ١٩٦٥.

المخرجون الأربعة من جيل الستينيات. وريبستين هو من قدم نجيب محفوظ فى السينما العالمية بإخراج «بداية ونهاية» وإنتاج «زقاق المدق».

أربع جوائز لمشروعات عربية

أعلنت جوائز ورشة «المونتاج الأخير» للسينما العربية، وفازت أربعة مشروعات بدأ تصويرها ولم تتم بجوائز مالية وعينية من عدة جهات ومهرجانات أوروبية وصندوق «سند» فى أبوظبى الذى يقدم عشرة آلاف دولار، ومؤسسة «ماد سيلوشنز» التى تقدم دعماً للمساعدة فى التوزيع والترويج.

المشروعات الأربعة «على معزة وإبراهيم» إخراج شريف البندارى من مصر (٣٠ ألف يورو)، و«بيت فى الحقول» إخراج تالا حديد من المغرب (٣٠ ألف يورو)، و«زينب تكره الثلوج» إخراج كوثر بن هنية من تونس (جائزة سند بالإضافة إلى جائزتين مجموعهما ١١ ألف يورو)، و«انفصال» إخراج هكار عبدالقادر من العراق الذى فاز بجائزة ماد سيلوشنز.

سينما الحديقة

نظمت إدارة مهرجان فينسيا لأول مرة عروضاً يومية لأفلام تسجيلية عن السينما وروائية مختارة من تاريخ السينما، وذلك لمن يرغب من الجمهور من دون بطاقات أو تذاكر، وإنما حسب عدد المقاعد (مائة مقعد) فيما أطلقت عليه «سينما الحديقة»، وتقع فى نفس مكان قاعات المهرجان.

وسبق كل عرض حوار مفتوح مع مجموعة من السينمائيين من ضيوف المهرجان، ومنهم ثلاثة من كبار مخرجى السينما الإيطالية، وهم جوليانو مونتالدو وجوزيبيتور ناتوري وجيانى إميليو.

١٢٠ سنة بينالى

حضر مهرجان فينسيا من مصر الناقدة أمل الجمل، والمخرج شريف البندارى، والمنتج محمد سمير الذى يستعد لإخراج أول أفلامه.

سألنى محمد سمير لماذا أقيم المهرجان فى هذه المدينة بالذات. ورأيت أن هذا السؤال ربما يخطر على بال بعض القراء أيضاً. ولذلك أنشر ما قلته للفنان الشاب فى حدود معلوماتى.

كلمة «بينالى» بالإيطالية تعنى كل عامين. وقد أقيم أول بينالى دولى فى العالم للفن «الرسم والنحت» فى فينسيا عام ١٨٩٥، أى منذ ١٢٠ سنة تماماً، وذلك لتميز المدينة التى تتكون من عشرات الجزر بمعمارها المتفرد وطبيعتها الساحرة. وفى عام ١٩٣٠ أقيم بينالى الموسيقى، وفى ١٩٣٢ بينالى السينما الذى أصبح سنوياً فيما بعد، وفى ١٩٣٤ بينالى المسرح. وأصبح البينالى من المؤسسات الثقافية الكبرى فى العالم. وفى عام ١٩٨٠ أقيم بينالى العمارة، وكانت ضمن بينالى الفن، وفى عام ١٩٩٩ أقيم بينالى الرقص، وكان ضمن بينالى المسرح.

كل مستقبلات العالم

وفى موعد بينالى السينما السنوى فى جزيرة ليدو، يتصادف إقامة بينالى آخر فى نفس الوقت. وفى هذا العام يقام بينالى الفن تحت عنوان «كل مستقبلات العالم» فى جزيرتى جيرادينيو أرسينالى ومواقع فى جزر أخرى.

تشترك فى بينالى الفن هذا العام ٨٩ دولة منها ٢٩ فقط لها أجنحة دائمة فى جيرادينى، ومن بينها مصر. ويتضمن البينالى ٤٤ حدثاً ثقافياً تنظمها مؤسسات المجتمع المدنى داخل وخارج إيطاليا. ومن هذه الأحداث برنامج ينظمه سينماتيك بولونيا من ثلاثة أفلام من إخراج يوسف شاهين، وهى «باب الحديد» و«الأرض» و«العصفور».

samirmfarid@hotmail.com

المصري اليوم في

12.09.2015

 
 

دراما المسكوت عنه في السينما الإسرائيلية

العرب/ أمير العمري

موضوع العلاقات الزوجية في مجتمع يهود إسرائيل المتشددين من المواضيع المسكوت عنها في السينما الإسرائيلية.

يتركز اهتمام النقد العربي بالسينما الإسرائيلية عادة، على الأفلام التي تتناول الصراع العربي الإسرائيلي، لكن في السينما الإسرائيلية الكثير من الأفلام الأخرى التي قد لا تتناول الصراع بشكل مباشر لكنها تكشف الطبيعة العنصرية للمجتمع الإسرائيلي، وتفضح التناقض بين الصورة الظاهرية العلمانية الحديثة، والجوهر الديني المتشدد الذي يصل في تزمته وجموده إلى قمع المرأة والشطب على وجودها وحرمانها من حقوقها الأساسية طالما ظل المجتمع الإسرائيلي المدني خاضعا للسلطة الدينية وتعاليم اليهودية المتشددة في كل ما يتعلق بقوانين الأحوال الشخصية.

مقدس

يصور المخرج عاموس غيتاي في فيلمه “قادوش” (أو مقدس) العلاقات الزوجية داخل مجتمع اليهود المتشددين، بين رجل وزوجته هما مائير ورفقة، وهما ينتميان إلى أسرتين من اليهود المتشددين. مائير من طلاب الدين اليهودي، وهو يقيم مع زوجته في الحي الخاص باليهود المتشددين في مدينة القدس، في عزلة عن كل مظاهر الحياة الحديثة، حيث يحظر استخدام الراديو والتلفزيون وسماع الموسيقى والذهاب إلى دور السينما، وغير ذلك. ورغم أن العلاقة بين الزوجين ملؤها الحب والتقدير، إلا أن عدم إنجاب الزوجة منذ زواجها قبل عشر سنوات، يظلل تلك العلاقة بالمشاكل.

فطبقا للأعراف اليهودية تعتبر المرأة العاقر “كيانا ميتا”، ومائير يتعرض من جانب والده الحاخام إلى كثير من الضغوط لتطليق زوجته والزواج من أخرى يمكنها الإنجاب، وتتردد رفقة على عيادة طبية لتكتشف أن العقم من طرف زوجها، لكنها تخفي الأمر عليه حفاظا على مشاعره، وفي الوقت نفسه ترتبط شقيقة رفقة، “مالكة” بعلاقة حب مع شاب كان قد تمرد على مجتمع اليهود المتشددين وخرج عنه، لكن أهلها يرغمونها على الزواج من طالب دين آخر هو “يوسف”. لا تتمكن مالكة من الاستمرار في زواجها بيوسف الذي يسيء معاملتها وينتهك كرامتها، فتخونه مع حبيبها الأول انتقاما منه، أما مائير فيرضخ للضغوط ويطلق رفقة رغم حبه لها.

كان موضوع العلاقات الزوجية في مجتمع يهود إسرائيل المتشددين من المواضيع المسكوت عنها في السينما الإسرائيلية، إلى أن فتح عاموس غيتاي هذا الملف الشائك بجرأة شديدة في فيلمه هذا الذي يتضمن للمرة الأولى، الكثير من المشاهد التي تصور العلاقة الجسدية في الفراش بين مائير ورفقة، مقارنة بما يدور بين يوسف ورفقة.

وكان هذا الفيلم سببا مباشرا في ظهور فيلم “أوشبيزن” (أو “الضيوف”) الذي يصور علاقة حب بين زوجين من اليهود المتشددين، يعيشان معا منذ 5 سنوات دون إنجاب، على حافة الفاقة والفقر. لكن الزوج موشي الذي يعجز عن الوفاء بما تفرضه عليه التعاليم اليهودية من إقامة ما يسمى بـ”السقيفة” التي يستضيف فيها الضيوف ويكرمهم ويغدق عليهم تقربا إلى لله في تلك المناسبة اليهودية، يتفرد بنفسه، يناجي الرب أن ينقذه من وهدة الفقر والعوز، فتتحقق المعجزة، ليس فقط عندما يأتيه مبلغ مالي كبير على سبيل التبرع، بل وعندما يوفق لشراء ليمونة بمبلغ يعتبره كبيرا يقال له إن فيها سر خطير، فهي يمكن أن تسبب خصوبة امرأته العاقر، وهو ما يتحقق بالفعل في النهاية. وفي الفيلم الكثير من المقارنات المباشرة بين روحانية اليهود المتشددين، وبوهيمية اليهود العلمانيين الذين يصورهم في صورة الخارجين على القانون، الذين يمارسون المتع المنحرفة الشاذة دون أي رادع، مقابل ما يتمتع به الطرف الآخر من تماسك وصبر على الشدائد وتضحية وكرم.

املأ الفراغ

تدور أحداث فيلم “املأ الفراغ” (2012) للمخرجة راما بيرشتاين، في الحي الذي يقطنه اليهود المتشددون في تل أبيب، في أجواء شديدة التزمت دينيا وأخلاقيا، حيث نرى الرجال بملابسهم المميزة وسوالفهم الطويلة وقبعاتهم السوداء ولحاهم الكثيفة، والنساء بالباروكات المعروفة فوق رؤوسهن. ونحن أمام أٍسرة يهودية متشددة، نشأت على القيم الأصولية، ولكن الابنة “شيا” فتاة الثامنة عشرة أصبحت في عمر الزواج الآن، ويرغب أهلها في تزويجها إلى شاب من طلاب الدين، لكن شقيقتها المتزوجة تموت وهي تضع طفلها الأول، وتضغط عليها أسرتها لكي تتزوج زوج شقيقتها حتى تتولى تربية الطفل، حفيد العائلة الوحيد، وتحول بين سفر زوج أختها الراحلة إلى بلجيكا والزواج من أخرى وإهمال ولده. تقاوم “شيا” فكرة الزواج من زوج شقيقتها المتوفية وهو ما ترى أنه يتعارض مع أصول الشريعة اليهودية، لكن الفتوى الدينية التي تعلي من مصلحة الأسرة اليهودية على الشريعة، تنتصر في النهاية.

يمتلئ الفيلم بكل ما يمكن تخيله من مبالغات في مجال استعراض تقاليد الحياة في “الغيتو” اليهودي: الأناشيد، الاحتفالات الدينية، الأعياد، الزيجات، همسات أفراد العائلات حول الفتيات، الزيارات المتبادلة، القيل والقال، همسات الأمهات حول عنوسة الفتيات، إعداد الطعام على الطريقة اليهودية، الصلاة اليهودية، هدهدة الأطفال، وكل هذه المظاهر يتم تصويرها في إطار الاحتفاء بالظاهرة وفي عزلة تامة عما يحدث في الواقع الإسرائيلي خارج الغيتو. فالحي اليهودي هنا هو البديل الروحاني للعالم، والأسرة هي أصل المجتمع والحياة، والدين أساسي لضبط العلاقات داخل الأسرة والمجتمع، والحب لا معنى له، وهدف الزواج هو الإنجاب لضمان استمرار الأسرة، والأم وظيفتها التضحية فهي أصل العائلة اليهودية.

محاكمة النظام القضائي

على صعيد نقد مجتمع التشدد الأصولي اليهودي، عرض في 2015 الفيلم التسجيلي الطويل “محاكمة فيفيان أمسالم” (2015) الذي اشترك في إخراجه شلومي ورونيت الكابيتز، وهما شقيقان سبق أن اشتركا في إخراج فيلمي “اتخذ لك زوجة” (2004)، و”7 أيام” (2008). وقامت رونيت الكابيتز ببطولة الأفلام الثلاثة، فهي أساسا ممثلة، سبق أن عرفناها من خلال الفيلم الإسرائيلي الشهير “زيارة الفرقة الموسيقية” (2007) الذي قامت فيه بدور صاحبة المقهى التي تستضيف أفراد الفرقة العسكرية الموسيقية المصرية. وينتمي الثنائي الكابيتز إلى أسرة من اليهود المغاربة المهاجرين. وفي الفيلم الجديد تقوم رونيت بدور “فيفيان” المتزوجة من “إليشا” وهو من اليهود المتشددين، وكلاهما من أصول مغربية، وحوار الفيلم خليط من العبرية والفرنسية والعربية باللهجة المغربية.

المرأة أدركت منذ وقت طويل أنه لا يمكنها العيش مع هذا الرجل الذي يسيء معاملتها ويقهرها ولا يستجيب لمطالبها البسيطة في توفير حياة بسيطة جميلة، فيها من المتعة بقدر ما فيها من المسؤوليات. وهي قد رفعت قضية أمام القضاء تطلب ببساطة، تطليقها منه. ولأنها تزوجت زواجا دينيا، يجب أن ينظر في قضيتها أمام قضاة من رجال الدين، أي الحاخامات الذين ينظرون إلى المرأة نظرة متعالية، في استنكار واستهجان، لكونها تطلب ما يعتبرونه “تدمير أسرة يهودية” أي فك عرى علاقة يرونها يجب أن تكون أبدية بين الزواج والزوجة، خاصة أن لديهما أطفالا، وطالما أنها لا تستطيع أن تثبت شيئا مما تدعيه على زوجها: ألا يطعمها؟ ألا ينفق عليها؟ ألا يمتنع عن الاعتداء الجسدي عليها؟ إذن فقضيتها تستغرق أمام تلك المحكمة، خمس سنوات، بين التأجيل، والتسويف، وتهرب الزوج من الحضور، وإصرار القضاة الذين يظهرون من البداية انحيازا واضحا إلى جانب الرجل، على ضرورة مثوله أمامهم لكنهم في الوقت نفسه يسوفون، وعندما يرضخ أخيرا ويحضر يؤجلون الدعوى، ويصرون على ضرورة حضور شهود، ويأتي الشهود، ويقوم محامي المرأة باستجوابهم وإحراجهم ونسف شهاداتهم التي تدربوا عليها مسبقا.

نتابع هذه القضية بين فيفيان وإليشا، ونرى كيف يبذل المحامي كل ما يمكنه لإثبات حقها في الطلاق، ولكن محامي الزوج، وهو أيضا حاخام، يقوم بتفنيد دعاوى الزوجة بل إنه في مرحلة ما، يحاول أيضا تشويهها فيتهمها بإقامة علاقة عاطفية مع محاميها (العلماني). هذه التفاصيل نتابعها من خلال مشاهد متتابعة، تدور في معظمها، داخل حجرة المحكمة وهي حجرة صغيرة نسبيا، فيها منصة يجلس فوقها ثلاثة قضاة- حاخامات، ومقاعد مثل مقاعد التلاميذ في المدارس، حيث يجلس على اليمين الزوجة ومحاميها الذي يرفض ارتداء القلنسوة اليهودية، وعلى اليسار الزوج (مرتديا القلنسوة اليهودية) ومحاميه. وهناك في وسط تلك القاعة الصغيرة، منصة للشهود يتقدمون إليها واحدا إثر آخر، ثم يغادرون القاعة. ولا تغادر الكاميرا قاعة المحكمة إلى غرفة المكتب الملحقة بها إلا مرتين أو ثلاث مرات عندما تغادرها “فيفيان” أو عندما تحضر في جلسة تالية، بعد انقضاء أسابيع وأشهر.

يتغير القاضي الرئيسي، ولكن القاضي الجديد لا يمكنه سوى تأجيل القضية والتمسك بوجوب حضور الزوج وشهوده. والزوج بالطبع يسوف ويضيع الوقت، ويتعمد التغيب عن الحضور، وتصل الأمور إلى قدر كبير من العبث عندما تقف امرأة تشهد لصالح الزوجة قد تكون الوحيدة التي تقف في صفها، فتطالب المحكمة بتطليقها من هذا الرجل، وتصب جام غضبها على القانون والنظام والمحكمة والقضاة.

يأتي مشهد الذروة عندما يحضر الزوج أخيرا مع محاميه ويقول إنه وافق على منح زوجته الطلاق. وبمقتضى التقاليد الدينية، يتعين على الزوج أن يحمل ورقة الطلاق بعد أن يوقعها الاثنان، ويقوم القاضي بطيها ثم يسقطها في يدي الزوجة، هنا يتعين على الزوج أن يردد مرتين: “إنني أمنحك الطلاق وأسمح لك من الآن بحرية الزواج من رجل آخر”.. عند هذه النقطة تحديدا يرفض الزوج نطق هذه العبارة، مصرا على أنه يحب زوجته ولا يمكنه أن يتخلى عنها.

تشير التواريخ التي نطالعها على الشاشة، إلى مرور خمس سنوات من بداية القضية، وبعد مرور مزيد من الزمن، يوافق الزوج أخيرا على منح الطلاق شريطة أن تتعهد له الزوجة بعدم الارتباط برجل آخر.

المرأة كيان أدنى

ينجح المخرجان في التحدي الذي تفرضه محدودية المكان وطبيعة الفيلم وموضوعه، عن طريق التنويع الشديد في الزوايا وتحجيم اللقطات، والتحكم في الأداء التمثيلي بل وفي كل إشارة أو إيماءة أو حركة تصدر عن طرف من الأطراف داخل القاعة، ترصدها الكاميرا بطريقة تبدو غير ملحوظة، من خلال اللقطات المنعكسة، كما يكشف الفيلم في كل مشهد عن نقطة جديدة تثير اهتمام المتفرج، سواء ما يتعلق بشروط القانون اليهودي (الديني) الذي يطبق على قضايا الزواج في إسرائيل، أو ما تكشف عنه الديانة نفسها من خلال ما يتردد بشكل مباشر على لسان القضاة، من التلمود (غير مسموح للمرأة بقراءة التلمود) ومنها ما ينصّ على اعتبار المرأة كيانا أدنى، وأنه لكي يحدث الطلاق لا بدّ من موافقة الزوج.

إن كل لقطة داخل المشهد مدروسة ومتعمدة لكي تضيف شيئا، تكشف عن المشاعر: الإرهاق، التفكير، التأمل، السخرية، وأحيانا الانفجار في الضحك أيضا.

قصة الفيلم مأخوذة عن قضية حقيقية. ورغم طغيان الأسلوب المسرحي على الفيلم (المكان الثابت، الحوار، التمثيل) إلا أن ما يغري بالمتابعة، قدرة المخرجين على تطوير الحدث الواحد من خلال ما يكشف عنه الفيلم تدريجيا من أشياء تثير الدهشة والغضب أحيانا، بقدر ما تثير الضحك في أحيان أخرى، كما يساهم تنوع الشخصيات وطرافتها (خاصة الشهود)، والموقف العنيد الجامد للقضاة، في المحافظة على يقظة المتفرج وضمان استمرار متابعته للفيلم، خصوصا وأنه يوجه الكثير من الهجاء العنيف لمجتمع يبدو من ظاهر القشرة كمجتمع أوروبي حديث، بينما لا تزال تحكمه قوانين عتيقة تلغي حقوق المرأة وتبقيها خاضعة، مسلوبة الإرادة، مقهورة، تعيش تحت ظل الرجل.

العرب اللندنية في

13.09.2015

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)