كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 
 
 

فينيسيا ينتهي وتورنتو يبدأ

أفلام تسجيلية عن السياسة والحرب..

وأخرى للغناء والفن

فينيسيا: محمد رُضا

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الثاني والسبعون

   
 
 
 
 

مهرجان فينيسيا الذي يودّعنا يوم غد (السبت) هو أشبه بمنتجع هادئ إذا ما قورن بمهرجان تورونتو الذي بدأ أعماله يوم أمس في العاشر من الشهر الحالي.

في الأساس، هذه طبيعة المكانين: المهرجان الإيطالي يُقام فوق جزيرة صغيرة اسمها الليدو هي آخر عشرات الجزر التي تتكون منها مقاطعة فينيسيا. قبل المهرجان هي محطة لسياح عابرين (إيطاليين وبضع أوروبيين)، وبعده تعود كما كانت. لكن في خلال المهرجان تكتظ. المشكلة هي أنه في هذا العام لم تكتظ بما فيه الكفاية. لولا الضيوف القادمون من هوليوود والأفلام التي تم انتخابها للمشاركة في التظاهرات المختلفة كما في المسابقة الرئيسية لكان من الضروري القول إن الدورة لم تكن ناجحة.

على ذلك، ما إن وصلنا إلى اليوم الثامن من أيام المهرجان حتى أخذ الحشد يخف. كثيرون من الإعلاميين والسينمائيين طاروا منه إلى مهرجان تورونتو.

تورنتو بدوره لا يمكن أن لا يكون حاشدًا لأنه أساسًا يقع في مدينة وليس في بلدة. المدينة توفر أسبابًا مختلفة للبهجة. غير مكلفة (يمكن أن تأكل وجبة بخمس دولارات أو أخرى بخمسين) ومتنوّعة ومكان صالح للتبضع والتسوق إذا ما قرر المرء منح نفسه فرصة ما لهذا الغرض. في هذا الوسط تتوالى الأفلام التي حشدها المهرجان على نحو مضاعف. الطوابير عادة ما تكون أطول (كثيرًا ما تلتف حول البناية التي تقع فيها الصالة الكبيرة) والاختيارات متعددة. هناك ما يثير الاهتمام لفنه وما يثير الاهتمام لمجرد أنه فيلم حديث جدًا لم يمر على شاشة أي مهرجان آخر.

مناطق ساخنة

هذا العام لا يستطيع مهرجان تورنتو تجاهل حال العالم. هناك نبرة سياسية بارزة لجانب الكم المعتاد من التنويع الفني والترفيهي. في الواقع، اختار تورنتو النبرة السياسية من أول يوم. فيلم المشاغب الأميركي مايكل مور «أين نغزو تاليًا» (Where to Invade Next) هو فيلمه الأول منذ أن قدّم فيلمه (التسجيلي أيضًا) «الرأسمالية: قصّة حب» سنة 2009. فيلمه الجديد، كسابق أفلامه، جاد وساخر معًا. لكن في حين أنه تعامل مع الشأن المحلي راصدًا أزمة 2008 وأسبابها في «الرأسمالية..»، ينتقل هنا لاستعراض السياسة الخارجية للولايات المتحدة.

لا يود مايكل مور أن ينشر المهرجان أي كلمة مفيدة عن فيلمه الجديد والمهرجان مطيع. بقي العمل طي الكتمان، باستثناء الإعلان عن موعده، إلى حين أطفأت الصالة أضواءها وبدأ عرض الفيلم المنتظر. الصالة لم تكن تحتوي فقط على الجمهور الغفير، بل حفنة من الموزّعين الذين كانوا هناك لمشاهدة الفيلم. خارج الصالة لا بد أن الوضع كان أشبه بكمين منصوب. ما إن ينتهي الفيلم ويقف مايكل مور ليرفع يده تحية للجمهور الذي يصفق له، سيتنافس المشترون على وكيله (أو عليه، كما توقع توم باورز، مدير البرامج التسجيلية) كل يسعى لشراء فيلم يدركون أنه سيحقق نجاحًا كبيرًا عليهم الاشتراك في قطف ثماره.

لكن فيلم مور قد يكون الأسخن لكنه ليس الوحيد. هناك 31 فيلما تسجيليًا معروضًا في دورة تورنتو (تحمل الرقم 40) أي بزيادة عشرة أفلام عما عرضته الدورة السابقة. والكثير من هذه الأفلام تطرح مواضيع سياسية تنبع من رصد ما يمر به العالم اليوم من أحداث.

أحد هذه الأفلام ينبع من القضية التي أثيرت عندما رصدت حركة طالبان فتاة باكستانية اسمها ملالا يوسفزاي لاغتيالها بسبب موقفها ونشاطها في حقل المطالبة بحقوق المرأة. الفيلم من إخراج دايفيز غوغنهايم.

في الجوار أيضًا فيلم حول اغتيال فريق محرري «شارلي إيبدو» بعد نشر المجلة تلك الرسوم والكتابات المسيئة للرسول محمد، صلى الله عليه وسلم.

ومن فرنسا إلى أوكرانيا حيث اختار تورنتو فيلمًا عن الحرب وأسبابها في ذلك البلد عنوانه «الشتاء على النار» لإيفنجي أفينيفسكي. وهو الوحيد الذي شهد عروضه في مهرجان فينيسيا أيضًا. يقدّر له جودة الرصد ومعاملة الوثائق المصوّرة بمستوى واحد من الحرفية، ويسجل عليه أنه ينقل وجهة نظر واحدة مما يجعله غير مهتم بالكشف عن الخلفيات المختلفة للحرب التي وقعت هناك.

بعد 43 عامًا

فينيسيا بدوره لم يخلُ من أعمال تسجيلية عدّة. أبرزها فيلم الإسرائيلي أموس غيتاي حول اغتيال إسحاق رابين من قبل المتطرفين اليهود. في ثلاث ساعات إلا ثلثًا، حكى المخرج المعروف في طي فيلمه «رابين.. اليوم الأخير»، عن كل تلك الظروف التي حاكت المؤامرة التي أدت لاغتيال رابين قبل عشرين سنة: مؤتمر أوسلو، سعيه لتطبيقه ومنح الفلسطينيين كيانًا مستقلا، موقف المتشددين والمواقف المتباينة منه بين أعضاء الحكومة وبالطبع عن المصوّر الذي كان حاضرًا لالتقاط تنفيذ الاغتيال، وادعى أنه لم يكن يعرف شيئًا والقاتل الذي نفّذ المهمة (ييغال أمير) بحث من جماعته اليمينية.

على وفرة الأفلام السياسية فإنها لا تحتل وحدها صدارة الفيلم التسجيلي حاليًا، بل يشاركها جمع من الأفلام التسجيلية حول الفنون كافة. وفي المقدّمة كل تلك الأفلام لمخرجين محتفى بهم، مثل برايان دي بالما وألفرد هيتشكوك وكارلو ليزاني وأخرى عن الموسيقيين. شاهدنا في فينيسيا فيلمًا عن المغنية الراحلة «جانيس» وفي تورنتو يوفر المهرجان للمشاركين فيه فيلم «مس شارون جونز» عن مغنية البلوز وصراعها ضد السرطان. وهو فيلم تم تصويره على عدة سنوات وقامت بإخراجه باربرا كوبل، أحد أفضل مخرجي السينما التسجيلية في الولايات المتحدة.

وكان من المفترض تقديم فيلم تسجيلي - غنائي آخر بعنوان «نعمة مذهلة» عن حياة مغنية الصول أريثا فرانكلين، وهو فيلم للراحل سيدني بولاك. تم تصويره سنة 1972 وتأخر تجهيزه كل هذه السنوات لأن بولاك ارتكب غلطة الشاطر، إذ أغفل التسجيل الصوتي على الصورة ثم رحل وبقي الفيلم غير جاهز. الآن وقد تم تجهيز الفيلم تقنيًا للعرض، تدخلت المغنية ذاتها لوقف عرضه والمحكمة الأميركية أيدتها.

«على حلة عيني» لزينب بوزيد يسرد حكاية تقع بين حقبتين

الفيلم الأول لابنة المخرج المعتزل

ابنة المخرج التونسي المعروف نوري بوزيد خطت إلى حيث قرر الأب التوقف. لقد أصبحت مخرجة.
وفي حين كان صاحب «رجل الرماد» و«بزنس» و«بنت فاميليا» أعلن بعد إنجاز فيلمه الأخير «مانموتش» سنة 2012 اعتزاله، تتقدم ابنته زينب بوزيد لتحقيق أول أفلامها «على حلة عيني» من بطولة بيه المظفر وغالية بن علي ومنتصر العبادي.

الأب يظهر في مشهد واحد في الخلفية وهو يأكل في المطعم الذي يجمع بين بطلة الفيلم فرح (المظفر) وأمها حياة (بن علي) لكنه، وحسب تأكيد المخرجة نفسها، لم يتدخل في العمل مطلقًا. لذلك من الصواب القول إنها المسؤولة عنه بكامله، كتابة وتنفيذًا.

«على حلة عيني» (تعبير تونسي يعني «أول ما استيقظت من النوم») يقص حكاية فتاة عاشت في بيت متحرر إلى حد مريح. لديها أصدقاء تخرج وإياهم وتقوم بالغناء في الفرقة التي يعزف بها هؤلاء الأصدقاء. تعود متأخرة إلى البيت على الرغم من قلق والدتها عليها، لكنها لا ترمي إلى التوقف عن انتهاج هذه الحياة الشابة مهما يكن من أمر.

نراها تغني في حانة شبابية. أغانيها تسير ضد النظام (تقع الأحداث في تونس العام 2010 عندما كان زين العابدين بن علي ما زال رئيس البلاد). هذا يؤلب عليها رجال الأمن. ينتظرون الفرصة المناسبة للانقضاض عليها وتلقينها درسًا. لكنها، إلى أن يحدث ذلك فعلا، لا تكترث. هي مؤمنة بالأغاني التي ترددها عن كلمات الشاعر غسان عمامي التي يشاركها صديقها برهان (العبادي) الحماس لها. برهان شاب طويل القامة نحيل العود يعزف الغيتار ويكتب الأغاني ويتخذ فرح عشيقة ولو أنه يؤكد حبه لها. يعلن لها حبه أكثر من مرّة، هذا في الوقت الذي ازداد فيه قلق أمها عليها، كونها تعلم، من أحد معارف الأمس، أن ابنتها مراقبة، إلى جانب شعور الأمومة الذي لا يمكن نكرانه.

لكن الفيلم لا يدعونا إلى الثقة ببرهان. حين يختطفها البوليس من محطة أوتوبيس في غفلة عن أمها، ويبدأ المحقق بالتحقيق معها، تكتشف أن برهان هو من وشى بها. هذا المشهد عنيف الوقع لأنه يكشف عن التحرّش الجنسي الذي كان الأمن يستخدمه مع من يتم التحقيق معهم من الإناث.

المخرجة تقول

الفيلم هو دراما وموسيقى من دون تناقض. كون فرح مغنية وكونها تعيش أحداثًا دراماتيكية موجعة الوقع في معظم الأحيان يجعل الفيلم قادرًا على حمل اللواءين معًا، ولو أنه بعد حين يبدأ المرء بالبحث عن أغانٍ غير مكررة يسمعها عوض تلك التي نعاود سماعها أحيانا. على أن هذا الجانب الضعيف ليس الوحيد في الفيلم الذي يشكو من المتاعب. في الأساس، هناك التباس في العلاقات حين يراد لها أن تكون واضحة، وعلاقة الأم بالأب ولماذا لا يعيشان معًا على الأقل في أيام العطل، إذا ما كان السبب عمل الأب البعيد عن البيت.

حين سألت زينب بن علي عن هذا الجانب قالت:

- وجهة نظري أن هذه العلاقات واضحة ولا تحتاج إلى تفسير آخر. الأب مضطر للغياب لكن حضوره دائمًا قوي كحضور الأم. لكن الأم هي التي تتحمل العبء الأكبر من المشكلات بسبب أنها تعيش مع ابنتها وتخاف عليها.

> هناك المشهد الذي تنتقل فيه وجهة النظر من فرح إلى أمها.. أعرف أن الغاية من ذلك، لكن ألا تعتقدين أن هذا الانتقال مفاجئ وغير فعّال، خصوصًا أن وجهة النظر تعود إلى الابنة فيما بعد؟

- لا أعتقد ذلك. لا يمكن تصوير فتاة غائبة اختطفت فجأة، والغاية لم تكن أساسًا سرد الفيلم من وجهة نظرها بل غايته تقديمها والحديث عنها. إلى ذلك، فإن غياب الفتاة تتيح لنا كمشاهدين التعرف عن كثب على تلك الأمر وهلعها، وهي التي كانت تريد تهريب ابنتها وإبعادها من المدينة إلى بيت أقارب بعيدين، لأنها أصبحت تدرك أنها في خطر.

> ماذا عن خلوّ الفيلم من شخصيات إسلامية متطرفة تنتمي إلى المشهد السياسي والاجتماعي العريض الذي يشمل الحياة التونسية.

- تقع الأحداث في عام 2010، لذلك تغييب الإسلام السياسي متاح هنا ومقبول، لأنه في ذلك الحين لم يكن له قوّة فعلية على الأرض. لم يكن له وجود في النشاط السياسي.

> هل تعتقدين أن الفيلم يتحدث إذن عن الأيام الأخيرة من نظام بن علي والأولى من الثورة. أي في ذلك الحيّز بالتحديد؟

- نعم. هي آخر مرحلة ومطلع مرحلة بالفعل، لكني لم أرد للجانب السياسي أن يطغى على حكاية فتاة تؤمن بحريتها واستقلالها وتمثل طموح بنات جيلها لإثبات دورهن في المجتمع.

> كيف اخترت الممثلة بيه المظفّر؟

- بحثت طويلاً عن فتاة تصلح للدور، واختبرت عدة ممثلات. ما جعلني أختار بيه هو أنها كانت مصرّة. كانت عنيدة في طلب الدور وواثقة من نجاحها فيه أكثر من أي فتاة أخرى قابلتها في غضون هذا البحث.

المشهد:

لا يرحلون إلا عندنا

* يختار مهرجان فينيسيا في كل عام عددًا لا بأس به من الأفلام التي تتحدّث عن السينما وعن مخرجيها. من بين الأفلام (التسجيلية) التي عرضت هذا العام عن المخرج الراحل جاك تورنور وآخر عن المخرج الإيطالي كارلو ليزاني وثالث عن المخرج برايان دي بالما.

* إنه تقليد جيد يتوجه مباشرة إلى من يريد الاستعادة، من يريد التعرّف. من ناحية يفتح كل واحد من هذه الأفلام النافذة الخلفية على ما الذي جعل من مخرج ما سينمائيًّا مرموقًا. كيف تسنّى له التميّز عن أترابه، ولماذا عرفت أفلامه ذلك المستوى المرموق، وما رأيه هو فيها أو ما هي ذكرياته عنها.

* الفيلم المعنون «دي بالما»، عن المخرج المرموق بين أترابه برايان دي بالما هو من هذه النوعية الشاملة حيث يمزج الفيلم عنصر المقابلة مع المخرج والحوار معه حول أفلام عدّة من أعماله، بالمشاهد المختارة لتأييد وجهة نظر أو لشرح مشهد معيّن دار النقاش حوله. والفيلم يذكر المخرج ألفرد هيتشكوك بطبيعة الحال لأن دي بالما جاهر بحبه لسينما هيتشكوك مطبّقًا في أفلامه في السبعينات والثمانينات تعاليم أستاذه الكبير معربًا عن أشد الإعجاب به.

* هيتشكوك كانت له طلّة في مهرجان «كان» عبر فيلم شبيه. المخرج كنت جونز قام بتحقيق فيلم بعنوان «هيتشكوك - تروفو» مؤسس في بعضه على المقابلة الشهيرة التي قام بها فرنسوا تروفو مستجوبًا «ملك التشويق» في أسلوب عمله وفي أفلامه وفن التشويق الذي مارسه هيتشكوك كما لم يفعل أحد آخر - حتى اليوم.

* لم تكن تلك مجرد مقابلة من ساعة أو ساعتين بين مخرج فرنسي معجب ومخرج بريطاني مخضرم، بل هي سجال تم تصويره على أكثر من يوم، وبلغت مدته 72 ساعة، وتمّت سنة 1962 ثم نشرت بعد أربع سنوات في كتاب «السينما حسب هيتشكوك» الذي وضعه تروفو.

* مخرج «هيتشكوك - تروفو»، كنت جونز، ترجم أجزاء كثيرة من الحوار (الذي نسمعه خلال الفيلم) إلى مشاهد مأخوذة من أعمال هيتشكوك، بما فيها المشهد الشهير للطائرة التي تهاجم غاري غرانت في الحقل في فيلم «شمال.. شمال غرب». كيف تم تصوير المشهد؟ كيف تم تقطيعه؟ ما هي ثناياه وموجباته حسب هيتشكوك نفسه. لكن جونز استعان أيضًا بنخبة كبيرة من المخرجين اللامعين للتعليق على هيتشكوك من بينهم الفرنسيان أرنو دسبلاشن وأوليفييه أساياس والأميركيون وس أندرسن ورتشارد لينكلاتر وبيتر بوغدانوفيتش وبول شرادر ومارتن سكورسيزي وديفيد فينشر.

* هذا لا يحدث عندنا مثله إلا نادرًا. يموت الفنان، مخرجًا أو نجار ديكور لا فرق، فتلتهب المواقع بمقالات النعي وتقوم بعض المهرجانات بتخصيص تظاهرة أو حفلة تكريم أو طبع كتاب. لكن من النادر أن تعمد السينما إلى تقديم عمل عن مخرج بشهرة وموهبة صلاح أبو سيف أو كمال الشيخ أو توفيق صالح أو مارون بغدادي أو يوسف شاهين.

* لا تسألوا الجيل المقبل أن يهتم بالسينما العربية.. هي أساسًا لا تهتم بنفسها.

الشرق الأوسط في

10.09.2015

 
 

"فرانكوفونيا": الفن والحرب والتاريخ

أمير العمري

لا يوجد فيلم آخر يشبه فيلم المخرج الروسي ألكسندر سوكوروف "فرانكوفونيا" Francofonia الذي عُرض أخيرا في مسابقة مهرجان فينيسيا السينمائي (2- 12 سبتمبر)، سواء في مادته أو أسلوبه أو سخريته أو قدرته على تناول موضوع قد يبدو من على السطح، بسيطا، في حين أنه بالنسبة لأي فنان أو مُحبّ للفن، سؤال العصر

هل الفن أكثر أهمية من الحياة البشرية نفسها، هل أهمل الإنسان في حماية تاريخ تطوره المرصود من خلال الفن، هل كانت غزوات نابليون بونابرت من أجل السيطرة على الأراضي أم أنه حتى بعد هزيمته الأخيرة، كان يصنع التاريخ بعد أن نجح في نقل كنوز الفن إلى فرنسا، وأودعها داخل متحف اللوفر؟ هل كان غزو هتلر لفرنسا وزيارته الشهيرة إلى باريس، احتفالا بالسيطرة الألمانية على كنوز الفن، وما الذي فعله "الغرب" لإنقاذ كنوز الغرب من المحفوظات والآثار والأعمال الفنية التي نُهبت من البلدان الأخرى، ولماذا تمكن التعاون بين ضابط الماني ومدير المتحف الفرنسي في إنقاذ مقتنيات اللوفر، في حين فشل "الغرب" أو وقف لامباليا، إزاء ما تعرّضت له روسيا من دمار لأبنيتها التاريخية والكثير من متاحفها وتحفها الفنية؟

هذه الأسئلة وغيرها، يطرحها هذا الفيلم البديع، من خلال أسلوب خاص يجمع التشكيلي مع الدرامي، الوثيقة التاريخية مع الخيال الخاص، التأمُّل مع التحليل، من خلال عمل يتجاوز كثيرا في لغته وأسلوبه ما سبق أن قدّمه المخرج نفسه في فيلمه الشهير "القوس الروسي" (2002).
أساس الفيلم هو متحف اللوفر الشهير في باريس.. تاريخه ونشأته وتصميمه المعماري وكيف أصبح "عاصمة الدنيا"، كونه يضم كنوزا من شتّى أنحاء العالم، وكيف تحول أيضا إلى بؤرة للصراع بين القوى الكبرى. هناك ثلاث أفكار أساسية تتقاطع معا في هذا الفيلم دون أن تنحرف أحدها بالفيلم بعيدا عن موضوعه الأساسي.

الفكرة الأولى هي كيف أمكن إنقاذ محتويات اللوفر من كنوز الفن من الدمار أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم من الوقوع فريسة في أيدي النازيين الذين أرادوا الاستيلاء عليها ونقلها إلى ألمانيا هنا، يُصوِّر الفيلم كيف تمكن مدير اللوفر وقتذاك، جاك جوجار، بذكائه وحصافته من إخفاء المقتنيات الثمينة في عدد من القصور الفرنسية في الريف، ثم رفض مغادرة العاصمة مع من فرّوا من الاحتلال إلى الشطر الجنوبي من فرنسا، وبقى في منصبه تحت الاحتلال النازي للمدينة، لكي يُنقذ اللوفر، وها نحن نشاهد إعادة تمثيل لدوره باستخدام الممثل الفرنسي لويس دو لالينكوسين، وهو يستقبل على مضض، الجنرال الألماني الذي ينتمي لأصول نبيلة، فرانز وولف مترنيخ، الذي أرسله هتلر للسيطرة على مقتنيات اللوفر ونقل ما يلزم منها إلى ألمانيا.

ذكاء جوجار وبراعته في المناورة ونجاحه في مخاطبة مترنيخ، الذي بدا أنه يقوم بدور ليس دوره، فقد كان أيضا راعيا كبيرا للفن، وسبق أن قام بحماية مقتنيات المتاحف الألمانية من الدمار خلال الحرب. والآن هو يتفهم كيف أن المكان الحقيقي لأعمال الفن الموجودة لدى فرنسا هي اللوفر.

نرى هنا الكثير من اللقطات الأرشيفية للشخصية الحقيقية لمترنيخ وشخصية كوجار، ثم نقف أمام الممثلين اللذين يؤديان دوريهما، ويستعرض سوخوروف تاريخ كل منهما حتى وفاتهما. الأول كرّمته فرنسا وحصل على الكثير من الأوسمة والنياشين وكُرِّم رسميا ومُنح أعلى المناصب التي لها علاقة بحفظ الفنون، والثاني شهد لصالحه بعد الحرب جوجار، فعومل معاملة كريمة من جانب الحلفاء وتولّى بعض المناصب البارزة في ألمانيا.

الفكرة الثانية تدور حول التاريخ الإنساني والفن، فسوخوروف يرى أن الفن أسمى من الإنسان، لأنه يضمن خلود الإنسان، حتى بعد أن تنقضي أجيال وتأتي أجيال أخرى لتشهد ما تركه السابقون من خلال أعمال الفن الخالدة التي تبقى. هنا يستخدم سوخوروف ممثلا يقوم بدور نابليون بونابرت، وممثلة تقوم بدور "ماريان" رمز فرنسا، الأول ينتقل شبحه عبر قاعات اللوفر، وكلما شاهد إحدى اللوحات التي تُخلّده، هتف "هذا أنا" ثم يعلق على اللوحة، وأحيانا يصحح بعض ما فيها، وعندما يرى أعمالا فنية ساهم في نقلها إلى فرنسا يقف بجوارها، يتطلع إليها في فخر ويُعلِّق إنه خاض كل ما خاض من حروب لكي يأتي بها إلى فرنسا ولولاه ما كانت هنا الآن، في اللوفر. أما "ماريان" فتُردِّد طول الوقت: "حرية.. إخاء.. مساواة" وأحيانا تضيف إلى الكلمات الثلاث، كلمتيّ "من دوني"!

الفكرة الثالثة تتعلّق بروسيا التي نرى كيف صمدت صمودا مذهلا خلال حصار ليننغراد التي أصبحت الآن "سانت بطرسبورغ" أو عادت بالأحرى إلى اسمها القديم، وكيف كان يتعين على الروس أيضا وهم يواجهون الحصار الألماني، نقل محتويات متاحفها الشهيرة بعيدا لضمان سلامتها، لكن سوكوروف يتوقف طويلا أمام فكرة تضحية الغرب بروسيا، كيف تُركت روسيا وحدها تواجه الحصار والتجويع، وأنه بفضل صمود الروس فقط أمكنها أن تقهر العدو.

هذه الأفكار يتم التعبير فنيا عنها من خلال المزج بين الخيالي والوثائقي، فسوكوروف يستخدم الكثير من لقطات الأرشيف السينمائي، أولا لهتلر وهو يتفقّد بسيارته المكشوفة شوارع باريس، يتلفت يمنيا ويسارا وهو واقف في السيارة كما لو كان يبحث عن هدف محدد. هنا يعلق سوكوروف ساخرا" أين اللوفر" هل هو من هنا؟ أم من تلك الجهة؟ أين اللوفر؟

ونشاهد أيضا الاستعراضات النازية العسكرية في باريس قرب قوس النصر وفي الشانزليزيه، وكيف استسلمت باريس للحياة العادية: المسارح ودور السينما والمطاعم والمقاهي فتحت أبوابها، وواصلت صناعة السينما إنتاج الأفلام، لكي يعود سوكوروف يقارن مع ليننغراد وكيف كانت الجثث تنتشر في الشوارع المتجمدة، وكانت تختفي منها أجزاء بعد أن يأكلها الجوعى بفعل الحصار.

لكننا دائما نعود إلى الفن، إلى لقطات للوفر، عشرات اللقطات من الخارج ومن الداخل حيث يتوقف سوكوروف أمام الكثير من التحف الفنية الشهيرة مثل الموناليزا، والتماثيل المصرية الفرعونية الموجودة داخل القسم المصري. وبين آونة وأخرى، يعاود المخرج الذي لا نرى وجهه بل نرى شاشة الكومبيوتر التي يجلس أمامها في الاستديو الخاص به، وهو يتحدث مع صديق له يدعى "ديرك" موجود على ظهر سفينة تجارية تنقل صناديق من التحف الفنية، الصورة تنقطع ويتلاشى الصوت ثم يعود لكي نستمع إلى ديرك وهو ينقل لصديقه أن السفينة تواجه عاصفة كبيرة قاسية، ثم ينقطع الصوت، لنفهم أن السفينة يمكن أن تكون قد غرقت. ويأتي تعليق سوكوروف الذي يعكس الحالة العبثية التي تواجهها أعمال الفن عند نقلها وكيف أنها تصبح عرضة لما تأتي به الطبيعة نفسها من احتمالات الغضب والتدمير!

سوكوروف يُقدِّم في فيلمه هذا احتفالا كبيرا بقيمة الفن، كما يؤكد على أن الفن من غير الإنسان، لا معنى له، والإنسان بلا فن يفقد تاريخه ومستقبله.

بقي أن نقول بأن الفيلم من الإنتاج الفرنسي الهولندي الألماني المشترك، وأن فرنسا الرسمية فتحت أمام المخرج سوكوروف أبواب اللوفر ويسرّت له التصوير كما يشاء، وأن إعداد الفيلم بعد التصوير استغرق ستة أشهر.

الجزيرة الوثائقية في

10.09.2015

 
 

البندقية 72-

ليلى بوزيد: لدينا شرطيٌ في نادي السينمائيين

المصدر: "النهار" - البندقية ــ هوفيك حبشيان

"على حلّة عيني"، باكورة أعمال المخرجة التونسية الشابة ليلى بوزيد، عُرض في تظاهرة "أيام فينيسيا" الموازية للتشكيلة الرسمية. فرح، ابنة الـ18، تحبّ الغناء، لكن ما تغنيه لا يتناسب مع الجوّ السياسي السائد في تونس، حيث تتفتح اول براعم الربيع العربي. نحن في صيف 2010، والثورة لم تندلع بعد، الا أنها تحت جلد البشر وفي بؤبؤ عيونهم. المزيد عن "على حلة عيني" في الحوار الآتي مع ليلى بوزيد.

متى خطر على بالك انجاز "على حلة عيني"؟ خلال الثورة أم بعدها؟

- عندما اندلعت الثورة، قلتُ في سري: "أخيراً، سنتمكن من التطرق الى عهد بن علي والتكلم عن الدولة البوليسية والمراقبة والبارانويا التي كانت سائدة تحت حكمه". كنت أريد التأريخ لهذه المرحلة وللجوّ الضاغط الذي عشناه طوال سنوات. هذا الجوّ جعلنا نشعر بالاختناق ولم يكن ممكناً تحمله. هكذا انطلقت فكرتي الاولى، ومنها أردتُ أن أروي حكاية، عمودها الفكري هو العلاقة بين أمّ وابنتها. انها قصة فرح، مراهقة حرّة جداً في رأسها، من نوع الحرية التي لا حدود لها، وسنجدها فجأة في مواجهة مع عائلتها أولاً، ومجتمعها ثانياً، ونظام البلد ثالثاً.

أنتِ تطرحين الأسباب التي أدت الى الثورة، وينتهي الفيلم قبل اندلاعها...

- تماماً. كان في ودي اظهار الجوّ المهيمن الذي بات أرضاً خصبة للثورة. أردتُ قصة حميمة انطلق منها لأقول ان الكيل كان قد طفح في تلك المرحلة. رغبتُ في وجهة نظر شخصية للواقع التونسي. لحسن حظنا ان الثورة جاءت لأننا كنا وصلنا الى طريق مسدود.

لا يخلو الفيلم من الصراع بين الأجيال. واضح ان خوف الأجيال السابقة يتسلل الى الأجيال القادمة، من خلال حرص الأمّ على ابنتها ورغبتها في حمايتها...

- الثورة كانت مهمة لأنه كان هناك غليان عند الشباب. الوالدان في الفيلم يحاولان حماية إبنتهما، ذلك انهما مرّا بهذا كله، ويعرفان جيداً الى أين يؤدي. بيد ان الأمّ ترضخ لمشيئة ابنتها. أرى في تلك الخطوة اللقاء المنتظر بين جيلين. ثمة نقطة تلاقٍ كنت أريد التركيز عليها. وأعتقد ان هذه الأجيال التي تلاقت هي التي صنعت الثورة. الثورة لا تعتمد فقط على مشاركة الصغار في السنّ أو العمّال أو الطبقة الوسطى. على الجميع أن يمدّ اليد اليها، ويجتمع حول قضية واحدة. نرى في الفيلم بوضوح اننا كنا أمام خيارين: إمّا أن ندع التاريخ يكرر نفسه بلا توقف، وإما أن نتحمل نتائح الرغبة الوليدة في التحرر.

انتهيتِ من تصوير الفيلم بعد انتهاء الثورة. ألم تعدّل نتائجها وجهة نظرك في الموضوع الذي تصورينه؟

- الثورة كانت انطلقت عندما بدأتُ العمل على الفيلم. خلال الثورة، حدثت أشياء كثيرة، بعضها ايجابي وبعضها سلبي. لكني قررتُ أن أبقى وفية لروحية صيف 2010 حيث تجري حوادث الفيلم. لذا تراني موضوعية في المعالجة. كنت أريد أن أكون مخلصة لهذه الفترة. لو بدأتُ أتأثر بكلّ ما بدأ يحدث من حولنا أثناء الثورة، لما استطعتُ أن أكون منصفة. كنت أريد التطرق الى نظامٍ، وظيفته ترهيب الديناميكية الشبابية. انجاز فيلم عن الثورة لم يكن ممكناً، كونها تغيرت واكتست اشكالاً مختلفة، إلى درجة ان من الصعب جداً البقاء على مسافة منها. الشعور بالاختناق الذي عشناه في تونس طوال سنوات، أرى ان من المهم الحديث عنه اليوم، بعد كلّ ما حصل، لأنه استمر طويلاً، ورافق طفولتنا. السينما هي أيضاً الانكباب على الذاكرة. في عهد بن علي، لم يكن جائزاً التطرق الى هذه المسائل.

منذ البدء، كنت تريدين فتاة لدور البطولة؟

- ترددتُ لوهلة، ولكن ما حسم خياري ان الفتيات عرضة أكثر لضغط المجتمع والأهل، يصعب عليهن الخروج ليلاً والأهل يعارضون خياراتهن أكثر مما يعارضون خيارات الابن. هذا فيلم بثلاثة فصول: العائلة والمجتمع والدولة. بالنسبة لفتاة، كلّ فصل من هذه الفصول يشكّل عائقاً ينبغي القفز فوقه.

ماذا عن وسط الموسيقيين حيث رتبتِ الحوادث؟ هل كان هذا خيارك منذ البدء؟

- شخصية فرح كنت أريدها فنانة، وكنت أريد لفنها أن ينادي الجمهور ويخاطبه. لبرهة، ترددتُ بين مدوّنة وفنانة. حسمتُ خياري عندما أدركتُ ان الغناء أكثر تناسباً للسينما. ما إن اعتمدتُ فكرة الغناء، حتى صارت أساسية في مرحلة كتابة السيناريو. ديناميكية الفرقة الموسيقية كانت مهمة للفيلم. تأليف هذه الفرقة ثم العثور على ممثلة تجيد الغناء، هذا كله كان رهاناً غير سهل.

هل هذا الدور الأول لبية المظفر؟

- نعم، وهي تغني فعلاً في الفيلم. لم نستعن بالبلاي باك. دورها صعب لكنها مثيرة للدهشة. هناك تشابه كبير بين دورها وشخصيتها الحقيقية.

ولكن، هل فعلاً رجال الأمن والمخابرات في تونس كانوا يهتمون بما يغنيه الشباب في النوادي الليلية؟ المسألة تتجاوز القدرة على التصديق...

- بالتأكيد، هناك عيون تراقبك باستمرار ومن المستحيل الا تشعر بها. انطلقتُ من معطيات أعرفها شخصياً، يوم اكتشفنا ان أحد أعضاء نادي السينمائيين الذي كنت عضوة فيه، شرطي وظيفته التجسس علينا! أيام بن علي، كلّ شيء كان تحت مراقبة شديدة، وكان يمكن المضايقات أن تتمادى أكثر مما نراه في الفيلم. هنا، الأشياء تصل الى خواتيمها لأن الأم تعرف أحد النافذين في الدولة، الخ.

ولمَ لم تجعلي ممارسات الدولة أكثر بطشاً؟

- كنت أريد أن أتطرق الى كلّ شرائح المجتمع التونسي. كلّ شي في تونس يحمل دلالات مزدوجة، ينطوي على لبس وليس بالضرورة أسود أو أبيض. خذ الشرطي مثلاً: فهو ليس شريراً فحسب. لديه أيضاً مشاعر تجاه أم فرح. من خلال بنية السيناريو، أردتُ أن أستعيد ماضي الأمّ ايضاً، وأن أقدم بانوراما عن الشخصيات الثانوية الوافدة الى الفيلم.

البندقية 72 -

"مدام كوراج" لمرزاق علواش: آن آوان الغضب!

المصدر: "النهار" -  البندقية - هوفيك حبشيان

مرزاق علواش يعود مجدداً الى البندقية مع جديد عنوانه "مدام كوراج". السينمائي الجزائري النشيط الذي لا يتوقف عن التصوير، يقدّم في قسم «آفاق» فيلماً بسيطاً يتسرب كالرمل من بين الأصابع لشدة السلاسة التي تتلاحق فيها الحوادث على الشاشة. ويمكن الجزم انه كان يستحق ان يُدرج في المسابقة الرسمية لولا الحسابات الغامضة لمبرمجي المهرجان واعتباراتهم التي لا تنحصر فقط في القيمة الفنية.

علواش، هذا الذي يُعتبر أحد أبرز المجددين في السينما العربية، يختار هنا اسلوب السهل الممتنع لوصف الحالة الأليمة التي ترزح تحتها بلاده منذ زمن طويل، ولا يبدو ان هناك أي أمل في التغيير. فالصورة الاجتماعية التي يرسمها، كما يرسم الفنان التشكيلي لوحته، قاتمة جداً، لا بل لا يوجد فيها اي أمل بمستقل مغاير. كان يمكن علواش أن يكتفي بخلفية الصورة التي تقول الكثير عن بلد أمعن في التخلّف والأمية والبؤس. حتى الشريط الصوتي يجعل الحوارات ثانوية وغير مجدية: فهو مشبع إما بخرافات رجال الدين ومواعظهم، وإما بالأذان الذي يدعو الناس الى الصلاة خمس مرات يومياً.

اذاً، نحن ازاء فيلم تحتل خلفية الصورة فيه المكانة الأقوى، ما يجعل نسبة الوثائقي فيه عالية. أمّا في مقدمة الصورة، فهناك عمر، مراهق يتسكع في الأحياء الشعبية بحثاً عن ضحية يسرقها. هذا النشّال الصغير، الشبيه بدوني لافان في أول أفلام ليوس كاراكس، شخصية بلا هيبة، لا كاريزما له، ومع ذلك ننحاز اليه في معركته ضد محيطه غير الرحوم، بدءاً من أمه الشتّامة وصولاً الى القواد الذي يعنّف شقيقته، مروراً بشقيق فتاة من عمره يسرقها يوماً ثم يتعلق بها لتصبح الهاجس الذي يشغله ليلاً نهاراً.

عمر هذا، يبدو مخدَّراً طوال الوقت، يتعاطى العقاقير كي يتحلى بالعزم والصلابة وينتصر على الغلابة من البشر (وهو منهم)، ويعيش حياة هامشية بلا هدف. هذا كله تمارين على العنف. نراه ينام بين أكوام النفايات بالقرب من منزل الفتاة الغاوية، بيد انه يعرف كيف يقتنص تعاطف المُشاهد، سواء عندما يعيد العقد الذي سرقه منها، أو عندما يجد نفسه وجهاً لوجه معها فيكتفي بملامسة شعرها.

هذا النوع من الشخصيات، يجد علواش ضالته فيه، ويعرف التعامل معه وضمه الى سينما ذات همّ اجتماعي يبلورها منذ سنوات. عمر يحمل سمات يعرف علواش كيفية توظيفها، من الرومنطيقية المفرطة الى القلق فالعنف الدفين. بيد ان الحبكة هنا سرعان ما تأخذ منحى راديكاليا، ربما لأن المرحلة تتطلب مثل هذه الحلول المتطرفة. بعد أفلام عدة كانت بدأت ترفع الكلفة بينها وبين الواقع الجزائري، آن آوان الغضب عند مرزاق علواش، زمن مثالي لطرح أفكاره عن البؤس واليأس اللذين يتحكمان بالواقع الجزائري.

النهار اللبنانية في

10.09.2015

 
 

فينيسيا 72 وأزمة الحضور السينمائي العربي في المهرجانات العالمية

صفاء الصالحبي بي سي - البندقية

يعكس الحضور العربي في المهرجانات السينمائية الدولية الكبرى، أمثال كان وفينيسيا، أزمة واضحة في صناعة السينما في البلدان العربية، وتراجعا واضحا في المنجز الابداعي لهذه الصناعات التي ما زالت ناشئة في العديد من هذه البلدان أو وئدت وهي في مهدها.

فمنذ سنوات نادرا ما نرى في مثل هذه المهرجانات انتاجا سينمائيا يمثل هذه الدول العربية. ويقتصر الحضور في الغالب على افلام الانتاج المشترك المنفذة من قبل مخرجين عرب وتدور أحداثها في بلدان عربية أو شرق أوسطية وبتمويل شركات أجنبية (فرنسية في الغالب) وبكادر تقني أجنبي في الغالب.

واختفى عنوان تقليدي كان النقاد العرب يكتبونه في تغطياتهم في كل مهرجان وهو الحضور العربي، أو المشاركة العربية في المهرجان الفلاني.

في العام الماضين على سبيل المثال لا الحصر احترنا في تصنيف فيلم تمبكتو لعبد الرحمن سيسكو (بعيدا عن اللافتات الرسمية التي قدم تحتها)، فهو انتاج فرنسي ومخرجه فرانكوفوني يعيش في فرنسا ومن أصول ماليه وتربى في موريتانيا، وترافق انتاجه مع التدخل العسكري الفرنسي ضد الجماعات الاسلامية المتطرفة في مالي، هل هو فيلم فرنسي أم أفريقي (مالي) (كما يؤكد موضوعه) أم موريتاني (حيث صور لظروف انتاجية) ووضعه البعض تحت تلك اللافتة العريضة الفضفاضة التي اسمها السينما العربية؟

أثر البترودولار

ولا شك أن ذلك لم يجر بمعزل عن الأزمة المستحكمة في واقع الدول الوطنية في المنطقة العربية وانحدارها من دول حداثة ناشئة، كانت محملة بالوعود والطموحات في أعقاب المرحلة الاستعمارية، إلى نظم قمعية مستحكمة، وبنى اجتماعية مأزومة، إرتد كثير منها إلى بنى ماقبل الدولة.

كما ترافق ذلك مع نمو مشوه فرضه تدفق البترودولار، خلق مراكز قوى جديدة في المنطقة تقودها دول تحكمها تركيبات عشائرية وعائلية.

ويخفي واقع تدفق الثروة البترودولارية تناقضاتها الصارخة (بعضها ما زال اسم الدولة مشتقا من العائلة فيها)، فملأت الفراغ الذي خلفه تراجع الدول (الوطنية)، التي نشأت في أحضان مشروع الحداثة الغربية أو كرد فعل له، بعد فشلها في تحقيق حكم رشيد يحافظ على بنى الحداثة فيها ويدفع بها إلى الأمام.

لنأخذ السينما المصرية، فهي الصناعة السينمائة الأبرز في المنطقة، وكيف أدت هيمنة الرأسمال البترودولاري إلى تدمير كامل للنظام القيمي فيها وسيادة نمط أفلام المقاولات، لا سيما في ثمانينيات القرن الماضي.

حدثني المخرج الكبير يوسف شاهين بمرارة عن كيفية إضرار البترودولار بالنظام القيمي الذي قامت عليه السينما المصرية، كيف اضطر المنتجون إلى فرض أعراف رقابية غير رسمية قائمة على القيم البدوية والدينية السائدة في مجتمعات التمويل، فكانت المشروبات الكحولية تحول إلى عصير في المشاهد المصورة، ولك أن تتخيل ما يطال المشاهد العاطفية، بل أن أحد أبرز الكتاب الدراميين في مصر كان اسمه يغير في التايتل الاعمال الدرامية والأفلام من لينين الرملي إلى (ل الرملي) خشية الرقابة في هذه الدول.

والمثير للمفارقة هنا أن هذه الدول لم تكن تمتلك صالات سينما، فانعكس ذلك في ولادة نمط مشوه من المشاهدة والتلقي السينمائي قائم على الفيديو، وترافق ذلك بالتأكيد مع عامل تقني أيضا، هو تطور وسهولة هذا النمط من التلقي.

بيد أن العقد الأخير، انتج ظاهرة جديدة، تمثلت في أن تكون لدول الفائض النفطي (والغازي) مؤسساتها السينمائية ومهرجاناتها، من دون أن تتوفر فيها بنى الصناعة السينمائية (من كوادر بشرية واستوديوهات وفنانين.. الخ)، لذا انصب جهدها على الانتاج السينمائي وتقديم منح مالية للانتاج السينمائي في بلدان أخرى.

وفي ظل تراجع الإنتاج السينمائي وتعثره في الدول العربية الأخرى، بات هذا الدعم الانتاجي المقدم من الدول الخليجية تحديدا، عاملا بارزا في الانتاج السينمائي في المنطقة، و يسعى اليه الكثير من مخرجيها، لا سيما الشباب منهم.

فشاهدنا هذا العام ورود اسم قطر كأحدى الدول المساهمة في دورة هذا العام في الكتاب التعريفي لمهرجان فينيسيا، لكنها منتجة لفيلم المخرج التركي أمين البير "ابلوكا" أو "نوبة جنون".

فينيسيا 72

اقتصرت المشاركة العربية في الدورة 72 لمهرجان فينيسيا السينمائي هذا العام على فيلم في تظاهرة آفاق (اورزنتي) الموازية للمسابقة الرسمية، وهو فيلم المخرج الجزائري مرزاق علواش "مدام كوراج" (سبق أن تناولناه بالتحليل في هذا الموقع)، وقدم كانتاج مشترك فرنسي جزائري مشترك.

وكان هناك فيلم أخر للتونسية ليلى بوزيد (ابنة المخرج المعروف نوري بو زيد) حمل عنوان "على حلة عيني" شارك في تظاهرة أيام فينيسيا على هامش المهرجان، وكان انتاجا فرنسيا تونسيا بلجيكيا مشتركا، وهو فيلم غنائي يتناول اوضاع شريحة من الشباب التونسي قبيل الانتفاضة ضد حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي، وقد وضع الحان وأغانيه وموسيقاه التصويرية الموسيقي العراقي الشاب خيام اللامي.

وكلا الفيلمين قد حصل على دعم صندوق الانتاج السينمائي في مهرجان أبو ظبي (سند).

والظاهرة اللافتة للنظر مقابل هذا الغياب في تظاهرات المهرجان الرسمية، نجدها في وجود مشاركة عربية كثيفة في ورشات انتاجية لتطوير الأفلام، للحصول على تمويل أو دعم ترويجي من شركات الصناعة السينمائية أوالدعاية للأفلام وبيع حقوق توزيع هذه الافلام لشركات التوزيع والتلفزيونات مقابل المساهمة في انتاجها.

فالأفلام القادمة من بلدان عربية هي الأغزر في مثل هذا الورشات، كما هي الحال في الورشة التي تحمل عنوان "فاينل كت" والتي تعني بالأفلام التي في مراحل انتاجها النهائية.

وواقع الحال أن المحرك الأساس لهذه الورشات التي تعقد على هامش مهرجاني كان وفينيسيا، هو تقديم منحة سند (التي يقدم صندوق دعم الانتاج السينمائي في ابو ظبي، والذي سعى الى عقد شراكة مع هذه المهرجانات لتقديم منحته عبر هذه الورشات.

ورشة "فاينال كت"

وقد شارك في ورشة هذا العام فيلم "طريق الجنة" لعطية الدراجي من العراق، وفيلم "علي معزة وإبراهيم" لشريف البنداري من مصر، "بيت في الحقول" لتالا حديد المخرجة المغربية العراقية الأصل، "طلاق" للمخرج الكردي العراقي هكار عبد القادر، "ديك بيروت" للسوري زياد كلثوم، وفيلم "زينب تكره الثلج" للتونسية كوثر بن هنية (هذا فيلمها الثاني بعد "شلاط تونس".

وقد أسفرت نتائج الورشة عن حصول فيلم "زينب تكره الثلج" على منحة 10 آلاف يورو من صندوق أبو ظبي لدعم الانتاج السينمائي (سند)، ومبلغ 6 آلاف يورو تقدم في صيغة تغطية تكاليف ترجمة الفيلم إلى الإيطالية والإنجليزية من شركة "سب تاي ليتد" في لندن، فضلا عن مبلغ 5 آلاف يورو من تلفزيون راي الإيطالي مقابل حقوق بث الفيلم لعامين، ومشاركة مهرجاني أميان (فرنسا) وفرايبورغ (المانيا) في تكاليف انتاج النسخ الرقمية من الفيلم (Digital Cinema Package - DCP).

وحصل فيلم "علي معزة وابراهيم" على الدعم التالي : مبلغ 10 آلاف يورو من المركز الوطني لسينما الصور المتحركة في باريس على أن تصرف على تكاليف ما بعد الإنتاج في فرنسا، و10 آلاف يورو أخرى لعمل المؤثرات البصرية والمؤثرات الخاصة من شركة "نايتسوورك". و10 آلاف يورو من تلفزيون "تيترا" في باريس لإنجاز تصحيح الألوان وانتاج النسخ الرقمية النهائية بترجمة انجليزية وفرنسية.

وحصل فيلم تالا حديد "بيت في الحقول" على دعم بـ 15 ألف يورو من "ليزر فيلم" الإيطالية لتغطية 50 ساعة عمل في تصحيح الوان الفيلم. فضلا عن تخفيض بقيمة 15 الف يورو من شركة "ماكتاري للهندسة الصوتية " لمزج الأصوات في الفيلم (ساوند ميكسنغ).

ودعمت شركة "ماد سوليوشن" فيلم هكار عبد القادر "طلاق" بالمشاركة في عمليات تسويق الفيلم والترويج له وتوزيعه في العالم العربي.

وتكشف المقارنة بين كثافة الحضور والسعي للحصول على دعم انتاجي في مثل هذه الورشات، والفقر الواضح في المشاركة في تظاهرات المهرجانات الأساسية عن حقيقة مؤلمة وواقع انتاجي مزر.

فبعد أن كانت هذه المهرجانات تحتفي بسينمات قادمة من هذه المنطقة لها خصوصياتها ورموزها، كما هي الحال مع يوسف شاهين والأخضر حامينا وغيرهما، كانوا يقدمون أفلاما متكاملة تفرض موضوعاتها وخصوصياتها الأسلوبية وتمثل بقوة المجتمعات القادمة منها، بتنا نرى مخرجين لاهثين وراء دعم انتاجي من هذه الجهة أو تلك، وتستحيل أفلامهم إلى ورشات (عمل شعبي!) في استشارات تلك الجهات الانتاجية وميولها وأنماطها في السوق السينمائية.

الـ BBC العربية في

10.09.2015

 
 

مخرجة تونسية تفوز بجائزة أفضل مشروع فيلم عربي في «مهرجان البندقية»

القاهرة – رويترز:

فاز مشروع فيلم لمخرجة تونسية بمنحة صندوق «سند» لدعم الإنتاج السينمائي في أبوظبي، كما نجحت ثلاثة مشاريع لأفلام مشاركة في ورشة (فاينال كات البندقية) في الحصول على دعم مؤسسات وشركات عاملة في مجال صناعة السينما.

ويدعم صندوق «سند» سنويا إنتاج أفلام عربية بنحو 500 ألف دولار. وينقسم الدعم إلى فئتين.. مشاريع أفلام في مرحلة تطوير السيناريو وينال كل منها 20 ألف دولار أما مشاريع الأفلام في مرحلة الإنتاج النهائية فيحصل كل منها على 60 ألف دولار.

وكان صندوق «سند» قال يوم 29 يوليو/ تموز إنه عقد شراكة مع «مهرجان البندقية السينمائي الدولي» لمشاركة مشاريع ستة أفلام عربية في ورشة «فاينال كات البندقية» بدورته 72 التي تختتم اليوم السبت وإنه سيمنح جائزة لأفضل عمل. وتقدم أكثر من 50 فيلما بطلبات للمشاركة في أنشطة ورشة «فاينال كات البندقية» واختيرت في القائمة النهائية ستة أفلام هي «زينب تكره الثلج» للتونسية كوثر بن هنية و«علي معزة وإبراهيم» للمصري شريف البنداري و»بيت في الحقول» للمغربية تالا حديد و»ديك بيروت» للسوري زياد كلثوم ومن العراق فليمان هما «طريق الجنة» لعطية الدراجي و»الطلاق» لهكار عبد القادر.

وقال صندوق «سند» في بيان إن مشروع فيلم «زينب تكره الثلج» للمخرجة التونسية كوثر بن هنية فاز بجائزة أفضل مشروع فيلم عربي ضمن الورشة وقيمتها 41 ألف درهم إماراتي (نحو 11 ألف دولار) كما حصلت مخرجته على منحتين أخريين قدرهما 48 ألف درهم من شركتين في أوروبا.

وأضاف أن مؤسسات وشركات سينمائية ستدعم إنتاج ثلاثة من المشاريع السينمائية المشاركة في الورشة وهي «علي معزة وإبراهيم»، وحصل على منحتين من شركتين في باريس قيمتهما 82 ألف درهم. ونال فيلم «بيت في الحقول» 122 ألف درهم من شركة في روما وأخرى في باريس. وحصل فيلم «الطلاق» على دعم من شركة «ماد سوليوشين»، ويتمثل في التسويق والدعاية للفيلم وتوزيعه في العالم العربي.

وقال البيان إن ورشة «فاينال كات البندقية» توفر الدعم للأفلام الافريقية بشكل عام ولأفلام «تنتمي إلى دول عربية محددة..العراق والأردن ولبنان وفلسطين وسوريا» لمساعدة مخرجي الأفلام العرب الصاعدين على إكمال أفلامهم في مرحلة ما بعد الإنتاج.

القدس العربي اللندنية في

11.09.2015

 
 

فينيسيا 72

وأزمة الحضور السينمائي العربي في المهرجانات العالمية

Image caption كان فيلم "مدام شجاعة" للمخرج مرزاق علواش المشاركة العرابية الوحيدة في تظاهرة "آفاق" الموازية للمسابقة الرسمية

يعكس الحضور العربي في المهرجانات السينمائية الدولية الكبرى، أمثال كان وفينيسيا، أزمة واضحة في صناعة السينما في البلدان العربية، وتراجعا واضحا في المنجز الابداعي لهذه الصناعات التي ما زالت ناشئة في العديد من هذه البلدان أو وئدت وهي في مهدها.

فمنذ سنوات نادرا ما نرى في مثل هذه المهرجانات انتاجا سينمائيا يمثل هذه الدول العربية. ويقتصر الحضور في الغالب على افلام الانتاج المشترك المنفذة من قبل مخرجين عرب وتدور أحداثها في بلدان عربية أو شرق أوسطية وبتمويل شركات أجنبية (فرنسية في الغالب) وبكادر تقني أجنبي في الغالب.

واختفى عنوان تقليدي كان النقاد العرب يكتبونه في تغطياتهم في كل مهرجان وهو الحضور العربي، أو المشاركة العربية في المهرجان الفلاني.

في العام الماضين على سبيل المثال لا الحصر احترنا في تصنيف فيلم تمبكتو لعبد الرحمن سيسكو (بعيدا عن اللافتات الرسمية التي قدم تحتها)، فهو انتاج فرنسي ومخرجه فرانكوفوني يعيش في فرنسا ومن أصول ماليه وتربى في موريتانيا، وترافق انتاجه مع التدخل العسكري الفرنسي ضد الجماعات الاسلامية المتطرفة في مالي، هل هو فيلم فرنسي أم أفريقي (مالي) (كما يؤكد موضوعه) أم موريتاني (حيث صور لظروف انتاجية) ووضعه البعض تحت تلك اللافتة العريضة الفضفاضة التي اسمها السينما العربية؟

أثر البترودولار

ولا شك أن ذلك لم يجر بمعزل عن الأزمة المستحكمة في واقع الدول الوطنية في المنطقة العربية وانحدارها من دول حداثة ناشئة، كانت محملة بالوعود والطموحات في أعقاب المرحلة الاستعمارية، إلى نظم قمعية مستحكمة، وبنى اجتماعية مأزومة، إرتد كثير منها إلى بنى ماقبل الدولة.

كما ترافق ذلك مع نمو مشوه فرضه تدفق البترودولار، خلق مراكز قوى جديدة في المنطقة تقودها دول تحكمها تركيبات عشائرية وعائلية.

ويخفي واقع تدفق الثروة البترودولارية تناقضاتها الصارخة (بعضها ما زال اسم الدولة مشتقا من العائلة فيها)، فملأت الفراغ الذي خلفه تراجع الدول (الوطنية)، التي نشأت في أحضان مشروع الحداثة الغربية أو كرد فعل له، بعد فشلها في تحقيق حكم رشيد يحافظ على بنى الحداثة فيها ويدفع بها إلى الأمام.

لنأخذ السينما المصرية، فهي الصناعة السينمائة الأبرز في المنطقة، وكيف أدت هيمنة الرأسمال البترودولاري إلى تدمير كامل للنظام القيمي فيها وسيادة نمط أفلام المقاولات، لا سيما في ثمانينيات القرن الماضي.

حدثني المخرج الكبير يوسف شاهين بمرارة عن كيفية إضرار البترودولار بالنظام القيمي الذي قامت عليه السينما المصرية، كيف اضطر المنتجون إلى فرض أعراف رقابية غير رسمية قائمة على القيم البدوية والدينية السائدة في مجتمعات التمويل، فكانت المشروبات الكحولية تحول إلى عصير في المشاهد المصورة، ولك أن تتخيل ما يطال المشاهد العاطفية، بل أن أحد أبرز الكتاب الدراميين في #مصر كان اسمه يغير في التايتل الاعمال الدرامية والأفلام من لينين الرملي إلى (ل الرملي) خشية الرقابة في هذه الدول.

والمثير للمفارقة هنا أن هذه الدول لم تكن تمتلك صالات سينما، فانعكس ذلك في ولادة نمط مشوه من المشاهدة والتلقي السينمائي قائم على الفيديو، وترافق ذلك بالتأكيد مع عامل تقني أيضا، هو تطور وسهولة هذا النمط من التلقي.

بيد أن العقد الأخير، انتج ظاهرة جديدة، تمثلت في أن تكون لدول الفائض النفطي (والغازي) مؤسساتها السينمائية ومهرجاناتها، من دون أن تتوفر فيها بنى الصناعة السينمائية (من كوادر بشرية واستوديوهات وفنانين.. الخ)، لذا انصب جهدها على الانتاج السينمائي وتقديم منح مالية للانتاج السينمائي في بلدان أخرى.

وفي ظل تراجع الإنتاج السينمائي وتعثره في الدول العربية الأخرى، بات هذا الدعم الانتاجي المقدم من الدول الخليجية تحديدا، عاملا بارزا في الانتاج السينمائي في المنطقة، و يسعى اليه الكثير من مخرجيها، لا سيما الشباب منهم.

فشاهدنا هذا العام ورود اسم قطر كأحدى الدول المساهمة في دورة هذا العام في الكتاب التعريفي لمهرجان فينيسيا، لكنها منتجة لفيلم المخرج التركي أمين البير "ابلوكا" أو "نوبة جنون".

فينيسيا 72

Image caption شارك فيلم "على حلة عيني" للمخرجة التونسية ليلى بو زيد في تظاهرة ايام فينيسيا

اقتصرت المشاركة العربية في الدورة 72 لمهرجان فينيسيا السينمائي هذا العام على فيلم في تظاهرة آفاق (اورزنتي) الموازية للمسابقة الرسمية، وهو فيلم المخرج الجزائري مرزاق علواش "مدام كوراج" (سبق أن تناولناه بالتحليل في هذا الموقع)، وقدم كانتاج مشترك فرنسي جزائري مشترك.

وكان هناك فيلم أخر للتونسية ليلى بوزيد (ابنة المخرج المعروف نوري بو زيد) حمل عنوان "على حلة عيني" شارك في تظاهرة أيام فينيسيا على هامش المهرجان، وكان انتاجا فرنسيا تونسيا بلجيكيا مشتركا، وهو فيلم غنائي يتناول اوضاع شريحة من الشباب التونسي قبيل الانتفاضة ضد حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي، وقد وضع الحان وأغانيه وموسيقاه التصويرية الموسيقي العراقي الشاب خيام اللامي.

وكلا الفيلمين قد حصل على دعم صندوق الانتاج السينمائي في مهرجان أبو ظبي (سند).

والظاهرة اللافتة للنظر مقابل هذا الغياب في تظاهرات المهرجان الرسمية، نجدها في وجود مشاركة عربية كثيفة في ورشات انتاجية لتطوير الأفلام، للحصول على تمويل أو دعم ترويجي من شركات الصناعة السينمائية أوالدعاية للأفلام وبيع حقوق توزيع هذه الافلام لشركات التوزيع والتلفزيونات مقابل المساهمة في انتاجها.

فالأفلام القادمة من بلدان عربية هي الأغزر في مثل هذا الورشات، كما هي الحال في الورشة التي تحمل عنوان "فاينل كت" والتي تعني بالأفلام التي في مراحل انتاجها النهائية.

وواقع الحال أن المحرك الأساس لهذه الورشات التي تعقد على هامش مهرجاني كان وفينيسيا، هو تقديم منحة سند (التي يقدم صندوق دعم الانتاج السينمائي في ابو ظبي، والذي سعى الى عقد شراكة مع هذه المهرجانات لتقديم منحته عبر هذه الورشات.

ورشة "فاينال كت"

Image caption حصل فيلم "زينب تكره الثلج" وهو في طور الانتاج على منحة صندوق (سند) لدعم الانتاج السينمائي

وقد شارك في ورشة هذا العام فيلم "طريق الجنة" لعطية الدراجي من العراق، وفيلم "علي معزة وإبراهيم" لشريف البنداري من #مصر، "بيت في الحقول" لتالا حديد المخرجة المغربية العراقية الأصل، "طلاق" للمخرج الكردي العراقي هكار عبد القادر، "ديك بيروت" للسوري زياد كلثوم، وفيلم "زينب تكره الثلج" للتونسية كوثر بن هنية (هذا فيلمها الثاني بعد "شلاط تونس".

وقد أسفرت نتائج الورشة عن حصول فيلم "زينب تكره الثلج" على منحة 10 آلاف يورو من صندوق أبو ظبي لدعم الانتاج السينمائي (سند)، ومبلغ 6 آلاف يورو تقدم في صيغة تغطية تكاليف ترجمة الفيلم إلى الإيطالية والإنجليزية من شركة "سب تاي ليتد" في لندن، فضلا عن مبلغ 5 آلاف يورو من تلفزيون راي الإيطالي مقابل حقوق بث الفيلم لعامين، ومشاركة مهرجاني أميان (فرنسا) وفرايبورغ (المانيا) في تكاليف انتاج النسخ الرقمية من الفيلم (Digital Cinema Package - DCP).

وحصل فيلم "علي معزة وابراهيم" على الدعم التالي : مبلغ 10 آلاف يورو من المركز الوطني لسينما الصور المتحركة في باريس على أن تصرف على تكاليف ما بعد الإنتاج في فرنسا، و10 آلاف يورو أخرى لعمل المؤثرات البصرية والمؤثرات الخاصة من شركة "نايتسوورك". و10 آلاف يورو من تلفزيون "تيترا" في باريس لإنجاز تصحيح الألوان وانتاج النسخ الرقمية النهائية بترجمة انجليزية وفرنسية.

وحصل فيلم تالا حديد "بيت في الحقول" على دعم بـ 15 ألف يورو من "ليزر فيلم" الإيطالية لتغطية 50 ساعة عمل في تصحيح الوان الفيلم. فضلا عن تخفيض بقيمة 15 الف يورو من شركة "ماكتاري للهندسة الصوتية " لمزج الأصوات في الفيلم (ساوند ميكسنغ).

ودعمت شركة "ماد سوليوشن" فيلم هكار عبد القادر "طلاق" بالمشاركة في عمليات تسويق الفيلم والترويج له وتوزيعه في العالم العربي.

وتكشف المقارنة بين كثافة الحضور والسعي للحصول على دعم انتاجي في مثل هذه الورشات، والفقر الواضح في المشاركة في تظاهرات المهرجانات الأساسية عن حقيقة مؤلمة وواقع انتاجي مزر.

فبعد أن كانت هذه المهرجانات تحتفي بسينمات قادمة من هذه المنطقة لها خصوصياتها ورموزها، كما هي الحال مع يوسف شاهين والأخضر حامينا وغيرهما، كانوا يقدمون أفلاما متكاملة تفرض موضوعاتها وخصوصياتها الأسلوبية وتمثل بقوة المجتمعات القادمة منها، بتنا نرى مخرجين لاهثين وراء دعم انتاجي من هذه الجهة أو تلك، وتستحيل أفلامهم إلى ورشات (عمل شعبي!) في استشارات تلك الجهات الانتاجية وميولها وأنماطها في السوق السينمائية.

السعودية اليوم في

11.09.2015

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)